الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
ضرورة إجراء القواعد في نقد صيغ الأداء الواردة في الأسانيد
قال الفقير إلى الله تعالى:
اعلم أن صيغ الأداء في الأسانيد مما اعتنى به الأئمة، فكانوا يضعونها تحت النقد والنظر، ولابد أن يصح الطريق لقائل الصيغة أولًا حتى تثبت عنه، ثم لابد أن تتوفر فيه هو شروط قبول الرواية المعتبرة حتى يقبل منه تصريحه بالسماع من شيخه؛ خشيةَ أن يكون قد وهم فى ذلك، وهذا من دقائق هذا العلم، ومما يرجع فيه أولًا وأخيرا لأئمة النقد.
ولهذا أمثلة معروفة لأهل الفن؛ من ذلك: أن أصحاب الزهري قد اتفقوا على رواية حديث عنه عن سعيد بن المسيب، لم يصرح الزهري بسماعه فيه من ابن المسيب. وخالفهم أسامة بن زيد الليثي -وهو ضعيف- فرواه عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب حكى عمرو بن علي الفلاس أن يحيي القطان قد ترك أسامة بسبب ذلك. انظر: "تهذيب التهذيب"(1/ 210).
نماذج لهذا المطلب:
1 -
نظر الشيخ المعلمي في حديث أبي هريرة في يأجوج ومأجوج، في "الأنوار الكاشفة"(ص 184 - 186) وقد سبق قريبا.
2 -
وفي "الفوائد"(ص 127 - 128) حديث: "إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها فإن ذلك يورث العمى".
قال الشوكاني: "رواه ابن عديّ عن ابن عباس مرفوعًا، وقال ابن حبان: هذا موضوع وكذا قال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه. وعَدّه ابن الجوزي في "الموضوعات"، وخالفه ابن الصلاح فقال: إنه جيد الإسناد، وقد أخرجه البيهقي في "سننه".
وسبب هذا الاختلاف أن إسناده عن ابن عدي: حدثنا قتيبة حدثنا هشام بن خالد حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس فذكره.
قال ابن حبان: كان بقية يروى عن كَذَّابين، ويدلس، وكان له أصحاب يسقطون الضعفاء من حديثه.
وقال ابن حجر: لكن ابن القطان ذكر في كتاب "أحكام النظر": أن بقي بن مخلد رواه عن هشام بن خالد عن بقية قال: حدثنا ابن جريج. فهذا فيه التصريح من بقية بالتحديث، وهو ثقة إذا صرح بالتحديث، وسائر الإسناد رجاله ثقات، فمن هذه الحيثية قال ابن الصلاح: إنه جيد".
فقال الشيخ المعلمي تعليقًا على رواية بقي بن مخلد والتي فيها تصريح بقية بالتحديث:
"أخشى أن يكون هذا خطأ، ومع ذلك فقد بقيت التسوية كما ذكره ابن حجر في آخر عبارته، لأن بقية ممن يفعلها".
3 -
بَحْث الشيخ المعلمي في سماع سليمان بن موسى الأشدق من جابر بن عبد الله، مع تعليقاتي عليه من ترجمة سليمان من القسم الأول:
قال الشيخ المعلمي:
في تهذيب التهذيب: في ترجمته: "أرسل عن جابر
…
" وفيه: "وقال ابن معين: سليمان ابن موسى عن مالك بن يخامر مرسل، وعن جابر مرسل" (1) ولم يذكر ما يخالف ذلك.
(1) تتمة: وقال الترمذي عن البخاري: سليمان لم يدرك أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (العلل الكبير: 1/ 313).
وقال ابن حبان في "المشاهير"(ص 179): "قد قيل إنه سمع جابرا وليس ذاك بشيء تلك كلها أخبار مدلسة".
ولم أقف على من قال إنه سمع منه، فلعل ابن حبان وقف على بعض الأسانيد التى فيها سماع، فرآها خطأ، والله أعلم.
لكن رأيت في مسند الإمام أحمد (ج 3 ص 125): ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال سليمان بن موسى: أنا جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالفه إلى مقعده، ولكن ليقل: أفسحوا".
ثنا محمد بن بكر أنا ابن جريج أخبرني سليمان بن موسى قال: أخبرني جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقيم أحدكم أخاه يوم الجمعة
…
"
فقول سليمان في السند الأول: "أنا جابر" صريح في سماعه من جابر، لكن فيه عنعنة ابن جريج (1).
وأما السند الثاني فسالم من التدليس، ومحمد بن بكر وابن جريج على شرط الشيخين، وقد صرح كل منهما بالسماع بحيث ينتفي احتمال التدليس، وصرح سليمان بقوله:"أخبرني جابر".
ويبعد كل البعد أن يكون هاهنا سهو من النساخ في السندين المتتابعين معًا (2).
