الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون فالفارابي أعظم الفلاسفة، وأبو كامل، وإبراهيم بن سنان أعظم علماء الرياضيات، والمسعودي أعظم الجغرافيين، والطبري أعظم المؤرخين (1). ولو استرسل سارتون لذكر مئات الأعلام في مختلف ضروب العلم، بله الكتاب والشعراء وأصحاب الفنون، وعشرات آلاف المصنفات النفيسه التي خلفوها فهل انحصرت الثقافة العربية في الشرق ووقفت عنده؟
2 - الأندلس
راقت العرب الإقامة في الأندلس وظنوا أنفسهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا فتفننوا في إتقان دورهم وتنسيق حدائقهم وتنظيم دساكرهم لتنسجم وما شيده الخلفاء والأمراء من مئات المساجد والقصور والأبراج والحمامات والحدائق فجاء وليد الفطرة والبيئة أكثر منه جلباً من الشرق كمعظم آثارهم العقلية. وأدخلوا إلى الأندلس الأساليب الزراعية التي عرفوها في الشرق، وجاءوها بأشجار وأغراس أزاهير وبقول، من دمشق ومصر وأفريقيا والهند. وعنوا بالصناعات على اختلافها كالحياكة والدباغة والمعادن والسلاح والنقش في الخشب والزجاج والخزف. حتى إذا تم لهم بناء الأندلس السياسي والاقتصادي والاجتماعي سعوا إلى التشبه بالعباسيين في إرساء ملكهم على أسس من الفنون والآداب والعلوم: فأسسوا المدارس وحبسوا الأموال عليها، وخرجوا في طلب الكتب إلى الشرق وملأوا مكتباتهم الخاصة منها ما خلا خزائن بعض المساجد، لا كما قال الغزيري: إن مكتبات قرطبة العامة بلغت السبعين عداً» (2).
ووفد على قرطبة ثم على غيرها من حواضر الأندلس أهل الفن والأدب والعلم، من الشرق والغرب، وعنوا بتفاصيلها تفسيراً واقتباساً وتصنيفاً، واختلفوا إلى مجامع كمجامع اليوم للجدل والمناظرة، وجلست الأميرات للشعراء ووازن بينهم.
وأقبلت الأندلس على تلك الثقافة التي تميزت بتعدد مبدعيها: عرباً وبربراً ومستعربين ويهوداً ونصاري، في إدراك وحب وسماح إلا ما حرمها منه الفقهاء،
(1) G. Sarton، Introduction to the Hist. of Sci. Vol. 1، p 624.
(2)
Casiri، Biblioteca Arabica - Hispana Esc. t II، P 71.
فازدهرت فيها ازدهارها على الفرات. وفي ذلك يقول دوزي، الذي وقف جل نشاطه على الأندلس واشتهر بميله للعرب، إن كل إنسان تقريباً كان يحسن القراءة والكتابة يوم خلت أوربا ممن يلم بها ما خلا الطبقة العليا من القسيسين (1).
أما الفلسفة والمنطق والفلك والكيميا والرياضيات، فقد كانت أحب العلوم إلى الخاصة والمجددين، وأقبحها لدى العامة والرجعيين. وكان الخلفاء من علمائها فريقين: فريقاً يقربهم ويجزل عطاءهم ويوليهم كبار المناصب. وفريقاً، وهو الأكبر، ينكبهم بإحراق كتبهم واستصفاء أموالهم ورجمهم فيهربون منه إمساكأ على حياتهم (2) وكان فقهاء الأندلس المالكيون حرباً على تلك العلوم وعلى الغناء والموسيقى وبعض أطرزة البناء (3) فأحرقت على يدهم كتب خليل بن عبد الملك، وإحياء العلوم للغزالى، ومعظم كتب ابن رشد. وفر الحباب، وابن مسرة وأتباعه، وعبد الرحمن ابن زيد الملقب بأقليدس الأندلس. حتى إذا انقرضت دولة بني أمية، وصارت الأندلس إلى ملوك الطوائف، وبيعت كتب القصور انتشرت العلوم على اختلاف أنواعها انتشاراً واسعاً:
كان عبد الرحمن الثاني أول من بدل حياة البلاط من خشونة إلى ترف باستقدامه زربابا الشاعر من بغداد فأدخل الغناء والموسيقى الشرقيين إلى الأندلس. وتألق في بلاطه الشعراء: يحي بن الحكم بن الغزال - وقد نشر فابريسيوس Fabricius تقرير ابن الغزال عن سفارته إلى ملك النورمان في أعمال مؤتمر المستشرقين 8 سنة 1892 - وتمام ابن علقمة، وحسانة التميمية.
