الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
تحقيق المقال في الأحاديث الواردة في النهى عن كتابة الحديث
قال أبو رية (ص 23): "وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلى الله عليه وسلم".
فقال الشيخ المعلمي:
"أما الأحاديث فإنما هي حديث يختلف في صحته، وآخر متفق على ضعفه.
فالأول: حديث مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ -قال همام: أحسبه قال: متعمدًا- فليتبوأ مقعده من النَّار" هذا لفظ مسلم. وذكره أبو رية مختصرًا، وذكر لفظين آخرين، وهو حديث واحد.
والثاني: ذكره بقوله: "ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث وأمر إنسانًا أن يكتبه فقال له زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نكتب شيئًا من حديثه، فمحاه"، وقد كان ينبغي لأبي رية أن يجري على الطريقة التي يطريها وهي النقد التحليلي: فيقول: معقول أن لا يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة أحاديثه؛ لقلة الكَتَبة، وقلة ما يكتب فيه، والمشقة، فأما أن ينهى عن كتابتها ويأمر بمحوها فغير معقول، كيف وقد أذن لهم في التحديث فقال:"وحدثوا عني ولا حرج".
أقول: أما حديث أبي سعيد ففي "فتح الباري"(1/ 185): "منهم -يعني الأئمة- من أعلّ حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري
وغيره" أي الصواب أنه من قول أبي سعيد نفسه، وغلط بعض الرواة فجعله عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أورد ابن عبد البر في كتاب العلم (1/ 64) قريبًا من معناه موقوفًا على أبي سعيد من طرقالم يذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وأما حديث زيد بن ثابت فهو من طريق كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت الخ. وكثير غير قوي، والمطلب لم يدرك زيدًا (2).
أما البخاري فقال في "صحيحه": "باب كتابة العلم"(3) ثم ذكر قصة الصحيفة التي كانت عند علي رضي الله عنه (4).
(1) حديث أبي سعيد معروف برواية همام بن يحيى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عنه به مرفوعًا.
أخرجه كذلك مسلم في آخر "الصحيح"(3004)، وأخرجه أحمد في غير موضع من "المسند"، وابن حبان (64) وغيرهم.
وذكره الخطيب في "تقييد العلم"(ص 31) وقال: "هذا الحديث تفرد بروايته همام عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعًا".
وقد روي عن سفيان الثوري أيضًا عن زيد، ويقال إن المحفوظ رواية هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري من قوله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر رواية الثوري من طريق واهٍ عنه، ثم ذكر حديثًا آخر لأبي سعيد أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتب الحديث فلم يأذن له، وهو من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، وعبد الرحمن ضعيف.
ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد من رواية عبد الرحمن هذا أيضًا عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة به مرفوعًا.
ثم ساق طرقا لأبي سعيد الخدري في هذا المعنى من قوله، لم يرفعه.
وكذلك عن بعض الصحابة والتابعين.
(2)
أخرجه أبو داود (3647) وغيره.
(3)
فتح الباري (1/ 246).
(4)
حديث رقم (111).
ثم خطبة النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح وسؤال رجل أن يكتب له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اكتبوا لأبي فلان"(1) وفي غير هذه الرواية "لأبي شاه".
ثم قول أبي هريرة: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب"(2).
ثم حديث ابن عباس في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله:"ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده"(3).
وفي بعض روايات حديث أبي هريرة في شأن عبد الله بن عمرو: "استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب بيده ما سمع منه فأذن له" رواه الإمام أحمد والبيهقي.
قال في "فتح الباري"(1/ 185): "إسناده حسن، وله طريق أخرى
…
".
وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو نفسه جاء من طرق، راجع "فتح الباري" و"المستدرك" (1/ 104) و"مسند" أحمد بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر: الحديث: (6510) وتعليقه.
وقد اشتهرت صحيفة عبد الله بن عمرو التي كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يغتبط بها ويسميها:"الصادقة"، وبقيت عند ولده يروون منها، راجع ترجمة عمرو بن شعيب في "تهذيب التهذيب".
أما ما زعمه أبو رية أن صحيفة عبد الله بن عمرو إنما كانت فيها أذكار وأدعية فباطل قطعًا.
وأما زيادة ما انتشر عن أبي هريرة من الحديث عما انتشر عن عبد الله بن عمرو؛ فلأن عبد الله لم يتجرد للرواية تجرد أبي هريرة، وكان أبو هريرة بالمدينة وكانت دار
(1) حديث رقم (112).
(2)
حديث رقم (113).
(3)
حديث رقم (114).
الحديث؛ لعناية أهلها بالرواية، ولرحلة الناس إليها لذلك، وكان عبد الله تارة بمصر، وتارة بالشام، وتارة بالطائف، مع أنه كان يكثر من الأخبار عما وجده من كتبٍ قديمةٍ باليرموك، وكان الناس لذلك كأنهم قليلو الرغبة في السماع منه، ولذلك كان معاوية وابنه قد نهياه عن التحديث.
فهذه الأحاديث وغيرها مما يأتي إن لم تدل على صحة قول البخاري وغيره: إن حديث أبي سعيد غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّها تقضي بتأويله، وقد ذكر في "فتح الباري" أوجها للجمع، والأقرب ما يأتي:
قد ثبت في حديث زيد بن ثابت في جمعه القرآن: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف"، وفي بعض رواياته ذكر القصب وقطع الأديم. وقد مَرَّ قريبًا (ص 20)، وهذه كلها قطع صغيرة، وقد كانت تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الآية والآيتان فكان بعض الصحابة يكتبون في تلك القطع فتتجمع عند الواحد منهم عدة قطع في كل منها آية أو آيتان أو نحوها، وكان هذا هو المتيسر لهم، فالغالب أنه لو كتب أحدهم حديثًا لكتبه في قطعة من تلك القطع، فعسى أن يختلط عند بعضهم القطع المكتوب فيها الأحاديث بالقطع المكتوب فيها الآيات، فنهوا عن كتابة الحديث سدًّا للذريعة.