فلم يَبْق إلا أحدُ احتمالين؛ إما أن يكون صدق في أن جابرًا أخبره، وإما أن يكون كذب. وقد ثبت أن الرجل صدوق، وهو أعلم بنفسه (3) من ابن معين وغيره، ولم ندر على ما بنى ابن معين حُكْمَهُ، فتمسكنا بما صح من سماع سليمان من جابر، وقد أدرك من حياة جابر مُدَّةً (4).
(1) يعنى قوله: قال سليمان بن موسى، ولم يصرح بالسماع.
(2)
انتظر.
(3)
لم يثبت عنه خلف ما قاله ابن معين، وانتظر.
(4)
في "البناء على القبور": "مدة طويلة" وأظن المعلمي قد حذف كلمة "طويلة" بعد إعادة النظر، والله أعلم.
هذا وقد توفي سليمان سنة (119)، وبالنظر في وفيات من قيل إنه أرسل عنهم نجدهم بين (70، 83). وهم: مالك بن يخامر السكسكي، وكثير بن مرَّة، وعبد الرحمن بن غَنْم.
وبين وفاة سليمان وأقل سن وفاة لهولاء (49) سنة. =
وقد قال الحافظ في إتحاف المهرة (1): سليمان بن موسى الأسدي الأموي عن جابر، ولم يدركه، أورد له حديثه هذا الذي في المسند، ولم يتعرض لصيغة روايته عن جابر (2)، وليس عندنا نسخة خطية من مسند أحمد نراجعها، فمن وجد فليراجع.
وقال المزي في الأطراف في الكلام على حديث ابن جريج الذي قال فيه: عن سليمان بن موسى وأبي الزبير عن جابر.
= وبالنظر في وفيات شيوخه الذين صحبهم وسمع منهم: الزهري: (123)، ومكحول:(113)، ونافع مولي ابن عمر:(117) وقيل: (120)، وعمرو بن شعيب:(118)، وطاوس بن كيسان (106).
فالذي يظهر أنه مات وعمره خمسون عامًا أو جاوزها بقليل، فلم يدرك هؤلاء الصحابة أو كان صغيرًا جدًّا حين ماتوا، وكانت وفاته قريبة من سنة وفاة شيوخه، بل مات قبل موت بعضهم، والله تعالي الموفق.
(1)
انظر أطراف مسند الإمام أحمد بن حنبل للحافظ ابن حجر (2: 22).
(2)
مقتضى صنيع الحافظ أن يكون وقع له الإسنادان وليس فيهما التصريح بالإخبار؛ لأنه قال: عن جابر ولم يدركه، فإذا كان في الإسنادين أو أحدهما تصريح بالإخبار، ورآه حجة، لما جزم بعدم الإدراك، أو رآه خطئًا لكان الظاهر أن يُنَبِّهَ عليه، والله تعالى أعلم.
ثم إن هاهنا أمرا مهما؛ وهو أن رواية محمد بن بكر وهو البرساني فيها مخالفة لرواية عبد الرازق، فقد روى عبد الرازق عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى - ليس فيه تصريح ابن جريج بالسماع من سليمان. وروى البرساني عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن موسى.
وبالنظر في الراجح المحفوظ من الروايتن يُحتاج على المقارنة بين عبد الرازق والبرساني في ابن جريج خاصة، فإذا في تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص (457):"قال أبو زرعة: قيل لأحمد بن حنبل: من أثبت في ابن جريج: عبد الرازق أو محمد بن بكر البرساني؟ قال: عبد الرازق". اهـ.
فهذا مما يُعِلُّ روايةَ البرساني برواية عبد الرازق، حسبما تقتضيه القواعد، ويصير الإسناد إلى سليمان ابن موسى فيه نظر بسبب تدليس ابن جريج، وعليه فما ورد فيه من تصريح سليمان بقوله: أخبرني جابر، غير محفوظ، فلا يعتد به.
قال المزي: سليمان لم يسمع من جابر، فلعل ابن جريج رواه عن سليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).
أقول: يرده ابن جريج عن سليمان وحده، كما عند أبي داود، وقد ذكره المزي -أيضا- والله أعلم (2).
هذا مع علمنا بأن ثبوت سماعه من جابر لا يفيد صحة حديثه في شأن القبول مادامت عنعنة ابن جريج قاطعة الطريق.
* * *
(1) تحفة الأشراف (2: 186 - 187) وتمام قول المزي: "سليمان لم يسمع من جابر، فلعلَّ ابن جريج رواه عن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وعن أبي الزبير عن جابر مرسلا". اهـ. يعني أن ابن جريج لما جمع شيخيه، حمل إسناد أحدهما -وهو مرسل- على الآخر -وهو موصول.
(2)
بل رواية أبي داود كغيره: عن سليمان وأبي الزبير، وهى في السنن - كتاب الجنائز، باب في البناء على القبر، الحديث الثاني في الباب، رقم (3218) وهي التي اقتصر عليها المزي في التحفة (2/ 186 - رقم 2273).