الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هنا رجح الأئمة رواية الخوارج على رواية الشيعة؛ لأن الخوارج يعتقدون أن مطلق الكذب كفر، فضلًا عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الشيعة فيتدينون بالكذب، (التقية) حتى جوزوها من النبي صلى الله عليه وسلم، بل على الله عز وجل؛ لتأويلهم الآيات الواردة في مدح بعض الصحابة على خلاف ظاهرها، قائلين: إنما جعل الله -تعالى- ظاهرها الثناء استداراجًا لأولئك القوم؛ ليقوموا بنصر الدين، ويكفوا ضررهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. اهـ.
•
وقال المعلمي في القاعدة الثالثة من قسم القواعد من "التنكيل
":
1 -
لا شُبهة أن المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام لم تقبل روايته؛ لأن من شرط قبول الرواية: الإسلام.
2 -
وأنه إن ظهر عناده أو إسرافه في اتباع الهوى والإعراض عن حجج الحق ونحو ذلك مما هو أَدَلُّ على وَهَنِ التدين من كثير من الكبائر كشرب الخمر وأخذ الربا فليس بعدْلٍ، فلا تقبل روايته؛ لأن من شرط قبول الرواية: العدالة.
3 -
وأنه إن استحل الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق، فإن عذرناه (1) فمن شرط قبول الرواية: الصدق، فلا تقبل روايته.
4 -
وأن من تردد أهل العلم فيه، فلم يتجه لهم أن يكفروه أو يفسقوه، ولا أن يعدلوه، فلا تقبل روايته؛ لأنه لم تثبت عدالته.
ويبقى النظر فيما عدا هؤلاء.
والمشهور الذي نقل ابن حبان والحاكم إجماع أئمة السنّة عليه أن المبتدع الداعية لا تقبل روايته، وأما غير الداعية فكالسني.
واختلف المتأخرون في تَعْليل رَدّ الداعية.
(1) يعني فلم يكفر ولم يفسق.
والتحقيق إن شاء الله تعالى أن ما اتفق أئمة السنة على أنها بدعة فالداعية إليها الذي حقه أن يُسَمَّى داعية لا يكون إلا من الأنواع الأولى: إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه، فإن لم يتجه تفسيقه فعلى الأقلّ لا تثبت عدالته. وإلى هذا أشار مسلم في مقدمة "صحيحه" إذ قال:
"اعلم وفقك الله أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا في هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وقال جل ثناؤه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فدل ما ذكرنا أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيهما؛ إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم". اهـ.
قال المعلمي:
فالمبتدع الذي يتضح عناده: إما كافر وإما فاسق، والذي لم يتضح عناده ولكنه حقيق بأن يتهم بذلك وهو في معنى الفاسق. لأنه مع سوء حاله لا تثبت عدالته، والداعية الذي الكلام فيه واحدٌ من هذين ولَابُدَّ
…
(1).
(1) أشار المعلمي هنا إلى ما يتعلق بـ "هوى النفس" وأن ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى. راجع نص كلامه في الفصل الأول من فصول العدالة من هذا الكتاب.
وأهل البدع كما سماهم السلف "أصحاب الأهواء" واتِّبَاعُهم لأهوائهم في الجملة ظَاهِرٌ، وإنّما يبقى النظر في العمد والخطأ، ومن ثبت تعمده أو اتهمه بذلك عارفوه لم يؤمن كذبه، وفي "الكفاية" للخطيب (ص 123) عن علي بن حرب الموصلي:"كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي" يريد والله أعلم أنهم مظنة ذلك فيحترس من أحدهم حتى يتبين براءته.
هذا وإذا كانت حججُ السنة بَيِّنَةً، فالمخالف لها لا يكون إِلَّا معاندًا أو متبعًا للهوى معرضًا عن حجج الحق.
واتباع الهوى والإعراض عن حجج الحق قد يفحش جدًّا حتى لا يحتمل أن يعذر صاحبه، فإن لم يجزم أهل العلم بعدم العذر فعلى الأقل لا يمكنهم تعديل الرجل، وهذه حال الداعية الذي الكلام فيه، فإنه لولا أنه معاند ومنقاد لهواه انقيادًا فاحشًا، مُعْرِضٌ عن حجج الحق إعراضًا شديدًا لكان أقل أحواله أن يحمله النظر في الحق على الارتياب في بدعته فيخاف -إن كان متدينًا- أن يكون على ضلالة ويرجو أنه إن كان على ضلالة فعسى الله تبارك وتعالى أن يعذره، فإذا التفت إلى أهل السنة علم أنهم إن لم يكونوا أولى بالحق منه، فالأمر الذي لا ريب فيه أنهم أولى بالعذر منه وأحق إن كانوا على خطأ أن لا يضرهم ذلك؛ لأنهم إنما يتبعون الكتاب والسُّنَّة ويحرصون على اتباع سبيل المؤمنين ولزوم صراط المنعَم عليهم: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخيار السلف، فيقول في نفسه: هَبْ أنهم على باطل فلم يأتهم البلاء من اتباع الهوى وتتبع السبل الخارجة.
ولا ريب أن من كانت هذه حاله فإنه لا يُكَفِّرُ أهل السنة ولا يضللهم، ولا يحرص على إدخالهم في رأيه، بل يشغله الخوف على نفسه فلا يكون داعية.
فأما غير الداعية فقد مَرَّ نقل الإجماع على أنه كالسُّنِّي، إذا ثبتت عدالته قبلت روايته، وثبت عن مالك ما يوافق ذلك، وقيل عن مالك إنه لا يُروى عنه أيضًا، والعمل على الأول.
وذهب بعضهم إلى أنه لا يروى عنه إِلَّا عند الحاجة، وهذا أمر مصلحي لا ينافي قيام الحجة بروايته بعد ثبوت عدالته.
وحكى بعضهم أنه إذا روى ما فيه تقوية لبدعته لم يؤخذ عنه، ولا ريب أن ذلك المروي إذا حكم أهل العلم ببطلانه فلا حاجة إلى روايته إِلَّا لبيان حاله، ثم إن اقتضى جرح صاحبه بأن ترجح أنه تعمد الكذب أو أنه متهم بالكذب عند أئمة الحديث سقط صاحبه البتّة فلا يؤخذ عنه ذاك ولا غيره، وإن ترجح أنه إنما أخطأ فلا وجه لمؤاخذته بالخطأ، وإن ترجح صحة ذلك المروي فلا وجه لعدم أخذه.
نعم قد تدعو المصلحة إلى عدم روايته حيث يُخشى أن يغتر بعض السامعين بظاهره فيقع في البدعة، قرأت في جزء قديم من "ثقات" العجلي ما لفظه:"موسى الجهني قال: جاءني عمرو بن قيس الملائي وسفيان الثّوري فقال (1): لا تحدث بهذا الحديث بالكوفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" كان في الكوفة جماعة يغلون بالتشيع ويدعون إلى الغلو، فكره عمرو بن قيس وسفيان أن يسمعوا (2) هذا الحديث فيحملوه على ما يوافق غلوهم فيشتد شرهم.
وقد يمنعُ العالمُ طلبةَ الحديث عن أخذ مثل هذا الحديث لِعلمه أنهم إذا أخذوه ربما رووه حيث لا ينبغي أن يروى، لكن هذا لا يختص بالمبتدع، وموسى الجهني ثقة فاضل لم ينسب إلى بدعة.
هذا وَأَوَّلُ مَنْ نُسِبَ إليه هذا القولُ (3): إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني - وكان هو نفسه مبتدعًا منحرفًا عن أمير المؤمنين علي، متشددًا في الطعن علي المتشيعين كما
(1) كذا في "التنكيل" ولعلها: "فقالا" ويؤيده قول المعلمي بعد ذلك: فكره "عمرو بن قيس وسفيان".
(2)
ضمير الجمع هنا يعود إلى تلك الجماعة المشار إليها.
