الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
في عدالة التابعين
قال المعلمي في "الاستبصار"(ص 9):
"التابعي: من أدرك بعض الصحابة، ورأى بعضهم، وسمع منه سماعا يُعتد به بأن يكون السامع مميزا، وقيل بل تكفي الرؤية مع التمييز.
والذي يظهر في حديث: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم" أن الدخول في الذين يلونهم يشترط فيه زيادة على ما تقدم.
قال ابن الأثير في "النهاية" عن أبي عبيد الهروي فيه: "خيركم قرني ثم الذين يلونهم" يعني: الصحابة ثم التابعين، والقرن أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم، وأحوالهم، وقيل القرن: أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة".
أقول: والقول الثاني كأنه ضابط تقريبي للأول.
هذا، والقرون تتداخل -أعني أن القرن الأول إذا أخذ في النقصان أخذ الذي يليه في الزيادة، وهكذا- فقد يقال: إن قرنه صلى الله عليه وسلم بقي على الغلبة إلى تمام ثلاثين سنة من الهجرة، ثم أخذ في الضعف، وذلك حين بدأ الناس في الإنكار على أمراء عثمان، وأخذ القرنان يصطرعان، فكان بعد خمس سنين قبل عثمان، وذلك مصداق حديث البراء بن ناجية، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم:"تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما، قال: فقلت: مما بقى أو مما مضى؟ قال: مما مضى"(1).
(1) أخرجه أبو داود (4254)(2/ 454)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 236)، والبغوي في "شرح السنة"(4225)(15/ 17)، كلهم من طريق منصور عن ربعي عن البراء به.
وفي بعض الروايات "مما بقي"(1).
وروى شريك، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود مرفوعا:"إن رحى الإسلام ستزول بعد خمس وثلاثين، فإن اصطلحوا فيما بينهم على غير قتال يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدًا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من قبلهم"(2).
فكان لخمس وثلاثين حصر عثمان، ولم يقم الدين كما ينبغي؛ إذ لم يصطلحوا على غير قتال، بل كان هلاك (3) بالقتل والفرقة والفتنة، فكان سبيلهم سبيل الأمم الماضية من الاختلاف، ثم تمت الغلبة للقرن الثاني بعد سنوات بقتل أمير المؤمنن علي عليه السلام، ثم بتسليم ابنه الحسن الخلافة لمعاوية، وذلك مصداق حديث سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك"(4).
أقول: فتمت الغلبة للقرن الثاني نحو أربعين سنة من الهجرة، فثلاثون سنة فيها كانت للقرن الأول، وعشر بينه وبين الثاني، ثم تمت للقرن الثاني ثلاثون سنة لستين من الهجرة، فكانت ولاية يزيد، ثم قتل الحسين بن علي عليه السلام، وقد صح عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ من عام الستن وإمارة الصبيان، فمات قبلها.
ثم كانت وقعة الحرف وإحراق الكعبة، ثم كان بعد السبعين رمي الكعبة بالمجانيق، وقتل ابن الزبير، واستتباب الأمر لعبد الملك.
وعلى هذا المنوال يكون انتهاء القرن الثاني سنة سبعين، وانتهاء الثالث على رأس المائة.
(1) أخرجه أحمد (1/ 393)، و (395)، وأبو نعيم في الفتن (1963)(2/ 692)، والطحاوي (2/ 236). والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 393) من طريق منصور بلفظ: قال عمر: أمن هذا أو من مستقبله؟ قال: من مستقبله.
(2)
أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(2/ 236).
(3)
مقدار كلمة غير واضحة ولعلها "فيها" كذا قال محقق "الاستبصار".
(4)
"المسند"(5/ 220، 221) والترمذي: كتاب الفتن - باب ما جاء في الخلافة ح (2225).
ومن أسباب الفضل للثاني والثالث أنه لم يزل فيهما بقايا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنتهى ذلك بعد انتهاء المائة بقليل مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم قبيل موته:"أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة [منها] لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"(1).
هذا، والظاهر أنه يدخل في القرن الأول من أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع به، وكذلك من أسلم بعده بقليل، وكذا من ولد بعده بقليل، بحيث يكون منشؤه في عهد كثرة الصحابة وظهورهم؛ فإنه يقتدي بهم، ويقتبس من أخلاقهم وآدابهم حتى يستحكم خلقه على ذلك، ولا مانع من أن يكون هؤلاء في القرن الأول وإن لم يكونوا صحابة.
وعلى هذا فالدرجات تتفاوت: فمن ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى نيل خصائص القرن الأول ممن ولد بعده بخمس سنوات -مثلا- وهكذا، حتى إن من ولد بعده صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة أقرب إلى القرن الثاني، وقد يكون بعض من يولد متأخرا أمكن في خصائص القرن الأول ممن ولد متقدما لأسباب أخرى، ككثرة مجالسة أفاضل الصحابة، وقس على هذا.
ومن استحكمت قوته في عهد القرن الأول فهو منهم وإن بقي إلى القرن الثاني والثالث، وهكذا، وقد يكون هذا هو السر -والله أعلم- في الشك في أكثر روايات الحديث وكرر النبي صلى الله عليه وسلم:"ثم الذين يلونهم" مرتين أو ثلاثا، وذلك أنه بعد انتهاء قرنه ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، تبقى جماعة من أهل الثالث يعيشون في الرابع.