أما قول أبي رية (ص 27): "هذا سبب لا يقتنع به عاقل عالم
…
اللهم [إلا] إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة وأن أسلوبها في الإعجاز من أسلوبه".
فجوابه: أن القرآن إنما تحدَّى أن يُؤتَى بسورة من مثله، والآية والآيتان دون ذلك. ولا يشكل على هذا الوجه صحيفةُ علي؛ لأنه جمع فيها عدة أحكام، وكان علي لا يُخشى عليه الالتباس.
ولا قصة أبي شاه؛ لأن أبا شاه لم يكن ممن يكتب القرآن، وإنما سأل أن تكتب له تلك الخطبة.
ولا قوله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: "ائتوني بكتاب" الخ؛ لأنه لو كتب لكان معروفًا عند الحاضرين وهم جمع كثير.
ولا قضية عبد الله بن عمرو، فإنه فيما يظهر حصل على صحيفة فيها عدة أوراق، فاستأذن أن يكتب فيها الأحاديث فقط.
وكذلك الكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم لعماله وفيها أحكام الصدقات وغيرها، وكان كلها أو أكثرها مُصدرًا بقوله:"من محمد رسول الله" الخ، هذا كله على فرض صحة حديث أبي سعيد.
أما على ما قاله البخاري وغيره من عدم صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر أوضح، وسيأتي ما يشهد لذلك.
قال أبو رية (ص 23): وروى الحاكم بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب
…
فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فأحرقها، وقال: خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك، زاد الأحوص بن المفضل في روايته: أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر.
أقول: لو صح هذا لكان حجة على ما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما كتب أبو بكر، فأما الإحراق فلسبب أو سببين آخرين كما رأيت، لكن الخبر ليس بصحيح، أحال به أبو رية على "تذكرة الحفاظ" للذهبي، و"جمع الجوامع" للسيوطي ولم يذكر طعنهما فيه، ففي التذكرة عقبة:"فهذا لا يصح"(1).
(1)(ج 1 ص 5).
وفي "كنز العمال"(5/ 237) -وهو ترتيب جمع الجوامع ومنه أخذ أبو رية: "قال ابن كثير هذا غريب من هذا الوجه جدًّا، وعلي بن صالح أحد رجال سنده لا يعرف".
أقول: وفي السند غيره ممن فيه نظر (1). ثم وجهه ابن كثير على فرض صحته.
قال أبو رية (ص 24): "وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في "المدخل" عن عروة: أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك -ورواية البيهقي: فاستشار- فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له فقال: إنِّي كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا كانوا قبلكم كتبوا كتبًا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا. ورواية البيهقي: لا ألبس بكتاب الله بشيء أبدًا"(2).
أقول: وهذا وإن صح حجة لما قلناه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الأحاديث مطلقًا لما هَمَّ بها عمر وأشار بها عليه الصحابة، فأما عدوله عنها فلسبب آخر كما رأيت.
لكن الخبر منقطع؛ لأن عروة لم يدرك عمر، فإن صح فإنما كانت تلك الخشية في عهد عمر ثم زالت، وقد قال عروة نفسه كما في ترجمته من تهذيب التهذيب:"وكنا نقول: لا نتخذ كتابًا مع كتاب الله، فمحوت كتبي، فوالله لوددت أن كتبي عندي وإن كتاب الله قد استمرت مريرته" يعني قد استقر أمره وعلمت مزيته وتقرر في
(1) هما: موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، الظاهر أنه هو العلوي الهاشمي، وهو مترجم بها "الميزان"، و"اللسان"، عن إبراهيم بن عمر بن عبيد الله التيمي، لم أجده.
(2)
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة به.
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(11/ 258) ومن طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(ص 109) والخطيب في "تقييد العلم"(ص 49) والبيهقي في "المدخل"(ص 407).
وهو منقطع بين عروة وعمر، كما سيأتي، انظر:"المراسيل" لابن أبي حاتم (149)، و"تحفة التحصيل"(ص 226).
أذهان الناس أنه الأصل، والسنة بيانٌ له، فزال ما كان يخشى من أن يؤدي وجود كتاب للحديث إلى أن يكب الناس عليه، ويدعوا القرآن.
قال أبو رية: "وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب إلى الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه"(1).
أقول: وهذا منقطع أيضًا، يحيى بن جعدة لم يدرك عمر، عروة أقدم منه وأعلم جدًّا، وزيادة يحيى منكرة، لو كتب عمر إلى الأمصار لاشتهر ذلك، وعنده علي وصحيفته، وعند عبد الله بن عمرو صحيفة كبيرة مشهورة.
قال أبو رية: "وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يعلى على أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها، فلما أتوه بها أمر بتحريقها: مثناة كمثناة أهل الكتاب. قال فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثًا"(2).
أقول: وهذا منقطع أيضا؛ إنما وُلد القاسم بعد وفاة عمر ببضع عشرة سنة. ثم ذكر خبر زيد بن ثابت وقد مَرَّ.
