الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما المسألة الثالثة، وهي علمهم أن الساعة حق، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لاريب فيها؛ لأنها تتضمن نفي الريب فيها عن المؤمنين، والريب: الشك، كقوله تعالى عن الراسخين في العلم:{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيبَ فِيهِ} الآية، وقوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ} الآية، وقوله تعالى:{فَكَيفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيبَ فِيهِ} الآية، وقوله تعالى:{وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيبَ فِيهِ} الآية، وقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} ، إلى غير ذلك من الآيات.
•
قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}
.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)} .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يُمَارُونَ} ، مضارع مارى، يماري مراء ومماراة، إذا خاصم وجادل.
ومنه قوله تعالى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلا مِرَاءً ظَاهِرًا} .
وقوله: {لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)} أي بعيد عن الحق والصواب.
وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية، مع الشواهد، في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى {قَال فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} ، وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك.
•
قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
.
قد بينا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ مَالًا} الآية، أن جميع الرسل عليهم الصلوات والسلام لا يأخذون أجرًا على التبليغ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين تلك الآيات، وآية الشورى هذه، فقلنا فيه:
اعلم أولًا أن في قوله تعالى {إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أربعة أقوال:
الأول: ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم، كما نقله عنهم ابني جرير وغيره، أن معنى الآية {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ؛ لأنه مبذول لكل أحد؛ لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس.
وقد فعل له ذلك أبو طالب، ولم يكن أجرًا على التبليغ؛ لأنه لم يؤمن.
وإذا كان لا يسأل أجرًا إلا هذا الذي ليس بأجر، تحقق أنه لا يسأل أجرًا، كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وهذا القول هو الصحيح في الآية، واختاره ابن جرير، وعليه فلا إشكال.
الثاني: أن معنى الآية {إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين، وعليه فلا إشكال أيضًا؛ لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، وفي الحديث "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد، إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وقال - صلى الله عليه وسلم - :"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدًّا.
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين، تبين أنه غير عوض عن التبليغ.
وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال.
فمعناه على القول الأول: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا} لكن أذكركم قرابتي فيكم.
وعلى الثاني: لكن أذكركم الله في قرابتي، فاحفظوني فيهم.
القول الثالث، وبه قال الحسن:(إلا المودة في القربى) أي إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح. وعليه فلا إشكال؛ لأن التقرب إلى الله ليس أجرًا على التبليغ.
القول الرابع: (إلا المودة في القربى)، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم. ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن
القاسم، وعليه أيضًا فلا إشكال؛ لأن صلة الإِنسان رحمه ليست أجرًا على التبليغ.
فقد علمت الصحيح في تفسير الآية، وظهر لك رفع الإِشكال على جميع الأقوال.
وأما القول بأن قوله تعالى: {إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} منسوخ بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} ، فهو ضعيف، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه.
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية، مع أن كثيرًا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية، فيحسبون أن معنى {إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} إلا أن تودوني في أهل قرابتي.
وممن ظن ذلك محمد السجاد، حيث قال لقاتله يوم الجمل: أذكِّرك حم، يعني سورة الشورى هذه، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم؛ لأن الله تعالى قال في حم هذه:{إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، فهو يريد المعنى المذكور، يظنه هو المراد بالآية، ولذا قال قاتله في ذلك:
يذكرني حاميم والرمح شاجر
…
فهلَّا تلا حاميم قبل التقدم
وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة هود، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة المؤمن، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمدًا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي كما قال البخاري، أو الأشتر النخعي، أو عصام بن مقشعر، أو مدلج بن كعب السعدي، أو كعب بن مدلج.