الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسابقون لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر، على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف. ومنه قول أبي النجم:
أنا أبو النجم وشعري شعري
…
لله دري ما أجن صدري
فقوله: "وشعري شعري" يعني شعري هو الذي بلغك خبره، وانتهى إليك وصفه.
•
قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}
.
وقوله: (ثلة) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم ثلة، والثلة الجماعة من الناس، وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل، وهو الكسر.
وقال الزمخشري: والثلة من الثل، وهو الكسر، كما أن الأمة من الأَمّ وهو الشَّجّ، كأنها جماعة كسرت من الناس، وقطعت منهم. اهـ منه.
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر:
فجاءت إليهم ثلة خندقية
…
بجيش كتيار من السيل مزبد
لأن قوله: "تيار من السيل" يدل على كثرة هذا الجيش المعبر عنه بالثلة.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين، وهذا
القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} .
فقال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، وأن المراد بالأولين منهم الصحابة.
وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم" الحديث.
والذين قالوا: هم كلهم من هذه الأمة، قالوا: إنما المراد بالقليل وثلةٍ من الآخرين، هم من بعد ذلك إلى قيام الساعة.
وقال بعض العلماء: المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة، والمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة.
قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: ظاهر القرآن في هذا المقام: أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية، والآخرين فيهما من هذه الأمة، وأن قوله تعالى:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} في السابقين خاصة، وأن قوله:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} في أصحاب اليمين خاصة.
وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين؛ لأنه واضح من سياق الآيات.
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة؛ لأن قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)} إلى قوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)} لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، وأن الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء.
فدل ذلك على أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} عام في جميع أهل المحشر، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة، ومنهم من هو من هذه الأمة.
وعلى هذا، فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة؛ لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله:{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} .
ولا غرابة في هذا؛ لأن الأمم الماضية أمم كثيرة، وفيها أنبياء كثيرة ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها.
أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم؛ لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر، مع أنهما كلاهما كثير.
وبهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير، لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة.
فأما كون قوله: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين؛ فلأن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} ، ثم قال تعالى مخبرًا عن هؤلاء السابقين المقربين:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} .
وأما كون قوله: (وثلة من الآخرين) في خصوص أصحاب اليمين؛ فلأن الله تعالى قال {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