ثم قال: "وعن جابر بن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليًّا يخطب يقول: أعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه فإنما هلك الناس حي تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم".
أقول: ذكره ابن عبد البر من طريق شعبة عن جابر (3)، ولم أجد لجابر بن عبد الله ابن يسار ذكرًا، وقد استوعب صاحب التهذيب مشايخ شعبة في ترجمته، ولم يذكر
(1) أخرجه أبو خيثمة في "العلم" رقم (26)، وابن عبد البر في "الجامع"(ص 109).
(2)
"الطبقات"(5/ 188) رواه عن زيد بن يحيى بن عبيد الدمشقي قال: أخبرنا عبد الله بن العلاء به.
وذكره الذهبي في ترجمة القاسم من "سير أعلام النبلاء"(5/ 59).
(3)
"جامع بيان العلم وفضله"(ص 108) وفيه: جابر بن عبد الله بن يسار.
فيهم من اسمه جابر إلا جابر بن يزيد الجعفي، فلعل الصواب "جابر عن عبد الله ابن يسار" وجابر الجعفي ممقوت كان يؤمن برجعة علي إلى الدنيا، وقد كذبه جماعة في الحديث منهم أبو حنيفة، وصدقه بعضهم في الحديث خاصة بشرط أن يصرح بالسماع. ولم يصرح هنا، وعبد الله بن يسار لا يعرف (1).
وقد كان عند علي نفسه صحيفة فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما مَرَّ، فإن صحت هذه الحكاية فإنما قال:"أحاديث علمائهم" ولم يقل: "أحاديث أنبيائهم"، وكلمة "حديث" بمعنى "كلام" واشتهارها فيما كان عن النبي صلى الله عليه وسلم اصطلاح متأخر، وقد كان بعض الناس يثبتون كلام علي في حياته.
وفي مقدمة "صحيح مسلم"(2) عن ابن عباس ما يُعلم منه أنه كان عنده كتاب فيه قضايا علي، منها ما عرفه ابن عباس ومنها ما أنكره، ولفظه:"فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء، ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل"، ثم ذكر عن طاوس قال: "أُتي ابنُ عباس بكتاب فيه قضاء علي
…
".
فإن صحت هذه الحكاية فكأن بعض الناس كتب شيئًا من كلام علي أو غيره من العلماء، فتناقله الناس، فبلغ عليًّا ذلك، فقال ما قال.
قال أبو رية: "وعن الأسود بن هلال قال: أُتي عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت".
(1) لكن في ترجمة عبد الله بن يسار الجهني الكوفي من "تهذيب الكمال" أنه يروي عن علي بن أبي طالب وعنه جابر ابن يزيد الجعفي. وعبد الله هذا قد وثقه النسائي وذكره ابن حبان في "الثقات".
(2)
ص 13.
ثم قال: "أذكر الله رجلًا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون"(1).
أقول: روى الدارمي (2) هذه القصة من وجه آخر (3) عن الأشعت [بن أبي الشعثاء سليم بن أسود] عن أبيه - وكان من أصحاب عبد الله قال: "رأيت مع رجل صحيفة فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فقلت له: أنسخنيها، فكأنه بخل بها، ثم وعدني أن يعطينيها، فأتيت عبد الله فإذا هي بين يديه فقال: إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة
…
أقسم لو أنها ذكرت له بدار الهند (4)(كذا) -أراه يعني مكانًا بالكوفة بعيدًا- إلا أتيته ولو مشيًا".
لا ريب أنه لم يكن في الصحيفة تلك الكلمات فقط وإلا ما طلب استنساخها لأنه قد حفظها فيمكنه أن يكتبها إن شاء من حفظه.
وعند الدارمي قصة أخرى تفسر لنا هذه، ذكرها في باب كراهية أخذ الرأي (5)، وفيها: "إن قومًا تحلقوا في المسجد في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون، فيقول: هللوا مائة فيهللون
…
"، وذكر إنكار ابن مسعود عليهم، فكأنه كان في تلك الصحيفة وصفُ طريقةٍ للذكر بتلك الكلمات ونحوها
(1)"جامع بيان العلم"(ص 110) عن أبي معاوية عن الأعمش عن جامع بن شداد عن الأسود.
(2)
(1/ 135).
(3)
عن سهل بن حماد عن شعبة عن الأشعث.
(4)
في الطبعة المعزو إليها: الهنداريه.
(5)
(1/ 79) عن الحكم بن المبارك أنا عمر (كذا، وصوابه: عمرو) بن هي قال: أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود
…
الحكم بن المبارك هو أبو صالح البلخي، وعمرو بن يحيى هو ابن عمرو بن سلمة الهمداني.
بعدد مخصوص وهيئة مخصوصة كما يبينه قول ابن مسعود: "إن ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة".
وقد ذكر الدارمي (1) رواية أخرى في صحيفة جيء بها من الشام فمحاها ابن مسعود، وفيها:"فقال مُرَّة [ابن شرحبيل الهمداني أحد كبار أصحاب ابن مسعود]: أما إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكن كان من كتب أهل الكتاب".
ثم قال أبو رية (ص 25): "هناك غير ذلك أخبار كثيرة
…
".
أقول: ذكر ابن عبد البر (2) عن مالك: "أن عمر أراد أن يكتب الأحاديث، أو كتبها، ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله"، وهذا معضل، وقد مرت رواية عروة عن عمر وبيان وجهها.
وذكر (3) عن أبي بردة بن أبي موسى أنه كتب من حديث أبيه، فعلِمَه أبوه، فدعا بالكتاب فمحاه.
