الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}
.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ، وفي سورة النمل في الكلام على قوله تعالى:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} .
•
قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}
.
ما ذكره جل وعلا في الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد، ذكره في مواضع أخر، كقوله تعالى في سورة آل عمران:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} الآية، وقوله في الأنفال:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آل فِرْعَوْنَ} الآية، وقوله في الحج:{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ} الآية، وقوله في سورة ق:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} .
وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن لفظة "ظلَّام" فيها صيغة مبالغة، ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله؛ فقولك مثلًا: زيد ليس بِقَتَّالٍ للرجال، لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال.
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة هو نفي الظلم من أصله.
والجواب عن هذا الإِشكال من أربعة أوجه:
الأول: أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة، قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله.
ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أنه يراد به نفي أصل الفعل، فلا إشكال؛ لقيام الدليل على المراد.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} ، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} الآية، وقوله تعالى:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} ، وقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الآية. إلى غير ذلك من الآيات، كما قدمنا إيضاحه في سورة الكهف والأنبياء.
الوجه الثاني: أن الله جل وعلا نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته، فناسب ذلك الإِتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلًا، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة، كما ترى.
وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد، الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدًا شيئًا، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة.
وفي الحديث: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" الحديث.
الوجه الثالث: أن المسوغ لصيغة المبالغة، أن عذابه تعالى بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم، لكان مُعَذَّبهمٍ به ظلَّامًا بليغ الظلم متفاقِمَه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة الأنفال.
الوجه الرابع: ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين، من أن المراد بالنفي في قوله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} نفي نسبة الظلم إليه؛ لأن صيغة فعَّال تستعمل مرادًا بها النسبة فتغني عن ياء النسب، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
ومعَ فاعل وفعَّال فَعِلْ
…
في نَسَب أغنى عَنِ اليا فَقُبِلْ
ومعنى البيت المذكور: أن الصيِغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم، وفعَّال كظلَّام، وفَعِل كفرِح، كل منها قد تستعمل مرادًا بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسب، ومثاله في "فاعل" قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فالمراد بقوله "الطاعم الكاسي" النسبة، أي ذو طعام وكسوة. وقول الآخر، وهو من شواهد سيبويه:
وغررتني وزعمت أنك
…
لَابِنٌ في الصيف تامر
أي ذو لبن وذو تمر. وقول نابغة ذبيان:
كِليني لِهَمٍّ يا أميمة ناصب
…
وليل أقاسيه بطيء الكواكبِ