الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
.
التحقيق الذي لا شك فيه، أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه، وليس لموسى فيه دخل.
وقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} ، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم، ويذكرون نصيحته، فيندمون حيث لا ينفع الندم، والآيات الدالة علي مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا كثيرة، كقوله تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)} ، وقوله تعالى:{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} ، وقوله تعالى:{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)} ، وقوله تعالى:{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} ، وقوله تعالى:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} دليل واضح علي أن التوكل الصادق علي الله، وتفويض الأمور إليه، سبب للحفظ والوقاية من كل سوء. وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل، كقولهم: سها فسجد، أي سجد لعلة سهوه، وسرق فقطعت يده، أي لعلة سرقته، كما قدمناه مرارًا.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون التوكل على الله سببًا للحفظ، والوقاية من السوء، جاء مبينًا في آيات أخر، كقوله تعالى:
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، وقوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} .
وقد ذكرنا الآيات الدالة على ذلك بكثرة في أول سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى:{أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)} .
والظاهر أن (ما) في قوله: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} مصدرية، أي فوقاه الله سيئات مكرهم، أي أضرار مكرهم وشدائده، والمكر: الكيد.
فقد دلت هذه الآية الكريمة، علي أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم، وأن الله وقاه، أي حفظه ونجاه من أضرار مكرهم وشدائده، بسبب توكله على الله، وتفويضه أمره إليه.
وبعض العلماء يقول: نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول: صعد جبلًا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم. وكل هذا لا دليل عليه، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم، أي حفظه ونجاه منها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} معناه أنهم كما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن، وقاه الله مكرهم، ورد العاقبة السيئة عليهم، فرد سوء مكرهم إليهم، فكان المؤمن المذكور ناجيًا في الدنيا والآخرة، وكان فرعون وقومه هالكين في الدنيا والآخرة والبرزخ.
فقال في هلاكهم في الدنيا: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} الآية، وأمثالها من الآيات.
وقال في مصيرهم في البرزخ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} .
وقال في عذابهم في الآخرة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من حيق المكر السَّيِّء، بالماكر، أوضحه تعالى في قوله:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .
والعرب تقول: حاق به المكروه يحيق به حيقًا وحيوقًا، إذا نزل به وأحاط به. ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة، يقال: حاق به السوء والمكروه، ولا يقال: حاق به الخير، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين، والوصف منه حائق، على القياس، ومنه قول الشاعر:
فأوطأ جُرْد الخيل عقر دِيارِهم
…
وحاقَ بهمْ من يأس ضبَّة حائقُ
وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي "فيعلة"، من السوء، فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو التي هي عين الكلمة، بعد إبدال الواو ياء، على القاعدة التصريفية المشار إليها في الخلاصة بقوله:
إن يسكن السابق من وَاوٍ وَيَا
…
واتصلا ومن عروض عَرِيا
فياءً الواو اقلِبَنَّ مدغمًا
…
وشذَّ معطًى غير ما قدر رسما