الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
في بيان بعض ما انتقد على أهل الرأي والكلام والكُتَّاب العصريين في دفع الصحيح من المرويات وقدح الثقات من الرواة وغير ذلك
• قال العلامة المعلمي في الفصل الخامس من مقدمة "التنكيل":
"الأستاذ -يعني الكوثري- من أهل الرأي، ويظهر أنه من غلاة المقلدين في فروع الفقه، ومن مقلدي المتكلمين، ومن المجارين لكُتَّاب العصر إلى حَدٍّ ما، وكل واحدة من هذه الأربع تقتضي قلة مبالاة بالمرويات، ودُربة على التمحل في ردها، وجرأة على مخالفتها واتهام رواتها.
أما أهل الرأي فهذه بدايتهم:
في "الصحيح"(1) عن أبي هريرة قال:
"إنكم تزعمون أن أبا هريرة يُكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللهُ الموعدُ، إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم
…
".
ومن تتبع السيرة والسنة، علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يقضي بالقضية أو يحدث بالحديث أو يفتي في مسألة، وليس عنده من أصحابه إلا الواحد أو الاثنان، ثم كان معظم أصحابه لا يحدثون بالحديث عنه صلى الله عليه وسلم إلا عندما تدعو الحاجة، ومِنْ لازِمِ ما تقدم مع احتمال نسيان بعضهم أو موته قبل أن يخبر بالحديث أن يكون كثير من
(1) البخاري (2350)(7354)، ومسلم (3492).
السنن ينفرد بسماعها أو بحفظها أو بروايتها آحاد الصحابة، ثم تفرق الصحابة في الأقطار، فمنهم من هو في باديته ومنهم من صار إلى الشام والعراق ومصر واليمن، فكان عند أهل كل جهة أحاديث من السنة لم تكن عند غيرهم في أول الأمر -كما روي عن مالك- ثم اجتهد أصحاب الحديث في جمع السنة من كل وجه.
وقد عُلم من الشريعة أنه ليس على العالم الإحاطة بالعلم كله، وأن من شَهد له أهل العلم بأنه عالم، فإنما عليه إذا احتاج إلى قضاءٍ أو فتوى أن ينظر في كتاب الله عز وجل وفيما يعلمه من السنة، فإن لم يجد فيهما النص على تلك المسألة سأل من يسهل عليه ممن يرجو أن يكون عنده دليل، فإن لم يجد وعَرف أن لبعض الصحابة قولًا في تلك المسألة -لم يعلم له مخالفا- أخذ به، وإن علم خلافًا رَجَّح، فإن لم يجد قول صحابي ووجد قول تابعي ممن تقدمه -لم يعلم له مخالفا فيه- أخذ به، وإن علم خلافا رجح.
وكان الغالب في الترجيح أن يرجح العالمُ قولَ من كان ببلده من الصحابة أو التابعين لمزيد معرفته بهم المقتضيةِ لزيادة الوثوق، هذا مع ما لِلإلف والعادة من الأثر الخفي، فإن لم يجد شيئًا مما تقدم اجتهد رأيه وقضى وأفتى بما يظهر له.
ثم إذا قضى أو أفتى مستندا إلى شيء مما تقدم ثم وجد دليلًا أقوى مما استند إليه -يخالف ما ذهب إليه سابقا- أخذ من حينئذٍ بالأقوى.
على هذا جرى الخلفاء الراشدون وغيرهم كما هو مبسوط في مواضعه ومنها: "إعلام الموقعين".
