الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في ذكر بعض شروط تحقيق العدالة
الشرط الأول
هل يكفي أن يكون المُعَدِّلُ واحدًا، أم يشترط التعدد؟
تمهيد:
قال أبو بكر الخطيب البغدادي في "الكفاية"(ص 96):
باب القول في العدد المقبول تعديلهم لمن عَدَّلُوه:
قال بعض الفقهاء: لا يجوز أن يقبل في تعديل المحدث والشاهد أقل من اثنين، وردوا ذلك إلى الشهادة على حقوق الآدميين، وأنها لا تثبت بأقل من اثنين.
وقال كثير من أهل العلم: يكفي في تعديل المحدث المزكي الواحد، ولا يكفي في تعديل الشاهد على الحقوق إلا اثنان.
وقال قوم من أهل العلم: يكفي في تعديل المحدث والشاهد تزكية الواحد إذا كان المزكي بصفة من يجب قبول تزكيته.
والذي نستحبه أن يكون من يزكي المحدث اثنين للاحتياط، فإن اقتصر على تزكية واحد أجزأ، يدل على ذلك أن عمر بن الخطاب قَبِلَ في تزكية سُنين أبي جميلة قولَ عريفه، وهو واحد
…
(1).
(1) ذكر الخطيب هنا خبر عمر هذا، وسيأتي تحقيق ما فيه من كلام المعلمي رحمه الله تعالى.
ويدل على ذلك أيضًا أنه قد ثبت وجوب العمل بخبر الواحد، فوجب لذلك أن يُقبل في تعديله واحد
…
(1).
تحقيق العلامة المعلمي لهذا المبحث:
قال في "الاستبصار"(ص 41):
"أما المعدِّل فشرطه أن يكون في نفسه بالغًا، عاقلا، عدلا، عارفا بما يثبت العدالة وما ينافيها، ذا خبرة بمن يعدله، ولا بد أن يكون متيقظًا، عارفا بطباع الناس وأعرافهم.
وهل يكفي الواحد؟ اختلف في ذلك:
فقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لا بد من ثلاثة، واحتج بما في "صحيح" مسلم (2) من حديث قبيصة بن المخارق عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمَّل حمالة
…
ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقول ثلاثةٌ من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقةٌ، فحلَّت له المسألة حتى يُصيب قِواما من عَيش".
قال أبو عبيد: "وإذا كان هذا في حق الحاجة فغيرها أولى""فتح المغيث"(ص 123).
أقول: ومما يساعده أن العدالة تتعلق بما يخفى من حال الإنسان كالحاجة.
ولكن يَرِدُ عليه أمورٌ:
منها: أن هذا الحديث تفرد به عن قبيصة: كنانة بن نعيم، ولم يُعَدِّلْهُ ثلاثة
…
وإنما قال ابن سعد: "فهو معروف ثقة إن شاء الله" فلم يجزم، ووثقه العجلي، وسيأتي في بحث المجهول أن في توثيقه نظر، وأن مذهبه قريب من مذهب ابن حبان، ووثقه
(1) سأنقل تتمة هذا الاستدلال عند مناقشة المعلمي له قريبًا.
(2)
رقم (1044).
ابن حبان، ومذهبه معروف في التسامح، ويأتي بيانه -أيضًا-، فإذا عددنا إخراج مسلم لحديثه توثيقا، فلم يَسلمْ له إلا مسلم.
الأمر الثاني: أن هؤلاء كلهم لم يدركوا كنانة، وإنما وثقوه بناء على مذاهبهم أن من روى عنه الثقات، ولم يجرح، ولم يأت بمنكر، فهو ثقة، وسيأتي الكلام في هذا - إن شاء الله تعالى.
الأمر الثالث: ظاهر الحديث أنه لا يحل لمحتاج المسألة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فيخبرون أنه نزلت به فاقة، ولا يُعرف أحدٌ قال بهذا، بل مدار الحِلِّ عند أهل العلم على نفس الحاجة، فإن احتاج في نفسه إلى المسألة حلَّت له، ولا نعلم أحدا تكلف العمل بهذا، وليس هذا من ردِّ السنة بعدم العمل بموافقٍ لها، أو عاملٍ بها، المقصود أن مثل هذا قد يُستنكر فيصير الحديث منكرا، فيقدح في راويه -أعني: كنانة بن نعيم- مع قِلِّة مَا لَه من الحديث ومع أنه في حديثه هذا شيء من الاختلاف: فرواه حماد بن زيد عن هارون بن رئاب عن كنانة كما مَرَّ.
