الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توطئة
الحضارة هي أنفس وأنبل وأخلد ما للأمة من تراث في جماع علومها وآدابها وفنونها، ولئن كان من صنع الطبقة الممتازة فيها فهو للإنسانية جمعاء لا فرق بين عرق ولغة وعقيدة، أو حاجز من زمان ومكان، مادامت تشارك فيه على أقدارها متأثرة ومبدعة ومؤثرة، وتتوارث أفضله وتبنى عليه في سبيل تطويرها وتفاهمها وتكاملها.
وقد كان للعرب والمستعربة والذين دخلوا في الإسلام تراث ومشاركة وإبداع منذ أقدم العصور، ولكنه لم يصبح عميقاً شاملاً متبلوراً إلا بالإسلام؛ فالإسلام مد فتوحه من مكة إلى الشرق والغرب، مستقراً في بعض بلدانها، ماراً أو مجاوراً بعضها الآخر. وقد دخل فيه كثيرون، واتسع سماحه- ولاسيما في عهد حكامه من العرب - لغيرهم من أصحاب العقائد. وكان لهؤلاء علوم وآداب وفنون فأدخلوها فيه، وجمعوا بين علومه وبينها، واتخذوا العربية لغة الكتاب لأدائها، فحلت محل الفارسية والسريانية والقبطية واليونانية واللاتينية من فارس إلى جبال البرانس، وتجاوزتها إلى غيرها من لغات أوربا، وحملت الدول الإسلامية على استبدال حروفها بحروفها، حتى استوعبت تراث الإسلام استيعاباً لم يتهيأ لمعظم اللغات الشرقية التي دان أهلها بالإسلام كالفارسية والتركية والأوردية، أو لأخواتها من اللغات السامية كالعبرية والسريانية والكلدانية. فكونت، في العصر الوسيط، حلقة بين تراث اليونانية القديمة وبين اللاتينية الحديث أرست عليه أوربا نهضتها وأبدعت من تراثاً، حتى إذا تهيأت لنا استعادته بنيناً عليه نهضتنا.
وظهر على طرفي النهضتين المستشرقون؛ فتناولوا تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، ولم يقفوا منه عندها فيموت بين جدران المكتبات والمتاحف والجمعيات، وإنما عمدوا إلى دراسة وتحقيقه ونشره وترجمته والتصنيف فيه: في منشئه وتأثره وتطوره وأثره وموازنته بغيره، واقفين عليه مواهبهم ومناهجهم وميزاتهم، مصطنعين لنشره المعاهد والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتى بلغوا فيه، منذ مئات السنين، وفي شتى البلدان، وبسائر اللغات، مبلغاً عظيماً
من العمق والشمول والطرافة وأصبح جزءاً لا ينفصل عن تراثنا، ولا تؤرخ الحضارة الإنسانية إلا به- وقد عرف الغرب منه أصالتنا فيها - كما لا تصلنا بالعصر الحديث علوماً وآداباً وفنوناً، صلة أشد من لغات الغرب.
فإن نحن طوينا هذا الجهد تنكرنا للأمانة العلمية في البحث عن الحقيقة الموضوعية - مع أن نشره لا يتضمن الموافقة عليه والرضى عنه جميعه - فكأننا نأبى أن يكون تراثنا جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية التي هي ملك لنا كما هي ملك لهم. وإن طي نشاطهم يبعث على الريبة وسوء الظن والقطيعة، في حين أن الحضارة الإنسانية لا تقوم لها قائمة إلا على التعاون في نشر ذخائر كل أمة في العلوم والفنون والآداب، على تنوعها وأوجه الشبه والاختلاف فيها تعاوناً يقصر المسافات النفسية بينها تقصير المخترعات للمسافات الجغرافية، لخلق تضامن وجداني فكري خلقي، في ائتلاف صادق شامل مستمر.