وقد أخرج الدارمي (4) نحوه، ثم أخرج (5) عن أبي بردة عن أبيه "أن بني إسرائيل كتبوا كتابًا فتبعوه وتركوا التوراة"، وهذا كما مَرَّ عن عمر.
وذكر (6) عن أبي نضرة قال: قيل: لأبي سعيد [الخدري] لو أكتبتنا الحديث فقال: لا نكتبكم، خذوا عنا كما أخذنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم ذكره من وجه آخر في سنده من لم
(1)(1/ 134) عن أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا أبو زيد (كذا، وصوابه: أبو زبيد وهو عبثر بن القاسم) ثنا حصين (وهو ابن عبد الرحمن) عن مُرَّة الهمداني به.
(2)
(ص 109).
(3)
(ص 110) من طريق وكيع عن طلحة بن عمرو عن أبي بردة، وطلحة هو الحضرمي تالف.
(4)
(1/ 133) من طريق شعبة عن أبي موسى عن حميد بن هلال عن أبي بردة وشيخ شعبة لا يعرف.
(5)
(1/ 135) من طريق عبيد الله بن عمرو (هو الرقي) عن عبد الملك بن عمير عن أبي بردة به.
(6)
(ص 108) من طريق عبد الأعلى (وهو ابن عبد الأعلى السامي) عن سعيد الجريري عن أبي نضرة به.
أعرفه (1) وفيه: "أتريدون أن تجعلوها مصاحف" ثم من وجه ثالث بنحوه (2). وهذا من أبي سعيد بمعنى ما مَرَّ عن عمرو أبي موسى.
وذكر (3) عن سعيد بن جبير قال: "كنا نختلف في أشياء، فكتبتها في كتاب، ثم أتيت بها ابن عمر أسأله عنها خفيًا، فلو علم بها كانت الفيصل بيني وبينه".
في رواية (4): "كتب إليَّ أهل الكوفة مسائل ألقى بها ابنَ عمر، فلقيتُه، فسألته عن الكتاب، ولو علم أن معي كتابًا لكانت الفيصل بيني وبينه".
وهذا ليس مما نحن فيه؛ إنما هو باب كراهية الصحابة أن تكتب فتاواهم وما يقولونه برأيهم.
وذكر (5) عن ابن عباس أنه قال: "إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه". وقد ذكر (6) عن هارون بن عنزة عن أبيه أن ابن عباس أرخص له أن يكتب.
هذا وقد أخرج الدارمي (7) بسند رجاله ثقات عن أنس أنه كان يقول لبنيه: "يا بني قيدوا هذا العلم" وذكره ابن عبد البر (8) ولفظه: "قيدوا العلم بالكتاب"، وروي هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن قول عمرو من قول ابن عمر، وإنما يصح من قول أنس رضي الله عنه.
(1)(ص 108) وهو قبل الموضع السابق من طريق مسلم بن إبراهيم عن المعتمر (كذا، وصوابه: المستمر، ولذا لم يعرفه المعلمي) بن الريان، عن أبي نضرة.
(2)
نفس الموضع قبلهما من طريق أبي أسامة عن كهمس عن أبي نضرة، والأسانيد الثلاثة مستقيمة.
(3)
(ص 111) من طريق ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن أيوب قال: سمعت سعيد بن جبير.
(4)
كذلك من طريق حماد بن زيد عن أيوب.
(5)
(ص 109) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس.
(6)
(ص 121).
(7)
(1/ 137) من طريق مسلم بن إبراهيم عن عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسًا كان يقول ذلك لبنيه.
(8)
(ص 120) مرفوعًا.
وروى الدارمي (1) وابن عبد البر (2) وغيرهما بسند حسن أن أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه سئل عن كتاب العلم فقال: لا بأس به.
وأخرج الدارمي (3) وغيره بسند رجاله ثقات عن بشير بن نهيك وهو ثقة قال: "كنت أكتب ما أسمع من أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابه فقرأته عليه وقلت له: هذا ما سمعت منك؛ قال: نعم".
فالحاصل أن ما روي عن عمر وأبي موسى من الكراهة إنما كان كما صرحا به خشية أن يكب الناس على الكتب ويدَعُوا القرآن، وأما من عاش بعدهما من الصحابة فمنهم أبو سعيد بقي على الامتناع، ومنهم ابن عباس امتنع ورخص، ومنهم من رأى أنه قد زال المانع كما قال عروة الراوي امتناع عمر:"إن كتاب الله قد استمرت مريرته" وقد مَرَّ ذلك ورأوا أن الحاجة إلى الكتابة قد قويت؛ لأن الصحابة قد قلوا وبقاء الأحاديث تتناقل بالسماع والحفظ فقط لا يؤمن معه الخلل فرأوا للنَّاس الكتابة كما مَرَّ عن أبي هريرة وأبي أُمامة وأنس رضي الله عنهم.
وأما التابعون فغلبت فيهم الكتابة، إلا أن من كان ذا حافظة نادرة كالشعبي والزهري وقتادة كانوا لا يرون إبقاء الكتب، لكن يكتب ما يسمع ثم يتحفظه فإذا أتقنه محاه.
وأكثرهم كانت كتبه باقية عنده كسعيد بن جبير والحسن البصري وعَبيدة السلماني ومُرَّة الهمداني وأبي قلابة الجرمي وأبي المليح وبشير بن نهيك وأيوب السختياني ومعاوية بن قرة ورجاء بن حيوة وغيرهم (4).