ورواه ابن عيينة عن هارون، فقال في أوله:"إن المسألة لا تصلح" وقال مرة: "حرمت" أخرجه أحمد في "المسند"(3/ 475).
ورواه إسماعيل بن علية عن أيوب عن هارون، فلم يذكر محل الشاهد أصلًا، بل قال: "إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة
…
ورجل أصابته فاقة فيسأل حتى يصيب قواما من عيش" أخرجه أحمد في "المسند" (5/ 60).
الأمر الرابع: أن مقتضى حمل الشاهد والمخبر على المحتاج: أن لا يحل أن يشهد أحد أو يخبر حتى يعدله ثلاثة، وهذا لا قائل به، ولا يُعلم واحد فضلا عن ثلاثة عَدَّلَ كنانة قبل أن يخبر.
الأمر الخامس: أن الأولوية التي ادعاها أبو عبيد غير ظاهرة، بل الصواب عكس ما قال: وبيان ذلك أن الحكمة في تحريم المسألة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من
قومِ مَنْ يريدُ المسألة هي أولًا: منع أهل الستر عن المسألة بدون حاجة؛ لأن أحدهم يرى أنه لو استشهد ثلاثة من قومه لا يشهدون له، وإن أقدم على المسألة بدون شهادة كان عند الناس أنه أقدم على محرم، وهو يكره ذلك محبة الستر.
وثانيًا: شَرْعُ طريقٍ يُرجى أن يَستغني بها المحتاج من أهل الصلاح أو الستر، فلا يحتاج إلى المسألة البتة، وإيضاحه أنه لا يقدم على المسألة بدون استشهاد فيضطر إلى أن يطالب ثلاثة من ذوي الحجا من قومه بأن يشهدوا له، ولا ريب أنهم إذا علموا حاجته وجب عليهم أحد أمرين: إما أن يقوموا فيشهدوا، وإما أن يواسوه من أموالهم بما يغنيه عن المسألة، ولعل هذا الثاني يكون أيسر عليهم؛ لأنهم يرون أن اقتصارهم على أن يقوموا فيشهدوا يحمل الناس على أن يرموهم باللؤم، ويقول الناس: أما كان في أموال هؤلاء الثلاثة متسع لأن يواسوا ابن عمهم بما يسد فاقته إلى أن يجد قواما من عيش؟! ولهذا -والله أعلم- شرط في الحديث أن يكونوا من قومه، وأن يكونوا من ذوي الحجا، وأن يكونوا ثلاثة؛ لأن الغالب أن الثلاثة لا يكونون كلهم فقراء أو لؤماء.
وعلى فرض أنهم قاموا فشهدوا، فالغالب أن قومه عندما يسمعون شهادة الثلاثة من ذوي الحجا فيهم يجمعون له ما يكفيه بدون أن يحتاج إلى مسألة، وعلى هذا قد أغنى الله عز وجل ذلك المحتاج بدون أن يحتاج إلى مسألة؛ لأن مطالبة الثلاثة بأن يشهدوا ليس مسألة لهم، وإظهاره الحاجة ليس بمسألة صريحة، وإظهاره العزم على المسألة ليس بمسألة فتدبر، وليس في الشهادة والإخبار أثر لهذا المعنى، على أن المحتاج مضطر إلى أن يستشهد الثلاثة، فلا يكون في اشتراط ذلك مفسدة، والشاهد والمخبر غير مضطرين إلى الشهادة والإخبار، بل إن شروط أن يتقدم تعديل الثلاثة على الشهادة والإخبار -ما هو مقتضى حملهما على المسألة كما مَرَّ- وجد الشاهد عذرًا لعدم حضوره إلى الحاكم، وأما المخبر فيجد عذرا لكتمانه العلم.
وقال جماعة: لا بد من اثنين، قال السخاوي في "فتح المغيث" (ص 123):
حكاه القاضي أبو بكر بن الباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم؛ لأن التزكية صفة فيحتاج في ثبوتها إلى عدلين، كالرشد والكفاءة وغيرهما، وقياسا على الشاهد بالنسبة لما هو المرجح فيها عند الشافعية والمالكية، بل هو قول محمد بن الحسن، واختاره الطحاوي.
وعارض الخطيب في الكفاية (ص 47)(1) هذا القياس بقياس آخر (2) حاصله أنه لا يكفي في شهود الزنا إلا أربعة، ومع ذلك اكتفي في إثبات الإحصان الذي به ثبت الرجم باثنين، وقد اكتفي في إثباتها بدون ما اكتفي به في الأخبار، إلا أنه غير ممكن.
