الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} ، وذكرنا بعضه في سورة الشورى.
•
.
ذكر جل وعلا في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق؛ لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع، من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم، ولذا قال تعالى بعده:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَينِ اثْنَينِ} الآية، وقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَال أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} الآية، وقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)} ، وقوله تعالى:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَينَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} الآية، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} ، أي فواكه كثيرة. وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب.
وقوله: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)} ذات أي صاحبة، والأكمام جمع كِم، بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النَّوْر. وقيل: هو ليفها. واختار ابن جرير شموله للأمرين.
وقوله: {وَالْحَبُّ} كالقمح ونحوه.
وقوله: {ذُو الْعَصْفِ} ، قال أكثر العلماء: العصف ورق الزرع، ومنه قوله تعالى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)}. وقيل العصف: التبن.
وقوله: {وَالرَّيحَانُ} اختلف العلماء في معناه، فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء: الريحان: الرزق، ومنه قول النجم بن تولب العكلي:
فروح الإله وريحانه
…
ورحمته وسماء درر
غمام ينزل رزق العباد
…
فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: (والحبُّ ذو العصف والريحان) بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على (فاكهةٌ) أي فيها فاكهة وفيها الحب
…
إلخ.
وقرأه ابن عامر. (والحبَّ ذا العصف والريحان) بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي:(ذا العصف) بألف بعد الذال، مكان الواو. والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان.
وعلى هاتين القراءتين، فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين.
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في (الحبُّ) وضم الذال في (ذو العصف) وكسر نون (الريحانِ) عطفًا على العصف، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم؛ لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف وهو الورق أو التبن، وليس صاحب مشموم طيب ريح.
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله:{مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)} ، وقوله تعالى:{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} ، وقوله تعالى:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} ، وقوله تعالى:{لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيتُونَ} الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِيهَا فَاكِهَةٌ} ، ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع، جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في سورة الفلاح:{لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)} ، وقوله تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} ، إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحًا في آيات أخر، كقوله تعالى:{فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ، وقوله تعالى:{فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا} ، وقوله تعالى:{وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} ، وقوله تعالى:{نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} الآية، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنخل، جاء موضحًا في آيات كثيرة، كقوله تعالى:{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ} وقوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان، على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي، جاء موضحًا في آيات كثيرة أيضًا، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} ، وقوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، وقوله تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} ، وقوله تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
مسألة
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} أن الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يرد دليل خاص بالمنع؛ لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه، في آية الرحمن هذه، وامتن عليهم بأنه خلق لهم
ما في الأرض جميعًا في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، ومعلوم أنه جل وعلا لا يمتن بحرام، إذ لا منة في شيء محرم.
واستدلوا لذلك أيضًا بحصر المحرسات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الآية، وقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الآية، وقوله تعالى. {قُلْ تَعَالوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيكُمْ} الآية.
وفي هذه المسألة قولان آخران:
أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله جل وعلا، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلَّا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول، ليس هذا محل بسطها.
القول الثاني: هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل.
فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب: المنع، والإباحة، والوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل؛ لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس بها ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر، كأنواع الفواكه وغيرها.
الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع، كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى.
فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك؛ لعموم قوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ، وقوله:{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)} الآية.
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع، فهي على التحريم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار".
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فلها ثلاث حالات.
الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر.
والثانية: عكس هذا.
والثالثة: أن يتساوى الأمران.
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويًا له، فالمنع؛ لحديث "لا ضرر ولا ضرار"، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وإن كان النفع أرجح، فالأظهر الجواز؛ لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
• وألغ إن يك الفساد أبعدا *
أو رجح الإصلاح كالأسارى
…
تفدى بما ينفع للنصارى
وانظر تدليَ دوالي العنب
…
في كل مشرق وكل مغرب
ومراده تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة، أو البعيدة، ممثلًا له بمثالين:
الأول منهما: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة، قدمت على المفسدة المرجوحة التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى.
الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب، مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه؛ لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة.
وهذا التفصيل الذي اخترنا، قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله:
والحكم ما به يجيء الشرع
…
وأصل كل ما يضر المنع
تنبيه
اعلم أن علماء الأصول يقولون: إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع، ويقولون: إن الدليل على ذلك عقلي، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه.
ونحن نقول: إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية، وكانت وقت نزولها
عندهم أموال مكتسبة من الربا، اكتسبوها قبل نزول التحريم، بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا، على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم، لا حرج عليهم فيه، إذ لا تحريم إلا ببيان، وذلك في قوله تعالى:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} ، وقولُه:(ما سلف) أي ما مضى قبل نزول التحريم.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ} ، وقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ} ، والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله:(إلا ما قد سلف) منقطع، أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم فهو عفو؛ لأنه على البراءة الأصلية.
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين، عاتبهم الله في قوله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية، فندموا على الاستغفار لهم، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به؛ لأنه وقع قبل بيان منعه.
وهذا صريح فيما ذكرنا.
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضًا، في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} ، وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية. والعلم عند الله تعالى.