(3)
يعني عدم قبول رواية غير الداعية فيما يقوى بدعته.
يأتي في القاعدةُ الآتية (1) - ففي "فتح المغيث"(ص 142): "بل قال شيخنا: إنه قد نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي، فقال في مقدمة كتابه في الجرح والتعديل: ومنهم زائغ عن الحق، صدوق اللهجة، قد جرى في الناس حديثه، لكنه مخذول في بدعته، مأمون في روايته، فهؤلاء ليس فيهم حيلة إِلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف وليس بمنكر إذا لم تقو به بدعتهم فيتهمونه بذلك".
والجوزجاني فيه نَصْبٌ، وهو مُولع بالطعن في المتشيعين كما مَرَّ، ويظهر أنه إنما يرمي بكلامه هذا إليهم، فإن في الكوفيين المنسوبين إلى التشيع جماعة أجلّة اتفق أئمة السنة على توثيقهم وحسن الثّناء عليهم وقبول رواياتهم وتفضيلهم على كثير من الثقات الذين لم ينسبوا إلى التشيع حتى قيل لشعبة:"حَدِّثْنا عن ثقات أصحابك، فقال: إن حدثتكم عن ثقات أصحابي فإنما أحدثكم عن نَفرٍ يسير من هذه الشيعة: الحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور". راجع تراجم هؤلاء في "تهذيب التهذيب".
فكأن الجوزجاني لما علم أنه لا سبيل إلى الطعن في هؤلاء وأمثالهم مطلقًا، حاول أن يتخلص مما يكرهه من مروياتهم وهو ما يتعلق بفضائل أهل البيت.
وعبارته المذكورة تُعطي أن المبتدع الصادق اللهجة، المأمون في الرواية، المقبول حديثه عند أهل السنة، إذا روى حديثًا معروفًا عند أهل السنة غير منكر عندهم، إِلَّا أنه مما قد تَقْوى به بدعتُهُ فإنه لا يؤخذ وأنه يُتَّهم.
فأما اختيار أن لا يؤخذ فَلَهُ وجهٌ رِعَايَةً للمصلحة كما مَرَّ، وأمّا أنه يُتهم فلا يظهر له وجهٌ بعد اجتماع تلك الشرائط، إِلَّا أن يكون المراد أنه قد يَتَّهِمُهُ من عَرف
(1) ترى ذلك في مبحث "قدح الساخط ومدح المحب ونحو ذلك" من أبحاث الجرح والتعديل.
بدعته، ولم يعرف صدقه وأمانته، ولم يعرف أن ذاك الحديث معروف غير منكر، فيسيء الظن به وبمروياته، ولا يبعد من الجوزجاني أن يصانع عما في نفسه بإظهار أنه إنما يحاول هذا المعنى فبهذا تستقيم عبارته.
أنها الحافظ ابن حجر ففهم منها معنى آخر، قاله في "النخبة وشرحها"(سيأتي الكلام معه قريبًا).
ولابن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث" كلام حاصله:
"أن المبتدع الصادق المقبول لا يُقبل منه ما يُقَوِّي بدعته، ويُقبل منه ما عدا ذلك. قال: "وإنما يَمنع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه أن نفسه تُرِيه أن الحق فيما اعتقده، وأن القربة إلى الله عز وجل في تثبيته بكل وجه، ولا يؤمن مع ذلك التحريف والزيادة والنقص".
كذا قال، واحتج بأن شهادة العدل لا تقبل لنفسه وأصله وفرعه، وقد مَرَّ الجواب عن ذلك (1). ولا أدري كيف يُنْعَتُ بالصادق من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص؟! وإنما يستحق النعت بالصادق من يوثق بتقواه، وبأنه مهما التبس عليه من الحق فلن يلتبس عليه أن الكذب بأي وجه كان منافٍ للتقوى، مجانب للإيمان.
…
(2) والمقصود هنا أن من لا يؤمن منه تعمد التحريف والزيادة والنقص على أي وجه كان فلم تثبت عدالته، فإن كان كل من اعتقد أمرًا ورأى أنه الحق وأن
(1) راجع مبحث "التهمة بالكذب"، و"الفرق بين الرواية والشهادة".