وكأن الخطيب عدل عما هو أوضح في هذا خوف النقض؛ وذلك أن أوضح من هذا أن يقال: لم يكتف في عدد شهود الزنا بأقل من أربعة واكتفى في عدد مزكيهم باثنين وواحد عند قوم، فقياس ذلك أن يكفي في عدد مزكي المخبر دون ما يكفي في عدد المخبر، ونقضه أن يقال: قد اكتفى قوم في الأموال بشاهد ويمين، ولم يكتفوا في تعديل هذا الشاهد إلا باثنين اتفاقا.
(1) كذا في "الاستبصار"، وصوابه (ص 97).
(2)
قال الخطيب في "الكفاية"(ص 97): "ويدل على ذلك أيضًا -يعني إجْزَاء تزكية الواحد- أنه قد ثبت وجوب العمل بخبر الواحد، فوجب لذلك أن يقبل في تعديله واحد، وإلا وجب أن يكون ما به ثبتت صفة من يقبل خبره آكد مما يثبت وجوب قبول الخبر والعمل به، وهذا بعيد؛ لأن الاتفاق قد حصل على أن ما به تثبت الصفة التي بثبوتها يثبت الحكم أخفض وأنقص في الرتبة من الذي يثبت به الحكم.
ولهذا وجب ثبوت الإحصان الذي بثبوته يجب الرجم بشهادة اثنين، وإن كان الرجم لا يثبت بشهادة اثنين.
فبان بذلك أن ما يثبت به الحكم يجب أن يكون أقوى مما تثبت به الصفة التي عند ثبوتها يجب الحكم.
وكذلك يجب أن يكون ما به تثبت عدالة المحدث أنقص مما به يثبت الحكم بخبره، والحكم في الشرعيات يثبت بخبر الواحد، فيجب أن تثبت تزكيته بقول الواحد، ولو أمكن ثبوتها بأقل من تزكية واحد لوجب أن يقال بذلك لكي يكون ما به تثبت صفة المخبر أخفض مما به يثبت الحكم، غير أن ذلك غير ممكن". اهـ
وهذا كله حِجَاج (1)، والصواب إنما هو النظر في النصوص، فإن وجد فيها دلالة بَيِّنَةً فذاك، وإلا نظر في التعديل: أشهادة هو، أم خبر، أم شهادة في تعديل الشاهد وخبر في تعديل المخبر؟
فإن تعين واحدٌ من هذه الثلاثة فذاك وإلا نظر في الحكمة التي لأجلها فرق الشارع بين الشهادة والخبر، ثم ينظر في التعديل: أَمِثْل الشهادة في تلك الحكمة، أم كالخبر؟
فهذه ثلاثة مسالك.
فأما النصوص فهاكها:
فمنها: حديث "الصحيحين"(2) عن أنس في الثناء على الميت وفيه: "مر بجنازة فأثنوا عليها خيرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا. فقال: "وجبت"، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
ولهما (3): من طريق أبي الأسود عن عمر نحو هذه كقصته، فقال أبو الأسود: فقلت: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، فقلنا: واثنان؛ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد".
فورد تفسير هذا بما رواه أحمد وابن حبان والحاكم في حديث أنس مرفوعًا: "ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيرا إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون".
(1) أي: جدال.
(2)
البخاري (1367)(2642) ومسلم (949).
(3)
البخاري (1368)(2643) فقط.
ذكره الحافظ في "الفتح"، وإيضاحه أن في الصحيحين أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم:"كل أمتي معافى إلا المجاهرين"، وعقبه البخاري بحديث ابن عمر مرفوعًا:"يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، ثم يقول: عملت كذا وكذا فيقول: نعم، ويقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم".
وفي معنى هذا أحاديث أخرى في أن من ستره الله عز وجل من المؤمنين في الدنيا لم يفضحه في الآخرة.
ومن السر في ذلك والله أعلم؛ أن الإنسان إذا أظهر المعصية كان ذلك مما يجرىء الناس عليها:
أولًا: لأنه يكثر تحديثهم بها فتنتبه الدواعي إلى مُتعها، وقد قال الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
ثانيًا: لأنه إذا لم يعاجَل بالعقوبة هانت على الناس.
ثالثًا: لأن العاصي يتجرأ على المعاصي بعد ذلك؛ لأنه كان يخاف أولًا على شرفه وسمعته، وبعد الفضيحة لم يبق ما يخاف عليه، بل يقول كما تقول العامة:"يا آكل الثوم كُل وأكثر".
رابعًا: أنه يحرص على أن يدعو الناس إلى مثل فعله؛ ليشاركوه في سوء السمعة، فتخف الملامة عنه.
خامسًا: يخرج بذلك عن قول الله عز وجل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] لأنه إن أمر بمعروف أو نهى عن المنكر قيل له: ابدأ بنفسك ألم تفعل كذا وكذا؟!.
سادسًا: يكون سببًا لعدم إفادة أمر غيره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن من يؤمر أو يُنهى يقول: لست وحيدا في هذا، قد فعل فلان كذا وفلان كذا، وأنا واحد من جملة الناس.
سابعًا: أن ذلك يقلل خوف الناس من الله عز وجل، يقول أحدهم: أنا من جملة عباد الله العاصين، هذا فلان وهذا فلان وذاك فلان، وقد تقدم في فصل (5) حديث: "
…
ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده".
وفي "الصحيحين"(1): "لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل".
وقد قال الله عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
وقوله: "بغير علم" يصح أن يكون حالًا من الفاعل والمفعول معا فيدخل فيه أن المتبوع يحمل من أوزار من تبعه وإن لم يعلم بأنهم يتبعونه، كما أن ابن آدم الأول لم يكن يعلم بمن سيستن به في القتل، وليس ما تقدم بمخالف لقول الله عز وجل:{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]. وما في معناها؛ لأن التحقيق أن المتبوع إنما عُذب بوزره. وبيان ذلك أن أصل الإثم في المعصية منوط بتعمدها، وأما زيادة قدره فمنوط بما ينشأ عنها من المفاسد.
ألا ترى لو أن ثلاثة صوبوا بنادقهم إلى ثلاثة قاصدين رميهم، ثم أطلقوا بنادقهم: أن أصل الإجرام قد وقع من كل منهم، وأما زيادة مقداره فموقوف على ما ترتب على ذاك الفعل، فلو أخطأ أحدُهم وأصاب آخرُ فجَرَحَ وأصاب الثالثُ فقَتَل، لكان جُرْمُ الثالث أغلظَ من جُرم الثاني، وجُرمُ الثاني أغلظَ من جُرم الأول.
وقد حرَّم الله عز وجل ما حرَّم ولم يُفَصِّلْ ما يترتب على المحرمات من المفاسد، فمن علم بالتحريم، ثم أقدم على الفعل، فقد التزم ما يترتب عليه من المفاسد، فدخلت كلها في وزره، وإن لم يعلم بتفصيلها، فتدبر.
(1) البخاري (3336)(6867)(7321) ومسلم (1677).
هذا وقوله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: "وغفرت له ما لا يعلمون" ظاهر في أن شهادتهم إنما تنفع إذا كانت مطابقة لعلمهم؛ لأنه إنما يغفر له ما لا يعلمون، فإن كانوا علموا شرا فكتموه وقالوا: لم نعلم إلا خيرًا أو نحو ذلك، لم ينفعه ذلك، بل يضرهم؛ لأنهم شهدوا زورا.
وبناء النبي صلى الله عليه وسلم الحكم على ثناء الناس بقوله: "وجبت" صريح في أن الذين أثنوا كانوا عدولا عنده صلى الله عليه وسلم، فبنى على أن شهادتهم مطابقة للواقع في أن الذي أثنوا عليه خيرًا لم يظهر منه للناس إلا خير.
وإذا كان الإنسان بحيث لا يظهر منه لجيرانه الأدنيين ونحوهم من أهل الخبرة إلا الخير العدل، والمُثني عليه منهم بذلك معدل له، فالمثنون على الميت من جيرانه وأهل الخبرة به معدلون له، وقد نص في الحديث على أنه يكفي في ذلك الأربعة ويكفي الثلاثة ويكفي الاثنان، ففي هذا دليل واضح على كفاية الاثنين في التعديل.
ويبقى النظر في الواحد، فقد يقال: قد ثبت في حديث جابر وغيره أنه كان للصحابة رضي الله عنهم أن يراجعوا النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فإذا قال الثالثة، لم يكن لهم أن يراجعوه بعدها، وشواهد هذا في الأحاديث كثير، فابتداؤه صلى الله عليه وسلم بذكر الأربعة يشعر بالنهي عن السؤال عن الواحد؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لعله إنما ابتدأ بالأربعة مستشعرًا أنهم سيراجعونه فيسألونه عن الثلاثة، ثم يراجعونه ثانية فيسألونه عن الاثنين، ثم يقفون؛ لما تقرر عندهم من المنع عن المراجعة فوق اثنتين.
