الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحيرة وأحرقها ما خلا كنائسها، والأمر ما قبض عليه عامل بيزنطية في سوريا وساقه مع زوجه وثلاثة من أبنائه إلى القسطنطينية فنفته إلى صقلية. وأقسم ابنه الأكبر وخليفته النعمان ألا يرى وجه بيزنطي بعد ذلك وطفق يشن الغارات على حدود الإمبراطورية ويعيث فساداً فيها حتى قبضت عليه (584) وسيرته أسيراً إلى القسطنطينية ثم ألحقته بذويه في صقلية. عندئذ عمت الفوضى الغساسنة فأمرت كل قبيلة شيخاً منها عليها، والحرب بين بيزنطية والفرس سجال حولها حتى إذا فتح كسري أبرويز دمشق وأخذ عود الصليب من القدس (613 - 614) واسترجعهما هرقل (629) كانت دولة الغساسنة قد دالت، إلا من جبلة بن الأيهم ويعتبر آخر ملوكهم وقد انضم إلى البيزنطيين في قتال العرب عند وقعة اليرموك (636) ثم انفض بجماعته من حولهم.
لقد غلب على حضارة الغساسنة الطابع العربي. فكانت دون تدمر، وفوق الحيرة لصلتها بالبيزنطيين لا بالفرس جيران اللخميين. وانتفعت بالمدنيات اليمنية والسورية واليونانية لإبداع حضارتها واتخذت الآرامية لغة لها دون أن تهجر لسانها العربي الذي جاءت به من اليمن - وقد فصل ذلك ديسو في كتابه: العرب في بلاد الشام قبل الإسلام (1955) - وما زالت آثارها تدل عليها في الدور المشيدة من الرخام الأسود، وقصور بصري، وأقواس النصر والمسارح، والأسواق، والقنوات، والحمامات العامة، أما بلاطها فقد غنت فيه القيان من مكة والحيرة والقسطنطينية، ووفد عليه شعراء العرب من أمثال: لبيد، وحسان بن ثابت، والنابغة الذبياني القائل في ملوكه:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
5 - الحيرة:
ونزح اللخميون عن اليمن، مثل الغساسنة، في القرن الثالث للميلاد، إلى تخوم العراق، وقضوا أيامهم الأولى في المضارب ثم نزلوا بالحيرة (431) - وهي كلمة سريانية معناها مخيم وتقع بالقرب من بابل القديمة، وكان سكانها نصاري على مذهب الطبيعتين عرفوا فيما بعد بالنساطرة ومنها انتقلت إلى البحرين - حيث
أسس دولتهم عمرو بن عدي بن لخم، واستتب لهم الملك على يدي امرئ القيس الأول (المتوفى عام 328) ثم ابتنى النعمان الأول (400 - 418) قصر الخورنق وحمل على النصارى. وخلفه ابنه المنذر الأول (418 - 462) فازدهرت الحيرة في عهده وبلغ من السلطان مبلغاً حمل الفرس على تتويج بهرام - وكان النعمان الأول قد رباه - ملكاً عليهم وأيدهم في قتال البيزنطيين (421) وزادت الحيرة تألقاً أيام المنذر الثالث ابن ماء السماء (505 - 554) فأصلح بين قبيلتي بكر وتغلب (525) وقاتل البيزنطيين في سوريا وبلغ بغاراته أنطاكيه فنشط الغساسنة لملاقاته فأسر أحد أبناء ملكهم الحارث الثاني وقدمه ضحية للعزى (544) تقديمه أربعمائة راهبة. ثم ظفر به الحارث وقتله في وقعة قرب قنسرين (554) وخلفه ابنه عمرو بن هند (554 - 569) وقد نسب إلى أمه - وكانت أميرة غسانية بنت في الحيرة ديراً ظل معروفاً بدير هند حتى القرن الثاني للهجرة - وسقطت الأسرة اللخمية بنهاية النعمان الثالث (580 - 602) وهو ابن المنذر الرابع، وقد تنصر في قصة مشهورة، على المذهب النسطوري، وهو أقل المذاهب كراهية عند الفرس؛ إلا أن كسرى استدرجه لخلاف عائلي بين العرب إلى عاصمته وألقاه تحت أقدام الفيلة، وولى الملك بعده إياساً ابن قبيعة من بني طيء (602 - 611) وجعل إلى جانبه مقيماً فارسياً، فثار العرب لمقتل مليكهم وطفقوا يغيرون على حدود فارس حتى ثلموها، وهزموا فيالقها هزيمة ساحقة في ذي قار (610) واستمروا في الحيرة قوة قبلية ضاربة حتى الفتح الإسلامي فيسروه للفاتحين ومشوا في ركابهم.
لئن كانت حضارة الحيرة، وقد كشف عنها رايس (1934) دون حضارات العرب التي مرت بنا، فقد تكلمت العربية مثل بعضها وكتبت بالآرامية إلى جانب العربية مثلها. وأنشأ اللخميون في الحيرة بلاطاً شبه فارسي وعنوا، كالفرس، بالموسيقى والشعر، فتمثلت حضارتهم فيما روى الشعراء عن قصورهم وبطولتهم وثرائهم، ومن فحول الشعراء الذين أموا بلاطهم: طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم.