الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - القاعدة التاسعة من مقدمة "التنكيل" تحت عنوان: مباحث في الاتصال والانقطاع:
وهي خمسة مباحث:
قال العلامة المعلمي:
المبحث الأول
في رواية الرجل بصيغة محتملة للسماع عمن عاصره ولم يثبت لقاؤه له
ذكر مسلم في مقدمة "صحيحه" عن بعض أهل عصره: أنه شرط أن يثبت لقاء الراوي للمروي عنه ولو مرة، فإن لم يثبت لم يحكم لما يرويه عنه بالاتصال، وذكروا أن الذي شرط ذلك هو البخاري وشيخه علي بن المديني، وحكى مسلم إجماعَ أهل العلم سلفًا وخلفًا على الاكتفاء بالمعاصرة وعدم التدليس، وألزم مخالفه أن لا يحكم بالاتصال فيما لم يصرح فيه الراوي بالسماع وإن ثبت اللقاء في الجملة ولم يكن الراوي مدلسًا.
وتوضيح هذا الإلزام أنه كما أن الراوي الذي يُعرف ويشتهر بالإرسال عمن عاصره ولم يلقه قد يقع له شيء من ذلك، فكذلك الراوي الذي لم يُعرف ويشتهر بالإرسال عمن لقيه وسمع منه قد يقع له شيء من ذلك.
فإن كان ذلك الوقوعُ يُوجِبُ التوقفَ عن الحكم بالاتصال في الأوَّل، فليوجبه في الثاني، كان لم يوجبه في الثاني فلا يوجبه في الأول.
أجاب النووي بما إيضاحه: أن رواية غير المدلس بتلك الصيغة عمن قد لقيه وسمع منه الظاهر منها السماع، والاستقراء يدل أنهم إنما يطلقون ذلك في السماع، إلا المدلس.
أقول: فمُسْلمٌ يقول: الحال هكذا أيضًا في رواية غير المدلس عمن عاصره، والرواية عن المعاصر على وجه الإيهام تدليسٌ أيضًا عند الجمهور، ومن لم يطلق عليها ذلك لفظًا لا يُنكر أنها تدليسٌ في المَعْنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإيهام عمن قد سمع منه.
هذا، وصنيعُ مسلمٍ يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليسًا إذا كان على وجه الايهام، ويوافقه ما في "الكفاية" للخطيب (ص 357)(1).
وذكر مسلم أمثلةً، فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن قد سمعوا منه، ولم تعد تدليسًا ولا عُدُّوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإيهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الراوية تدفع ظهور الصيغة في السماع، وقد كنت بسطت ذلك، ثم رأيت هذا المقام يضيق عنه.
ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي أن التدليس يثبت بمرة؛ لأنا نقول: هذا مُسَلَّمٌ، ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليسًا بأن تكون بقصد الإيهام، والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك، بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين.
(1) قال الخطيب: "الضرب الأول: تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه، ويعدل عن البيان بذلك، ولو بين أنه لم يسمعه من الشيخ الذي دلسه عنه فكشف ذلك لصار ببيانه مرسلا للحديث غير مدلس فيه؛ لأن الأرسال للحديث ليس بإيهام من المرسل كونه سامعًا ممن لم يسمع منه وملاقيًا لمن لم يلقه، إلا أن التدليس الذي ذكرناه متضمن للإرسال لا محالة من حيث كان المدلس ممسكًا عن ذكر من بينه وبين من دلس عنه، وإنما يفارق حاله حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمع منه فقط، وهو الموهن لأمره، فوجب كون هذا التدليس متضمنًا للإرسال، والإرسال لا يتضمن التدليس؛ لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمع منه، ولهذا المعنى لم يذم العلماء من أرسل الحديث وذموا من دلسه". اهـ.
وزعم النووي في "شرح صحيح مسلم" أنه لا يُحكم على مسلم بأنه عمل في "صحيحه" بقوله المذكور، وهذا سَهْوٌ من النووي؛ فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديثَ كثيرةً زعم أنه لم يُصرَّحْ فيها بالسماع، ولا علم اللقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء "صحيحه" تسعة عشر حديثًا كما ذكره النووي نفسه، ومنها ستة في "صحيح" البخاري كما ذكره النووي أيضًا.
هذا، ولم يجيبوا عن تلك الأحاديث إلا بأن نفي مسلم العلم باللقاء لا يستلزمُ عدمَ علمِ غيره، وهذا ليس بجوابٍ عن تصحيح مسلم لها، وإنما هو جواب عن قوله أنها عند أهل العلم صحاح.
وقد دفعه بعض علماء العصر بأنه لا يكفي في الرد على مسلم مع العلم بسعة اطلاعه.
أقول: قد كان على المُجيبين أن يتتبعوا طرق تلك الأحاديث وأحوال رواتها، وعلى الأقل كان يجب أن يعتنوا بالستة التي في "صحيح البخاري"، وكنت أظنهم قد بحثوا فلم يظفروا بما هو صريح في رَدِّ دعوى مسلم، فاضطروا بلى الاكتفاء بذاك الجواب الإجمالي، ثم إنني بحثتُ، فوجدت تلك الستة قد ثبت فيها اللقاء، بل ثبت في بعضها السماع، بل في "صحيح" مسلم نفسه التصريح بالسماع في حديث منها، وسبحان من لا يضل ولا ينسى، وأما بقية الأحاديث فمنها ما يثبت فيه السماع واللقاء فقط، ومنها ما يمكن أن يجاب عنه جواب آخر، ولا متسع هنا لشرح ذلك (1).
وزعم بعض علماء العصر أن اشتراط البخاري العلم باللقاء، إنما هو لما يخرجه في "صحيحه"، لا للصحة في الجملة، كذا قال، وفي كلام البخاري على الأحاديث في عدةٍ من كتبه كـ (جزء القراءة) وغيره ما يدفع هذا. والله الموفق.
(1) قد شرح الشيخ المعلمي هذا، ونظر في تلك الأحاديث كلها في جزء خاص، سأنقله بتمامه في السطور الآتية.