الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
في بيان حفظ الله تعالى للسنة من اختلاط الكذب ونحوه بها وأن وقوع الكذب في الرواية لا يمنع من معرفة الصدق فيها
وينحصر النقل عن المعلمي هنا في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول:
قال: في القاعدة الثالثة من قسم القواعد من "التنكيل":
"
…
أعداء الإسلام وأعداء السنة يتشبثون بذلك [يعني بوقوع الكذب في الرواية] في الطعن في السنة كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شئون دنياهم: الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أمورًا عظامًا.
ولم يزل الناس يغشون الأشياء النفيسة ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدرّ والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها، ولم يَحُلْ ذلك دون معرفة الصحيح.
والخالق الذي هَيَّأ لعباده ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام تكفل بحفظه إلى الأبد، وعنايته بحفظ الدين أشد وآكد؛ لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا. قال الله عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 59].
ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها.
وفي "تهذيب التهذيب"(ج 1 ص 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقًا فأراد قتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتُها؟ فقال له: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا؟ "
وقيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
والذكر يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى يوم القيامة؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلة بقائهم فيها.
قال العراقي في "شرح ألفيته"(ج 1 ص 267):
"روينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث. وروينا عن عبدالرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلًا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله. وروينا عن ابن المبارك قال: لو هَمَّ رجل في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب". اهـ.
الموضع الثاني:
وقال في "الأنوار الكاشفة"(ص 89):
"وهو [يعني الوضع في الحديث] واقع في الجملة، ولكن المستشرقين والمنحرفين عن السنة يطوّلون في هذا ويهوّلون ويهملون ما يقابله، ومثلهم مثل من يحاول منع الناس من طلب الحقيقي الخالص من الأقوات والسمن والعسل، والعقاقير، والحرير والصوف، والذهب والفضة، واللؤلؤ والياقوت، والمسك والعنبر، وغير ذلك بذكر ما وقع من التزوير والتلبيس والتدليس والغش في هذه الأشياء ويطيل في ذلك.
والعاقل يعلم أن الحقيقي الخالص من هذه الأشياء لم يُرفع من الأرض، وأن في أصحابها وتجارها أهل صدق وأمانة وأن في الناس أهل خبرة ومهارة - يميزون الحقيقي الخالص من غيره، فلا يكاد يرجع الضرر إلا على من لا يرجع إلى أهل الخبرة من جاهل ومقصر ومن لا يبالي ما أخذ.
والمؤمن يعلم أن هذه ثمرة عناية الله عز وجل بعباده في دنياهم، فما الظن بعنايته بدينهم؟ لابد أن يكون أتم وأبلغ. ومن تتبع الواقع وتدبَّره وأنعم النظر تبين له ذلك غاية البيان
…
(1)
وكان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم -أظنه الحسن بن صالح بن حَيّ- أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حاله حتى يقال: أتريدون أن تزوجوه؟
وجاء جماعة إلى شيخ ليسمعوا منه، فرأوه خارجًا وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه، قالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث.
وذكروا أن شعبة كان يتمنى لقاء رجل مشهور ليسمع منه، فلما جاءه وجده يشتري شيئا ويسترجح في الميزان، فامتنع شعبة من السماع منه.
وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في "كفاية" الخطيب (ص 110 - 114).
وكان عامّة علماء القرون الأول وهي قرون الحديث مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء ولا يرضى بتولي القضاء، ومنهم من كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ينشرون العلم فلا يستجيبون، بل يفرّون ويستترون.
(1) ثم أشار المعلمي بلى ما يتعلق بعدالة الصحابة والتابعين وقد أفردتهما بالذكر آنفًا في الفصل الثالث والرابع من فصول "العدالة" فراجعه إن شئت.
وكان أئمة النقد لا يكادون يوثقون محدثًا يداخل الأمراء أو يتولى لهم شيئا.
وقد جرحوا بذلك كثيرًا من الرواة، ولم يوثقوا ممن داخل الأمراء إلا أفرادًا علم الأئمة علمًا يقينًا سلامة دينهم وأنه لا مغمز فيهم البتة.
وكان محمد بن بشر الزنبري محدثًا يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر فخرج الزنبري يشيعه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزقوا ما كانوا كتبوا عنه.
وكثيرًا ما كانوا يكذبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحدٍ يتهمونه فيه وتجد من هذا كثيرًا في "ميزان" الذهبي وغيره.
وكذلك إذا سمعوه حدث بحديث ثم حدث به بعد مُدّة على وجهٍ ينافي الوجه الأول، وفي "الكفاية" (ص 113) عن شعبة قال: "سمعت من طلحة بن مصرف حديثًا واحدًا، وكنت كلما مررت به سألته عنه
…
أردت أن أنظر إلى حفظه، فإن غيَّر فيه شيئًا تركته".
وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد، كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور، ومن تتبع كتب التراجم وكتب العلل بَانَ له من جَدِّهم واجتهادهم ما يُحَيِّر العقول.
وكان كثير من الناس يُحْضِرون أولادهم مجالس السماع في صغرهم ليتعودوا ذلك ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر بلى الأقطار ويتحمل السفر الطويل والمشاقّ الشديدة. وقد لا يكون معه إلا جراب من خبز يابس يحمله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع، ولهم في هذا قصص كثيرة.
فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنه الثلاثين أو نحوها، فتكون أمنيته من الحياة أن يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عرف أنهم إن اتهموه في حديثٍ واحدٍ أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس.
وتجد جماعة من ذُرِّيَّة أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة.
وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث.
ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذابين منهم.
ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد لم يعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشدّد.
وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلا، وأرجو أن يكون فيما ذكرته ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعهم -بإفاضتهم في ذكر الوضع- من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أن الله تعالى أَخَلَّ بما تكفَّلَ به من حفظ دينه، وأن سلف الأمّة لم يقوموا بما عليهم أو عجزوا عنه فاختلط الحق بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه.
كلا، بل حجة الله تعالى لم تزل ولن تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحا لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد. اهـ.
الموضع الثالث:
وقال في "الأنوار الكاشفة"(ص 284 - 285):
"لا يجهل عاقل أن أحوال الرواة مختلفة: فمنهم المغفل المتساهل الذي يبني على التوهم فيكثر غلطه، ومنهم الضابط المتقن المتثبت الذي يندر جدا أن يخطىء وليس كل ما يصلح مستندا للتوقف عن خبر الأول أو ردّه يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني.
فأما الصدق وتعمد الكذب ولاسيما في الحديث النبوي فالأمر فيهما أعظم، وللكذب دواع وموانع، والناس متفاوتون جدا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة فيقول له الدكاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبا: إن صاحب ذاك الدكان يبيعها بقرشين؛ يكذب هذه الكذبة طمعا في أن يغُرَّ الدكاني فيعطيه إياها بقرشين مع علمه أن كذبه قد ينكشف كن قرب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدحا بكذبته.
وأعرف من المقلين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظن أنه يتحصل به على مقدار كبير.
فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشد، والمتدينون من الكذب فيه أبعد وأبعد.
فإن قيل: قد ذكر أهل الحديث أن جماعة صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدا في المواعظ ونحوها، وذكروا في الهيثم بن عدي -وهو ممن يكذبون- أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.
قلت: أما صالحٌ يتعمد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يقاس به من عرف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يُتهم كل إنسان بكل نقيصة عرفت لغيره، ولو عرف بأنه من أبعد الناس عنها.
فأما الهيثم بن عدي فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدوري قال: "حدثنا بعض أصحابنا قال: قالت جارية الهيثم بن عدي: كان مولاي
…
".
والجارية لا يعرف حالها، والمخبر عنها لا يُدرى من هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مر، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة.
هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أن ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة، فمن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه خطئوه، سواء أكان ذلك فيما يسوءهم أم فيما يعجبهم.
وأما من كان كذابا أو متهما أو مغفلا أو مجهولا أو نحو ذلك فإنهم لا يحتجون بروايته.
ومن هؤلاء جماعة كثيرة قد رووا عنهم في كتب التفسير وكثير من كتب الحديث والسير والمناقب والفضائل والتاريخ والأدب، وليست روايتهم عنهم تصديقا لهم وإنما هي على سبيل التقييد والاعتبار، فإذا جاء دور النقد جروا على ما عرفوه، فما ثبت مما رواه هؤلاء برواية غيرهم من أهل الصدق قبلوه، وما لم يثبت فإن كان مما يقرب وقوعه لم يروا بذكره بأسا وإن لم يكن حجة، وإن كان مما يستبعد أنكروه، فإن اشتد البُعد كذبوه.
وهذا التفصيل هو الحق المعقول، ومعلوم أن الكذوب قد يصدق فإذا صدقناه حيث عرفنا صدقه واستأنسنا بخبره حيث يقرب صدقه لم يكن علينا -بل لم يكن لنا- أن نصدقه حيث لم يتبين لنا صدقه، فكيف إذا تبين لنا كذبه؟. اهـ.
* * *