وقال عبد الله الشعر فشاع بين الناس وظهر فيه: القلفاط، وعبيد يس، وسعيد بن جودي شاعر الفروسية، ومقدم بن معاني القبرى الضرير مبتدع الزجل والموشح.
وشمل عبد الرحمن الناصر الثقافة برعايته فاشتهر الشاعران: ابن هانئ والزبيدي، والمؤرخون: الرازي، وابن القوطية، والخشنى. وصاحب الموسوعة:
(1) Dozy، Hist. des Musulmans en Esp. t 11، p 184.
(2)
Et. Quatremere، Melanges d'Hist. et de Phil. Orient. P 5.
(3)
Cl. Huart، Hist. des Arabes، t II، p 157.
ابن عبد ربه. ورائد الفلسفة: ابن مسرة - الذي سبق أن رأس حلقة في جبل العروس (900) فنشأت على غرارها حلقات في المدن الإسبانية حتى القرن الثالث عشر -، وعالم الرياضيات والفلك أحمد بن نصر، ومسلمة بن القاسم، ولكنهما تسترا على بحوثهما خوفاً من الفقهاء والعامة. وترجم كتاب ديوسقوريدس في العقاقير الطبية (3).
وقدم الحكم الثاني العلماء والفلاسفة والرياضيين والفلكيين فظهر مذهب مسلمة المجريطي الذي أدخل رسائل إخوان الصفاء في الأندلس، واشتهر ابن صلا الله القرطبي بآرائه المعتزلية المنحرفة. وازدهر الطب بفضل أبي القاسم الزهراوي صاحب التصريف لمن عجز عن التأليف، في جزء ين، جمع الثاني معارف الجراحة في عصره، وقد ترجم إلى اللاتينية، وصدرت منه طبعات متعددة (البندقية 1497، بال 1541، أكسفورد 1778) وظل مرجعاً في مدرستي الطب في سالرنو ومونبلييه (1) - وعلم النبات على يد ابن جلجل (المتوفى 982) كما احتفى الحكم بوفادة أبي على القالى الذي خلف أثراً كبيراً فيمن عاصره أو جاء بعده من أهلها.
أما ملوك الطوائف فقد تنافسوا - وكان معظمهم على جانب كبير من الثقافة - فيما بينهم في ميادين الفنون والآداب والعلوم فنبغ في غرناطة: أبو الفتوح الجرجاني، وصمويل بن نجدله. وفي بلنسية: ابن وهبون، والوقشي، وابن خفاجة، وابن سيده صاحب كتاب المخصص.
وفي بطليوس: جمع المظفر بن الأفطس مواد موسوعته المظفرية. وفي أشبيلية: كان المعتضد والمعتمد وزوجته اعتماد ووزيره ابن عمار من أعلام الشعر.
(3) أرسل أرمانيوس الثاني إمبراطور بيزنطية سفارة إلى عبد الرحمن الناصر (948) ومن بين هداياها مخطوط من كتاب ديوسقوريدس في العقاقير الطبية - الفصل الأول، مهد الحضارة، ص 16، الفصل الرابع، فنون وآداب وعلوم، ص 80 مشتملاً على صور النباتات. ولما لم يكن في قرطبة من يعرف اليونانية فقد سأل الناصر الإمبراطور أن يبعث إليه عارفاً بها وباللاتينية، فأرسل الراهب نيقولاس (951) فحدد أنواع النبات المذكورة في ذلك الكتاب بمعاونة ابن جلجل وحسداي بن شبروط وغيرهما من العلماء. وقد كان لاطلاع أهل الأندلس على الكتاب أثر حاسم في دراسات الطب والنبات والتصنيف فيهما من بعد.
(1)
جارثيه دل ريال - Ed.Garcia del Real تاريخ الطب في إسبانيا (مدريد 1921).
فقربوا ابن حصن، وابن زيدون، وابن اللبانة. وفي قرطبة: استوزر ابن حزم (المتوفى 1074) مؤلف طوق الحمامة، والخصال، والفصل في الملل والأهواء والنحل، والمقتبس في تاريخ الأندلس.
