الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الرابع
التهمة بالكذب
قال الشيخ المعلمي في القاعدة الثانية من "التنكيل":
"تقدم أن أشدَّ موجباتِ ردِّ الراوي كذبُه في الحديث النبوي، ثم تهمتُه بذلك، وفي درجتها كذبُه في غير الحديث النبوي، فإذا كان في الرواية والجرح والتعديل بحيث يترتب عليه من الفساد نحو ما يترتب على الكذب في الحديث النبوي، فهو في الدرجة الأولى، فالتهمة به في الدرجة الثانية أو الثالثة.
وقد ذكر علماء الحديث بعد درجة الكذب في الحديث النبوي ودرجة التهمة به درجتين، بل درجات، ونصوا على أن من كان من أهل درجة من الأربع الأولى فهو ساقط البتة في جميع رواياته، سواء منها ما طُعن فيه بسببه وغيره.
…
وينبغي أن يعلم أن التهمة تقال على وجهين:
الأول: قول المحدثين (فلان متهم بالكذب).
وتحرير ذلك أن المجتهد في أحوال الرواة قد يثبت عنده بدليل يصح الاستناد إليه أن الخبر لا أصل له، وأن الحمل فيه على هذا الراوي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى النظر في الراوي: أتعمد الكذب أم غلط؟ فإذا تدبر وأنعم النظر، فقد يتجه له الحكم بأحد الأمرين جزمًا، وقد يميل ظنه إلى أحدهما، إلا أنه لا يبلغ أن يجزم به.
فعلى هذا الثاني إذا مال ظنه إلى أن الراوي تعمد الكذب قال فيه: (متهم بالكذب) أو نحو ذلك مما يؤدي هذا المعنى.
ودرجة الاجتهاد المشار إليه لا يبلغها أحد من أهل العصر فيما يتعلق بالرواة المتقدمين، اللهم إلا أن يَتهم بعض المتقدمن رجلًا في حديثٍ يزعم أنه تفرد بمع فيجد له
بعض أهل العصر متابعات صحيحة، وإلا حيث يختلف المتقدمون فيسعى في الترجيح، فأما من وثقه إمام من المتقدمين أو أكثر ولم يتهمه أحد من الأئمة فيحاول بعض أهل العصر أن يكذبه أو يتهمه فهذا مردود؛ لأنه إن تهيأ له إثباتُ بطلان الخبر عن ذلك الراوي ثبوتًا لا ريب فيه فلا يتهيأ له الجزم بأنه تفرد جمع ولا أن شيخه لم يروه قط، ولا النظر الفني الذي يحق لصاحبه أن يجزم بتعمد الراوي للكذب أو يتهمه به.
بلى قد يتيسر بعض هذه الأمور فيمن كذبه المتقدمون، لكن مع الاستناد إلى كلامهم، كما يأتي في ترجمة أحمد بن محمد بن الصلت، وترجمة محمد بن سعيد البورقي.
وإن كان الأستاذ -يعني الكوثري- يخالف في ذلك؛ فيصدق من كذبه الأئمة وكذبُه واضحٌ، كما يكذب أو يتهم من صدقوه وصدقُه ظاهرٌ، شأن المحامين في المحاكم؛ معيار الحق عند أحدهم مصلحة موكله!
…
الوجه الثاني: مقتضى اللغة، والتهمة عند أهل اللغة مشتقة من الوهم، وهو كما في (القاموس):(من خطرات القلب أو مرجوح طرفي المتردد فيه).
والتهمة بهذا المعنى تعرض في الخبر إذا كان فيه إثبات ما يظهر أن المخبر يحب أن يعتقد السامع ثبوته؛ وذلك كشهادة الرجل لقريبه وصديقه وعلى من بينه وبينه نفرة، وكذلك إخباره عن قريبه أو صديقه بما يحمد عليه، وإخباره عمن هو نافر عنه بما يذم عليه.
وقِسْ على هذا كُلَّ ما من شأنه أن يدعو إلى الكذب، وتلك الدواعي تخفى وتتفاوت آثارها في النفوس وتتعارض، وتعارضها الموانع من الكذب، وقد تقدمت الإشارة إليها في الفصل الخامس، فلذاك اكتفى الشارع في باب الرواية بالإسلام والعدالة والصدق، فمن ثبتت عدالته وعُرف بتحري الصدق من المسلمين، فهو على العدالة والصدق في أخباره، لا يقدح في إخباره أن يقوم بعض تلك الدواعي، ولا أن يتهمه
من لا يعرف عدالته، أو لا يعرف أثر العدالة على النفس أو من له هوى مخالف لذلك الخبر، فهو يتمنى أن لا يصح، كما قال المتنبي:
شقّ الجزيرة حتى جاءني نبأ
…
فزعت منه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع إلى صدقه أملًا
…
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وكأنه أخذه من قول الأول:
إني أتتني لسان ما أسر بها
…
من علو لا عجب فيها ولا سخر
جاءت مرجة قد كنت أحذرها
…
لو كان ينفعني الإشفاق والحذر
تأتي على الناس لا تلوي على
…
حتى أتتنا وكانت دوننا مضر
إذا يعادُله ذكر أكذبه
…
حتى أتتني بها الأنباء والخبر
وجماعة من الصحابة روى كل منهم فضيلةً لنفسه، يرون أن على الناس قبول ذلك منهم، فتلقت الأمة ذلك بالقبول، وكان من الصحابة والتابعين يقاتلون الخوارج، ثم روى بعض أولئك التابعين عن بعض أولئك الصحابة أحاديث في ذم الخوارج، فتلقت الأمة تلك الأحاديث بالقبول.
وكثيرًا ما ترى في تراجم ثقات الرواة من التابعين فمن بعدهم إخبار الرجل منهم بثناء غيره عليه، فيتلقى أهل العلم ذلك بالقبول، وقبلوا من الثقة دعواه ما يُمكن من صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لأصحابه أو إدراكه لكبار الأئمة وسماعه منهم وغير ذلك مما فيه فضيلة للمدعي وشرف له وداع للناس إلى الإقبال عليه وتبجيله والحاجة إليه.
ولم يكن أهل العلم إذا أرادوا الاستيثاق من حال الرواي يسألون إلا عما يمسّ دينه وعدالته.
ونص أهل العلم على أن الرواية في ذلك مخالفة للشهادة، وفي (التحرير) لابن الهمام الحنفي مع (شرحه) لابن أمير حاج (جـ 3 ص 245):(وأما الحرية والبصر وعدم الحد في قذف) وعدم (الولاد و) عدم (العداوة) الدنيوية (فتختص بالشهادة) أي تُشترط فيها، لا في الرواية).
فأما الشهادة فإن الشرع شرط لها أمورًا أخرى مع الإسلام والعدالة كما أشار إليه ابن الهمام، وشرط في إثبات الزنا أربعة ذكور، وفي غيره من الحدود ونحوها ذكرين، وفي الأموال ونحوها رجلا وامرأتين إلى غير ذلك.
فأما الشهادة للنفس فمتفق على أنها لا تُقبل، وأما الشهادة للأصل وللفرع وللزوج وعلى العدو ففيها خلاف، وفي بعض كتب الفقه أن الرد في ذلك لأجل التهمة، وظاهر هذا أن التهمة هي العلة، فيبني عليها قياس غير المنصوص عليه، وهذا غير مستقيم؛ إذ ليس كل شاهدٍ لنفسه حقيقا بأن يُتهم؛ ألا ترى أن كبار الصحابة وخيار التابعين لو شهد أحدهم لنفسه لم نتهمه، ولا سيما إذا كان غنيًا والمشهود به يسيرًا كخمسة دراهم، والمشهود عليه معروفًا بجحد الحقوق.
أقول هذا لزيادة الإيضاح، وإلا فالواقع أننا لا نتهمهم مطلقًا، حتى لو شهد أحدهم لنفسه على آخر منهم وأنكر ذاك لم نتهم واحدًا منهما، بل نعتقد أن أحدهما نسي أو غلط، وليس ذلك خاصًا بهم، بل كل من ثبتت عدالتُه لا يتهمه عارفوه الذين يعدلونه ولا الواثقون بتعديل المعدلِّين، فإن اتهمه غيرهم كان معنى ذلك أنه غير واثق بتعديل المعدلِّين، ومتى ثبت التعديل الشرعي لم يُلتفت إلى من لا يثق به.
ولو كان لك أن تعدل الرجل وأنت لا تأمن أن يدعي الباطل ويشهد لنفسه زورًا بخمسة دراهم مثلًا، لكان لك أن تعدل من تتهمه بأنه لو رشاه رجل عشرة دراهم أو أكثر لشهدوا له زورًا، وهذا باطل قطعًا؛ فإن تعديلك للرجل إنما هو شهادة منك
له بالعدالة، والعدالة (ملكة تمنع صاحبها من اقتراف الكبائر وصغائر الخسة
…
) فكيف يسوغ لك أن تشهد بهذه الملكة لمن تتهمه بما ذُكر؟
ولو كان كل عدل حقيقًا بأن يتهمه عارفوه بنحو ما ذُكر لما كان في الناس عدل، وفي أصحابنا من لا نتهمه في شهادته ولو حصل له بسببها مائة درهم أو أكثر؛ كأن يدعي صاحبنا على فاجر بمائة درهم فيجحده، ثم تتفق للفاجر خصومة أخرى فيجيء إلى صاحبنا فيقول له: أنت تعرف هذه القضية، فاحضر فاشهد بما تعلم، فيقول صاحبنا: نعم أنا أعرفها ولكنك ظلمتني مائة درهم فأدِّها إليَّ إن أردتَّ أن أشهد، فيدفع له مائة درهم، فيذهب فيشهد، فإننا لا نتهم صاحبنا في دعواه ولا شهادته.
وفي أصحابنا من لو ائتمن على مئات الدراهم، ثم بعد مدة ادعى ما يحتمل من تلفها أو أنه ردها على صاحبها الذي قد مات لما اتهمناه، نعم قد يتهمه من لا يعرفه كمعرفتنا، أو من لا يعرف قدر تأثير الموانع عن الخيانة في نفس من قامت به، فالفاسق المتهتك لا يعرف قدر العدالة، فتراه يتهم العدول، ولا يكاد يعرف عدالتهم ولو كانوا جيرانه.
فإن قيل: يكفي في التعليل أن ذلك مظنة التهمة، ولا يضر تخلفها في بعض الأفراد، كما قالوا في قصر الصلاة في السفر أنه لأجل المشقة وإن تخلفت المشقة في بعض المسافرين كالمَلِك المترفه.
قلت: العلة في قصر الصلاة هي السفر بشرطه، لا المشقة، فكذلك تكون العلة في رد الشهادة للنفس هي أنها شهادة للنفس أو دعوى، كما يومىء إليه حديث: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعي ناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالهم
…
" (1)
(1) أخرجه البخاري (4187) ومسلم (3228) واللفظ له من حديث أبي هريرة مرفوعًا.
فعلى هذا لا يتأتى القياس؛ ألا ترى أن في أعمال العمال المقيمين ما مشقته أشد من مشقة السفر العادي، ذلك كالعمل في المناجم ونحوها، ومع ذلك ليس لهم أن يقصروا الصلاة. فإن قيل: الشهادة للأصل والفرع مظنة للتهمة كما أن الشهادةَ للنفس مظنة لها، قلت: فالعمل في المناجم مظنة للمشقة، بل المشقة فيه أشق وأغلب، والتهمة في الشهادة للأصل أو الفرع أضعف وأقل من التهمة في الشهادة للنفس، وقد يكون الرجل منفردًا عن أصله أو فرعه وبينهما عدواة.
والشافعي ممن يقول برد الشهادة للأصل والفرع، ولم يعرج على التهمة، ولكنه لما علم أن جماعة ممن قبله ذهبوا بلى الرد، ولم يعلم لهم مخالفًا هاب أن يقول ما لا يعلم له فيه سلفًا، فحاول الاستدلال بما حاصله أن الفرع من الأصل فشهادة أحدهما للآخر كأنها شهادة لنفسه، ثم قال كما في (الأم) (ج 7 ص 42):(وهذا مما لا أعرف فيه خلافًا) كأنه ذكر هذا تقوية لذاك الاستدلال واعتذارًا عما فيه من الضعف، ولما علم بعض حذاق أصحابه كالمزني وأبي ثور أن هناك خلافًا ذهبوا إلى القبول.
وليس المقصود هنا إبطال القول برد الشهادة للأصل والفرع والزوج، وإنما المقصود أن الاستدلال عليه بقياس مبني على أن التهمة علة غير مستقيم.
