المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد الحمد لله الذي جعل على رأس كل زمانٍ بقايا من - النكت الجياد المنتخبة من كلام شيخ النقاد - جـ ٣

[إبراهيم بن سعيد الصبيحي]

فهرس الكتاب

- ‌الْقسم الثالث«القواعد النظرية والاستقرائية التي بنى عليها المعلمي منهجه في النقد»

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأولفي فصول نافعة في السنة وأهلها، وعناية الأئمة بها، ومدح أصحاب الحديث، وذم مخالفيهم من أهل الكلام والرأي

- ‌الفصل الأولفي تعريف "السنة

- ‌الفصل الثانيفي منزلة السنة من الدين

- ‌الفصل الثالثكتابة الحديث في العهد النبوي، وأسباب عدم انتشار ذلك حينئذٍ، والاستدلال بحفظ الله تعاله للسنة على دحض شبهات المخالف

- ‌الفصل الرابعتحقيق المقال في الأحاديث الواردة في النهى عن كتابة الحديث

- ‌الفصل الخامسعناية الأئمة بحفظ السنة واحتياطهم البالغ في نقد الرواة والأخبار

- ‌الفصل السادسفي الانتصار لأصحاب الحديث، وبيان مراعاتهم للعقل في نقد الأسانيد والمتون، وذم ما عليه المتكلمون والمتفلسفون لخوضهم في غوامض المعقول

- ‌الفصل السابعفي بيان بعض ما انتقد على أهل الرأي والكلام والكُتَّاب العصريين في دفع الصحيح من المرويات وقدح الثقات من الرواة وغير ذلك

- ‌الفصل الثامنفي رفع الإشكال عن كلمات في ذم الحديث وطلبته خرجت من أصحابها دون قصد ظاهرها

- ‌الفصل التاسعالإشارة إلى إعراض كثير من الناس في العصور المتأخرة عن هذا العلم العظيم، ووجوب تسليم مَن دون أئمة الحديث لهم في معرفة المقبول من المردود

- ‌الباب الثانيفي قواعد نقد الخبر وشرائط قبول الحديث

- ‌الفصل الأولالقواعد النظرية ومنزلتها من النقد

- ‌الفصل الثانيمراتب نقد الخبر، وشرائط قبول الحديث

- ‌المرتبة الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا

- ‌الشرط الأول: الإسلام

- ‌الشرط الثاني: البلوغ

- ‌الشرط الثالث: العقل

- ‌الشرط الرابع: العدالة

- ‌المبحث الأولفي معنى العدالة

- ‌المبحث الثانيفي ذكر بعض شروط تحقيق العدالة

- ‌المبحث الثالثفي عدالة الصحابة

- ‌المبحث الرابعفي عدالة التابعين

- ‌المبحث الخامسأوجه الطعن في العدالة

- ‌الوجه الأولرمي الراوي بالكذب في الحديث النبوي

- ‌المطلب الأولفي بيان حفظ الله تعالى للسنة من اختلاط الكذب ونحوه بها وأن وقوع الكذب في الرواية لا يمنع من معرفة الصدق فيها

- ‌المطلب الثانيفي ذم الكذب

- ‌المطلب الثالثفي الرواية عن الكذابين والمتروكين ونحوهم

- ‌المطلب الرابعفي رواية الأحاديث المكذوبة والباطلة والمنكرة في الكتب

- ‌المطلب الخامسفي سرقة الحديث

- ‌أولًا: المقصود بسرقة الحديث:

- ‌ثانيًا: الباعث على سرقة الحديث وقيمة معرفة ذلك:

- ‌ثالثًا: من دلائل الاتهام بسرقة الحديث:

- ‌رابعًا: بعض مسالك الكذابين والسارقين:

- ‌1 - تركيب الأسانيد على متون مسروقة:

- ‌2 - السارق يُدخل الحديثَ على من لا يُظن به الكذب ترويجًا له:

- ‌3 - الكذب على المغمورين أبعد عن الفضيحة:

- ‌4 - أمثلة للتهمة بسرقة الحديث ونظر المعلمي في ذلك:

- ‌خامسًا: السارق لا يُعتد بمتابعته:

- ‌المطلب السادسمن قواعد الحكم على الحديث بالبطلان أو الوضع، وأنه لا يلزم اشتمال إسناده على كذاب

- ‌أولا: قال الشيخ المعلمي في مقدمة الفوائد المجموعة:

- ‌ثانيًا: نماذج من تطبيق المعلمي لتلك القواعد:

- ‌الوجه الثانيأنواع من الكذب تُلحق بالكذب في الحديث النبوي

- ‌الوجه الثالثرمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي

- ‌الوجه الرابعالتهمة بالكذب

- ‌الوجه الخامسخوارم المروءة

- ‌الوجه السادسالبدعة

- ‌ قال العلامة المعلمي في كتاب "الاستبصار

- ‌ وقال في "عمارة القبور

- ‌ وقال المعلمي في القاعدة الثالثة من قسم القواعد من "التنكيل

- ‌الوجه السابعالجهالة

- ‌الفائدة الأولى: مناهج بعض الأئمة في توثيق المجاهيل

- ‌الفائدة الثانية: المجهول قد يَسْقُطُ أو يُتَّهَمُ بما يرويه إذا قامت القرائن على ذلك:

- ‌الفائدة الثالثة: عدم وقوف أمثالنا على ترجمة للرجل لا يُسَوِّغُ لنا الحكم عليه بالجهالة:

- ‌الفائدة الرابعة: أمثلة لـ: "مجهول الحال

- ‌الشرط الخامس من الشروط الواجب توفرها في الراوي: الضبط

- ‌ ضبط الصدر

- ‌المسألة الأولىالأصل فى الحفظ هو حفظ الصدور

- ‌المسألة الثانيةضبط الصغير المميز

- ‌المسألة الثالثةفي بيان حد الضابط لحديثه، وهل من شرط الضابط أن لا يقع له النسيان أو الشك

- ‌المسألة الرابعةهل الضبط يتجزأ

- ‌المسألة الخامسةالأمية وأثرها في ضبط الراوي

- ‌المسأله السادسةأوجه الطعن في ضبط الراوي أو مظاهر خفة ضبط الراوي

- ‌الوجه الأولوقوع الخطأ في حديث الراوي

- ‌المطلب الأولتفاوت درجات وقوع الخطأ في حديث الراوي، وأثر ذلك في الحكم عليه بالقبول والرد

- ‌المطلب الثانيالإصرار على الخطأ وأثره في قبول الراوي

- ‌الوجه الثاني من أوجه الطعن في ضبط الراوي

- ‌المطلب الأولكبر السن أو ذهاب البصر لا يستلزم التغير، فإنا كان فإنه لا يستلزم الاختلاط الاصطلاحي

- ‌المطلب الثانيقد يتغير الرجل أو يختلط ولا يظهر له في ذلك الحال ما يُنكر عليه

- ‌المطلب الثالثرواية حاكي الاختلاط عن المختلط هل يُعتد بها

- ‌الوجه الثالث من أوجه الطعن في الضبط: قبول التلقين

- ‌المطلب الأولمعنى التلقين وعلاقته بالوضع ونحوه

- ‌المطلب الثانيجواز التلقين على سبيل الامتحان مع بيان ذلك في المجلس وأن الشيخ يسقط بكثرة قبوله له

- ‌المطلب الثالثالإعلال باحتمال وقوع التلقين ممن جُرِّبَ عليه ذلك

- ‌الوجه الرابع من أوجه الطعن في الضبط: الإدخال في حديث الراوي

- ‌المطلب الأولالإدخال القادح وغير القادح

- ‌المطلب الثانيشأن من أُدخلت عليه أحاديث ألا يُقبل منه إلا ما رواه عنه متثبت ينظر في أصول كتبه

- ‌المطلب الثالثقد يسقط الرجل إذا حدث بأحاديث أدخلت عليه

- ‌الوجه الخامس من أوجه الطعن في الضبط: الغفلة

- ‌الوجه السادس من أوجه الطعن في الضبط: النسيان

- ‌ ضبط الكتاب

- ‌المطلب الأولأهميةُ الضبطِ بالكتابة، وعنايةُ المحدثين بأصلِ السماعِ، والمطالبةُ به إذا حَدَثتْ رِيبةٌ، وهل يُغمزُ الراوي حينيذٍ إذا لم يُبْرِزْهُ؟ وهل يُعذر أحيانا إذا لم يبرز بروايته أصلا

- ‌المطلب الثانيصحة كتاب الراوي تغني عن النص على ضبطه إذا كان صدوقا

- ‌المطلب الثالثهل تصح رواية الراوي من غير أصله إذا وثق به

- ‌المطلب الرابعهل الروايةُ من أصلٍ موثوقٍ فيه موثوقٍ أمتنُ أم الرواية من الحفظ

- ‌المطلب الخامستقديم المفضول على الفاضل في شيخٍ لروايته عنه من أصله

- ‌المطلب السادسرواية أهل الثبت والتحري عمن في أصوله سُقْمٌ واضطراب ونحو ذلك

- ‌المطلب السابعوقع الخطأ في الحداثة وبقاؤه في الأصل العتيق للشيخ

- ‌المطلب الثامنضياع الكتب أو دفنها وأثر ذلك على ضبط الراوي

- ‌المطلب التاسعرواية الضرير من كتبه

- ‌المطلب العاشرفوائد تتعلق بالنُسَخِ والأصولِ، وذِكْرِ التسميعات والتصحيحات، وعادة المحدثين في كتابة السماع في كل مجلس، وكيف تصح رواية الحفاظ المتأخرين للكتب الستة ونحوها

- ‌كثرةُ التسميعات والتصحيحات في الأصول القديمة لا ينفي وقوع الخلل فيها

- ‌عادةُ المحدثين كتابةُ السماع في كل مجلس، وما يترتب على ذلك

- ‌استغناء أهل العلم بالوثوق بصحة النسخة عن اشتراهما صحة السند إليها

- ‌المرتبة الثانية: النظر في اتصال الخبر

- ‌المطلب الأولقضية اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين

- ‌1 - البحث الذى ذكره الشيخ المعلمي في "عمارة القبور

- ‌2 - القاعدة التاسعة من مقدمة "التنكيل" تحت عنوان: مباحث في الاتصال والانقطاع:

- ‌المبحث الأول

- ‌المبحث الثاني

- ‌المبحث الثالث

- ‌المبحث الرابع

- ‌المبحث الخامس

- ‌3 - جواب المعلمي

- ‌المطلب الثانيفوائد متفرقة تتعلق بقضية التدليس

- ‌الأولى: أثر التدليس على العدالة

- ‌الثانية: الفرق بين حدِّ التدليس والإرسال:

- ‌الثالثة: الوصف بمطلق التدليس يُحمل على أخف أنواعه وهو: تدليس الشيوخ، أما تدليس التسوية فلا بد فيه من التصريح به:

- ‌الرابعة: عنعنة المدلسين داخل "الصحيحين

- ‌الخامسة: الإعلال بالتدليس:

- ‌المطلب الثالثضرورة إجراء القواعد في نقد صيغ الأداء الواردة في الأسانيد

- ‌المطلب الرابعقضايا ومسائل تتعلق بالسماع

- ‌1 - معنى السماع بمعناه الواسع:

- ‌2 - نفي السماع لا يلزم منه انتفاء جميع صور التحمل كالإجازة والمكاتبة ونحوها:

- ‌3 - لا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع؛ فإن كثيرا من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشيء:

- ‌4 - عادة المحدثين إثبات سماع الحاضرين في مجالس السماع:

- ‌المطلب الخامسالاعتماد على النظر في سني الولادة والوفاة للرواة لبحث قضية السماع أو الإدراك لاسيما إذا لم توجد نصوص في ذلك

- ‌المطلب السادسنقد بعض صور التحمل سوى السماع

- ‌1 - الوجادة:

- ‌2 - الإجازة:

الفصل: ‌ ‌تمهيد الحمد لله الذي جعل على رأس كل زمانٍ بقايا من

‌تمهيد

الحمد لله الذي جعل على رأس كل زمانٍ بقايا من أهل العلم، يَدُلُّونَ مَنْ ضَلَّ إلى الهُدى، ويُبَصِّرُون بنور الله أهلَ العَمى، يَلُمُّون شَعَثَ العِلْم، وَيسُدُّونَ ثَغَراتِه، يُصلحون ما فَسَدَ منه، ويجمعون شَتَاتَهُ.

عَلموا أن الغُرْبَةَ في هذا الفنِّ -أعني عِلْمَ الحديث- مُسْتَحْكِمَةٌ فيه مُنذ نشأته، وبَيْن أهلِه، وفي زمن ازدهاره.

قال أبو حاتم الرازي - كما في تقدمة "الجرح والتعديل"(ص 356):

"جرى بيني وبين أبي زرعة يومًا تمييزُ الحديث ومعرفتُه، فجعلَ يَذكرُ أحاديثَ ويذكر عِلَلَها، وكذلك كنتُ أذكر أحاديثَ خطأ، وعِلَلَها، وخطأَ الشيوخ.

فقال لي: يا أبا حاتم، قَلَّ مَنْ يفهمُ هذا، ما أعزَّ هذا، إذا رفعت هذا من واحدٍ واثنين، فما أقلَّ مَنْ تجدُ مَنْ يُحْسِنُ هذا، وربما أشُكُّ في شيء أو يتخالجني شيءٌ في حديثٍ، فإلى أن ألتقيَ معك لا أجدُ من يَشْفِيني منه.

قال أبو حاتم: وكذاك كان أَمْرِي.

فقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: محمد بن مسلم -يعني: ابن وارة-؟ قال: يحفظ أشياءَ عن محُدِّثِين يُؤَدِّيها، ليس معرفتُه للحديث غريزةً". اهـ.

ومحمد بن مسلم بن وارة الرازي حافظٌ ثَبْتٌ، قال ابن أبي حاتم: ثقة صدوق، وجدتُّ أبا زرعة يُجِلُّهُ ويُكْرِمُهُ. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أحفظُ مَنْ رأيتُ: ابنُ الفرات وابنُ وارة، وأبو زرعة. وقال النسائي: ثقةٌ صاحبُ حديثٍ. وقال الطحاوي: ثلاثةٌ بالرّيّ لم يكن في الأرض مثلُهم في وقتهم: أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن وارة.

ص: 15

فقولُ أبي حاتم في ابن وارة -مع ما سبق-: "ليس معرفتُه للحديث غريزةً"، وعدمُ وِجْدان أبي حاتم وأبي زرعة مَنْ يذاكرانه في دقائق هذا الفن، يَدُلَّان على غُربة هذا الشأن في بلدهما حينئذٍ، وقِسْ على هذا سائرَ البلدان.

هذا مع وجود جُملةٍ من حُفاظ الحديث المشتغلين به، المُطلعين علي كثير من أحوال رواته في ميادين الرواية ومجالس السماع، فكيف الحالُ إذًا في ما بعد عصور الرواية؟

ولهذه الغُربة، ربما اتُّهِم بعضُ أولئك النقادِ الصيارفةِ بالكهانةِ وادِّعاءِ عِلم الغيب، أو بالتخمين والحَدَس، أو بالتَّكلُّف والتنطُّع

ومَن جَهِل شيئًا عاداه.

ولما اختص الله تعالى به هذه الفئةَ من ذلك، فقد عَلموا خطورةَ ما كُلِّفُوا به، فحَمَلُوا أنفسَهم على المتاعب، ورفعوا الأَلْوِيَة وسْط المخاطر، لم يَرُعْهُمُ الوَغَى، ولم يأبهوا بكثرة المخالِف.

هم الأئمة العلماء، والسَّادة الفُهَماء، أهْلُ الفضل والفضيلة، والمرتبة الرفيعة، لولا عنايتُهم بضبطِ السُّنن، وجمعِها، واستنباطِها من معادخها، والنظرِ في طُرُقها، لبطلت الشريعة، وتعطَّلت أحكامُها؛ إذ كانت مستخرجةً من الآثار المحفوظة، ومستفادةً من السنن المنقولة.

فمن عَرِف للإسلام حقَّهُ، وأوجب للدين حُرْمَتَهُ، أَكْبَرَ أن يحتقر مَن عظَّم الله شأَنَهُ، وأَعْلَى مكانه، وأظهر حُجَّتَهُ، وأبان فضيلته، ولم يَرْتَقِ بطعنه إلى حزب الرسول، وأتباع الوحي، وأوعية الدين، وخزنة العلم.

ولم يَألُ أئمةُ هذا الفنِّ ومُؤَسِّسُوهُ جهدًا في بيان قواعده، وشرح أصوله، وكشف غُموض مسائله؛ أداءً للأمانة، وتعليمًا للجاهل، ودلالةً للطالب، إلا أنهم لم يضعوا لذلك مصنفاتٍ خاصة، ولم يسلكوا حيال ذلك سبيلَ البَسْط في كل موضع، بل

ص: 16

تُؤخذُ قواعدُ هذا الفن وأصولُه من مجموع كلامهم وتصرفاتهم في الأحوال المختلفة، مع فهم ما أجملوه في مواضع في ضوء ما بيَّنُوه في أخرى.

وإذا كان حفظُ السُّنة من حفظِ الكتاب، فكذلك حفظُ ما تُحفظ به السُّنة، فلِلْوسائل أحكامُ المقاصد، لذا فقد حفظ الله تعالى أصولَ هذا العلم؛ لأنه لا يمكن حفظُ السُّنة إلا به، فيه يتميز صحيحُ السُّنة من ضعيفها، ولو لم يُحفظ هذا العلمُ، لما أمكن التوصل إلى معرفة ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يصحّ، ولا يمكن حينئذٍ أن يُقال: إن السُّنة قد حُفظت.

وقد أجرى الله تعالى على أَلْسِنة وبأقلام أئمةِ هذا الشأن من أنواع العلوم، والمسائل، والمباحث، والقضايا المتعلقة بأحوال الراوي والمروي: ما كَفَى الله به مؤنة هذا الفنِّ مَنْ بعدهم، وجعله مَقنعًا لكل مُنصف يريد الحقَّ، ويَعرفه لأهله، فلكل عِلْمٍ "أهلُ ذكرٍ" يُرجع إليهم فيه، فَهُمُ المعيار الذي يُقاس عليه، فلا يُلتفت إلى مَنْ خالفهم.

لكن مع مرور الزمان، وتقادُم العهد، وتتابُع عوامل التغيير: التاريخي، والفقهي، والفكري، والعقائدي، بل والسياسي: وقع انحرافٌ عَمَّا أسَّسَهُ الأوائل من قواعدِ هذا الفن وأصولِه.

وتزداد زاويةُ هذا الانحراف كلما استحكمتْ أمورٌ:

منها: البُعدُ عما خَلَّفَهُ المتقدمون من كتب أحوال الرواة، والتواريخ، والعلل، والسؤالات، ونحو ذلك مما سَطَّرُوا فيه النَّهْجَ السديد الذي يتضح منه اتفاقهم على أصوله العامة وقواعده الأساسية.

ص: 17

ومنها: هجومُ غير أهل الاختصاص على التصنيف في علوم هذا الفن، يُعلم ذلك بالنظر في قائمة مَنْ صنفوا فيه، فأكثرهم ممن جُلُّ اشتغالهم بالفقه، والأصول، والكلام، لذا تجد هذه الصِّبْغة غالبةً في تناول المسائل والمباحث هناك.

وصار منهجُ المحدثين يُحكَى على أنه مجرد رأي في مقابل مناهج غيرهم من الأصوليين والفقهاء، بل وُيرد قولُ المحدثين -وهم أهل الشأن والاختصاص- بقول غيرهم، أو يُشَوَّشُ عليه.

وهذا ظُلمٌ بَيِّنٌ، وهَضْمٌ لِحَقِّ مَنْ أعلى الله شأنَهم، وأوجب على الناس اتباعهم، ولي في ذلك رسالة؛ أجمع فيها تلك المسائل والقضايا التي أشغب فيها الأصوليون والفقهاء وغيرهم على أهل الحديث، ونازلوهم فيها؛ تنقيةً لهذا العلم من مُداخلة غير أهله فيه، وإعادةً للأمور إلى نصابها، يَسَّرَ الله إتمامها.

ومنها: الاسترواح إلى مذاهب أهل التساهل الذين دَأَبُوا على الميل إلما ترك الاحتياط والاعتماد على حسن الظن في باب الرواة والحكم على الأخبار، وهو خلاف ما قرَّره أئمة هذا الشأن.

ومنها: تطرق الكثير من التجويزات العقلية والاحتمالات المجرَّدة في ردِّ تحقيقات النقاد وتعليلاتهم.

ومنها: تطرق أهل التعصب المذهبي، الذين تدفعهم محاولةُ تقوية ما يَستدل به مذهبُهم من الأحاديث، أو توهينُ ما سوى ذلك: إلى مخالفاتٍ واضحةٍ في تحريف القواعد، ولَيِّ أعناق الأصول، وادعاءِ تقريراتٍ وتحريراتٍ يُصَنِّفون فيها من أَجل هذا المقصد، يتناولون ذلك من قريب ومن بعيد، تصريحًا تارة وتلميحًا أخرى، كاسِينَ ذلك كلَّهُ ثوبَ الكلام في "مصطلح الحديث" مع النقولات المحتملة التي يوجهونها حسبما يتفق مع آرائهم الفقهية أو الحديثية.

ص: 18

ومنها: تطرق أهل البدع، والمذاهب الفكرية المخالفة للمذهب الحق: مذهب أهل السُنة والجماعة، وهو مذهب أهل الحديث من المتقدمين كثير من المتأخرين.

فهؤلاء نحو الطائفة السابقة في تعاملهم مع السُنة وأهلها، لكنَّ هؤلاء لا يأْلُون في حديثيِّ سُنِّيٍّ إلا ولا ذِمَّةً، يَسْعَون بكل ما أُوتوا من أساليب الحِيل والتلبيس والتغرير إلى محاولة الإطاحة بكل مَنْ يرفعُ لواءَ السُّنة ويدافع عنها وعن أهلها، لا سيما من يكشف زيغَهم ومكائدَهم.

ولا يدري هؤلاء المساكين أن الله تعالى هو ناصرُ السُّنَّةِ وأهلِها، وقامعُ البدعة وأذيالها، على مَرِّ الأيام وتتابع الزمان، وأن هذه السهام الطائشة التي يوجهونها بين الفَيْنَةِ والأخرى لأحد معالم السُّنة ورموز أهلها، إنما ترتد في نحورهم:{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} .

ولعل سائلًا يسأل عن سِرِّ اشتغال هذه الطوائف بعلم الحديث، وتصنيفهم فيه، ومزاحمتهم لأهله.

فأقول: احتاج هؤلاء إلى تدعيم آرائهم ومذاهبهم، فرأوا أن كثيرًا من المسائل التي تُبْنَى عليها تلك الآراء، إنما ترجع أصولُها إلى أخبار وآثار، فاحتاجوا إلى تثبيتها وتصحيحها بأيِّ سبيلٍ كان، وكذا الأخبار والآثار التي يَحتج بها المخالف لهم، احتاجوا إلى دَفْعِها وتَوهِينها مَهْمَا كان.

لكنهم رَأَوْا أن التَثْبِيتَ والدَّفْعَ إذا كان بالصَّدْر وبلا حجةٍ: كان أَدَلَّ على الجهل والعصبية، فلم يُقبل منهم، ورُموا بالعجز مع ذلك، فرأوا أنه لا بد لهم من أن يُعْرَفُوا بالمشاركة في علوم الحديث، حتَّى يَسُوغَ لهم الكلامُ فيه كما يشتهون.

ولأنهم لا يرون في كلام أهل النقد حُجَّةً ولا مَقنعًا؛ لمخالفة أكثرة لأهوائهم، عمدوا إلى قواعد هذا الفنّ ومصطلحاته، فحاولوا تمييعَ كثيرٍ منها؛ لتناسب آراءهم،

ص: 19

وإلى أئمة الجرح والتعديل فأنزلوهم منازلَ تمُكنهم من قبول قولِ هذا، وردّ قول ذاك، حسبما يتفق مع مرادهم.

ولكشف هذه الأمور مواضعُ أخرى، ترى شيئًا منها في رسائل لي، منها:"القواعد المهمة في إحياء مناهج الأئمة" وهي قيد الجمع.

وتأكيدًا لِمَا سبق بيانُه من فضل الأوائل من أئمة هذا الفن في إرساء قواعده، وتحرير مسائله، وشرح غوامضه، نذكر هاهنا عباراتٍ مهمة لبعض المُنْصِفين من الحفاظ والمحققين، سجَّلُوا فيها شهاداتٍ غالية، أعطَوْا فيها كل ذي حق حقه، وسلَّمُوا القوس إلى باريها.

1 -

قال الدارقطني:

"من أحب أن يعرف قصور علمه عن علم السلف، فلينظر في "علل حديث الزهري" لمحمد بن يحيى -يعني: الذهلي". "تهذيب التهذيب"(9/ 515).

2 -

وقال الذهبي في ترجمة: أبي بكر الإسماعيلي من "تذكرة الحفاظ"(3/ 948):

"صنَّف الصحيح وأشياء كثيرة، من جُملتها مسند عمر رضي الله عنه، هذَّبه في مجلدين، طالعتُه، وعلَّقْتُ منه، وابتهرت بحفظ هذا الإِمام، وجزمتُ بأن المتأخرين على إياسٍ من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة". اهـ.

3 -

وفي ترجمة: أحمد بن يوسف بن خلاد بن منصور النصيبي ثم البغدادي العطار من "سير أعلام النبلاء"(16/ 69):

"قال الخطيب: كان لا يَعرف شيئًا من العلم، غير أن سماعه صحيح، وقد سأل أبا الحسن الدارقطني، فقال: أيما كبر الصالح أو المُدّ؟ فقال للطلبة: انظروا بلى شيخكم.

وقال أبو نعيم: كان ثقة.

ص: 20

وكذا وثقه أبو الفتح بن أبي الفوارس، وقال: لم يكن يعرف من الحديث شيئًا.

قال الذهبي:

فمن هذا الوقت، بل وقبله، صار الحفاظ يُطلقون هذه اللفظة على الشيخ الذي سماعُه صحيحٌ بقراءة مُتقنٍ، وإثباتِ عَدْلٍ، وترخَّصُوا في تسميته بالثقة.

وإنما الثقة في عُرْف أئمة النَّقد كانت تقع على العَدل في نفسه، المتقين لما حمله، الضابط لما نَقَل، وله فهمٌ ومعرفةٌ بالفنِّ، فتوسَّعَ المتأخرون.

مات ابن خلَّاد في صفر سنة تسع وخمسن وثلاثمائة. اهـ.

4 -

وقال الذهبي في "تذكرة الحفاظ"(2/ 627 - 628):

"فبالله يا شيخ: ارفق بنفسك، والزم الإنصاف، ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشَّزْر، ولا ترمقنَّهم بعين النقص، ولا تعتقد أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا

وليس في كبار محدثي زماننا أحدٌ يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبُك لِفَرْطِ هواك تقول بلسان الحال إن أعوزَكَ المقال: مَنْ أحمدُ؟ وما ابن المديني؟ وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟ هؤلاء محُدِّثون ولا يدرون ما الفقه؟ وما أصوله؟ ولا يفقهون الرأي، ولا عِلْمَ لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة؟ لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هُم من فقهاء الملة.

فاسكتْ بحِلمٍ، وانطِقْ بعلمٍ، فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء.

ولكن نِسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أَنْتَ، وإنما يَعرف الفضلَ لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه

". اهـ.

5 -

وقال الذهبي عند ذكر الخلاف في الاحتجاج بالحديث المعنعن من كتاب

ص: 21

"الموقظة"(ص 46):

"وهذا في زماننا يَعْسُر نَقْدُهُ على المحدث؛ فإن أولئك الأئمة كالبخاري وأبي حاتم وأبي داود عاينوا الأصول، وعرفوا عللها، وأما نحن فطالت علينا الأسانيد، وفُقدت العباراتُ المتيقنة". اهـ.

6 -

وذكر ابن القيم في "تهذيب السنن"(1/ 107 - 109) حديث أنس في تخليل اللحية، وقال:

"رواه الذهلي في كتاب "علل حديث الزهري" عن محمد بن عبد الله بن خالد الصفار، حدثنا محمد بن حرب، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن أنس بن مالك، به مرفوعًا، ثم قال:

تصحيح ابن القطان لحديث أنس من طريق الذهلي فيه نظر، فإن الذهلي أعلَّهُ، فقال في الزهريات: وحدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، أنه بلغه عن أنس بن مالك -فذكره- قال الذهلي: هذا هو المحفوظ.

قال ابن القطان: وهذا لا يضره؛ فإنه ليس مَن لم يحفظ حُجَّةً على مَنْ حفظ، والصفَّار قد عيَّنَ شيخَ الزبيدي فيه، وبيَّن أنه الزهري، حتَّى لو قلنا: إن محمد بن حرب حدث به تارة، فقال فيه: عن الزبيدي بلغني عن أنس، لم يضره ذلك، فقد يراجع كتابه، فيعرف منه أن الذي حدّث به: الزهري، فيحدث به عنه، فأخذه عن الصفار هكذا.

قال ابن القيم:

"وهذه التجويزات لا يَلتفتُ إليها أئمةُ الحديث وأطباءُ عِلَلِه، ويعلمون أن الحديث معلول بإرسال الزبيدي له، ولهم ذوقٌ لا يحولُ بينه وبينهم فيه التجويزات والاحتمالات". اهـ.

ص: 22

7 -

وذكر ابن رجب الحنبلي في "فتح الباري"(1/ 361) مَنْ رخَّص في نوم الجنب من غير وضوء، ثم قال:

"قد ورد حديثٌ يدل على الرخصة من رواية أبي إسحاق، عن الأسود، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب، ولا يمسُّ ماءً.