وفي هذا دلالة ما على أن ثناء الواحد لا يكفي لبناء الحكم بوجوب الجنة، فأما وجوب الجنة في نفس الأمر فقد ظهر مما تقدم أنها تجب لمن لم يظهر منه إلا الخير وإن لم يُثن عليه أحد، ففائدة الشهادة على هذا إنما هي لحكم من يسمعها ممن لم يخبر حال الميت بمقتضاها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"وجبت".
وقد يحتمل أن الشهادة تنفع، فمن لم يشهدوا له في الدنيا، وكان في نفسه لم يظهر للناس منه إلا الخير، فيحتاج في الآخرة إلى أن يسأله الله عز وجل، كما في حديث ابن عمر المتقدم، ثم يقول له:"إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم"، ومن شهدوا له لم يحتج إلى هذا السؤال والعلم عند الله عز وجل.
وقد يقال: إن قول عمر: "ثم لم نسأله عن الواحد" يشعر بأنّه لم يفهم من الحديث أن الواحد لا يكفي.
وأقول: إذا صح أن في الحديث إشارة إلى ذلك لم يضرها أن يتردد فيها الصحابي، لكن لقائل أن يقول: فسلمنا إشارة ما إلى أنه لا يكفي ثناء الواحد على الميت في الحكم له بالجنة، ولكن لا يلزم من هذا عدم الاكتفاء بتعديل الواحد للشاهد والمخبر، فإن الحكم للميت بالجنة لا ضرورة إليه ولا كبير حاجة. فإذا كان من أهل الجنة ولم يحكم له [الناس بأنه من أهلها](1) لم يترتب على ذلك مفسدة بخلاف الشهادات والأخبار؛ فإن الضرورة فيها قائمة، وفي رد شهادة العدل وخبر الصادق ما لا يخفى من المفاسد، فتأمل.
ومن النصوص ما وقع في قضية الإفك من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أسامة عن عائشة، فأخبر أنه لا يعلم إلا خيرًا، وكذلك سأل بريرة وسأل أيضًا زينب بنت جحش وكلتاهما أثنت خيرًا، وبنى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك قوله على المنبر:"من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا".
وفي الاحتجاج بهذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو نفسه خبيرًا بعائشة، وإنما استظهر بسؤال غيره؛ لئلا يقول المنافقون: إن محبته إياها (والعياذ بالله)
…
(2).
وهذا -والله أعلم- من الحكمة في تأخير الله عز وجل إنزال براءتها.
(1) في التعليق على المطبوع: "في الأصل كلام مطموس والذي كتب فهم من سياق الكلام".
(2)
في التعليق على المطبوع: "هكذا وضع المؤلف النقط لبشاعة العبارة".
وقال البخاري في "الصحيح": "باب إذا زكى رجل رجلًا كفاه"، وقال أبو جميلة: وجدت منبوذا فلما رآني عمر قال: "عسى الغوير أبؤسًا" كأنه يتهمني، قال عريفي: إنه رجل صالح قال: كذلك، اذهب وعلينا نفقته.
وهذا الأثر أخرجه مالك في "الموطأ"، وفيه بعد قوله "كذلك":"قال: نعم. فقال عمر: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته".
والحجة فيه أن عمر قَبِلَ تعديل التعريف وَحْدَهُ، وبنى على ذلك تصديق أبي جميلة في أن ذلك الطفل كان منبوذًا، وأقره في يده، ولا يُقر اللقيط إلا في يد عدل، وحكم له بولائه، وأنفق عليه من بيت المال.
وقد أجيب على هذا بأنه مذهب لعمر مع أن أبا جميلة إما صحابي وإما من كبار التابعين، فلا يلزم من الاكتفاء في تعديله بواحد أن يكتفى بذلك فيمن بعد ذلك.
وهذا الجواب ضعيف، والظاهر أن هذا مذهب عمر، فإن لم يكن في النصوص ما يخالفه ولا نقل عن الصحابة ما يخالفه صح التمسك به.
ثم ذكر البخاري في الباب حديث أبي بكرة: "أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ويلك قطعت عنق صاحبك، مرارا"، ثم قال:"من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه؛ ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه".