وكان كثير من أهل العلم من الصحابة وغيرهم يتَّقُون النظر فيما لم يجدوا فيها نصا، وكان منهم من يتوسع في ذلك، ثم نشأ من أهل العلم ولا سيما بالكوفة من توسع في ذلك، وتوسع في النظر في القضايا التي لم تقع، وأخذوا يبحثون في ذلك ويتناظرون ويصرفون أوقاتهم في ذلك، واتصل بهم جماعة من طلبة العلم تشاغلوا بذلك، ورأوه
أشهى لأنفسهم وأيسر عليهم من تتبع الرواة في البلدان والإمعان في جمع الأحاديث والآثار، ومعرفة أحوال الرواة وعاداتهم، والإمعان في ذلك ليعرف الصحيح من السقيم والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح، ويعرف العام والخاص والمطلق والمبيَّن، وغير ذلك، فوقعوا فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
"إياكم والرأي، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيَتْهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم".
راجع: "إعلام الموقعين" طبعة مطبعة النيل بمصر (ج 1 ص 62) وراجع كتاب "العلم" لابن عبد البر.
فوقع فيما ذهبوا إليه وعملوا بعْدُ وأفتوْا مسائل ثبتت فيها السنة مخالفة لما ذهبوا إليه، لم يكونوا اطلعوا عليها، فكان الحديث من تلك الأحاديث إذا بلغهم ارتابوا فيه لمخالفته ما ذهب إليه أسلافهم واستمر عليه عملهم، ورأوا أنه هو الذي يقتضيه النظر المعقول (القياس).
فمن تلك الأحاديث ما كان من الثبوت والصراحة بحيث قهرهم فلم يجدوا بُدًّا من الأخذ به، وكثير منها كانوا يردونها ويتلمسون المعاذير، مع أن منها ما هو أثبت وأظهر وأقرب إلى القياس من أحاديث قد أخذوا بها، لكن هذه التي أخذوا بها مع ما فيها من الضعف ومخالفة القياس وردت عليهم قبل أن يذهبوا إلى خلافها فقبلوها اتباعا، وتلك التي ردوها مع قوة ثبوتها إنما بلغتهم بعد أن استقر عندهم خلافها واستمروا على العمل بذلك ومضى عليه أشياخهم، وربما أخذوا بشيء من النقل ثم بلغهم من السنة ما يخالفه فأعجزهم أن ينظروا كما ينظر أئمة الحديث لمعرفة الصحيح من السقيم والخطأ من الصواب والراجح من المرجوح، فقنعوا بالرأي كما ترى أمثلة لذلك في قسم "الفقهيات"، ولا سيما في مسألة ما تُقطع فيه يدُ السارق، وهذا في دَيدَنُهُم وعليه يعتمد الطحاوي وغيره منهم.
ولهذا بينما تجد الحنفية يتبجحون بأن مذهب أبي حنيفة وسائر فقهاء العراق تقديم الحديث الضعيف على القياس -وقد ذكر الأستاذ ذلك في "التأنيب"(ص 161) - إذا بهم يردُّون كثيرا من الأحاديث الصحيحة لمخالفتها آراء سلفهم وآراءهم التي أخذوا بها، وقد كان الشافعي ينْعي عليهم ذلك.
ومن كلامه كما في "سنن" البيهقي (ج 1 ص 148): "والذي يزعم أن عليه الوضوء في القهقهة يزعم أن القياس أن لا ينتقض، ولكنه يتبع الآثار، فلو كان يتبع منها الصحيح المعروف كان بذلك عندنا حميدا، ولكنه يردُّ منها الصحيح الموصول المعروف ويقبل الضعيف المنقطع".
فالحنفية يعرفون شناعة ردِّ السنة بالرأي، ولكنهم يتلمسون المعاذير فيحاولون استنباط أصول يمكنهم إذا تشبثوا بها أن يعتذروا عن الأحاديث التي ردوها بعذر سوى مخالفة القياس وسوى الجمود على اتباع أشياخهم، ولكن تلك الأصول مع ضعفها لا تطَّردُ لهم؛ لأنَّ أشياخهم قد أخذوا بما يخالفها، ولهذا يكثر تناقضهم، وفي مناظرات الشافعي لهم كثير من بيان تناقضهم، بل من تدبر ما كتبوه في أصول الفقه بأن له كثير من التناقض، كما ترى المتأخر منهم يخالف المتقدم.
