الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الثاني: البلوغ
قال المعلمي في "الاستبصار"(ص 15):
"وأما البلوغ فهو حَدُّ التكليف، ولا يتحقق الخوف من الله عز وجل والخوف من الناس إلا بعده؛ لأن الصبي مرفوع عنه القلم، فلا يخاف الله عز وجل، وكذلك لا يخاف الناس؛ لأنهم إن ظهروا على كذبٍ منه قالوا: صبي، ولعله لو قد بلغ وتمَّ عقلُه لتحرز، ومع هذا فلا تكاد تدعو الحاجة إلى رواية الصبي؛ لأنه إن روى فالغالب أن المروي عنه حي، فيُراجع، فإن كان قد مات فالغالب إن كان الصبي صادقًا أن يكون غيره ممن هو أكبر قد سمع من ذلك المخبر أو غيره، فإن اتفق أن لا يوجد ذلك الخبر إلا عند ذلك الصبي فمثل هذا الخبر لا يوثق به.
هذا، وعامَّةُ الأدلة على شرع العمل بخبر الواحد موردها في البالغين. اهـ.
قال أبو أنس:
ما ذكره الشيخ المعلمي: ينطبق على الراوي حال الأداء، أما التحمّل ففي الكُتب المعنية بهذا الشأن جدلٌ وكلامٌ لكبار الأئمة بهذا الصدد، أرى من تمام الفائدة أن ألقي الضوء عليها:
• فمن أول من تعرض لهذه المسألة: الرامهرمزي في كتاب "المحدث الفاصل" ففيه باب: "القول في أوصاف الطالب والحد الذي إذا بلغه صلح يطلب فيه".
وهو باب طويل، أسند فيه إلى ابن عيينة قوله: قال الزهري: ما رأيت طالبا للعلم أصغر منه، يعنيني، وسمعت منه وأنا ابن خمس عشرة سنة. قال الرامهرمزي: وقد أخبر ابن عيينة من رواية الجوهري أنه كتب عن الزهري وهو ابن خمس عشرة، فصار بين ابتداء كتبه عنه إلى يوم توفي الزهري سنتان أو نحوهما، واستصغره الزهري لخمس عشرة، وهي حدّ البلوغ عند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد.
ثم قال: وحكى لي حال أن الأوزاعي سُئل عن الغلام يكتب الحديث قبل أن يبلغ الحدَّ الذي تجري عليه فيه الأحكام؟ فقال: إذا ضبط الإملاء جاز سماعه وإن كان دون العشر، واحتج بحديث سبرة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر".
قال: وهذه حكاية عن الأوزاعي لا أعرف صحتها، إلا أنها صحيحة الاعتبار؛ لأنَّ الأمر بالصلاة والضرب عليها إنما هو على وجه الرياضة، لا على وجه الوجوب. وكذلك كَتْبُ الحديث، إنما هو لِلِّقاء وتحصيل السماع، وإذا كان هذا هكذا فليس المعتبر في كَتب الحديث البلوغ ولا غيره، بل يُعتبر فيه الحركة والنضاجة والتيقظ والضبط.
قال: وقد دَلَّ قولُ الزهري: ما رأيت طالبا للعلم أصغر من ابن عيينة، على أن طلاب الحديث عصر التابعين كانوا في حدود العشرين، وكذلك يُذكر عن أهل الكوفة
…
وذكر أخبارا في ذلك.
ثم قال: ولو كان السماع لا يصح إلا بعد العشرين لسقطت رواية كثير من أهل العلم سوى من هو في عداد الصحابة ممن حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، ثم ذكر من هؤلاء: الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، قال: وقال علي بن المديني: حفظ المسور بن مخرمة وهو ابن ثمان، وحفظ عمر بن أبي سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين، وكذلك السائب بن يزيد، وكذلك سهل بن أبي حثمة وثابت بن الضحاك الأشهلي، هؤلاء أبناء ثمان سنين، فأما عبد الله بن حنظلة الراهب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن سبع سنين، وله رواية.
قال: وقال أحمد بن حنبل: حدثني ثابت بن الوليد بن عبد الله بن جميع حدثني أبي قال: قال أبو الطفيل: أدركت ثماني سنين من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولدت عام أحد.
وإلى مسلمة بن مخلد قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن أربع سنين، ومات وأنا ابن أربع عشرة.
ثم ذكر حكايات في حضور ما عُبِّرَ عنه بـ"الصبيان" مجالس بعض المشايخ مثل: الأعمش، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وإسماعيل بن رجاء، ثم ذكر حكاية عن ابن عيينة استدل بها على أنه حفظ عن عبدة بن أبي لبابة وهو ابن عشر أو في حدودها.
• ثم جاء الخطيب فذكر في كتابه "الكفاية"(ص 54) بابًا في: "ما جاء في صحة سماع الصغير"، صدَّره بقوله: قد اختلف أهل العلم في التحمُّل قبل البلوغ، فمنهم من صحح ذلك، ومنهم من دفع صحته.
قال: قلَّ من كان يثبت -وفي رواية: يكتب- الحديث على ما بلغنا في عصر التابعين وقريبًا منه إلا من جاوز حدَّ البلوغ، وصار في عداد من يصلح لمجالسة العلماء ومذاكرتهم وسؤالهم.
وقيل إن أهل الكوفة لم يكن الواحد منهم يسمع الحديث إلا بعد استكماله عشرين سنة، ويشتغل قبل ذلك بحفظ القرآن وبالتعبد.
وقال قوم: الحد في السماع خمس عشرة سنة: وقال غيرهم: ثلاث عشرة، وقال جمهور العلماء: يصح السماع لمن سنه دون ذلك، وهذا عندنا هو الصواب.
ثم ذكر الخطيب حكايات عن بعض العلماء تؤيد ما ذكره آنفا، ثم نقل عن الرامهرمزي -وهو ابن خلاد- ما نقلناه عنه قريبا في سماع جماعة من الصحابة وهم صبية، وزاد: وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت ست سنين، وابتنى بها وهي بنت تسع، وروت عنه ما حفظته في ذلك الوقت. وروى معاوية بن قرة المزني عن أبيه قال: كنت غلاما صغيرا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي.
…
وممن كثرت الرواية عنه من الصحابة وكان سماعه في الصغر: أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري.
وكان محمود بن الربيع يذكر أنه عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه من دلو كان معلقا في دارهم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله خمس سنين.
ثم ذكر الخطيب بأسانيده سماع طائفة من الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وهم صغار، ثم ذكر جماعة كسعيد بن عامر وسفيان بن عيينة احتج أهل العلم بروايتهم ما سمعوه قبل الاحتلام.
ثم أسند الخطيب إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي: متى يجوز سماع الصبي في الحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط. قلت: فإنه بلغني عن رجل سميته أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رد البراء وابن عمر استصغرهم يوم بدر، فأنكر قوله هذا، وقال: بئس القول، يجوز سماعه إذا عقل، فكيف يصنع بسفيان بن عيينة ووكيع، وذكر أيضًا قوما.
وفي رواية لاحقة عن أحمد أيضًا: "إنما ذلك في القتال، يعني: ابن خمس عشرة سنة"، أو كلاما ذا معناه، وفي أخرى: سئل عن سماع الصغير متى يصح؟ قال: إذا عقل. وسئل عن إسحاق بن إسماعيل وقيل له: إنهم يذكرون أنه كان صغيرا، فقال: قد يكون صغيرا يضبط. قيل له: فالكبير وهو لا يعرف الحديث ولا يعقل؟ قال: إذا كتب الحديث فلا بأس أن يرويه.
