الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} ، وفي سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لَا يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع.
وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} الآية.
•
قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}
.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به، ولا يقبلون منه ما جاءهم به، فقالوا له: قلوبنا التي نعقل بها ونفهم في أكنة، أي أغطية.
والأكنة، جمع كنان، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه.
ويعنون: أن تلك الأغطية مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرًا، أي: ثقلًا، وهو الصمم.
وأن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا مما يقول، كما قال تعالى عنهم:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} .
وأن من بينهم وبينه حجابًا مانعًا لهم من الاتصال والاتفاق؛ لأن ذلك الحجاب يحجب كلًا منهما عن الآخر، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه صلى الله عليه وسلم الحق.
واللَّه جل وعلا ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم، مع أنه تعالى صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وجعل بينهم وبين رسوله حجابًا عند قراءته القرآن، قال تعالى في سورة بني إسرائيل:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} ، وقال تعالى في الأنعام:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} ، وقال تعالى في الكهف:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)} .
وهذا الإِشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي، ووجه كونه مشكلًا ظاهر؛ لأنه تعالى ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من فصلت، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلًا، وأنه تعالى هو الذي جعله فيهم.
فيقال: فكيف يذمون على قول شيء، هو حق في نفس الأمر؟
والتحقيق في الجواب عن هذا الإِشكال، هو ما ذكرنا مرارًا من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة، وطبع عليها وختم عليها، وجعل الوقر في آذانهم، ونحو ذلك من الموانع من الهدى، بسبب أنهم بادروا إلى الكفر وتكذيب الرسل طائعين مختارين، فجزاهم الله
على ذلك الذنب الأعظم، طمس البصيرة، والعمى عن الهدى، جزاء وفاقًا.
فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم مجازاة لكفرهم الأول.
ومن جزاء السيئة تمادي صاحبها في الضلال، وللَّه الحكمة البالغة في ذلك.
والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن، كقوله تعالى:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} .
فقول اليهود في الآية: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} كقول كفار مكة: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} ؛ لأن الغُلْف جمع أغلف وهو الذي عليه غلاف، والأكنة جمع كِنان، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر.
وقد رد الله علي اليهود دعواهم بـ (بل) التي هي للإِضراب الإِبطالي، في قوله:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} .
فالباء في قوله: (بكفرهم) سببية، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد.
وكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} ، والفاء في قوله:(فطبع) سببية، أي ثم كفروا فطبع على قلوبهم بصبب ذلك الكفر.
وقد قدمنا مرارًا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي.
وكذلك الفاء في قوله: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} فهي سببية أيضًا،
أي فطبع على قلوبهم، فهم بسبب ذلك الطبع (لا يفقهون) أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئًا.
وذلك ما يبين أن الطبع والأكنة يؤول معناهما إلى شيء واحد، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم؛ لأنه قال في الطبع:{فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} ، وقال في الأكنة:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} أي كراهة أن يفقهوه، أو لأجل ألا يفقهوه، كما قدمنا إيضاحه.
وكقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فبين أن زيغهم الأول كان سببًا لإِزاغة الله قلوبهم، وتلك الإِزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب.
وكقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} ، وقوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، وقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} الآية.
وإيضاح هذا الجواب: أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} يقصدون بذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون به بوجه، ولا يتبعونه بحال، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة والذنب الذي كان سببًا في الأكنة والوقر والحجاب.
فدعواهم كاذبة؛ لأن الله جعل لهم قلوبًا يفهمون بها، وآذانًا يسمعون بها، خلافًا لما زعموا، ولكنه سبَّب لهم الأكنة والوقر والحجاب، بسبب مبادرتهم إلى الكفر وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
وهذا المعنى أوضحه رده تعالى على اليهود في قوله عنهم: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} .
وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة الجواب على الإِشكال المذكور، فقال: فإن قيل: إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم، وذكر أيضًا ما يقرب منه في معرض الذم، فقال:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} ، ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإِثبات في سورة الأنعام، فقال:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: إنه لم يقل ها هنا: إنهم كَذَبوا في ذلك، إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا: إنا إذا كنا كذلك، لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا.
وهذا الثاني باطل، أما الأول: فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه. اهـ منه. والأظهر هو ما ذكرنا.
قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} :
فإن قلت: هل لزيادة (من) في قوله: (ومن بيننا وبينك حجاب) فائدة؟ قلت: نعم؛ لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجابًا حاصل وسط الجهتين.
وأما بزيادة (مِنْ) فالمعنى: أن حجابًا ابتدأ منا وابتدأ منك؛ فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعَبة بالحجاب، لا فراغ فيها. انتهى منه.