حتى إن الأستاذ الكوثري ذكر في "التأنيب"(ص 152 - 153) عدة أصول لمحاربة السنن الثابتة، ومنها ما خالف فيه مَنْ تقدمه منهم.
ولما تعقبته في "الطليعة"(ص 102) في قوله: "عنعنة قتادة متكلم فيها" بأن ذلك الحديث في "صحيح" البخاري وفيه: "حدثنا قتادة حدثنا أنس
…
" وفي "مسند" أحمد وفيه: "أنا قتادة أنَّ أنسًا أخبره
…
" أجاب في "الترحيب" (ص 49) بقوله: "مِنْ مذهب أبي حنيفة أيضًا كما يقول ابن رجب في شرح "علل الترمذي" ردُّ الزائد إلى الناقص في الحديث متنا وسندا، وهذا احتياطٌ بالغٌ في دين الله
…
فهل عرفت الآن يا معلمي مذهب الإمام لتقلع عن نسج الأوهام".
هذا والأستاذ:
يعلم أولًا: أن النسبة إلى أبي حنيفة لا يكفي في إثباتها قولُ رجلٍ حنبلي بينه وبين أبي حنيفة عدة قرون!
ويعلم ثانيًا: ما في كتب مذهبه مما يخالف هذا.
ويعلم ثالثًا: أن قول الراوي: "قتادة عن أنس" وقوله مرة أخرى أو قول غيره: "قتادة أن أنسًا أخبره" ليس من باب النقص والزيادة، وإنما هو من باب المحتمل والمعين أو المجمل والمبين.
ويعلم رابعًا: أن من أصل الحنفية الاحتجاج بالمنقطع، فما لم يتبين انقطاعه بل هو متردد بين الاتصال والانقطاع أَوْلَى، فإذا ثبت مع ذلك اتصاله من وجه آخر فآكَدُ.
ويعلم خامسًا: أنه لا ينبغي له أن يدفع عن نفسه بإلقاء التهم على إمامه.
فأما الاحتياط البالغ في دين الله الذي يُمَوِّهُ به الأستاذ فالتحري البالغ الذي سبق ما فيه في الفصل الثالث فلا نعيده
…
والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودُربة في دفع الروايات الصحيحة، ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقرب منه بل أرْبَى عليهم جميعًا كما تراه في "الطليعة" ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى.
وأما غُلاة المقلدين فأَمْرُهم ظاهر؛ وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة، وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة، وقد يسهو أو يخطىء أو يزِلَّ، فيقع في قولٍ تجيء الأحاديث بخلافه، فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها، ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطْب، ولكنه يَعُدُّ غلوهم تقصيرًا!.
وأما المتكلمون فأوَّلُ مَنْ بلَغَنا أنه خاض في ذلك: عمرو بن عبيد، ذُكر له حديثٌ يخالف هواه، رواه الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمرو:"لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبْتُه، ولو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، ولو سمعت ابن مسعود يقوله لما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا" وتعدَّى إلى القرآن فقال في: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} : "لم يكونا في اللوح المحفوظ" كأنه يريد أن الله تبارك وتعالى لم يكن يعلم بما سيكون من أبي لهب ومن الوحيد.
ثم كان في القرن الثاني جماعةٌ ممن عُرف بسوء السيرة والجهل بالسنة ورِقَّةِ الدين كثمامة بن أشرس والنظام والجاحظ، خاضوا في ذلك، كما أشار إليه ابن قتيبة وغيره، وجماعة آخرون كانوا يتعاطون الرأي والكلام يردُّون الأخبار كلها، وآخرون يردُّون أخبار الآحاد أي ما دون المتواتر، كسر الله تعالى شوكتهم بالشافعي، حتى إن شيوخه ومن في طبقتهم من الأكابر كيحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي انتفعوا بكتبه.
قال الشافعي في "الأم"(ج 7 ص 250): "باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها" ثم ذكر مناظرته لهم. ثم قال بعدُ: "باب حكاية قول من رد خبر الخاصة" فذكر كلامه معهم، وبسط الكلام في ذلك في "الرسالة"، وفي كتاب "اختلاف الحديث".
ثم كانت المحنة وويلاتها، وكان دعاتُها لا يجرءون على ردِّ الحديث، وسيأتي في ترجمة: علي بن عبد الله بن المديني بعض ما يتعلق بذلك، ثم جاء محمد بن شجاع بن الثلجي فلم يجرؤ على الرد، إنما لَفَّقَ ما حاول به إسقاط حماد بن سلمة، كما يأتي في
ترجمة حماد إن شاء الله تعالى، وجمع كتابا تكلف فيه تأويل الأحاديث، وتبعه من الأشعرية ابن فورك في كتابه المطبوع.
ثم اشتهر بين المتكلمين أن النصوص الشرعية من الكتاب والسنة لا تصلح حجة في صفات الله عز وجل ونحوها من الاعتقاديات، وصرحوا بذلك في كتب الكلام والعقائد كالمواقف وشرحها، والأمر أشد من ذلك كما يأتي في الاعتقادات إن شاء الله تعالى.
والأستاذ يدين بالكلام ويتشدد، ومع هذا كله فغالب أصحاب الرأي وغلاة المقلدين وأكثر المتكلمن لم يُقْدِمُوا على اتهام الرواة الذين وثقهم أهل الحديث، وإنما يحملون على الخطأ والغلط والتأويل، وذلك معروف في كتب أصحاب الرأي والمقلدين، أما الأستاذ فبرز على هؤلاء جميعًا!
وأما كُتَّابُ العصر فإنهم مقتدون بكُتَّاب الإفرنج الذين يتعاطون النظر في الإِسلاميات ونحوها، وهم مع ما في نفوسهم من الهوى والعداء للإسلام إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منه.
فمن الموانع: التدين والخوف من رب العالمين الذي بيده ملكوت الدنيا والآخرة، وقد قال سبحانه:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "علامة المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف".
وإخلاف الوعد أغلب ما يكون إذا كان الوعد كذبا، والخيانة تعمد الكذب كما لا يخفى، وقال أبو بكر الصديق:"الكذب مجانب للإيمان".
فأما توهم حِلِّ الكذب في مصلحة الدين فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدهم غفلة؛ لأنَّ حَظْرَ الكذب مطلقا هو من أظهر الأحكام الشرعية.
وأولئك الكُتَّاب لا يَعرفون هذا المانع؛ لأنهم لا يجدونه في أنفسهم، ولا يجدون فيمن يخالطونه مَنْ تقهرهم سيرتُه على اعتقادِ اتصافِه بهذا المانع؛ لضعف الإيمان في غالب الناس ورقة التدين.
ولا يَعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع؛ لأنهم إنما يُطالعون التواريخ وكتب الأدب كـ"الأغاني" ونحوها، وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة.
كان فجرة الإخباريين يضعون تلك الحكايات لأغراضٍ:
منها: دفع الملامة عن أنفسهم -يقولون ليس هذا العيب خاصًا بنا بل كان من قبلنا كذلك حتى المشهورون بالفضل. ومنها: ترويج الفجور والدعاية إليه ليكثر أهله فيجد الداعي مساعدين عليه ويقوى عذره.
ومنها: ترغيب الأمراء والأغنياء في الفجور وتشجيعهم عليه ليجد الدعاة المتأدبون مراعي خصبة يتمتعون فيها بلذاتهم. ومنها: التقرب إلى الأمراء والأغنياء بالحكايات الفاجرة التي يلذُّ لهم سماعُها، إلى غير ذلك.
وما يوجد في تلك الكتب من الصدق إنما يصوِّر طائفةً مخصوصةً كالأمراء المترفين والشعراء والأدباء ونحوهم.
