الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
في ذم الكذب
تكلم العلامة المعلمي في الفصل الخامس من مقدمة "التنكيل" على طوائف: أهل الرأي، وغلاة المقلدين في فروع الفقه، والمتكلمين، وذكر شيئا من نشأتها وخصائصها - لاسيما الأولى والأخيرة، ثم قال:
ومع هذا كله فغالب أصحاب الرأي وغلاة المقلدين وأكثر المتكلمين لم يُقدموا على اتهام الرواة الذين وثقهم أهل الحديث، وإنما يَحملون على الخطأ والغلط والتأويل، وذلك معروف في كتب أصحاب الرأي المقلدين، أما الأستاذ -يعني الكوثري- فبرز على هؤلاء جميعًا!
وأما كُتَّاب العصر فإنهم مقتدون بكُتَّاب الإفرنج الذين يتعاطون النظر في الإسلاميات ونحوها، وهم مع ما في نفوسهم من الهوى والعداء للإسلام إنما يعرفون الدواعي إلى الكذب ولا يعرفون معظم الموانع منه.
فمن الموانع: التدين والخوف من رب العالمين الذي بيده ملكوت الدنيا والآخرة. وقد قال سبحانه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ} [النحل: 105].
وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "علامة المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حَدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف" وإخلاف الوعد أغلب ما يكون إذا كان الوعد كذبًا، والخيانة تعتمد الكذب كما لا يخفى. وقال أبو بكر الصديق:"الكذب مجانب للإيمان".
فأما توهم حِلّ الكذب في مصلحة الدين فلا يكون إلا من أجهل الناس وأشدهم غفلة؛ لأن حظر الكذب مطلقًا هو من أظهر الأحكام الشرعية.
وأولئك الكُتَّاب لا يعرفون هذا المانع لأنهم لا يجدونه في أنفسهم ولا يجدون فيمن يخالطونه مَنْ تقهرهم سيرته على اعتقاب اتصافه بهذا المانع لضعف الإيمان في غالب الناس ورقة التدين.
ولا يعرفون من أحوال سلف المسلمين ما يقهرهم على العلم باتصافهم بذلك المانع؛ لأنهم إنما يطالعون التواريخ وكتب الأدب كـ "الأغاني" ونحوها، وهذه الكتب يكثر فيها الكذب والحكايات الفاجرة
…
ولو عكف أولئك الكُتَّاب على كتب السُّنَّة ورجالها وأخبارهم لعلموا أن هذه الطائفة، وهي طائفة أصحاب الحديث، كان ذلك المانع غالبًا فيهم
…
ومن الموانع: خوف الضرر الدنيوي، وأولئك الكُتَّاب يعرفون شرط هذا المانع وهو الضرر الماديّ، فإنهم يعلمون أن أرباب المصانع والمتاجر الكبيرة يتجنبون الخيانة والكذب في المعاملات خوفًا من أن يسقط اعتماد المعاملين عليهم فيعدلوا إلى معاملة غيرهم
…
فأما الشطر المعنوي فإن أولئك الكُتَّاب لا يقدرون قدره.
فأقول: كان العرب يحبون الشرف ويرون أن الكذب من أفحش العيوب المسقطة للرجل، وفي أوائل "صحيح" البخاري في قصة أبي سفيان بن حرب: "أن هرقل لما جاء كتاب النبي صلى الله عليه وسلم دعا بمن كان بالشام من تجار قريش، فأتي بأبي سفيان ورهط معه قال: دعاهم ودعا ترجمانه فقال: أيكم أقربهم نسبًا، قال: أدنوه مني، قربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كَذَبَني فَكَذِّبُوه قال: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبًا لكذبت عليه
…
".
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وفي قوله: يأثروا دون قوله: يكذبوا دليل على أنه كان واثقًا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب؛ لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه ترك ذلك استحياءً وأَنَفَةً من أن يتحدثوا بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابًا، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك".
أقول -المعلمي: وهذا هو الذي أراده هرقل، ثم جاء الإسلام فشدّد في تقبيح الكذب جدًّا حتى قال الله عز وجل:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105].
وتوهَّم رجل من صغار الصحابة أمرًا فأخبر بما توهمه وما يقتضيه ففضحه الله عز وجل إلى يوم القيامة إذ أنزل فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
ثم كان الصحابي يرى من إكرام التابعين له وتوقيرهم وتبجيلهم ما لا يخفى أثره على النفس ويعلم أنه إن بان لهم منه أن كذب كذبة سقط من عيونهم مقتوه واتهموه بأنه لم يكن مؤمنًا وإنما كان منافقًا.
