الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى
الأصل فى الحفظ هو حفظ الصدور
قال الشيخ المعلمي في "الأنوار الكاشفة" عند الكلام على الرواية بالمعنى (ص 77):
"حفظُ الصدور قد اعتُمِدَ عليه في القرآن، وبقي الاعتمادُ عليه وحده -بعد حفظ الله عز وجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر، وسنين من عهد عثمان؛ لأن تلك القطع التي كُتب فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مفرقة عند بعض أصحابه، لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم، ثم لمَّا جُمِعت في عهد أبي بكر، لم تُنشر هي، ولا الصحف التي كُتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين، حتى طلبها عثمان، ثم اعتُمِد عليه في عامَّةِ المواضع التي يَحتمل فيها الرسمُ وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حتى استقرَّ تدوينُ القراءات الصحيحة.
…
(و) حال الأميين قد اقتضتِ الترخيصُ لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن، مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها؛ لأنه كلامُ ربِّ العالمين بلفظه ومعناه، مُعْجِرٌ بلفظه ومعناه، مُتَعَبَّدٌ بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟
وإذا علمنا
…
ما دلت عليه القواطع أن النبي صلى الله عليه وسلم مبينٌ لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأنَّ كل ما كان منه مما فيه بيانٌ للدين، فهو خالدٌ بخلودِ الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابةَ مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته
…
وأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بكتابة الأحاديث، وأقرَّهُم على عدم كتابتها، بل قيل: إنه نهاهم عن كتابتها كما مَرَّ بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لِمَا عَلِمُوه وفهموه.
وعلمنا أن عادةَ الناس قاطبةً فيمن يُلْقَى إليه كلامٌ؛ المقصود منه معناه، ويُؤمر بتبليغه، أنه إذا لم يَحفظ لفظَهُ على وجهه -وقد ضَبط معناه- لزمه أن يُبلغه بمعناه، ولا يُعد كاذبًا ولا شبهَ كاذب: علمنا يقينًا أن الصحابة إنما أُمِروا بالتبليغ على ما جرت به العادة، مَنْ بَقي منهم حافظًا لِلَّفْظِ على وجهه، فليؤده كذلك، ومَنْ بقي ضابطًا للمعنى، ولم يَبق ضابطًا لِلَّفْظِ، فليؤده بالمعنى.
هذا أمرٌ يقيني لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته.
…
وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه، إنما المرادُ به الكذبُ في المعاني، فإن الناس يَبعثون رسلهم ونُوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم، فإذا لم يُشترطْ عليهم المحافظةُ على الألفاظ، فبلغوا المعنى، فقد صدقوا.
ولو قلتَ لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك، فذهب، وقال له: والدي -أو الوالد- يدعوك، أو: يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعًا صادقًا، ولو اطلعتَ بعد ذلك على ما قال، فزعمتَ أنه عمى أو كذب، وأردت أن تعاقبَه لأنكر العقلاء عليك ذلك.
وقد قَصَّ الله عز وجل في القرآن كثيرًا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحَدَّ المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في موضعٍ بألفاظٍ، وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضعٍ، ويختصر في آخر.
فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيانَ شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب، فقال: "نضر الله امرًا سمع منا شيئًا فأداه كما سمعه،
فرب مبلغ أوعى من سامع" جاء بهذا اللفظ أو معناه مطولا ومختصرا من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجبير بن مطعم، وعائشة، وسعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمير بن قتادة، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وزيد بن خالد، وعبادة بن الصامت، منها الصّحيح وغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم كما مر.
…
أما التابعون فقد يتحفظون الحديث كما يتحفظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه:"كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه"، هذا مع قوة حفظه، ذكروا أن صحيفة جابر -على كِبرها- قُرئت عليه مرّة واحدة -وكان أعمى- فحفظها بحروفها، حتى قَرأ مرة سورة البقرة فلم يخطىء حرفًا، ثم قال: لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة
…
". اهـ.
اختبار حفظ الراوي:
ثم قال الشيخ المعلمي:
"كان الأئمةُ يعتبرون حديثَ كُلِّ راوٍ، فينظرون كيف حَدَّثَ به في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يُحدث مرة كذا ومرة كذا، بخلافٍ لا يحتمل، ضَعَّفُوه، وربما سمعوا الحديثَ من الرجل، ثم يَدَعُونه مدةً طويلة، ثم يسألونه عنه.
ثم يُعتبر حرفُ مروياته برواية مَنْ روى عن شيوخه، وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف روايةَ الثقات، حكموا عليه بحسبها.
وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حاله في حديثه كما مر.
وتجدهم يجرحون الرجلَ بأنه يخطىء ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا". اهـ.
• وقال الشيخ المعلمي في "التنكيل"(1/ 200):
"اعلم أن المتقدمين كانوا يعتمدون على الحفظ، فكان النقاد يعتمدون في النقد عدالةَ الراوي واستقامةَ حديثه، فمن ظهرتْ عدالتُه وكان حديثُه مستقيمًا وثقوه، ثم صاروا يعتمدون الكتابة عند السماع
…
". اهـ.
* * *