وفي طليطلة: اشتهر الزرقاني (المتوفى 1087) بالفلك - الذي عاون على وضع الزيج الطليطلي فأثرت ترجمته بعد فقد أصله في أوربا حتى عهد كولمبس - وابن البغونش بالفلسفة والرياضيات، وابن الوافد ومحمد التميمي بالطب. وابن أرفع رأسه بالشعر، وابن غيث بتحرير العقود، وصاعد الطليطلى والحجاري بالتاريخ.
وفي سرقسطة: كان المقتدر والمؤتمن من أنصار الفلسفة والرياضة والفلك. وقد صنف المؤتمن كتاباً في الفلك، ونزل بسرقسطة الفيلسوفان ابن جبيرول، وابن باجة وغادرها الطرطوشي صاحب كتاب سراج الملوك إلى الإسكندرية (1089).
وفي المرية: مهد الوزير أحمد بن عباس للعلم والأدب بمكتبته التي ضمت أربعمائة ألف مجلد، فلجأ إليها من الشعراء: ابن شرف البرجي، وابن الحداد. وعاش فيها أبو عبيد الله البكرى (المتوفى 1094) أحد طلائع رواد الجغرافيين صاحب المسالك والممالك.
أما الدويلات الأخرى فقد اقتصر ملوكها على الاحتفاظ بما لديهم من فن وأدب وعلم أو الترحيب بمن يفد عليهم من أصحابها.
وفي عهد المرابطين طفق الشعب يحتفل بأعياد غير إسلامية ويسير أعماله على التقويم الغربي ويلبس أزياءه ويتحدث بلغته، فلم يفت ذلك في عضدهم فجمع أبو يعقوب يوسف في داره حلقة من الشعراء والعلماء، وأقام بعضهم تراجمة على كتب أقليدس وأرسطو، وولى غيرهم كبار المناصب كابن رشد الذي جعله قاضي القضاة بأشبيلية. وممن اشتهر في عهد المرابطين: ابن خاقان، وابن بشكوال، والضبي، وابن خير، وأبو أحمد الغرناطي، وابن مسعود، وابن سهل الضرير، وجبير ابن أفلح الأشبيلي، وأبو الصلت الداني، وسفيان الأندلسي، وأبو العلا بن زهر، وابن أبي الخصالة، وعياش بن موسى، والرشاطي، وابن الباذش، وأبو بكر بن العربي.
وممن أشتهر في عهد الموحدين من الشعراء: أبو جعفر بن سعيد، وعبد الرحمن
السهيلي، وأبو الحسين محمد بن جبير، وأبو البقاء الرندي. ومن شراح الأدب: عقيل بن عطيه، والشريشي. ومن الرحالة: أبو محمد حامد المازني الذي بلغ روسيا (1136) ومن الفلكيين: البطروجي (المتوفى 1204) مؤلف كتاب الهيئة. ومن الجغرافيين: ابن جبير (المتوفى 1211) صاحب كتاب اعتبار الناسك في ذكر الآثار القديمة والمناسك. ومن المؤرخين: ابن الأبار (المتوفى 1260). ومن علماء الطب: ابن زهر الوزير مصنف كتاب التيسير في المداواة والتدبير. والغافقي (المتوفى 1165) جامع نباتات إسبانيا وأفريقيا بأسمائها العربية واللاتينية والبربرية، ومؤلف كتاب الأدوية المفردة، وابن العوام الأشبيلى (المتوفى 1185) صاحب كتاب الخلاصة الأندلسية، وهو خير ما صنف في الزراعة يومئذ. ومن علماء النبات: ابن البيطار (المتوفى 1248) أشهر علماء النباتات والصيدلة في الإسلام، وقد جمع في كتابه: الجامع في الأدوية، والمغني في الأدوية معارف اليونان والعرب واختباراته الشخصية، فعدد له الدكتور مايرهوف 1400 عقار منها 400 لم يعرفها اليونان، وقد ترجم المغني إلى اللاتينية وطبع في كرمونا. وهو خير ما صنف في الزراعة يومئذ. ومن الفلاسفة: ابن باجه (المتوفى 1138) وقد رمى بالزندقة، ومن مؤلفاته: تدبير المتوحد الذي حفظ مختصراً بالعبرية، (نشر قسماً منه مونك، 1857) ورسالة الوداع، وهي مشروحة بالعبرية ومجموعة في الفلسفة والطب والطبيعيات (منها نسخة في برلين وأخرى في أكسفورد) وابن طفيل المراكشي (المتوفى 1185) صاحب كتاب أسرار الحكمة المشرقية، وقصة حي بن يقظان (منها مخطوط في أكسفورد) وقد تأثر بها فلاسفة العصر الوسيط ونشرت وترجمت بلغات عديدة. وابن رشد (المتوفى 1198) خير شارح الأفلاطون وأرسطو وقد ذكر رينان له ثمانية وسبعين كتاباً منها تهافت الفلاسفة، وتهافت التهافت، والمقولات، والشروح على أرسطو، وبعضها محفوظ بترجمات عبرية أو لاتينية منقولة عنها، والعقل والمعقول، ومقدمة الفلسفة في اثنتي عشرة رسالة (الإسكوريال) والكليات في الطب الذي طبع في أوربا مراراً. وقد سيطرت فلسفته على جميع مراكز الثقافة في أوربا حتى القرن السادس عشر، على الرغم مما لاقته من أهل السنة في الأندلس، ثم من علماء التلمود، ثم من بعض رجال
الدين النصارى، وقد صنف فيه رينان كتاباً بعنوان: ابن رشد والرشدية (باريس 1852 - 69) وقال فيه: ألقى أرسطو على كتاب الكون نظرة صائبة ففسره وشرح غامضة، ثم جاء ابن رشد فألقي على فلسفة أرسطوا نظرة خارقة ففسرها وشرح غامضها. وقال فيه كارا دي فو: كان شرحه لأرسطو أوفي شرح في العصر الوسيط (1) ومحيي الدين بن عربي (المتوفى 1240) أعظم عبقرية تفتق عنها التصوف الإسلامي وقد تأثر بكتابيه: الفتوحات المكية، ومختصره فصوص الحكم دونس سكوتوس، وروجر بيكون، ورايموندو لوليو، وفلاسفة اليهود من أمثال يحيى بن لاوي، وموسي بن ميمون. وكان ابن تومرت مؤسس دولة الموحدين من تلاميذ الغزالي (1107) قد نشر الأشعرية في المغرب فقامت لها سوق في صقلية والقيروان وقرطبه.
وعلى الرغم من اقتصار دولة الإسلام في الأندلس على مملكة غرناطة، ورحيل كثير من أهل الفن والأدب والعلم عنها، وإهمال المسلمين للغتهم فقد أنشأ بعضهم المدارس لقراءة القرآن، وصنف مفتي سيجوفيا (1462) كتاب فروض السنة، ونبغ الشاعران: ابن سعيد المغربي، وأثير الدين أبي حيان، والمؤرخان: ابن الخطيب (المتوفى 1374) الوزير ومصنف نحو ستين كتاباً سلم منها عشرون أشهرها الإحاطة في تاريخ غرناطة. وابن خلدون (المتوفى 1406) أسبق عالم إلى فلسفة الاجتماع، إذ بينه وبين مونتسكيو مؤلف: روح الشرائع (1748) عدة قرون. والنحوى أبو حيان البربري الأصل، وقد ألف في نحو اللغات: الفارسية والتركية والقبطية والحبشية. والرحالان: العبدري، وابن رشيد، والرياضيان: ابن البناء، والرقوطي. وبقيت العربية لغة المعاملات والعقود حتى عام 1580 واستمر بعض أهل قرى بلنسية يتخاطبون بها إلى أواخر القرن التاسع عشر.
هذا خلا فقهاء الأندلس ومحدثيها وقراءها، وعدا علماء شمالي أفريقيا الذين اشتهروا فيها من أمثال: الشريف الإدريسي (المتوفى 1166) الذي ولد في سبتة واشتهر في بلاط روجه الثاني ملك صقلية وألف له: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وذيله بتسع وستين خريطة ظلت مرجع جغرافي أوربا طوال ثلاثة قرون ونصف
(1) Carra de Vaux، les Penseurs de l'Islam، t IV، p 83.
قرن. وابن سبعين (المتوفى 1271) العالم المتصوف الذي فر من الأندلس إلى أفريقيا وهو صاحب الرسائل العديدة، منها الأجوبة عن الأسئلة الصقلية. وحسن المراكشي الذي نشر جداول الرياضة في مراكش (1229) وظل كتابه شكل القطاع مرجعاً مدى مائتي عام. وابن بطوطه (المتوفى 1377) الذي ولد في طنجه، وقد استغرقت رحلته في أفريقيا وآسيا والشرق الأقصى خمساً وعشرين سنة، وأطلق عليها: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
فهل قضى على ذلك التراث الإسلامي بالقضاء على غرناطة؟ .