(2)
استطرد المعلمي هنا في بيان أن فيمن يَتَسِمُ بالصلاح من المبتدعة وكذا من أهل السنة من يقع في الكذب إما تقحمًا في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق وأن هذا لا يختص بالعقائد وأنه وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها، ثم بيَّن أن كثرة وقوع الكذب ليست بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء. [راجع الفصل الأول من الوجه الأول من أوجه الطعن في العدالة]، ثم بين عناية الأئمة بحفظ السنة وحراستها والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين، وسيأتي في قوله "والمقصود هنا
…
" بيان قيمة هذا الاستطراد.
القربة إلى الله تعالى في تثبيته لا يؤمن منه ذلك فليس في الدنيا ثقة، وهذا باطل قطعًا، فالحكم به على المبتدع إن قامت الحجة على خلافه بثبوت عدالته وصدقه وأمانته فباطل، وإلا وجب أن لا يحتج بخبره البتة، سواء أوافق بدعته أم خاللها.
والعدالة "ملكة تمنع من اقتراف الكبائر
…
"
وتعديل الشخص شهادة له بحصول هذه الملكف ولا تجوز الشهادة بذلك حتى يغلب على الظن غلبةً واضحةً حصولها له، وذلك يتضمن غلبة الظن بأن تلك الملكة تمنعه من تعمد التحريف والزيادة والنقص.
ومن غلب على الظن غلبةً يصح الجزم بها أنه لا يقع منه ذلك فكيف لا يؤمن أن يقع منه؟ ومن لا يؤمن أن يقع منه ذلك فلم يغلب على الظن أن له ملكة تمنعه من ذلك.
ومن خيف أن يغلبه ضرب من الهوى فيوقعه في تعمد الكذب والتحريف لم يؤمن أن يغلبه ضرب آخر وإن لم نشعر به، بل الضرب الواحد من الهوى قد يوقع في أشياء يتراءى لنا أنها متضادة، فقد جاء أن موسى بن طريف الأسدي كان يرى رأي أهل الشام في الانحراف عن علي رضي الله عنه ويروي أحاديث منكرة في فضل علي ويقول:"إني لأسخر بهم" يعني بالشيعة، راجع ترجمته في "لسان الميزان".
وروى محمد بن شجاع الثلجي الجهمي عن حبان بن هلال أحد الثقات الأثبات عن حماد بن سلمة أحد أئمة السنة عن أبي المهزم عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله خلق الفرس فأجراها فعرقت ثم خلق نفسه منها".
وفي "الميزان" إن غرض الجهمية من وضع هذا الحديث أن يستدلوا به على زعمهم أن ما جاء في القرآن من ذكر "نفس الله" عز وجل إنما المراد بها بعض مخلوقاته.
أقول: ولهم غرضان آخران:
أحدهما: التذرع بذلك إلى الطعن في حماد بن سلمة.
الثاني: التشنيع على أئمة السنة بأنهم يروون الأباطيل.
والشيعي الذي لا يؤمن أن يكذب في فضائل أهل البيت لا يؤمن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية، أو ليري الناس أنه غير متشدد في مذهبه، يمهد بذلك ليُقبل منه ما يرويه مما يوافق مذهبه.
وعلى كل حال فابن قتيبة على فضله ليس هذا فَنَّه، ولذلك لم يعرج أحد من أئمة الأصول والمصطلح على حكاية قوله ذلك فيما أعلم. والله الموفق.
وفي "فتح المغيث"(ص 140) عن ابن دقيق العيد: "إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادًا لبدعته وإطفاءً لِنَارِه، وإن لم يوافقه أحد. ولم يوجد ذلك الحديث إِلَّا عنده مع ما وصفنا من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدّم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء ناره".