قال: خرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وقال: قد روى غير واحد عن الأسود، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ قبل أن ينام -يعني جنبًا- قال: وهذا أصح من حديث أبي إسحاق عن الأسود، قال: ويرون أن هذا غلط من أبي إسحاق.

وهذا الحديث مما اتفق أئمة الحديث من السلف على إنكاره على أبي إسحاق، منهم: إسماعيل بن أبي خالد، وشعبة، ويزيد بن هارون، وأَحمد بن حنبل، وأبو بكر ابن أبي شيبة، ومسلم بن الحجاج، وأبو بكر الأثرم، والجوزجاني، والترمذي، والدارقطني

وقال أحمد بن صالح المصري الحافظ: لا يحلُّ أن يُروى هذا الحديث -يعني أنه خطأ مقطوع جمع فلا تحلُّ روايته من دون بيان علته.

وأما الفقهاء المتأخرون، فكثيرٌ منهم نظر إلى ثقة رجاله فظنَّ صحته، وهؤلاء يظنون أن كُلَّ حديث رواه ثقة، فهو صحيح، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث.

ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين كالطحاوي والحاكم والبيهقي

اهـ.

8 -

وفي باب: "ما يقول بعد التكبير" من شرح ابن رجب لـ "صحيح" البخاري (6/ 372):

بحث ابن رجب الأحاديث المتعلقة بالجهر بالبسملة، لا سيما حديث أنس في ذلك، ورجح ما جاء صريحًا في بعض روايات أنس من ترك ذكر البسملة في القراءة.

ص: 23

وأشار ابنُ رجب إلى ما ورد مما يدلُّ على الجهر، وأعلَّها بالاضطراب في الإسناد والمتن، وأنه لا يجوز أن يكون معارضًا لأحاديث أنس الصحيحة الصريحة، ثم قال:

"فمن اتقى وأنصف علم أن حديث أنس الصحيح الثابت لا يُدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ التي لم يرض بتخريجها أصحابُ "الصحاح"، ولا أهل "السنن" مع تساهل بعضهم فيما يخرجه، ولا أهل المسانيد المشهورة مع تساهلهم فيما يخرجونه.

وإنما جُمعتْ هذه الطرق الكثيرة الغريبة والمنكرة لمَّا اعتنى بهذه المسألة من اعتنى بها، ودخل في ذلك نوعٌ من الهوى والتعصُّب، فإنَّ أئمة الإسلام المجتمع عليهم إنما قصدوا اتباعَ ما ظهر لهم من الحق وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن لهم قصدٌ في غير ذلك رضي الله عنهم.

ثم حدث بعدهم مَنْ كان قصدُه أن تكون كلمةُ فلانٍ وفلانٍ هي العليا -ولم يكن هذا قصدَ أولئك المتقدمين- فجمعوا، وكثَّرُوا الطرق، والروايات الضعيفة، والشاذة، والمنكرة، والغريبة، وعامَّتها موقوفات، رفعها من ليس بحافظ أو من هو ضعيف لا يُحتج به، أو مرسلات وصلها من لا يحتج به

والعجب ممن يعلل الأحاديث الصحيحة المخرجة في "الصحيح" بعلل لا تساوي شيئًا، إنما هي تَعنُّتٌ مَحضٌ، ثم يحتجُّ بمثل هذه الغرائب الشاذة المنكرة، ويزعم أنها صحيحة لا عِلة لها". اهـ.

9 -

وقال ابن كثير عند الكلام على اشتراط بيان السبب في الجرح من كتابه "اختصار علوم الحديث"(ص 79):

ص: 24

"أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يُؤخذ مُسَلَّمًا من غير ذكر أسباب؛ وذلك للعلم بمعرفتهم واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح

". اهـ.

10 -

وقال ابن حجر عند ذكر "معرفة العلل" من كتاب "النكت على كتاب ابن الصلاح"(2/ 711):

"وهذا الفن أغمضُ أنواع الحديث وأدقُّها مسلكًا، ولا يقوم به إلا مَنْ منحه الله تعالى فهمًا غائصًا، واطلاعًا حاويًا، وإدراكًا لمراتب الرواة، ومعرفةً ثاقبة.

ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحُذَّاقهم، وإليهم المرجع في ذلك؛ لِمَا جعل الله تعالى فيهم من معرفة ذلك والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك.

وقد تقصر عبارة المعلِّل منهم، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى، كما في نقد الصيرفي سواء، فمتى وجدنا حديثًا قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأَوْلى اتباعه في ذلك، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه.

وهذا الشافعي مع إمامته يحيلُ القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول: وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث". اهـ.

11 -

ثم قال بعد ذلك (2/ 726) تعقيبًا على تعليل الأئمة لحديث أبي هريرة في كفارة المجلس:

"

بهذا التقرير يتبين عظمُ موقعِ كلام الأئمة المتقدمين، وشدةُ فحصهم، وقوةُ بحثهم، وصحةُ نظرهم، وتقدمُهم بما يوجب المصيرَ إلى تقليدهم في ذلك، والتسليمَ لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى على ظاهر الإسناد، كالترمذي،

ص: 25

وكأبي حاتم ابن حبان، فإنه أخرجه في "صحيحه"، وهو معروف بالتساهل في باب النقد". اهـ.

