الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
•
.
تضمنت هذه الآية الكريمة امتنانًا عظيمًا على خلقه بالماء الذي يشربونه، وذلك أيضًا آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه، والمعنى:(أفرأيتم الماء الذي تشربون) الذي لا غنى لكم عنه لحظة، ولو أعدمناه لهلكتم جميعًا في أقرب وقت:{أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)} .
والجواب الذي لا جواب غيره هو: أنت يا ربنا هو منزله من المزن، ونحن لا قدرة لنا على ذلك. فيقال لهم: إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره؟!
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته، شكرًا لنعمة هذا الماء، كما أشار له هنا بقوله:{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} جاء في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى:{فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَينَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} ، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)} ، وقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)} ، وقوله تعالى:{وَأَسْقَينَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)} إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله هنا: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي لو نشاء جعله أجاجًا لفعلنا، ولكن جعلناه عذبًا فراتًا سائغًا شرابه، وقد قدمنا في سورة الفرقان أن الماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب، جاء معناه في آيات أخر، كقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} ، وقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} لأن الذهاب بالماء، وجعله غورًا لم يصل إليه، وجعله أجاجًا، كل ذلك في المعنى سواء، بجامع عدم تأتي شرب الماء.
وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك، أن أصله كله نازل من المزن، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحًا في آيات أخر، كقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} ، وقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} ، وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى:{فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَينَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} ، وفي سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} (فلولا) بمعنى هلَّا، وهي حرف تحضيض، وهو الطلب بحث وحض. والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بِحَثّ وحض.
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه، ومن الرب لعبده.
فشكر العبد لربه، ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى، فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا إلى ما يرضي مَنْ خلقها، وهكذا في جميع الجوارح، وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان، وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة، كقوله تعالى هنا:{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)} ، وقوله تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} ، وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} ، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه لغوي
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارةً، وإلى المنعم أخرى، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر، كقوله تعالى:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} الآية، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام، كقوله: نحمد الله ونشكر له.
ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام، كقوله:{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} ، وقوله:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيكَ} ، وقوله:{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} ، وقوله:{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرْجَعُونَ (17)} ، إلى غير ذلك من الآيات.