قال ابن حجر في "الفتح": "ووجه احتجاجه بحديث أبي بكرة أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد؛ لأنه لم يعب عليه إلا الإسراف والتغالي في المدح. واعترضه ابن المنير بأن هذا القدر كاف في قبول تزكيته، وأما اعتبار النصاب فمسكوت عنه. وجوابه أن البخاري يجري على قاعدته بأن النصاب لو كان شرطا لذكر؛ إذ لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة".
أقول: لا يخفى حال هذا الجواب؛ فإنه ليس في الحديث أن الممدوح شهد أو أخبر، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على مدح المادح حُكْمًا يحتاج فيه إلى عدالة الممدوح، وليس هناك حاجة لبيان نصاب التعديل.
نعم الأشبه بدقة نظر البخاري: تعالى، ولطف استنباطه، إذ فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم للمادح:"قطعت عنق صاحبك" ثناء على الممدوح؛ فإن قطع العنق كناية عن الإهلاك، والمعنى كما قال الغزالي:"إن الآفة على الممدوح أنه لا يأمن أن يُحدث فيه المدح كبرًا أو إعجابًا، أو يتكل على ما شهره به المادح، فيفتر عن العمل؛ لأن الذي يستمر على العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرًا" ذكره في "الفتح".
فكأن البخاري: فهم أن المدح إنما يقطع عنق من له عنق، والكافر والفاسق مقطوعة أعناقهما، ففي قوله صلى الله عليه وسلم:"قطعت عنق صاحبك" دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قضى بأن للممدوح عنقًا يخشى أن يقطعها المادح بمدحه، العنق هي العدالة، فقد تضمن ذلك القضاء بأن الممدوح عدل، وهذا على لطفه لا يكفي للحجة، وفيه بُعْد؟ ذلك أنه ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الممدوح، حتى يقال: إنه إنما أثبت له سلامة العنق بثناء ذاك المادح.
وأما المسلك الثاني (1): فالأقرب أن تزكية الشاهد شهادة، وأما تزكية المخبر فإن كانت ممن جاوره أو صحبه مدة فالظاهر أنها خبر، وإن كانت ممن تأخر عليه كتعديل الإمام أحمد لبعض التابعين فقد يقال: إنها حكم؛ لأن أئمة هذا الفن في معنى المنصوبين من الشارع أو من جماعة الأمة لبيان أحوال الرواة ورواياتهم، وقد يقال: إنها فتوى؛ لأنها خبر عما أدى إليه النظر والاجتهاد، وهو إن لم يكن حكمًا شرعيا فتبنى عليه أحكام شرعية كما لا يخفى، والأقرب أنها خبر أيضًا.
(1) يعني مسلك النظر في التعديل: أشهادة هو أم خبر، أم شهادة في تعديل الشاهد وخبر في تعديل المخبر؟
وأما المسلك الثالث (1): فقد شرحت في رسالة الاحتجاج بخبر الواحد بعض ما ظهر لي من الحكمة في أنه لا يكفي في الزنا أقل من أربعة شهود، وفي الدماء وغيرها بشاهدين، وفي الأموال بشاهدين ويمين المدعي عند قوم، والاكتفاء في الخبر بواحد، والذي يظهر من ذلك أن تعديل الشاهد كالشهادة بالدماء ونحوها في أنه لا يكفي إلا اثنان، وأن تعديل المخبر كالخبر.
وعلى كل حال فخبر من عدله اثنان أرجح من خبر من لم يعدله إلا واحد، وإن قامت الحجة بكل منهما، والله أعلم.
هذا كله حال المُعَدِّل، فأما الجارح، فشرطه أن يكون عدلًا، عارفًا بما يوجب الجرح إن جرح ولم يفسر وقلنا يقبوله. واشترط بعضهم أيضًا أن لا يكون بينه وبين المجروح عداوة دنيوية شديدة؛ فإنها ربما أوقعت في التحامل ولا سيما إذا كان الجرح غير مفسر، وزاد غيرهم العداوة الدينية (2). كما يقع بين المختلفين في العقائد، وقد بسطت القول في ذلك في "
…
" (3).
والكلام في عدد الجارح كما مر في المعدل. اهـ.
* * *
(1) يعني مسلك النظر في الحكمة التي لأجلها فرق الشارع بين الشهادة والخبر.
(2)
في التعليق على المطبوع: "في الأصل كلام مطموس والذي كتب فهم من سياق الكلام". اهـ
(3)
في التعليق على المطبوع "في الأصل مقدار كلمة غير مقروءة وهي تشير إلى كتاب". اهـ
قلت: الظاهر أنه "التنكيل"؛ فقد بسط القول في هذه المسألة في القاعدة التي عنون لها بـ"قدح الساخط ومدح المحب" من قسم القواعد.
الشرط الثاني
هل يشترط أن يكون المُعَدِّل معاصرًا لمن يُعدِّلُه؟
مقدمة:
ممن اشتهر بالقول بهذا: ابن القطان الفاسي.
قال الذهبي في ترجمة: حفص بن بُغَيْل -بالموحدة والمعجمة مصغرًا، الهمداني، المُرهبي، الكوفي: وقد قال فيه ابن القطان: "لا يعرف له حال". قال الذهبي: "ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمامٌ عاصر ذلك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته".
وفي "الصحيحين" من هذا النمط كثيرون ما ضعفهم أحدٌ ولا هم بمجاهيل. اهـ
وقال الذهبي أيضًا في ترجمة: مالك بن الخير الزبادي بالزاي والموحدة، نسبة إلى زباد وهو موضع بالمغرب كما في "الأنساب" وذكر مالكًا هذا -المصري الإسكندراني- وقد قال فيه ابن القطان:"لم تثبت عدالته"، قال الذهبي:"يريد أنه ما نصَّ أحدٌ على أنه ثقة، وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نص على توثيقهم، والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعةٌ ولم يأت بما يُنكَرْ عليه أن حديثه صحيح". اهـ
قال ابن حجر في "اللسان": "وهذا الذي نسبه إلى الجمهور لم يصرح به أحدٌ من أئمة النقد إلا ابن حبان. نَعَم هو حقٌ في حقِّ مَنْ كان مشهورًا بطلب الحديث والانتساب إليه، كما قررتُه في علوم الحديث، وهذا الرجل قد ذكره ابن حبان في "تاريخ الثقات" فهو عنده ثقة، وكذا نص الحاكم في "مستدركه" على أنه ثقة.
ثم إن قول الشيخ: إن في رواة الصحيح عددًا كثيرًا إلى آخره مما يُنازَعُ فيه، بل ليس كذلك، بل هذا شيء نادر؛ لأن غالبهم معروفون بالثقة إلا من خرجا له في الاستشهاد". اهـ.
تحقيق العلَّامة المعلمي لهذا المبحث:
قال في "الاستبصار"(ص 54).
"تقدم أن من شرط المعدِّل أن يكون ذا خبرة بمن يعدِّلُه، وذكروا أن الخبرة تحصل بالجِوار أو الصحبة أو المعاملة، ولا شك أنه يكفي جوارُ يوم أو يومين، وكذلك الصحبة، وكذا المعاملة لا يكفي فيها أن يكون قد اشترى منه سلعة أو سلعتين، بل لا بد من طول الجوار أو الصحبة أو المعاملة مدّة يغلب على الظن حصول الخبرة فيها، والمَدَارُ في ذلك على غلبة ظن المُزكِّي الفطن العارف بطباع الناس وأغراضهم.
واشتراط الخبرة بهذا التفصيل في مُزكِّي الشاهد لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في تزكية الرواة؛ فإن ما في كتب الجرح والتعديل من الكلام في الرواة المتقدمين غالبًا من كلام من لم يدركهم، بل ربما كان بينه وبينهم نحو ثلاثمائة سنة، هذا الدارقطني المولود سنة 306 يتكلم في التابعين، فيوثق ويضعف.
قد يتوهم من لا خبرة له أن كلام المحدث فيمن لم يدركه، إنما يعتمد النقل عمن أدركه، فالمتأخر ناقلٌ فقط أو حاكمٌ بما ثبت عنده بالنقل، وهذا الحصر باطل، بل إذا كان هناك نقل فإن المتأخر يذكره، فإن لم يذكره مرة ذكره أخرى أو ذكره غيره، والغالب فيما يقتصرون فيه على الحكم بقولهم "ثقة" أو"ضعيف" أو غير ذلك إنما هو اجتهاد منهم، سواء أكان هناك نقل يوافق ذاك الحكم أم لا، وكثيرًا ما يكون هناك نقل يخالف ذاك الحكم.