ويظهر أن تقييده بقوله: "وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته" إنما مغزاه أنه إذا كان فيه تقوية لبدعته لم تكن هناك مصلحة في نشره بل المصلحة في عدم روايته كما مَرَّ، ويتأكد ذلك هنا بأن الفرض أنه تفرد به، وذلك يدعو إلى التثبت فيه، وإذا كان كلام ابن دقيق العيد محتملًا لهذا المعنى احتمالًا، ظاهرًا فلا يسوغ حمله على مقالة ابن قتيبة التي مَرَّ ما فيها.
وقال ابن حجر في "النخبة وشرحها":
"الأكثر على قبول غير الداعية إِلَّا أن يروي ما يقوي مذهبه فَيُرَدُّ على المذهب المختار، وبه صرح الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ أبي داود والنسائي
…
وما قاله متجه؛ لأن العلّة التي لها رُدَّ حديثُ الداعية واردةٌ فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية. والله أعلم".
أقول: الضمير في قوله "فَيُرَدُّ" يعود فيما يظهر على المبتدع غير الداعية، أَوْقَعَ الرَّدَّ على الراوي في مقابل إطلاق القبول عليه، وقد قال قبل ذلك:"والتحقيق أنه لا يُرَدُّ كل مكفر ببدعة" والمراد بردّ الراوي ردّ مروياته كلها.
وقد يقال: يحتمل عود الضمير على المروي المقوي لمذهبه، وعلى هذا فقد يفهم منه أنه يقبل منه ما عداه، وقد يُشعر بهذا استناد ابن حجر إلى قول الجوزجاني فأقول:
إن كان معنى الردّ على هذا المعنى الثاني ترك رواية ذاك الحديث للمصلحة وإن كان محكومًا بصحته، فهذا هو المعنى الذي تقدم أن به تستقيم عبارة الجوزجاني.
وإن كان معناه ردّ ذاك الحديث اتهامًا لصاحبه ويردّ معه سائر رواياته، فهذا موافق للمعنى الأول، ولا تظهر موافقته لعبارة الجوزجاني.
كان كان معناه ردّ ذلك الحديث اتهامًا لراويه فيه ومع ذلك يبقى مقبولًا، فيما عداه فليست عبارة الجوزجاني بصريحة في هذا، ولا ظاهرة فيه كما مَرَّ وإنما هو قول ابن قتيبة.
وسياق كلام ابن حجر ما عدا استناده إلى قول الجوزجاني يدل على أن مقصوده ردّ الراوي مطلقًا أو ردّ ذاك الحديث وسائر روايات راويه وذلك لأمور، منها:
أن ابن حجر صرح بأن العلة التي ردّ بها حديث الداعية واردة في هذا، وقد قَدَّم أن العلة في الداعية هي:"أن تزيين بدعته قد يحمله على تحريف الروايات وتسويتها على ما يقتضيه مذهبه".
ومن كانت هذه حاله فلم تثبت عدالته كما تقدّم فيردّ مطلقًا.
ومنها: أن هذه العلة اقتضت في الداعية الردّ مطلقًا فكذلك هنا، بل قد يقال على مقتضى كلام ابن حجر: هذا أَوْلَى؛ لأن الداعية يردّ مطلقًا وإن لم يرو ما يوافق بدعته، وهذا قد رَوى.
هذا وقد وثق أئمة الحديث جماعة من المبتدعة واحتجوا بأحاديثهم وأخرجوها في الصحاح، ومن تتبع رواياتهم وَجَدَ فيها كثيرًا مما يوافق ظاهره بدعهم، وأهل
العلم يتأولون تلك الأحاديث غير طاعنين فيها ببدعة راويها ولا في راويها بروايته لها (1)، بل في رواية جماعة منهم أحاديث ظاهرة جدًّا في موافقة بدعهم أو صريحة في ذلك إِلَّا أَنَّ لها عللًا أخرى، ففي رواية الأعمش أحاديث كذلك ضَعَّفَها أهلُ العلم، بعضُها بضعف بعض من فوق الأعمش في السند، وبعضُها بالانقطاع، وبعضُها بأن الأعمش لم يصرح بالسماع وهو مدلس، ومن هذا الأخير حديث في شأن معاوية ذكره البخاري في "تاريخه الصغير"(ص 68)، ووهَّنه بتدليس الأعمش، وهكذا في رواية عبد الرزاق وآخرين.
