الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} .
وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيئًا} .
ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا
…
لا تظهرن لنا ما كان مدفونا
وقول طرفة بن العبد:
وأعلم علمًا ليس بالظن أنه
…
إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
والحاصل أن من قال: هذا وقفٌ، أو صدقةٌ على قومي، أو مواليَّ، أنه إن كان هناك عرف خاص وجب اتباعه في ذلك، وإن لم يكن هناك عرف فلا تعلم نصًّا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدًا دقيقًا.
وكلام أهل العلم فيه معروف في محالِّه.
والعلم عند الله تعالى.
•
.
(وقالوا) أي كفار مكة: (لولا) أي هلا (نزل هذا القرآن على
رجل من القريتين) أي من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف (عظيم) يعنون بعظمه كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وعظيم الطائف: هو عروة بن مسعود، وقيل: حبيب بن عمرو بن عمير، وقيل: هو كنانة بن عبد ياليل، وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولًا أن يبعث الله رسولًا من البشر، كما أوضحناه مرارًا.
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولًا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين.
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا، موجبًا لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي.
ولذا زعموا أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليس أهلًا لإِنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - .
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، شدة جهلهم، وسخافة عقولهم بقوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ، والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي.
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن، كقوله تعالى في الدخان:{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية، وقوله في آخر القصص:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيكَ الْكِتَابُ إلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية، وقوله في آخر الأنبياء:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالمِينَ (107)} .
وقد قدمنا الآيات الدالة على إطلاق الرحمة والعلم على النبوة في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَينَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} الآية.
وقدمنا معاني إطلاق الرحمة في القرآن في سورة فاطر، في الكلام على قوله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنيًّا وهذا فقيرًا، وهذا رفيعًا وهذا وضيعًا، وهذا خادمًا وهذا مخدومًا، ونحو ذلك، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها، بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟
فهذا مما لا يعقل، ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير، ومعنى تسخير بعضهم
لبعض: خدمة بعضهم لبعض وعمل بعضهم لبعض؛ لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا أن يجعل هذا فقيرًا مع كونه قويًّا قادرًا على العمل، ويجعل هذا ضعيفًا لا يقدر على العمل بنفسه ولكنه تعالى يهيئ له دراهم يؤجر بها ذلك الفقير القوي، فينتفع القوي بدراهم الضعيف والضعيف بعمل القوي، فتنتظم المعيشة لكل منهما، وهكذا.
وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أنقص شرفًا وقدرًا من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في (ص) في قوله تعالى:{أَأُنْزِلَ عَلَيهِ الذِّكْرُ مِنْ بَينِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} الآية.
فقول كفار مكة: {أَأُنْزِلَ عَلَيهِ الذِّكْرُ مِنْ بَينِنَا} معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه، لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم.
وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى عنهم:{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيهِ مِنْ بَينِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)} .
فقلوب الكفار متشابهة، فكانت أعمالهم متشابهة، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ قَال الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} ، وقال تعالى:{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} .
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام
في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} ، وقوله تعالى في المدثر:{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)} ، أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء، كما قاله مجاهد وغير واحد، وهو ظاهر القرآن. وفي الآية قول آخر معروف.
وأما إنكاره تعالى عليهم اقتراح إنزال الوحي على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ، الذي دلت عليه همزة الإِنكار المتضمنة مع الإِنكار لتجهيلهم وتسفيه عقولهم، في قوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ، فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام؛ لأنه تعالى لما قال:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} بقوله، ردًّا عليهم وإنكارًا لمقالتهم:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيثُ يَجْعَلُ رِسَالتَهُ} ، ثم أوعدهم على ذلك بقوله:{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)} .
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم، فقد جاء في مواضع أخر، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} ، وقوله تعالى:{انْظُرْ كَيفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} ، وقوله تعالى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ، وقوله تعالى:{وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} ، وقوله تعالى:{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} الآية.
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ والقوة والضعف، ونحو ذلك، بقوله هنا:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} ، كما تقدم.
وقوله تعالى هنا: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} يعني أن النبوة، والاهتداء بهدي الأنبياء، وما يناله المهتدون يوم القيامة، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في سورة يونس:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} ، وقوله تعالى في آل عمران:{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} .
مسألة
دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا، كقوله تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَينَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} الآية، وقوله:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} الآية، ونحو ذلك من الآيات، على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْويلًا (43)} .
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات والرسائل السماوية، إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاؤوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما