الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
عناية الأئمة بحفظ السنة واحتياطهم البالغ في نقد الرواة والأخبار
قال العلامة المعلمي في "الأنوار"(ص 90):
"كان أهل العلم يشددون في اختيار الرواة أبلغ التشديد، جاء عن بعضهم -أظنه الحسن بن صالح بن حي- أنه قال: كنا إذا أردنا أن نسمع الحديث من رجل سألنا عن حالة حتى يقال: أتريدون أن تزوجوه؟
وجاء جماعة إلى شيخٍ ليسمعوا منه فرأوه خارجًا وقد انفلتت بغلته وهو يحاول إمساكها وبيده مخلاة يريها إياها، فلاحظوا أن المخلاة فارغة، فرجعوا ولم يسمعوا منه، قالوا: هذا يكذب على البغلة فلا نأمن أن يكذب في الحديث.
وذكروا أن شعبة كان يتمنى لقاء رجل مشهور ليسمع منه، فلما جاءه وجده يشتري شيئًا ويسترجح في الميزان، فامتنع شعبة من السماع منه.
وتجد عدة نظائر لهذا ونحوه في "كفاية" الخطيب (ص 110 - 114).
وكان عامة علماء القرون الأولى -وهي قرون الحديث- مقاطعين للخلفاء والأمراء، حتى كان أكثرهم لا يقبل عطاء الخلفاء والأمراء ولا يرضى بتولي القضاء، ومنهم من كان الخلفاء يطلبونهم ليكونوا بحضرتهم ينشرون العلم، فلا يستجيبون، بل يفرون ويستترون.
وكان أئمة النقد لا يكادون يوثقون محدثا يداخل الأمراء أو يتولى لهم شيئًا. وقد جرحوا بذلك كثيرًا من الرواة ولم يوثقوا ممن داخل الأمراء إلا أفرادا علم الأئمة
علمًا يقينًا سلامة دينهم وأنه لا مغمز فيهم البتة (1).
وكان محمد بن بشر الزنبري (2) محدثا يسمع منه الناس، فاتفق أن خرج أمير البلد لسفر، فخرج الزنبري يُشَيِّعُه، فنقم أهل الحديث عليه ذلك وأهانوه ومزقوا ما كانوا كتبوا عنه.
وكثيرا ما كانوا يُكذبون الرجل ويتركون حديثه لخبر واحد يتهمونه فيه، وتجد من هذا كثيرًا في "ميزان" الذهبي وغيره. وكذلك إذا سمعوه حدث بحديث ثم حدث به بعد مدة على وجه ينافي الوجه الأول.
وفي "الكفاية"(ص 113) عن شعبة قال: "سمعت من طلحة بن مصرف حديثًا واحدًا وكنت كما مررت به سألته عنه
…
أردت أن انظر إلى حفظه، فإن غَّير فيه شيئًا تركته".
وكان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد، كما وقع لشعبة في حديث عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر (3)، وكما وقع لغيره في الحديث الطويل في فضائل السور.
ومن تتبع كتب التراجم وكتب العلل بأن له من جدهم واجتهادهم ما يحير العقول.
وكان كثير من الناس يحضرون أولادهم مجالس السماع في صغرهم ليتعودوا ذلك، ثم يكبر أحدهم فيأخذ في السماع في بلده، ثم يسافر إلى الأقطار ويتحمل السفر الطويل والمشاق الشديدة، وقد لا يكون معه إلا جراب من خبز يابس يجعله على ظهره، يصبح فيأخذ كسرة ويبلها بالماء ويأكلها ثم يغدو للسماع، ولهم في هذا قصص كثيرة.
(1) كالزهري رحمه الله.
(2)
بفتح الزاي وسكون النون بعدها موحدة، وهو ابن بطريق العكري المصري، ترجمته في "لسان الميزان".
(3)
انظر مقدمة "المجروحين" لابن حبان (ص 29).
فلا يزال أحدهم يطلب ويكتب إلى أن تبلغ سنه الثلاثين أو نحوها فتكون أمنيته من الحياة أن يقبله علماء الحديث ويأذنوا للناس أن يسمعوا منه، وقد عَرف أنهم إن اتهموه في حديث واحد أسقطوا حديثه وضاع مجهوده طول عمره وربح سوء السمعة واحتقار الناس.
وتجد جماعة من ذرية أكابر الصحابة قد جرحهم الأئمة، وتجدهم سكتوا عن الخلفاء العباسيين وأعمامهم لم يرووا عنهم شيئًا مع أنهم قد كانوا يروون أحاديث.
ومن تتبع أخبارهم وأحوالهم لم يعجب من غلبة الصدق على الرواة في تلك القرون، بل يعجب من وجود كذابين منهم.
ومن تتبع تشدد الأئمة في النقد لم يعجب من كثرة من جرحوه وأسقطوا حديثه، بل يعجب من سلامة كثير من الرواة وتوثيقهم لهم مع ذلك التشديد.
وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتابًا مستقلًا، وأرجو أن يكون فيما ذكرته ما يدفع ما يرمي إليه المستشرقون وأتباعهم -بإفاضتهم في ذكر الوضع- من تشكيك المسلمين في دينهم وإيهامهم أن الله تعالى أحل بما تكفل به من حفظ دينه، وأن سلف الأمة لم يقوموا بما عليهم أو عجزوا عنه فاختلط الحق بالباطل، ولم يبق سبيل إلى تمييزه، كلا بل حجة الله تعالى لم تزل ولن تزال قائمة، وسبيل الحق مفتوحا لمن يريد أن يسلكه ولله الحمد.