12 -

وقال السخاوي عند ذكر "الموضوع" من أنواع الحديث في كتابه "فتح المغيث"(1/ 237):

"لذا كان الحكم من المتأخرين عسرًا جدًّا، وللنظر فيه مجالٌ، بخلاف الأئمة المتقدمين، الذين منحهم الله التبحر في علم الحديث، والتوسع في حفظه؛ كشعبة، والقطان، وابن مهدي ونحوهم، وأصحابهم مثل أحمد، وابن المديني، وابن معين، وابن راهويه وطائفة، ثم أصحابهم مثل البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وهكذا إلى زمن الدارقطني، والبيهقي، ولم يجيء بعدهم مساوٍ لهم ولا مقارب، أفاده العلائي، وقال: متى وجدنا في كلام أحد من المتقدمين الحكم به كان معتمدًا، لما أعطاهم الله من الحفظ الغزير، وإن اختلف النقل عنهم عُدِلَ إلى الترجيح". اهـ.

13 -

وقال في آخر نوع "المعلل" منه (1/ 220):

"هو أمر يهجم على قلوبهم، لا يمكنهم رَدُّه، وهيئة نفسانية لا معدل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة، والإسماعيلي، والبيهقي، وابن عبد البر، لا ينكر عليهم، بل يشاركهم، ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة.

هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والتجريح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فَنٍّ إلى أهله.

ومَنْ تَعاطى تحريرَ فَنٍّ غير فَنِّه فهو مُتَعَنّ، فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالًا نقادًا تفرغوا له، وأفنوا أعمارهم في تحصيله، والبحث في غوامضه وعلله ورجاله، ومعرفة مراتبهم في القوة واللين.

ص: 26

فتقليدهم، والمشي وراءهم، وإمعان النظر في تآليفهم، وكثرة مجالسة حفاظ الوقت، مع الفهم، وجودة التصور، ومداومة الاشتغال، وملازمة التقوى والتواضع، يوجب لك إن شاء الله معرفة السنة النبوية، ولا قوة إلا بالله". اهـ.

قاله أبو أنس:

هذه نماذج مما سَطَّر به مَنْ ذكرنا من الحفاظ شهادتَهم في حَقِّ متقدمي أهل هذا الفَنِّ، وقد قامت الحُججُ على استحقاقهم لتلك المنزلة، وتظاهَر مَنْ ذكرنا من متأخري المحدثين على تأكيد ذلك.

وإذا كان هذا المعنى مستقرًا لدى كُلِّ مُنصف قد ألم بطرفٍ من هذا العلم؛ فإن دلالة ذلك واضحة على ما يلي:

أولًا: وجوب التسليم لهم في باب جرح الرواة وتعديلهم، ولا يُدفع قولهم بقول مَنْ بعدهم ممن لم يبلغوا مبلغهم في العلم والاحتياط والورع.

ثانيًا: وجوب التسليم لهم في باب تصحيح الأخبار وتعليلها، وعدم الالتفات إلى مخالفة غيرهم لهم ممن لم يفطنوا إلى دقائق هذا الفنّ وغوامضه.

ثالثًا: لزوم العناية التامَّة بكتبهم، واستقرائها بتأنٍّ لمن رُزِق أدوات هذا العلم وحَصَّل أسبابه، وذلك مِنْ أَجل الوقوف على أصول هذا الفنّ، وقواعده وحدود ألفاظه، ومعاني مصطلحاته عندهم؛ فَهُمْ قِبلةُ هذا الأمر، فلا يجوز الالتفاتُ عنها لمن أراد القَبُول، فمن ترك كلامهم، وذهب يتلمس ذلك في عبارات المتأخرين التي يخلو كثير منها من التحرير، ويُردد المصنفون فيها كلامَ بعضهم بعضًا مع زيادة كُل منهم شيئًا مما يراه في بعض الأبواب، فلم يأت البيتَ من بابه، ولم يستقبل قبلة هذا العلم.

ص: 27

وليس في هذه الدلالة غَمْصٌ لكتب المتأخرين في "مصطلح الحديث" فإنهم قد ألموا بمجامع هذا العلم وأطرافه، ورتبوا مسائله، وفي تحقيقات بعضهم قطعُ أشواطٍ طويلة في الوصول إلى حقيقة أصول هذا الفن عند بعض الأئمة.

والمقصود أن علم أصول الحديث لم ينضجْ ويحترقْ كما زعم البعض، بل ما زالت كثير من قضاياه بحاجةٍ إلى تحرير.

وهذا الكتاب الذي نحن بصدده إنما هو خطوة على سبيل محاولة تحرير بعض قضايا المصطلح من خلال تحقيقات العلامة المعلمي، ومما يتيسر لي إضافته أثناء ذلك، والله من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.

وهذا أوانُ الشُّروع في المقصود، ومِنَ الله تعالى استمِدُّ العَوْنَ والتوفيق.

ص: 28