فأما الشهادة على العدو فالقائلون أنها لا تُقبل يخصون ذلك بالعداوة الدنيوية التي تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، فأما العداوة الدينية والدنيوية التي لم تبلغ ذاك فلا تمنع من القبول عندهم.
والمنقول عن أبي حنيفة كما في كتب أصحابه أن العداوة لا تقتضي رد الشهادة إلا أن تبلغ أن تسقط بها العدالة.
أقول: وإذا بلغت ذلك لم تُقبل شهادة صاحبها حتى لعدوه على صديقه، ويقوي هذا القول أن القائلين بعدم القبول يشرطون أن تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه،
وهذا يتمنى أن يفرح لذبح أطفاله ظلمًا والزنا ببناته وارتداد زوجاته ونحو ذلك، وقِسْ على ذلك الحزن لفرحه، وهذا مسقط للعدالة حتمًا.
فإن قيل: قد يفرح بذلك من جهة أنه يحزن عدوه، ومع ذلك يحزن من جهة مخالفته للدين، قلت: إن لم يغلب حزنُه فرحَه فليس بعدل، وإن غلب فكيف يظن به أن يوقع نفسه في شهادة الزور التي هي من أكبر الكبائر وفيها أعظم الضرر على نفسه في دينه، ولا يأمن من أن يلحقه لأجلها ضرر شديد في دنياه، كل ذلك ليضر المشهود عليه في دنياه ضررًا قد يكون يسيرًا كعشرة دراهم.
وهَبْهُ صحَّ الردُّ بالعدواة مع بقاء العدالة، فالقائلون بذلك يشرطون أن تكون عداوة دنيوية تبلغ أن يحزن لفرحه ويفرح لحزنه، وهذا لا يتأتى للأستاذ -يعني الكوثري- إثباته في أحدٍ ممن يتهمهم؛ لأنه إن ثبت انحرافهم عن أبي حنيفة وأصحابه وثبت أن ذلك الانحراف عداوة فهو عداوة دينية، وهَبْ أنه ثبت في بعضهم أنها عداوة دنيوية، فلا يأتي للأستاذ إثبات بلوغها ذاك الحد، أي أن يحزن لفرحه ويفرح لحزف وهَبْهُ بلغ فقد تقدم أن الرواية لا ترد بالعدواة.
هذا على فرض مجامعة ذلك للعدالة، وإلا فالرد لعدم العدالة.
وأما ما ذكره الشافعي في أصحاب العصبية، فالشافعي إنما عني العصبية لأجل النسب، كما هو صريح في كلامه، وذلك أمر دنيوي، وكلامه ظاهر في أنها بشرطها تسقط العدالة، ولا ريب أنه إذا بلغت العصبية أو العداوة إسقاط العدالة لم تُقبل لصاحبها شهادة ولا رواية البتة، سواء أكانت دنيوية أم مذهبية أم دينية؛ كمن يُسرف في الحنق على الكفار، فيتعدى على أهل الذمة والأمان بالنهب والقتل ونحو ذلك، بل قد يكفر.
فقد اتضح بما تقدم الجواب عن بعض ما يمكن التشبث به في رد رواية العدل، وبقي حكايةٌ عن شريك ربما يؤخذ منها أنه قد يقبل شهادة بعض العدول في القليل ولا يقبلها في الكثير، وفرع للشافعي قد يتوهم فيه نحو ذلك، وما يقوله أصحاب الحديث في رواية المبتدع، وما قاله بعضهم في جرح المحدث لمن هو ساخط عليه.
فأما الحكاية عن شريك فمنقطعة، ولو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه، فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما، وإنما عدَّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة، وقد بيَّن أهل العلم أن مثل هذا إنما يقتضي التروي والتثبت، فإذا تروى وبقيت الحال كما كانت، وجب عليه أن يقضي بتلك الشهادة ويعرض عما في نفسه.
وأما الفرع المذكور عن الشافعي فليس من ذاك القبيل، وإنما هو من باب الاحتياط للتعديل، ومع ذلك فقد ردَّه إمام الحرمين، وقال: إن أكثر الأئمة على خلافه.
وأما رواية المبتدع، وجرح المحدث لمن هو ساخط عليه، فأُفرد كلا منهما بقاعدة. اهـ.
* * *