(1)(1/ 137) من طريق ابن وهب عن معاوية (وهو ابن صالح) عن الحسن بن جابر قال: سألت أبا أمامة والحسن لم يوثق توثيقا معتبرا.
(2)
(ص 122) من نفس الطريق.
(3)
(1/ 138) من طريق معاذ (وهو ابن معاذ البصري) عن عمران بن حدير عن أبي مجلز (وهو لاحق ابن حميد) عن بشير بن نهيك به.
(4)
مقتبس من كتاب "العلم" لابن عبد البر، و"سنن" الدارمي، وغيرهما.
ثم قال أبو رية (ص 25): "ولئن كانت هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث فإن أحاديث النهي أصح، بَلْهَ ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين".
أقول: قد علمت أنه ليس في النهي غير حديثين؛ أحدهما متفق على ضعفه وهو المروي عن زيد بن ثابت، والثاني مختلف في صحته وهو حديث أبي سعيد، فأما أحاديث الإذن فلو لم يكن منها إلا حديث أبي هريرة في الإذن لعبد الله بن عمرو لكان أصح مما جاء في النهي.
أما الصحابة والتابعون فقد تقدم ويأتي ما فيه كفاية.
ثم نقل أبو رية (ص 25 - 27) عن مجلة المنار كلامًا بدىء فيه بمحاولة الجمع بين حديث النهي وقصة "اكتبوا لأبي شاه" بأن ما أمر بكتابته لأبي شاه من الدين العام وأن النهي كان عن كتابة سائر الأحاديث التي هي من الدين الخاص.
أقول: نظرية "دين عام ودين خاص" مردودة عليه، وقد تقدمت الإشارة إليها (ص 15). وحديث الإذن لعبد الله بن عمرو قاطع لشغبه البتة.
قال صاحب المنار: "ولنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين: أحدهما: استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم".
أقول: لم يثبت استدلال أحد منهم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فالمروي عن زيد بن ثابت متفق على ضعفه، وعن أبي سعيد روايتان، إحداهما: فيها الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيها امتناع أبي سعيد، ونحن لم نقل في هذا إنه منسوخ، إنما قلنا: إنه إما خطأ والصواب عن أبي سعيد من قوله، كما قال البخاري وغيرها، وإما محمول على أمر خاص تقدم بيانه. وثانيتهما: رواية أبي نضرة عن أبي سعيد امتناعه هو، وليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى.
وقد بقيت صحيفة علي عنده إلى زمن خلافته، وكذلك بقيت صحيفة عبد الله بن عمرو عنده وعند أولاده كما مَرَّ، فلو كان هناك نسخ لكان بقاء الصحيفتن دليلًا واضحًا جدًّا على أن الإذن هو المتأخر، وتقدم أن عمر عزم على الكتابة، وأشار عليه الصحابة بها ثم تركها لمعنى آخر، ولم يذكروا نهيًا كان من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك صريح فيما قلنا.
وقد أجاز الكتابة من الصحابة: عبد الله بن عمرو وأبو هريرة وأبو أُمامة وأنس رضي الله عنهم، وروى هارون بن عنترة عن أبيه، أن ابن عباس رخص فيها ثم أجمعت عليها الأمة.
قال (ص 26): "وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره".
أقول: أما النشر فقد نشروه بحمد الله تعالى، وبذلك بلغنا. وأما التدوين فيعني به الجمع في كتاب كما جمعوا القرآن، فاعلم أن الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وبيانه وهو السنة كما مر، وما تكفل الله بحفظه فلا بد أن يحفظ وقد علمنا من دين الله أن على عبادة مع إيمانهم بحفظ ما تكفل بحفظه أن يعملوا ما من شأنه في العادة حفظ ذاك الشيء، وأنه لا تنافي بين الأمرين، وفي جامع الترمذي و"المستدرك" وغيرها عن أبي خزامة عن أبيه قال:"قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقي بها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: هو من قدر الله".
فأما القرآن فأمروا بحفظه بطريقين:
الأولى: حفظ الصدور، وعليها كان اعتمادهم في الغالب.
الثانية: بالكتابة، فكان يكتب في العهد النبوي في قطع صغيرة من جريد النخل وغيرها، فلما غزا المسلمون اليمامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل استحر القتل بالقراء قبل أن يأخذ عنهم التابعون، فكان ذلك مظنة نقص في الطريق الأولى، فرأى عمر المبادرة إلى تعويض ذلك بتكميل الطريق الثانية، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن في صحف، فنفر منه أبو بكر وقال:"كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " فقال عمر: "هو والله خير" يريد أنه عمل يتم به مقصود الشرع من حفظ القرآن، وعدم
فعل النبي صلى الله عليه وسلم له إنما كان لعدم تحقق المقتضى وقد تحقق، ولا يترتب على الجمع محذور، فهو خير محض.
فجمع القرآن بها صحف بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان في خلافته وكتب المصاحف.
ومعنى هذا أنه طول تلك المدة لم تبد حاجة إلى تلك الصحف بل بقي القراء يبلغون القرآن من صدورهم ومنهم من كتب من صدره مصحفًا لنفسه، فلما كان في زمن عثمان احتيج إلى تلك الصحف لاختيار الوجه الذي دعت الحاجة إلى قصر الناس على القراءة به دون غيره - وكتب عثمان بضعة مصاحف وبعث بها إلى الأمصار لا لتبليغ القرآن بل لمنع أن يقرأ أحد بخلاف ما فيها. هذا شأن القرآن.