هذا وقد مرَّ تحقيق علة رد الداعية (2)، وتلك العلّة ملازمة أن يكون بحيث يحق أن لا يؤمن منه ما ينافي العدالة، فهذه العلّة إن وردت في كل مبتدع روى ما يقوِّي بدعته ولو لم يكن داعية وجب أن لا يحتج بشيء من مرويات من كان كذلك ولو فيما يوهن بدعته (3)، وإلا -وهو الصواب- فلا يصح إطلاق الحكم بل يدور مع
(1) عَلَّق المعلمي على هذا الموضع من "التنكيل" بقوله: "كحديث مسلم من طريق الأعمش عن عديّ ابن ثابت عن زرّ قال: قال عليّ: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم إليَّ أنه لا يحبني إِلَّا مؤمن ولا يبغضني إِلَّا منافق".
عديّ قال فيه ابن معين: "شيعي مفرط"، وقال أبو حاتم:"صدوق، وكان إمام مسجد الشيعة وقاصهم"، وعن الإمام أحمد:"ثقة إِلَّا أنه كان يتشيع"، وعن الدارقطني:"ثقة إِلَّا أنه كان غاليًا في التشيع"، ووثقه آخرون.
ويقابل هذا رواية قيس بن أبي حازم عن عمرو بن العاص: عهد النبي صلى الله عليه وسلم جهارًا غير سِرٍّ يقول: "ألا إن آل طالب ليسوا لي بأولياء، إنما وليّي الله وصالح المؤمنين، إن لهم رحمًا سأبلها ببلاها". ورواه غندر عن شعبة بلفظ: "إن آل أبي
…
" ترك بياضًا، وهكذا أخرجه الشيخان.
وقيس ناصبي منحرف عن علي رضي الله عنه وولي في هذا كلام". اهـ.
(2)
وهي انتفاء شرط العدالة.
(3)
سبق بيان المعلمي أن صاحب البدعة -كالشيعي- كما أنه لا يؤمن أن يكذب في فضائل أهل البيت فكذلك لا يؤمن أن يكذب في فضائل الصحابة على سبيل التقية أو الخداع ونحو ذلك.
العلّة، فذاك المروي المقوي لبدعة راويه إما غير منكر فلا وجه لردِّه فضلًا عن ردّ راويه، وإما منكر، فحكم المنكر معروف، وهو أنه ضعيف.
فأما راويه فإن اتجه الحمل عليه بما ينافي العدالة؛ كَرَمْيِه بتعمد الكذب أو اتهامه به سقط البتة، وإن اتجه الحمل على غير ذلك؛ كالتدليس المغتفر والوهم والخطأ لم يجرح بذلك.
وإن تردد الناظر وقد ثبتت العدالة وجب القبول، وإلا أخذ بقول من هو أعرف منه أو وَقَفَ.
…
وبما تقدم يتبين صحة إطلاق الأئمة قبول غير الداعية إذا ثبت صلاحه وصدقه وأمانته، ويتبين أنهم إنما نصوا على ردّ المبتدع الداعية تنبيها على أنه لا يثبت له الشرط الشرعي وهو ثبوت العدالة". اهـ.
بعض تطبيقات العلامة المعلمي على رواية المبتدع:
1 -
ما يُخشى من تدليس المبتدع إذا روى ما يؤيد بدعته:
المثال الأول:
• عَلَّق العَلَّامة المعلمي على حديث: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وفي لفظ:"أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها"(ص 349) من "الفوائد المجموعة"، وفَصَّل الكلام على طرقه، وبيَّن عِلَلَها -سوى ما لا نزل في سقوطه منها- ونظر في ذلك على ثلاثة مقامات:
المقام الأول: سند الخبر باللفظ الأول إلى أبي معاوية الضرير، والثاني إلى شريك، وأنهى بحثه بأن الخبر لا يثبت عنهما، ثم قال:
المقام الثاني: على فرض أن أبا معاوية حدث بذاك وشريكًا حدث بهذا، فإنما جاء ذاك عن أبي معاوية عن الأعمش، عن مجاهد"، وجاء هذا "عن شريك عن سلمة بن
كهيل"، وأبو معاوية والأعمش وشريك كلهم مُدَلِّسُون مُتَشَيِّعُون، ويزيد شريك بأنه يكثر منه الخطأ
…
(1).
