الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
في رفع الإشكال عن كلمات في ذم الحديث وطلبته خرجت من أصحابها دون قصد ظاهرها
قال الثوري: "لو كان الحديث خيرًا لذهب كما ذهب الخير".
• قال المعلمي في "الأنوار": (ص 287 - 289):
أقول: لم يقصد نفي الخير عن الحديثِ نفسِه، كيف والقرآنُ خيرٌ كُلُّهُ ولم يذهب، ولا عن طلب الحديث جملة. فإن المتواتر المعلوم قطعا عن الثوري خلاف ذلك.
وإنا قصد أن كثيرًا من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله، وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تَقِلّ، كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم، وَهَلُمَّ جَرَّا، وفي جانب ذلك رأى رغبة الناس في طلب الحديث لم تنقص، فرأى أنها ليست خيرا على الإطلاق، يعني أن كثيرا ممن يطلب الحديث يطلبه لِيُذْكَر ويشتهر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظموه.
وأقول: إن العليم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسَّر ما يرغب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شرع حفظ السنة وتبليغها، ومع ذلك يسَّر ما يرغب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام -وإن قلَّ- ثوابُ بعض المجاهدين، فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظُ الدين ونشره -وإن قلَّ- أجرُ بعض الطالبين.
وذكر أبو رية (ص 330) كلماتٍ لبعض المحدثين في ذم أهل الحديث -يعنون طلابه، التقطها من كتاب (العلم) لابن عبد البر، وقد قال ابن عبد البر هناك (2/ 125):"هذا كلام خرج على ضجر، وفيه لأهل العلم نظر". اهـ
وإيضاح ذلك أن الرغبة في طلب الحديث كانت في القرون الأولى شديدة، وكان إذا اشتهر شيخ ثقة معمِّر مكثر من الحديث، قصده الطلاب من آفاق الدنيا، منهم من يسافر الشهر والشهرين وأكثر ليدرك ذاك الشيخ، وأكثر هؤلاء الطلاب شُبَّان، ومنهم من لا سعة له من المال، إنما يستطيع أن يكون معه من النفقة قدرٌ محدودٌ يتقوَّت منه حتى يرجع أو يلقى تاجرا من أهل بلده يأخذ منه الشيء، وكان منهم مَنْ كل نفقته جراب يحمله، فيه خبز جاف يتقوت كل يوم منه كسرة يبلها بالماء ويجتزىء بها، ولهم في ذلك قصص عجيبة.
فكان يجتمع لدى الشيخ جماعة من هؤلاء، كلُّهم حريص على السماع منه، وعلى الاستكثار ما أمكنه في أقل وقت، إذ لا يمكنه إطالة البقاء هناك؛ لقلة ما بيده من النفقة، ولأنه يخاف أن يموت الشيخ قبل أن يستكثر من السماع منه، ولأنه قد يكون شيوخ آخرون في بلدان أخرى يريد أن يدركهم ويأخذ عنهم.
فكان هؤلاء الشباب يتكاثرون على الشيخ ويلحُّون عليه ويبرمونه، فيتعب ويضيق بهم ذرعا، وهو إنسان له حاجات وأوقات يجب أن يستريح فيها، وهم لا يَدَعُونَهُ (1).
ومع ذلك فكثير منهم لا يرضون أن يأخذوا من الشيخ سلاما بسلام، بل يريدون اختباره ليتبين لهم أضابط هو أم لا. فيوردون عليه بعض الأسئلة التي هي مظنة الغلط، ويناقشونه في بعض الأحاديث، ويطالبونه بأن يبرز أصل سماعه.
وإذا عثروا للشيخ على خطأ أو سقط، أو استنكروا شيئًا من حاله، خرجوا يتناقلون ذلك بقصد النصيحة، فكان بعض أولئك الشيوخ إذا ألَحَّ عليه الطلبة وضاق بهم ذرعًا أطلق تلك الكلمات:
(1) من ذلك ما روي عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال: "ما رأيت قومًا أعجب من أصحاب الحديث؛ يأتون من غير أن يُدْعَوْا، ويزورون من غير شوق، ويُبرمون بالمساءلة، يُملُّون بطول الجلوس". "كامل" ابن عدي (6/ 2400).
"أنتم سخنة عين".
"لو أدركنا وإياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضربًا".
"ما رأيت علمًا أشرف ولا أهلًا أسخف من أهل الحديث".
"صرت اليوم ليس شيء أبغض إليَّ من أن أرى واحدًا منهم".
"إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون".
"لأنا أشد خوفًا منهم من الفساق"؛ لأنهم يبحثون عن خطئه وزلَلِه ويُشيعون ذلك.
والغريب أن أولئك الطلاب لم يكونوا يدَعون هذه الكلمات تذهب، بل يكتبونها ويروُونها فيما يروون، فيذكرها من يريد عتاب الطلاب وتأديبهم كابن عبد البر، ويهتبلها أبو رية ليعيب بها الحديث وأهله جملة.
فأما قول الثوري: "أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة، وودت أني خرجت منه كفافًا لا عليّ ولا لي".
فهذا كلام المؤمن الشديد الخشية تتضاءل عنده حسناته الكثيرة العظيمة، ويتعاظم في نظره ما يخشى أن يكون عرض له من تقصير أو خالطه من عُجب.
وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو هذا فيما كان له بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل، وإنما كان عمله ذلك جهادًا في سبيل الله وإعلاء دينه وتمكين قواعده وإقامة العدل التام، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة. وقد كان فيها كلها أبعد الناس عن حظ النفس، بل كان يبالغ في هضم نفسه وأهل بيته.
وكل عارف بالإيمان وشأنه يعرف لكلمة عمر حقها، ولكن الرافضة عكسوا الوضع، وقفاهم أبو رية في كلمة الثوري وما يشبهها". اهـ
* * *