وقد كان بين الصحابة ما ظهر واشتهر من الاختلاف والقتال، ودام ذلك زمانا ولم يبلغنا عن أحدٍ منهم أنه رمى مخالفه بالكذب في الحديث.
وكان التابعون إذا سمعوا حديثًا من صحابي سألوا عنه غيره من الصحابة ولم يبلغنا أن أحدًا منهم كذب صاحبه، غاية الأمر أنه قد يخطئه
…
ثم كان الرجل من أصحاب الحديث يرشح لطلب الحديث وهو طفل، ثم ينشأ دائبًا في الطلب والحفظ والجمع ليلًا ونهارًا أو يرتحل في طلبه إلى أقاصي البلدان، ويقاسي المشاقَّ الشديدة كما هو معروف في أخبارهم، ويصرف في ذلك زهرة عمره إلى نحو ثلاثين أو أربعين سنة وتكون أمنيته الوحيدة من الدنيا أن يقصده أصحاب الحديث ويسمعوا منه ويرووا عنه.
وفي "تهذيب التهذيب"(ج 11 ص 183): "قال عبد الله بن محمود المروزي: سمعت يحيى بن أكثم يقول: كنت قاضيا وأميرًا ووزيرًا، ما ولج سمعي أحلى من قول المستملي (1): من ذكرتَ؟ رضي الله عنك".
وفيه (ج 6 ص 314): "روي عن عبد الرزاق أنه قال: حججت فمكثت ثلاثة أيام لا يجيئني أصحاب الحديث، فتعلقت بالكعبة وقلت: يا رب ما لي أكذاب أنا؟ أمدلس أنا؟ أمدلس أنا؟ فرجعت إلى البيت فجاءوني".
وقد علم طالب الحديث في أيام طلبه تشدد علماء الحديث وتعنتهم وشدة فحصهم وتدقيقهم، حتى إن جماعة من أصحاب الحديث ذهبوا إلى شيخ ليسمعوا منه فوجدوه خارج بيته يتبع بغلة له قد انفلتت يحاول إمساكها وبيده مخلاة يرجها البغلة ويدعوها لعلها تستقر فيمسكها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة فتركوا الشيخ وذهبوا وقالوا: إنه كذاب كذب على البغلة بإيهامها أن المخلاة (2) شعيرًا، والواقع أنه ليس فيه شيء.
فمن تدبر أحوال القوم بان له أنه ليس العجب ممن تحرز عن الكذب منهم طول عمره، وإنما العجب ممن اجترأ على الكذب.
كما أنه من تدبر كثرة ما عندهم من الرواية وكثرة ما يقع من الالتباس والاشتباه وتدبر تعنت أئمة الحديث بان له أنه ليس العجب ممن جرحوه، بل العجب ممن وثقوه
…
".
(1) علق المعلمي هنا فقال: كان إذا كثر الجمع عند المحدث يقوم رجل صيت يسمع إملاء الشيخ الحديث ويستفهمه فيما يخفى، ثم يعيد ذلك بصوت عال ليسمعه الحاضرون، فهذا الرجل يقال له "المستملي".
(2)
كذا في "التنكيل"، ولعل الصواب:"بالمخلاة" أو "في المخلاة". والله أعلم.
تنبيه:
قال العلامة المعلمي في القاعدة الأولى من قسم القواعد من "التنكيل":
"تنبيه: ليس من الكذب ما يكون الخبر ظاهرًا في خلاف الواقع محتملًا للواقع احتمالًا قريبًا وهناك قرينة تدافع ذاك الظهور بحيث إذا تدبر السامع صار الخبر عنده محتملًا للمعنيين على السواء.
كالمجمل الذي له ظاهر ووقت العمل به لم يجيء.
وكالكلام المرخص به في الحرب.
وكالتدليس، فإن المعروف بالتدليس لا يبقى قوله:"قال فلان" ويُسمي شيخا له: ظاهرًا في الاتصال، بل يكون محتملًا.
وهكذا من عرف بالمزاح، إذا مزح بكلمة يعرف الحاضرون أنه لم يرد بها ظاهرها -وإن كان فيهم من لا يعرف ذلك- إذا كان المقصود ملاطفته أو تأديبه عَلى أن يُنَبَّه في المجلس.
وهكذا فلتات الغضب، وكلمات التنفير عن الغلوّ
…
على فرض أنه وقع فيها ما يظهر منه خلاف الواقع.
وقد بسطت هذه الأمور وما يشبهها في رسالتي في "أحكام الكذب".
فأما الخطأ والغلط فمعلوم أنه لا يضر وإن وقع في رواية الحديث النبوي، فإذا كثر وفحش من الراوي قدح في ضبطه ولم يقدح في صدقه وعدالته. والله الموفق". اهـ.
* * *