ولو عكف أولئك الكُتَّاب على كتب السنة ورجالها وأخبارهم، لعلموا أن هذه الطائفة وهي طائفة أصحاب الحديث كان ذلك المانع غالبا فيهم.
وقد احتج بعضهم بما في "الأغاني" في أخبار عمر بن أبي ربيعة من طريق عبد العزيز ابن أبي ثابت -وهو عبد العزيز بن عمران- عن محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
…
ولو راجع تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث وفكَّر في أحوالهم وفي حال القصة لعلم بطلان القصة حتما.
ومن الموانع: خوف الضرر الدنيوي، وأولئك الكُتَّاب يُعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر المادي، فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفًا من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم، بل أصحاب المصانع والمتاجر الصغيرة يجرون على ذلك غالبا، وإلا لكانت الخصومات مستمرة في الأسواق بل لعلها تتعطل الأسواق فليتدبر القارىء ذلك.
فأما الشطر المعنوي فان أولئك الكُتَّاب لا يقدرون قدره.
فأقول: كان العرب يحبون الشرف، ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل، وفي أوائل "صحيح" البخاري في قصة أبي سفيان بن حرب: أن هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، دعا بمن كان بالشام من تجار قريش، فأُتِي بأبي سفيان ورهطٍ معه قال: "ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيُّكُم أقربُ نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: قلت: أنا أقربهم نسبا، قال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. قال: فوالله لولا الحياء من أن يأْثِرُوا عليَّ كذبا لكذبت عليه
…
".
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وفي قوله: يأثروا دون قوله يكذبوا دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياءً وأَنفَةً من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا، فيصير عند سامعي ذلك كذابا. وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك".
أقول: وهذا هو الذي أراه هرقل. ثم جاء الإسلام فشدد في تقبيح الكذب جدًّا حتى قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا كذب عليه فبعث عليا والزبير فقال: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه".
وتوهَّمَ رجل من صغار الصحابة أمرًا، فأخبر بما توهَّمَهُ وما يقتضيه، ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة؛ إذ أنزل فيه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} .
ثم كان الصحابي يرى من إكرام التابعين له وتوقيرهم وتبجيلهم ما لا يخفى أثره على النفس، ويعلم أنه إن بان لهم منه أنه كذب كذبة سقط من عيونهم ومقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمنا وإنما كان منافقا.
وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال ودام ذلك زمانا، ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه رمى مخالفَهُ بالكذب في الحديث، وكان التابعون إذا سمعوا حديثا من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة، ولم يبلغنا أن أحدًا منهم كذَّبَ صاحبه، غاية الأمر أنه قد يخطئه، وكان المهلب بن أبي صفرة في محاربته الأزارقة يعمل بما رُخِّصَ فيه للمحارب من التورية الموهمة، فعاب الناسَ عليه ذلك حتى قيل فيه:
أنتَ الْفَتَى كُلَّ الْفَتَى
…
لَوْ كُنْتَ تَصْدُقُ مَا تَقُولُ
ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشَّحُ لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائبا في الطلب والحفظ والجمع ليلًا ونهارا، ويرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان، ويقاسي المشاقَّ الشديدة كما هو معروف في أخبارهم، ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه.
وفي "تهذيب التهذيب"(ج 1، ص 183): "قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كنت قاضيا وأميرا ووزيرا، ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (1): من ذكر رضي الله عنك؟ ".
وفيه (ج 6، ص 314): "روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب ما لي أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني".
(1) كان إذا أكثر الجمع عند المحدث يقوم رجل صيت يسمع إملاء الشيخ الحديث ويستفهمه فيما يخفى، ثم يعيد ذلك بصوت عال ليسمعه الحاضرون فهذا الرجل يقال له "المستملي"، كتبه العلامة الألباني رحمه الله.
وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم، حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخٍ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا: إنه كذاب؛ كذب على البغلة بإيهامها أن في المخلاة شعيرا، والواقع أنه ليس فيها شيء. وفي "تهذيب التهذيب"(ج 11، ص 284): "وقال هارون بن معروف: قدم علينا بعض الشيوخ من الشام، فكنت أول من بكَّر عليه، فسألته أن يملي على شيئًا، فأخذ الكتاب يملي فإذا بإنسان يدق الباب فقال الشيخ من هذا؟
…
فإذا بآخر يدق الباب قال الشيخ من هذا؟ قال: يحيى بن معين، فرأيت الشيخ ارتعدت يده ثم سقط الكتاب من يده. وقال جعفر الطيالسي عن يحيى بن معين: قدم علينا عبد الوهاب بن عطاء، فكتب إلى أهل البصرة: وقدِمْتُ بغداد وقَبِلَنِي يحيى بن معين والحمد لله".
فمن تدبر أحوال القوم بأن له أنه ليس العجب ممن تحرز عن الكذب منهم طول عمره، وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب، كما أنه من تدبر كثرة ما عندهم من الرواية وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه، وتدبر تعنت أئمة الحديث بان له أنه ليس العجب ممن جرحوه بل العجب ممن وثقوه.
ومن العجب أن أولئك الكُتَّاب يلاحظون الموانع في عصرهم هذا، بل في وقائعهم اليومية، فيعلمون من بعض أصحابهم أنه صدوق فيثقون بخبره، ولو كان مخالفًا لبعض ما يظهر لهم من القرآن بحيث لو كان المدار على القرائن لكان الراجح خلاف ما في الخبر، ويعرفون آخر بأنّه لا يتحرز عن الكذب فيرتابون في خبره ولو ساعدته قرائن فلا تكفي وحدها لحصول الظن، وهكذا يصنعون في أخبار مكاتبي الصحف وفي الصحف أنفسها؛ فمن الصحف ما تعوَّد الناس منها أنها لا تكاد تنقل إلا الأخبار الصحيحة، فيميلون إلى الوثوق بما يقع فيها وإن خالف القرائن، وفيها ما هو على خلاف ذلك.
وبالجملة فلا يرتاب عاقل أن غالب مصالح الدنيا قائما على الأخبار الظنية، ولو التزم الناس أن لا يعملوا بخبر من عرفوا أنه صدوق حتى توجد قرائن تغني في حصول الظن عن خبره لاستغنوا عن الأخبار، بل لفسدت مصالح الدنيا.
ولست أجهل ولا أجحد ما في طريقة الكُتَّاب من الحق ولكنني أقول: ينبغي للعاقل أن يفكر في الآراء التي يتظناها العقلاء في عصرهم نفسه بناء على العلامات والقرائن، أليس يكثر فيها الخطأ؟ هذا مع تيسر معرفتهم بعصرهم وطابع أهله وأغراضهم وسهولة الاطلاع على العلامات والقرائن، فما أكثر ما يقع لأحدنا كل يوم من الخطأ يتراءى أن القرائن والأمارات تقتضي وقوع الأمر، ثم لا يقع، وتقتضي أن لا يقع، ثم يقع، فما بالك بالأمور التي مضت عليها قرون، ولا سيما إذا لم يتهيأ للناظر تتبع ما يمكن معرفته من القرائن والأمارات ولم يلاحظ الموانع، فأما إذا كان له هوى فالأمر أوضح.
والناظر إنما يشتد حرصه على الإصابة في القضايا العصرية؛ لأنه يخشى انكشاف الحال فيها على خلاف ما زعم، فأما التي مضت عليها قرون -والباحثون عنها قليل- فإنه لا يبالي، اللهم إلا أن يكون متدينا محترسا من الهوى، على أن الأستاذ لم يخلص لطريقة الكُتَّاب، بل كثيرا ما يرمي بالقرائن القوية والدلالات الواضحة خلف ظهره، ويحاول اصطناع خلافها، وسدّ الفراغ بالتهويل والمغالطة، كما سترى أمثلة من ذلك في هذا الكتاب. وأسأل الله لي وله التوفيق. اهـ
* * *