وفي "تهذيب التهذيب"(1/ 152): "قال إسحاق بن إبراهيم: أخذ الرشيد زنديقا فأراد قتله، فقال: أين أَنْتَ من ألف حديث وضعتها؟ فقال له: أين أَنْتَ يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا".
وفي "فتح المغيث"(ص 109): "قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ". اهـ.
• قال المعلمي: في "التنكيل"(1/ 48):
"لا ريب أن فيمن يتسم بالصلاح من المبتدعة وكذا من أهل السنة من يقع في الكذب إما تقحما في الباطل، وإما على زعم أنه لا حرج في الكذب في سبيل تثبيت الحق، ولا يختص ذلك بالعقائد، بل وقع فيما يتعلق بفروع الفقه وغيرها كما يعلم من مراجعة كتب الموضوعات.
وأعداء الإسلام وأعداء السنة يتشبثون بذلك في الطعن في السنة كأنهم لا يعلمون أنه لم يزل في أخبار الناس في شئون دنياهم الصدق والكذب، ولم تكن كثرة الكذب بمانعة من معرفة الصدق إما بيقين وإما بظن غالب يجزم به العقلاء ويبنون عليه أمورًا عظامًا.
ولم يزل الناس يغشون الأشياء النفيسة، ويصنعون ما يشبهها كالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر والسمن والعسل والحرير والخز وغيرها.
ولم يَحُلْ ذلك دون معرفة الصحيح، والخالق الذي هيأ لعبادة ما يحفظون به مصالح دنياهم هو الذي شرع لهم دين الإسلام وتكفل بحفظه إلى الأبد، وعنايته بحفظ الدين أشد وآكد؛ لأنه هو المقصود بالذات من هذه النشأة الدنيا. قال الله عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56].
ومن مارس أحوال الرواية وأخبار رواة السنة وأئمتها علم أن عناية الأئمة بحفظها وحراستها ونفي الباطل عنها، والكشف عن دخائل الكذابين والمتهمين كانت أضعاف عناية الناس بأخبار دنياهم ومصالحها.
قيل لابن المبارك: "هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة". وتلا قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
والذِّكْرُ يتناول السنة بمعناه إن لم يتناولها بلفظه، بل يتناول العربية وكل ما يتوقف عليه معرفة الحق، فإن المقصود من حفظ القرآن أن تبقى الحجة قائمة والهداية دائمة إلى
يوم القيامة؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وشريعته خاتمة الشرائع، والله عز وجل إنما خلق الخلق لعبادته، فلا يقطع عنهم طريق معرفتها، وانقطاع ذلك في هذه الحياة الدنيا انقطاع لعلة بقائهم فيها.
قال العراقي في "شرح ألفيته"(ج 1 ص 267): "روينا عن سفيان قال: ما ستر الله أحدًا يكذب في الحديث.
وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: لو أن رجلًا هَمَّ أن يكذب في الحديث لأسقطه الله.
وروينا عن ابن المبارك قال: لو هَمَّ رجل في السَّحَر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب". اهـ.
• وقال المعلمي في "الأنوار"(ص 80 - 81):
"أما التابعون فقد يتحفظون الحديث كما يتحفظون القرآن، كما جاء عن قتادة أنه: "كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه" هذا مع قوة حفظه؛ ذكروا أن صحيفة جابر على كِبَرها قرئت عليه مرة واحدة -وكان أعمى- فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطىء حرفًا ثم قال: لأنا لصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة".
وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقي كتبه ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب.
وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رُزقوا جودة الحفظ وقوة الذاكرة كالشعبي والزهري وقتادة. وقد عُرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه كالقاسم بن محمد بن أبي بكر ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة.
أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راوٍ مكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعاهدها ويتحفظ حديثه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدث من كتابه.
ومنهم من جرب عليه الأئمة أنه يحدث من حفظه فيخطىء، فاشترطوا لصحة روايته أن يكون السماع منه من كتابه.
ومنهم من عرف الأئمة أنه حافظ، غير أنه قد يقدم كلمة أو يؤخرها، ونحو ذلك مما عرفوا أنه لا يغير المعنى، فيوثقونه ويبينون أن السماع منه من كتابه أثبت.
فأما مَنْ بعدهم فكان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه.
كان عبد الرزاق الصنعاني ثقةً حافظا، ومع ذلك لم يسمع منه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه.
هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديثَ كلِّ راو فينظرون كيف حدث به في الأوقات المتفاوتة، فإذا وجدوه يحدث مرة كذا ومرة كذا بخلافٍ لا يُحتمل ضعَّفوه.
وربما سمعوا الحديث من الرجل ثم يدعونه مدة طويلة ثم يسألونه عنه، ثم يُعتبر حرف مروياته برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته ما يخالف رواية الثقات حكموا عليه بحسبها.
وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط، بل معظم اعتمادهم على حالة في حديثه كما مرَّ، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطىء ويغلط، وباضطرابه في حديثه، وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا.
ونظرهم عند تصحيح الحديث أدق من هذا، نعم، إن هناك من المحدثين من يسهِّل ويخفِّف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثقوا رجلًا مطلقًا فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أو على الأقل بنحو لفظه، مع تمام معناه. فإن بأن لهم خلاف ذلك نبهوا عليه كما تقدم (ص 18). اهـ.
* * *