فأما السنة فمخالفة لذلك في أمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعن بكتابتها بل اكتفى بحفظهم في صدورهم وتبليغهم منها أي بنحو الطريق الأولى في القرآن.
الثاني: أنها كانت منتشرة لا يمكن جمعها كلها بيقين.
الثالث: أنه لم يتفق لها في عهد الصحابة ما اتفق للقرآن إذ استحر القتل بحفاظه من الصحابة قبل أن يتلقاه التابعون، فإن الصحابة كانوا كثيرًا ولم يتفق أن استحر القتل بحفاظ السنة منهم قبل تلقي التابعين.
الرابع: أنهم كانوا إذا هَمُّوا بجمعها رأوا أنه لن يكون كما قال عمر في جمع القرآن: "هو والله خير" أي خير محض لا يترتب عليه محذور.
كانوا يرون أنه يصعب جمعها كلها، وإذا جمعوا ما أمكنهم خشوا أن يكون ذلك سببًا لرد من بعدهم ما فاتهم منها، وقد مَرَّ (ص 24) عن أبي بكر في سبب تحريقه ما كان جمعه منها:"أو يكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي على أبي بكر".
وخشوا أيضًا من جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن أن يقبل الناس على تلك الكتب ويدَعُوا القرآن لما مَرَّ (ص 25) عن عمر و (ص 27) عن أبي موسى، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها بطريق الرواية ويأكلوها إلى حفظ الله تعالى الذي يؤمنون به.
ثم ذكر (ص 26) أشياء قد تقدم الجواب عنها.
ثم قال: "وكون التابعين لم يدونوا الحديث إلا بأمر الأمراء".
أقول: وجمع القرآن إنما كان بأمر الأمراء أبي بكر وعمر وعثمان، فإن قيل: هم أمراء المؤمنين وأئمة في العلم وأئمة في التقوى، قلنا: فعمر بن عبد العزيز كذلك في هذا كله وهو الآمر بالتدوين، وتبعه الخلفاء بعده.
قال: "يؤيد ما ورد أنهم كانوا [قبل ذلك] يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه".
أقول: هذه حال بعضهم، وقد تقدم (ص 27 - 28) أن جماعة كانوا يكتبون ويبقون كتبهم.
قال: "وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه".
أقول: سيأتي رد هذا مفصلًا، والتحقيق أن بعض كبار الصحابة يرون أن تبليغ الأحاديث إنما يتعين عند وقت الحاجة، ويرون أنهم إذا بلغوا بدون حضور حاجة فقد يكون منهم خطأ ما قد يؤاخذون به، بخلاف ما إذا بلغوا عند حضور الحاجة فإن ذلك متعين عليهم، فإما أن يحفظهم الله تعالى من الخطأ، وإما أن لا يؤاخذهم، ولهذا رويت الأحاديث عنهم كلهم، ولم ينقل عن أحد منهم أنه كان عنده حديث فتحققت الحاجة إلى العمل به فلم يحدث به.
وكان جماعة آخرون من الصحابة يحدثون وإن لم تتحقق حاجة، يرون أن التبليغ قبل وقت الحاجة مرغب فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"حدثوا عني ولا حرج" وغير ذلك من الأدلة الداعية إلى نشر العلم وتبليغ السنة. ولكل وجهة، وكلهم على خير، على أنه لما قَلَّ الصحابة رجحت كفة الفريق الثاني.
قال: "بل في نهيهم عنه".
أقول: لم ينهوا، وكيف ينهون وما من أحد منهم إلا وقد حدث بعدد من الأحاديث، أو سأل عنها، وإنما جاء عن عمر أنه نهى عن الإكثار، ومرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: استحباب أن لا يكون التحديث إلا عند حضور الحاجة.
الثاني: ما صرح به من إيثار أن لا يشغل الناس -يعني بسماع الأحاديث دون حضور حاجة- عن القرآن.
وجاء عنه كما يأتي: "أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به" والعمل في كلامه مطلق، يَعُمُّ العبادات والمعاملات والآداب، لا كما يهوى أبو رية.
قال: "قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن".
أقول: هذه نظريته القائلة: "دين عام ودين خاص" والذي يظهر من كلماته أن الدين العام الدائم هو الدين الحقيقي اللازم وأنه كما عبر عنه فيما مضى (ص 15)"المتفق عليه" وعلى هذا فمقصوده أن ما ذكر هنا يقوي عند مخاطبه أن الصحابة كانوا لا يوجبون العمل بالأحاديث الثابتة عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قدرًا يسيرًا هو الذي اتفقوا ووافقهم بقية الأمة بعدهم على العمل به، وأن ما زاد على ذلك فالأمر فيه على الاختيار من شاء أخذ، ومن شاء ترك، بل إنهم كانوا يرون من الخير إماتة تلك الأحاديث!
فإن كان هذا مراده فبطلانه معلوم من الدين قطعًا. وحسبك أنه لم يجد أحدًا من علماء الأمة ينسب إليه هذا القول بحق أو باطل سوى ما مَرَّ (ص 15) من نسبته أو نحوه إلى الغزالي، وقدمنا بيان بطلان تلك النسبة.