قال الخطيب: أراد أبو عبد الله بذلك أن يكون الكبير يضبط كتابه، غير أنه لا يعرف علل الأحاديث واختلاف الروايات ولا يعقل المعاني واستنباطها، فمثل هذا يكتب عنه لصدقه وصحة كتابه وثبوت سماعه.
وممن قال بما استنكره أحمد: ابن معين.
فأسند الخطيب إلى عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: حد الغلام في كتاب الحديث: أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، أو كما قال (1).
(1) قال السخاوي في "فتح الغيث"(2/ 12): "على أن قول ابن معين هذا يُوَجَّهُ بحمله على إرادة تحديد ابتداء الطلب بنفسه، أما من سمع اتفاقا أو اعتُني به فسُمِّعَ وهو صغير فلا". وهذا قاله ابن حجر في "الفتح"(1/ 206) بلفظه.
وإلى أبي داود السجستاني قال: سمعت الحسن بن علي يعني الحلواني يقول: سمعت يزيد يعني ابن هارون يقول: مقدار الغلام عندنا في الحديث يعني ثلاث عشرة سنة، ثم أورد الخطيب حديثا لحفص بن غياث من رواية علي بن المديني عنه، وذكر ابن المديني عن حفص قوله: سمعت هذا الحديث من سبعين سنة ولم أبلغ عشر سنين.
ثم اسند إلى الرامهرمزي ما نقلناه عنه آنفا حتى قوله:
…
فليس المعتبر في كتب الحديث البلوغ ولا غيره، بل يعتبر فيه الحركة والنضاجة والتيقظ والضبط. فقال الخطيب: قد تقدمت منا الحكاية عن بعض أهل العلم أن السماع يصح بحصول التمييز والإصغاء حسب، ولهذا بكروا بالأطفال في السماع من الشيوخ الذين علا إسنادهم.
ثم ذكر شواهد على ذلك، منها: رواية الدبري عن عبد الرزاق، وقد مات الثاني وللأول ست سنين أو سبع، قال الخطيب: روى الدبري عن عبد الرزاق عامّة كتبه، ونقلها الناس عنه، وسمعوها منه.
ومنها: رواية القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي عن أبي علي اللؤلؤي كتاب "السنن" لأبي داود وأكبر سن سمعه فيه وله خمس سنين. قال الخطيب: واعتد الناس بذلك السماع ونقل عنه الكتاب عامةُ أهل العلم من حفاظ الحديث والفقهاء وغيرهم.
ثم ذكر حالات كأنها نادرة مستظرفة في سماع البعض في سن الرابعة، وأخرى في سن أقل من الثالثة.
ثم أسند إلى موسى بن هارون الحمال وسأله أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن بكير التميمي: متي يسمع الصبي الحديث؟ فقال: إذا فرق بين البقرة والحمار.
ثم عاد الخطيب بعد أبواب، فذكر فصل (ص 76) قال فيه:
قد ذكرنا حكم السماع، وأنه يصح قبل البلوغ، وأما الأداء بالرواية فلا يكون صحيحا يلزم العمل به إلا بعد البلوغ، ويجب أيضًا أن يكون الراوي في وقت أدائه عاقلا مميزا.
واستدل الخطيب على ذلك بحديث أبي الضحى عن علي (ولم يدركه) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق"(وفي الحديث خلاف كثير، وفي رفعه ووقفه وغير ذلك، راجع نصب الراية 4/ 209).
قال الخطيب: ولأن حال الراوي إذا كان طفلا أو مجنونا دون حال الفاسق من المسلمين، وذلك أن الفاسق يخاف ويرجو ويتجنب ذنوبا ويعتمد قربات، وكثير من الفساق يعتقدون أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعمد له ذنب كبير وجرم غير مغفور، فإذا كان خبر الفاسق الذي هذه حاله غير مقبول، فخبر الطفل والمجنون أَوْلى بذلك، والأمة مجمعة على ما ذكرناه، لا نعرف بينها خلافا فيه.
هذا آخر ما أورده الخطيب حيال هذه القضية.
ولخص أبو عمرو بن الصلاح ذلك، وجمع شتاته في النوع الرابع والعشرين من كتابه "معرفة علوم الحديث" (ص 241) فقال:
"يصح التحمل قبل وجود الأهلية، فتقبل رواية من تحمل قبل الإسلام وروى بعده، وكذلك رواية من سمع قبل البلوغ وروى بعده، ومنع من ذلك قوم فأخطئوا؛ لأن الناس قبلوا رواية أحداث الصحابة كـ: الحسن بن علي، وابن عباس، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأشباههم من غير فرق بين ما تحملوا قبل البلوغ وما بعده، ولم يزالوا قديما وحديثا يحضرون الصبيان مجالس التحديث والسماع، ويعتدون بروايتهم لذلك، والله أعلم".
ثم قال بعد قليل:
"أما الاشتعال بكتبة الحديث وتحصيله وضبطه وتقييده، فمن حين يتأهل لذلك ويستعد له، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس ينحصر في سن مخصوص".
ثم ذكر الاختلاف في أول زمان يصح فيه سماع الصغير، فأورد ما سبق نقله عن موسى بن هارون، وأحمد بن حنبل في ذلك.
ثم نقل عن القاضي عياض قوله: قد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود بن الربيع. وذكر رواية البخاري في "صحيحه" بعد أن ترجم: "متى يصح سماع الصغير" بإسناده عن محمود بن الربيع قال: عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو -وفي رواية أخرى- أنه كان ابن أربع سنين.
هذا ما نقله عن القاضي وأزيد عنه قوله:
وليعلم إنما أرادوا أن هذا السن أقل ما يحصل به الضبط وعقل ما يسمع وحفظه وإلا فمرجع ذلك للعادات؛ فرب بليد الطبع غبي الفطرة لا يضبط شيئًا فوق هذا السن.
ثم قال ابن الصلاح:
"التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعدا: سمع، ولمن لم يبلغ خمسًا: حضر، أو أُحضر.
والذي ينبغي في ذلك أن نعتبر في كل صغير حاله على الخصوص، فإن وجدناه مرتفعا عن حال من لا يعقل فهما للخطاب وردا للجواب ونحو ذلك صححنا سماعه، وإن كان دون خمس، وإن لم يكن كذلك، لم نصحح سماعه وإن كان ابن خمس بل ابن خمسين".
ثم قال بعد:
"وأما حديث محمود بن الربيع فيدل على صحة ذلك من ابن خمس مثل محمود، ولا يدل على انتفاء الصحة فيما لم يكن ابن خمس، ولا على الصحة فيمن كان ابن خمس ولم يميز تمييز محمود رضي الله عنه، والله أعلم. اهـ
قال أبو أنس:
مع صحة سماع من يُميز ما يسمعه، دون التقيد بسن في ذلك كما سبق رجحانه، فإن الأئمة لم يُنزلوا سماعَ الصغير والكبير منزلة واحدة، فإن من الأسباب التي ربما أعلوا بها رواية رجل عن شيخه إذا قامت القرائن عندهم على ذلك: استصغار الرجل في شيخه؛ كما قيل في:
قبيصة بن عقبة السوائي في سفيان الثوري، وابن وهب في ابن جريح، ومعمر في قتادة وأبي بكر بن أبي الأسود في ابن عيينة، وإسحاق بن إسماعيل الطالقاني في نحو جرير بن عبد الحميد، وغيرهم.
وممن تكلم في بعض هذا السماع للصغر: أحمد بن حنبل، وهو الذي سبق النقل عنه أنه يرى أن الصغر ليس يلزم معه عدم الضبط، وترى شرح ذلك بشيء من التفصيل في رسالتي "ثمرات النخيل في شرح أسباب التعليل".
والله تعالى الموفق.
* * *