وإذا كنا لا نفرق بين أن ينجلى لنا تراثنا ويحتل مكانته من الحضارة الإنسانية على أيدي العرب أو بالتعاون مع المستشرقين، فقد اعترفنا لهؤلاء بفضلهم، ونشرناه في الناس، وهو بعض حقهم علينا.
إلا أن تحقيق تراجم المستشرقين: منذ مئات السنين، في شتى البلدان، وبسائر اللغات، وذكر مكان وتاريخ آثارهم: المحققة والمترجمة والمصنفة، وإحصاء وسائل نشرها: في المعاهد والمكتبات والمتاحف والمطابع والمجلات والمجموعات والمؤتمرات، ليس بالأمر اليسير الهين. إذ شغل المستشرقون بنا عن أنفسهم أكثر مما زعمه ديجا القائل:«والمستشرقون قعدوا عن تصنيف تاريخ الاستشراق لشدة تنافسهم فيما بينهم وترصد بعضهم البعض الآخر» (1) وتركوا مصادر الاستشراق موزعة على المجلات والحوليات وفهارس المكتبات والمنوعات - عند وفاة أحدهم أو سرد مصنفاتهم أو تكريم أعلامهم - مبعثرة بين كتب التراجم الخاصة بالشرق ودوائر المعارف العامة وهي غير مستكملة لا تذكر سوى أعلام من الأموات في بضعة أسطر، وبين كراسات الوفيات لنفر من المشهورين. ولقد ضم أعلامهم في كتب مستقلة، ولكنها على نفاستها لم تتناول الاستشراق إلا من زاوية: فبعضها صنف في
(1) Dugat، L'Histoire des Orientalistes، p. 11
الأغراض فسقط دي ساسي بين ثلاثة وعشرين رقماً في صفحات متفرقة وهوامش متعددة؛ وغيرها على بلد المضيف أو القومية، فنسب كازانوفا الفرنسي إلى إيطاليا على الرغم منه؛ ومعظمها اقتصر على بضعة من الآثار مغفلاً مكان نشرها، فذكر لكراوس ثلاثة وله عشرات.
ولما رأيت حظ المستشرقين من العربية أقل من نصيبهم فيها، سلخت في إعداد الطبعة الأولى عنهم سنتين ولما تف بما أحببته لها. وبذلت قصارى جهدي في الثانية فصلح بعض أمرها. ثم شجعنى نفادها على ثالثة خصصتها بخمس ساعات في اليوم طوال ست سنوات، منقباً عن التراث الشرق من فجر الحضارة إلى اليوم، مما أطال المقدمة، محصياً نشاط المستشرقين فيه حتى في مقالاتهم، ولمعظمها قيمة دراسية في ذاتها، محاولا توسيع آفاقه التي خفي بعضها عنا. وقد طبعت من الطبعة الثالثة خمسين نسخة أرسلتها إلى الملحقين الثقافيين، والأصدقاء من أعلام المستشرقين لتحقيق ما فاتني تحقيقه في مظانه -وقد نوهت به في تراجمهم- وأعدته واستعدته مرات، استيفاء لتراجم المستشرقين وعناوين آثارهم وأماكن طبعها وتواريخها إلا القليل منها الذي لا سبيل إليه.
وهكذا صدرت الطبعة الثالثة وقد أوفت على كثير مما تمنيته لها، وأصاب عملي المتواضع فيها أهدافاً أربعة هي: اتصال تراثنا بالحضارة الإنسانية اتصالاً وثيقاً منشأ وتأثراً وأثراً، والكشف عن كنوزه في الغرب مجموعة مصونة مفهرسة، وتحقيق المستشرقين لها وترجمتها ومقارنتها بنظائرها والتصنيف فيها، ووضعه بالعربية لأسهل عليهم الرجوع إليه، فلو أنه كتب بالفرنسية مثلاً لوجد مستشرق سكسوني أو سلافي لا يفهمها -ولن يفتقد فيه ما لا يعرفه- أما وهو مستشرق -وجل المستشرقين مستعربون- فسيقف عليه ويقرأ فيه تقديرنا لجهده واعترافنا بفضله.