الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى أثبت الهدى لنبينا صلى الله عليه وسلم في آية، وهي قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} ، ونفاه عنه في آية أخرى، وهي قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} .
فيعلم مما ذكرنا: أن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم هو الهدى العام الذي هو البيان والدلالة والإِرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فبين المحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها هالك.
والهدى المنفي عنه في آية: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق؛ لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} الآيه وقوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وكذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} الآية، لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية وخصوص المتقين في قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} ؛ لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام، والهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص، كما لا يخفى.
وقد بينا هذا في غير هذا الموضع. والعلم عند الله تعالى.
•
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ}
الآية.
الفاء في قوله: (فأخذتهم) سببية، أي فاستحبوا العمى على الهدى، وبسبب ذلك أخذتهم صاعقة العذاب الهون.
واعلم أن الله جل وعلا عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود
بعبارات مختلفة، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله:{فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} ، وقوله:{فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} .
وعبر عنه أيضًا بالصاعقة في سورة الذاريات في قوله تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)} .
وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه، كقوله تعالى في سورة هود، في إهلاكه ثمود:{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)} ، وقوله تعالى في الحجر:{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)} ، وقوله تعالى في القمر:{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)} ، وقوله تعالى في العنكبوت:{وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} يعني ثمودًا المذكورين في قوله قبله: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} الآية.
وعبر عنه بالرجفة في سورة الأعراف في قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} الآية.
وعبر عنه بالتدمير في سورة النمل في قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)} .
وعبر عنه بالطاغية في الحاقة في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)} .
وعبر عنه بالدمدمة في الشمس في قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)} .
وعبر عنه بالعذاب في سورة الشعراء في قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} الآية.
ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم، والصيحة الصوت المزعج المهلك.
والصاعقة تطلق أيضًا على الصوت المزعج المهلك، وعلى النار المحرقة، وعليهما معًا، ولشدة عظم الصيحة وهولها من فوقهم، رجفت بهم الأرض من تحتهم، أي تحركت حركة قوية، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة، وكون ذلك تدميرًا واضح. وقيل لها طاغية؛ لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإِهلاك.
والطغيان في لغة العرب: مجاوزة الحد.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} الآية، أي جاوز الحطدود التي يبلغها الماء عادة.
واعلم أن التحقيق أن المراد بالطاغية في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)} أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها، كما يوضحه قوله بعده:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} .
خلافًا لمن زعم أن الطاغية مصدر، كالعاقبة والعافية، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم، أي بكفرهم وتكذيبهم نبيهم، كقوله:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)} .
وخلافًا لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم، الذي انبعث فعقر الناقة، وأنهم أهلكوا بسبب فعله وهو عقره الناقة.
وكل هذا خلاف التحقيق، والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا، والسياق يدل عليه، واختاره غير واحد.
وأما قوله تعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} فإنه لا يخالف ما ذكرنا؛ لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه، بسبب ذنبهم.
قال الزمخشري في معنى دمدم: وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم.
وأما إطلاق العذاب عليه في سورة الشعراء فواضح، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {الْعَذَابِ الْهُونِ} من النعت بالمصدر؛ لأن الهون مصدر بمعنى الهوان، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف، أشار إليه في الخلاصة بقوله:
ونعتوا بمصدر كثيرا
…
فالتزموا الإِفراد والتذكيرا
وهو موجه بأحد أمرين:
أحدهما: أن يكون على حذف مضاف. أي العذاب ذي الهون.
والثاني: أنه على سبيل المبالغة، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه، صار كأنه نفس الهوان، كما هو معروف في محله.
وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} كالتوكيد في المعنى لقوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ؛ لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم، فالفاء في قوله:(فأخذتهم) سببية، والباء في قوله:(بما كانوا) سببية، والعلم عند الله تعالى.