هذا ونصوص الكتاب والسنة والمتواتر عن الصحابة وإجماع علماء الأمة، كل ذلك يبطل قوله هذا قطعًا، على أن نظريته هذه لا تقتصر على إهمال الأحاديث الصحيحة بل تتضمن كما تقدم (ص 15) إهمال دلالات القرآن التي نقل ما يخالفها عن بعض من نسب إلى العلم ولو واحدًا فقط، فعلى زعمه: دلالات القرآن الظاهرة والأحاديث الصحيحة ولو رواها عدد من الصحابة لا يلزم المسلم أن يعمل بشيء منها قد نُقل عن منسوب إلى العلم ما يخالفه وإن كان الجمهور على وفق ذلك الدليل، كأن عنده أن العالم إن خالف الدليل فهو معصوم من أن يغلط أو يغفل أو يزل أو يضل، وإن وافق الدليل فليس بمعصوم، هذا حكمهم غير متفقين، فأما إذا اتفقوا فهم معصومون إلا في مخالفتهم لنظريته هذه.
قال: "ولو كانوا فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لكتبوا أو لأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها".
أقول: قد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يكتب مصحفًا، وأن أبا بكر وعمر وعثمان مدة من ولايته لم يكتبوا إلا مصحفًا واحدًا بقي عندهم لا يكاد يصل إليه أحد، فما بالك بالإرسال إلى العمال، وإن عثمان إنما كتب وبعث بضعة مصاحف إلى بعض الأقطار لمنع الناس من القراءة بخلاف ما فيها، وقد علمنا أنه لم يحفظ القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفر يسير، أربعة أو نحوهم، وذكر ابن سعد وغيرهم أن أبا بكر وعمر ماتا قبل أن يحفظا القرآن كله.
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر جماعة من العمال لم يحفظ كل منهم القرآن كله ولا كان عنده مصحف، فهل يقال لهذا: إن القرآن لم يكن حينئذ من الدين العام؟ نعم كان العامل يحفظ طائفة من القرآن ويعلم جملة من السنة، فكان يبلغ هذا وهذا.
ومن عرف وضع الشريعة عرف الحقيقة: إن وضع الشريعة عدم الإعنات، وتوجيه معظم العناية إلى التقوى.
كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هاجروا من مكة إلى الحبشة، ونزل بعدهم قرآن وأحكام، وجعلت كل من الظهر والعصر والعشاء أربعًا بعد أن كانت ركعتين، وحولت القبلة وغير ذلك، فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عقب تجدد حكم من هذه وغيرها يبعث رسلًا إلى من بالحبشة أو إلى غيرهم ممن بعد عنه يبلغهم ذلك، بل كان يدعهم على ما عرفوا حتى يبلغهم ما تجدد اتفاقًا.
وجاء أنه صلى الظهر إلى الكعبة أول ما صلى إليها، فخرج ممن كان معه لحاجته فمَرَّ وقت العصر ببني حارثة -وهم في بعض أطراف المدينة- وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأخبرهم فاستداروا إلى الكعبة فأتموا صلاتهم. وهكذا تحريم الكلام في الصلاة وتحريم الخمر.
ومن المتفق عليه فيما أعلم أنه ليس واجبًا على الأعيان حفظ القرآن سوى الفاتحة، ولا تعلم القراءة والكتابة واتخاذ مصحف، ولا يجب على الرجل أن يتعلم الفريضة إلا قرب العمل بها، وإنما الواجب أن يكون في الأمة علماء ثم على العامي أن يسأل عالمًا ويعمل بفتواه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه يكتفى في العامل أن يكون -مع حفظه لما شاء الله من القرآن- عارفًا بطائفة حسنة من السنة ثم يقال له: إذا لم تجد الحكم في الكتاب والسنة فأسأل من ترجو أن يكون عنده علم، فإن لم تجد فاجتهد رأيك، وقد كان أبو بكر وعمر إذا لم يجدا الحكم في الكتاب ولا فيما يعلمانه من السنة سألا الصحابة فإذا أُخبرا بحديث أخذا به، وربما أخبرهما من هو دونهما في العلم والفضل بكثير.
وترى في رسالة الشافعي عدة قضايا لعمر من هذا القبيل.
وإذ كان الواجب على الأمة أن يكون فيها علماء، كل منهم عارف بالقرآن، عارف بجملة حسنة من السنة؛ ليعمل ويفتي ويقفيى بما علم، ويسأل من تيسر له من العلماء عما لم يعلم، فإن لم يجد اجتهد: فقد كان الصحابة يعلمون أن منهم عددًا كثيرًا هكذا، وأن من تابعيهم عددًا كثيرًا كذلك لا يزالون في ازدياد، وأن حال من بعدهم سيكون كذلك، وأن القرآن والسنة موجودان بتمامهما عند أولئك العلماء، ما فات أحدهم منهما فموجود عند غيره، رأوا أن هذا كافٍ في أداء الواجب عليهم مع الإيمان التام بأن الله تعالى حافظ لشريعته.
نعم، فكَّروا في الاحتياط لجمع السنة فعرض لهم خشية أن يؤدي ذلك إلى محذور كما مَرَّ فكفّوا عنه؛ مكتفين بما ظهر لهم من حرص المسلمين وما آمنوا به من حفظ رب العالمين.
وغاية ما يُخشى بعد هذا أن يجهل العالم شيئًا من السنة ولا يتيسر له من يخبره بها فيجتهد فيخطىء، وهذا في نظر الشرع ليس بمحذور كما علم مما مَرَّ في حال من كان من المسلمين بعيدًا عن المدينة؛ إذ بقوا مدة يصلون الرباعية ركعتين، ويتكلمون في الصلاة، ويصلون إلى بيت المقدس، ويستحلون الخمر بعد نزول الأحكام المخالفة لذلك حتى بلغتهم.