هذا وقد احتج بهذا الحديث على أن الظاهر في التابعن وأتباعهم العدالة، فمن لم يجرح منهم فهو عدل.
(1) أخرجه البخاري (116)(1/ 255)، و (564)(2/ 54)، و (601)(2/ 88)، ومسلم (2537)(4/ 1965) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقد يوجه ذلك بأن الخير لم يرتفع من الأمة جملة بعد تلك القرون، فثناؤه صلى الله عليه وسلم عليها، وذمُّهُ منْ بعدها إنما هو بناء على الأغلب، فكأنه يقول: إن غالب أهلها أخيار، وغالب من بعدهم أشرار، وإذا ثبت أن غالبهم أخيار فمن لم يعرف حاله منهم حمل على الغالب.
أقول: وفي هذا نظر من وجهين:
الوجه الأول: أنه قد يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم راعَى الكثرة، فيكون حاصل ذلك أن القرن الأول -وهم الصحابة ومن انضم إليهم- غالبهم عدول، والقرن الثاني نصفهم عدول، والقرن الثالث ثلثهم عدول، والثلث كثير، وأما بعد ذلك فإن العدالة تقل عن ذلك، وعلى تسليم الغلبة في القرن الثاني -أيضا- فقد يكون في الثالث التعادل، واستحقوا الثناء؛ لأن شرهم لم يكن كثر من خيرهم، بخلاف من بعدهم.
الوجه الثاني: أن الغلبة تصدق بخمسة وخمسين في المائة -مثلا- ومثل هذا لا يحصل به الظن المعتبر في أن من لم يعرف حاله من المائة فهو من الخمسة والخمسين، ولو قال المحدث: أكثر مشايخي ثقات لما كان توثيقا لمن لا يعرف حاله منهم.
وتمام هذا البحث يأتي في الكلام على المجهول - إن شاء الله تعالى. اهـ.
قال أبو أنس:
تجدر الإشارة في هذا المقام إلى ارتباط هذا المبحث بمناقشة طائفة ممن صنفوا في ثقات الرواة؛ إذ اعتمدوا على ما حكاه المعلمي من اعتبار أن الظاهر في التابعين وأتباعهم العدالة، فمن لم يجرح منهم فهو عدل.
راجع مزيدًا من إلقاء الضوء على هذه القضية في ترجمة ابن حبان من القسم السابق من هذا الكتاب.
وانظر كذلك مبحث المجهول في هذا القسم.
وهذه تتمات موجزة:
1 -
يأتي في تعريف التابعي أكثر ما سبق في تعريف الصحابي، فهو من التقى أو اجتمع بمن صحب النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، واحدا أو أكثر.
وبقية تعريف الصحابي لا وجه له غالبا هنا.
ووصف التابعي منه ما هو وصف فضيلة فقط، ومنه ما هو وصف رواية. فالأول من كان صغيرا غير مميز، أو من له رؤية من البالغين لكن ليس له سماع ولا رواية، كالأعمش رأى أنسا ولم يسمع منه شيئا.
وأما الثاني فكثير.
2 -
لا شك أن التابعن يتفاوتون في القِدَمِ والفضل والعلم، وكذلك في العدالة، ليسوا على درجة واحدة، حسبما يقتضيه صنيع جمهور أهل العلم من تناولهم لهذه الطبقة بالنقد والجرح والتعديل، خلافا لمن شذ فأطلق القول بعدالتهم جميعا.
نعم، العدالة فيهم أغلبية لاعتبارات معلومة، كما شرح المعلمي، لكن الأغلبية لا تنفي وجود ما يستثنى منها.
3 -
اعتنى المحدثون بالنظر في سماع التابعين من الصحابة، وميزوا من سمع ومن لم يسمع، ومن له رؤية فقط، ومن سمع حديثا أو أحاديث قليلة وما عداه فمرسل.
والناظر في كتب المراسيل المصنفة على تراجم الرواة يرى أكثر ما فيها العناية بمرويات التابعين عن الصحابة لنقد سماعاتهم.
4 -
ممن اعتنى بذكر التابعين: مسلم، وابن سعد، وخليفة بن خياط، وأبو بكر بن البرقي، وأبو الحسن بن سميع في طبقاتهم، وفيهم من أفردهم بالتصنيف كأبي حاتم الرازي، وأبي القاسم بن منده وغيرهما.
5 -
المخضرمون؛ هم من أدركوا الجاهلية والإسلام، إلا أنهم لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وربما أسلموا في حياته أو بعد موته، هؤلاء لهم في الرواية حكم كبار التابعين، وقد أفردهم البرهان الحلبي الحافظ في جزء سماه:"تذكرة الطالب المعلم فيمن يقال: إنه مخضرم" منهم: الأسود بن هلال المحاربي، والأسود بن يزيد النخعي، وثمامة بن حزن القشيري، وجبير بن نفير الحضرمي، وحجر بن عنبس، وربيعة ابن زرارة العتكي، وزيد بن وهب الجهني، وسعد بن إياس أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة، وشبيل بن عوف الأحمسي، وشريح بن الحارث القاضي، وشريح بن هانىء، وشقيق بن سلمة أبو وائل، وأبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب، وعبد الرحمن بن عسيلة أبو عبد الله الصنابحي، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، وعبد الرحمن بن مل أبو عثمان النهدي، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعمران بن ملحان أبو رجاء العطاردي، وعمرو بن ميمون الأودي، وقيس بن أبي حازم، ومسروق بن الأجدع، والمعرور بن سويد وغيرهم.
* * *