وقد قَرَّرَ ابنُ حجر في "نخبته" ومقدمة "اللسان" وغيرهما أن من نوثقه ونقبل خبره من المبتدعة يختص ذلك بما لا يؤيد بدعته، فما يؤيد بدعته فلا يقبل منه البتّة، وفي هذا بحث (2)، لكنه حق فيما إذا كان مع بدعته مدلسًا، ولم يصرح بالسماع، وقد أَعَلَّ البخاري في "تاريخه الصغير" (ص 68) خبرًا رواه الأعمش عن سالم يتعلق بالتشيع - بقوله:"والأعمش لا يُدرى سمع هذا من سالم أم لا، قال أبو بكر بن عياش، عن الأعمش أنه قال: نستغفر الله من أشياء كنا نرويها على وجه التعجب، اتخذوها دينًا"(3).
ويشتد أعتبار تدليس الأعمش في هذا الخبر خاصة؛ لأنه عن مجاهد، وفي ترجمة الأعمش من "التهذيب":"قال يعقوب بن شيبة في "مسنده": ليس يصح للأعمش عن مجاهد إِلَّا أحاديث يسيرة، قلت لعلي بن المديني: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إِلَّا ما قال: سمعت، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبي يحيى القتات.
وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه في أحاديث الأعمش عن مجاهد قال أبو بكر بن عياش، عنه: حدثنيه ليث [بن أبي سليم] عن مجاهد".
(1) تحدث المعلمي هنا عن الطبقة الثانية من طبقات المدلسين، وبيَّن أن الشيخين ينتقيان من معنعناتهم في المتابعات ونحوها.
(2)
سبق قريبًا.
(3)
انظر ترجمة الأعمش من القسم الأول من هذا الكتاب مع تعليقي عليها، ففيها بحثٌ لصيقُ الصِّلَة بموضوعنا هذا.
أقول: والقتات وليث ضعيفان، ولَعَلَّ الواسطة في بعض تلك الأحاديث مَنْ هو شَرٌّ منهما، فقد سمع الأعمش من الكلبي أشياء، يرويها عن أبي صالح باذام، ثم رواها الأعمش عن باذام تدليسًا، وسكت عن الكلبي، والكلبي كذاب، ولاسيما فيما يرويه عن أبي صالح كما مر في التعليق (ص 315)، ويتأكل وَهَنُ الخبر بأن من يثبته عن أبي معاوية يقول: إنه حدث به قديمًا، ثم كَفَّ عنه، فلولا أنه علم وَهَنَهُ لما كَفَّ عنه
…
".
المثال الثاني:
• أورد الشوكاني في "الفوائد"(ص 346) حديث: "أولُكم ورودًا على الحوض أولُكم إسلامًا: علي بن أبي طالب".
وقال: رواه ابن عدي عن سلمان مرفوعًا، وفي إسناده:
1 -
عبد الرحمن بن قيس الزعفراني، وهو وضاع، وتابعه:
2 -
سيف بن محمد وهو شَرٌّ منه، وتابعهما:
3 -
يحيى بن هاشم السمسار عند الحارث بن أبي أُسامة، وهو كذاب.
ثم قال: وروى أبو بكر بن أبي عاصم من طريق:
4 -
عبد الرزاق متابعًا لهم لكن موقوفًا على سلمان.
قال السيوطي: "وهذه متابعة قوية جدًّا، ولا يضر إيراده بصيغة الوقف؛ لأنَّ له حكم الرفع".