وكما أذن الله تعالى أن يبني المسلم على ظنه وإن اتفق له أن ينكح أخته وهو لا يدري، وأن يقتل مسلمًا يحسبه كافرًا، وأن يأكل لحمًا يظنه حلالًا فبان لحم خنزير أو ميتة وغير ذلك، إنما المحذور أن تدع الدليل الشرعي عمدًا اتباعًا منك لقول عالم قد يجهل ويذهل ويغفل ويغلط ويزل.
وأشد من ذلك وأضر وأدهى وأمَرّ ما يقول صاحب تلك النظرية: إن الدليل الشرعي إذا وُجد قولٌ لعالمٍ يخالفه ينزل بذلك عن الدين العام اللازم إلى الدين الخاص
الاختياري، من شاء أخذ ومن شاء ترك، ومن خالف كل دليل من هذا القبيل مع علمه بها وعقله لها واقتصر على ما لم يخالفه أحد "كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى" كما تقدم عنه (ص 16)، فهذا هو المحذور عند من يعقل.
قال: "وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية".
أقول: قد عرفت الحقيقة ولله الحمد، وعرفت ما هو الساقط.
قال: "وإذا أضفت إلى ذلك حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث".
أقول: كان عليه أن يبينها، فإن كان يريد مطاعن الرافضة في أمير المؤمنين عمر فجوابها في "منهاج السنة" وغيره، ويكفينا هنا أن نسأله: هل علمت عمر ثبت عنده حديث فتركه لغير حجة قائلًا: لا يلزمنا الأخذ بالأحاديث؟
قال: "ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قَلَّ، وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه".
أقول: لزم أبو حنيفة حماد بن أبي سليمان يأخذ عنه مُدَّة، وكان حماد كثير الحديث، ثم أخذ عن عدد كثير غيره كما تراه في مناقبه، وقلة الأحاديث المروية عنه لا تدل على قلة ما عنده؛ ذلك أنه لم يتصد للرواية، وقد قدمنا أن العالم لا يُكلَّف جمع السنة كلها، بل إذا كان عارفًا بالقرآن وعنده طائفة صالحة من السنة بحيث يغلب على اجتهاده الصواب كان له أن يفتي، وإذا عرضت قضية لم يجدها في الكتاب والسنة سأل من عنده علم بالسنة، فإن لم يجد اجتهد رأيه.
وكذلك كان أبو حنيفة يفعل، وكان عنده في حلقته جماعة من المكثرين في الحديث كمسعر وحبان ومندل، والأحاديث التي ذكروا أنه خالفها قليلة بالنسبة إلى ما وافقه، وما
من حديث خالفه إلا وله عذر لا يخرج إن شاء الله عن أعذار العلماء، ولم يَدَّعِ هو العصمةَ لنفسه ولا ادعاها له أحد، وقد خالفه كبار أصحابه في كثير من أقواله.
وكان جماعة من علماء عصره ومن قرب منه ينفرون عنه وعن بعض أقواله، فإن فرض أنه خالف أحاديث صحيحة بغير حجة بينة فليس معنى ذلك أنه زعم أن العمل بالأحاديث الصحيحة غير لازم، بل المتواتر عنه ما عليه غيره من أهل العلم أنها حجة، بل ذهب بلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء اتباعًا لحديث ضعيف (1) ومن ثم ذكر أصحابه أن من أصله تقديم الحديث الضعيف -بله الصحيح- على القياس.
قال: "قوي عندي ذلك الترجيح".
أقول: أما عند من يعرف دينه فهيهات.
قال: "بل تجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به لم يتفقوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة -ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية- فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفًا لأصول الدين".
أقول: أما ما اعترفت به من اتفاقهم على أن الأحاديث الصحيحة أصل من أصول الأحكام الشرعية، فحجة عليك وعليهم مضافة إلى سائر الحجج.
وأما عدم اتفاقهم على تحرير الصحيح وعدم اتفاقهم على العمل به فإنما حاصله أنهم يختلفون في صحة بعض الأحاديث، وذلك قليل بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، ويتوقف بعضهم عن الأخذ ببعضها بدعوى أنه منسوخ أو مؤول أو مرجوح، وليس في ذلك مخالفة للأصل الذي اتفقوا عليه.
(1) وذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" مسائل أخرى لأبي حنيفة من هذا القبيل وكذلك غيره.
فإن قيل: منهم من يتعمد رد الصحيح بدعوى ضعفه أو نسخه أو تأويله أو رجحان غيره عليه وهو يعلم أنه لا شيء من ذلك.
قلنا: لنا الظاهر والله يتولى السرائر - على أنهم قد تراموا بهذا زمنًا طويلًا وجرت فتن وحروب ثم ملوا فمالوا إلى التجامل وحسن الظن غالبًا.
وعلى كل حال فلا متشبث لك فيما ذكر، والفرق واضح بين من يستحل معلنًا قتل المؤمنين بغير حق، ومن يقول: قتل المؤمن حرام، ثم يتفق له أن يقتل مؤمنًا قائلًا: حسبته كافرًا حربيًّا، وإن فرض دلالة القرائن على كذبه.
قال: "وقد أورد ابن القيم في "إعلام الموقعين" شواهد كثيرة جدًّا من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملًا بالقياس ولغير ذلك".
أقول: القياس في الجملة دليل شرعي، وعلى كل حال فلا متنفس لك في ذلك كما مَرَّ.
قال: "ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا".
أقول: نصف عليك، ونصف ليس لك.
ثم ذكر أبو رية (ص 27 - 28) كلامًا قد تقدم جوابه مستوفى ولله الحمد. اهـ.
هذا آخر ما حرره الشيخ المعلمي في هذه القضية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
* * *