قال الشوكاني: "فقد رواه كل واحد من هؤلاء الأربعة عن سفيان الثوري.
ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن يحيى المازني (1) عن سفيان، فكان خامسًا لهم، وعبد الرزاق لا يحتاج إلى متابع". اهـ. كلام الشوكاني.
(1) كذا وصوابه: "المَأْربي" وهو محمد بن يحيى بن قيس السبئي المَأْربي، أبو عمر اليماني.
فتكلم المعلمي في الثّلاثة الأُوَل، ونقل أقوال أهل العلم في تكذيبهم، ثم قال:
"وأما خبر ابن مردويه ففي سنده محمد بن أحمد الواسطي، أُراه المذكور في "لسان الميزان" (5/ 53 رقم 179) وهو تالف، هو صاحب حديث: "النظر في مرآة الحجام دناءة" رواه عن "إسحاق بن الضيف" وهو صدوق يخطىء، عن "محمد بن يحيى المأربي" وثقه الدارقطني، وقال ابن عديّ: "أحاديثه مظلمة منكرة" رواه عن الثوري، عن قيس ابن مسلم الجدلي، عن عُلَيْم (1) الكندي (وهو مجهول) عن سلمان، والثلاثة المتقدمون يقولون: عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق (2) عن عليم.
وأما خبر عبد الرزاق، فعبد الرزاق عمي بأخرة، وصار يلقن فيتلقن، وربما دلس، وكان يتشيع، فلا يؤمن أن يكون سمعه من بعض أولئك الدجالين فدلسه
…
وقول السيوطي: "إن له حكم الرفع" مردود؛ إِذْ لا مانع أن يستشعر سلمان أن السبق إلى الإسلام يقتضي السبق في الورود. اهـ.
2 -
ما يُخشى من إدخال بعض دجاجلة المبتدعة أحاديث على أصحابهم من أهل الصدق ممّن يتلقن وفيه غفلة.
• ذكر الشوكاني في "الفوائد"(ص 407) حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت غناء فقال: انظروا ما هذا؟ قال أبو برزة: فصعدت فنظرت فإذا معاوية وعمرو بن العاص يتغنيان، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"اللهم اركسهما في الفتنة ركسًا، ودعِّهما إلى النار دَعًّا".
(1) مصغر وهو: ابن قُعَيْر ويقال: ابن قُعْبُر، ذكر حديثه الدارقطني في "المؤتلف"، وزاد "حنش" بين أبي صادق، وعليم.
(2)
هو الأزدي الكوفي، ترجمته في "التهذيب".
وقال: ذكره ابن الجوزي في "موضوعاته"، وقال: لا يصح، يزيد بن أبي زياد كان يتلقن.
قال السيوطي في "اللآلىء": "هذا لا يقتضي الوضع".
فقال المعلمي:
"لكنه مظنة رواية الموضوع؛ فإن معنى قبول التلقن أنه قد يقال له: أَحَدَّثَكَ فلان عن فلان بكيت وكيت؟ فيقول: نعم، حدثني فلان ابن (1) فلان بكيت وكيت. مع أنه ليس لذلك أصل وإنما تلقنه وتوهم أنه من حديثه.
وبهذا يتمكن الوضاعون أن يضعوا ما شاءوا، ويأتوا إلى هذا المسكين فيلقنونه فيتلقن ويروي ما وضعوه.
وشيخ يزيد في هذا الخبر سليمان بن عمرو بن الأحوص، مجهول الحال كما قال ابن القطان، ولا يدفع ذلك ذكر ابن حبان له في "الثقات".
ولا أرى البلاء إِلَّا من يزيد؛ فإنه من أئمة الشيعة الكبار، والراوي عنه لهذا الخبر شيعي (2)، وله عنه خبر آخر باطل، وإذا كان من أئمة الشيعة فلا بدع أن يستحوذ عليه بعض دجاجلتهم فيلقنه الموضوعات". اهـ.
* * *
(1) كذا والظاهر أنها "عن".
(2)
هو محمد بن فضيل بن غزوان.