واعتمادهم في اجتهادهم على طرق:
الطريقة الأولى: النظر فيمن روى عن الرجل، فإن لم يرو عنه إلا بعض المتهمين كابن الكلبي والهيثم بن عدي، طرحوه ولم يشتغلوا به، وإن كان قد روى عنه بعض أهل الصدق، نظروا في حال هذا الصدوق، فيكون له واحدة من أحوال:
الأولى: أن يكون يروي عن كل أحد، حتى من عُرف بالجرح المسقط.
الثانية: كالأول، إلا أنه لم يرو عمن عرف بالجرح المسقط.
الثالثة: كالأولى، إلا أنه لم يُعرف بالرواية عمن عرف بالجرح، وإنما شيوخه بين عدول ومجاهيل، والمجاهيل في شيوخه كثير.
الرابعة: كالثالثة، إلا أن المجاهيل في شيوخه قليل.
الخامسة: أن يكون قد قال: "شيوخي كلهم عدول"، أو:"أنا لا أحدث إلا عن عدل".
فصاحب الحال الأولى لا تفيد روايته عن الرجل شيئًا، وأما الأربع الباقية فإنها تفيد فائدة ما، تضعف هذه الفائدة في الثانية، ثم تقوى فيما بعدها على الترتيب، فأقوى ما تكون في الخامسة.
الطريقة الثانية: النظر في القرائن؛ كأن يوصف التابعي بأنه كان من أهل العلم، أو من سادات الأمصار (1)، أو إمامًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، أو مؤذنًا لعمر أو قاضيًا لعمر بن عبد العزيز، أو ذَكَر الراوي عنه أنه أخبره في مجلس بعض الأئمة وهو يسمع كما قال الزهري.
الطريقة الثالثة: وهي أعمّ الطرق، اختبار صدقه وكذبه بالنظر في أسانيد رواياته ومتونها، مع النظر في الأمور التي قد يستفاد منها تصديق تلك الروايات أو ضعفها.
(1) في المطبوع: "الأنصار"، وهو خطأ.
فأما النظر في الأسانيد:
• فمنه أن ينظر تاريخ ولادته وتاريخ وفاة شيخه الذي صرح بالسماع منه، فإن ظهر أن ذلك الشيخ مات قبل مولد الراوي، أو بعد ولادته بقليل بحيث لا يمكن عادةً أن يكون سمع منه ووعى كَذَّبُوه.
• ومنه أن يسأل عن تاريخ سماعه من الشيخ، فإذا بَيَّنَهُ وتبيَّن أن الشيخ قد كان مات قبل ذلك كَذَّبُوه.
• ومنه أن يسأل عن موضع سماعه من الشيخ، فإذا ذكر مكانًا يُعرف أن الشيخ لم يأته قط كَذَّبُوه.
• وقريب من ذلك أن يكون الراوي مكيًّا لم يخرج من مكة وصرح بالسماع من شيخ قد ثبت عنه أنه لم يأت مكة بعد بلوغ الأول سن التمييز، وإن كان قد أتاها قبل ذلك.
• ومنه أن يحدث عن شيخ حيّ فيسأل الشيخ عن ذلك فيكذبه.
فإذا لم يوجد في النظر في حاله وحال سنده ما يدل على كذبه، نظر في حال شيوخه المعروفين بالصدق، مع الشيوخ الذين زعم أنه سمع منهم على ما تقدم.
فإذا كان قد قال: حدثني فلان أنه سمع فلانًا، فتبَّين بالنظر أن فلانًا الأول لم يلق شيخه كَذَّبُوا هذا الراوي، وهكذا في بقية السند.
لكن إذا وقع شيء من هذا ممن عرفت عدالته وصدقه، وكان هناك مظنة للخطأ حملوه على الخطأ، وقد يختلفون فيكذبه بعضهم ويقول غيره: إنما أخطأ هو أو شيخه أو سقط في الإسناد رجل أو نحو ذلك. اهـ
قال أبو أنس:
قد شرح الشيخ المعلمي وبيَّن ما يدل على خطأ ما ذُكر عن ابن القطان -أو غيره- من اشتراطِ توثيقِ معاصرٍ أو آخذٍ عنه لإثبات عدالة الراوي.
واعلم أن للأئمة في الحكم على الرواة مسالكَ، منها وعلى رأسها: اللقاء بالراوي وحضور مجالس تحديثه مثلا، والنظر في كتبه، وعرض أحاديثه على أحاديث أقرانه عن شيوخهم - كما سبق في كلام المعلمي.
ثم تأتي المعاصرة -وهي دون اللقاء- ويعتمد فيها الناقد على ما يبلغه من سيرة الراوي وحديثه، ونحو ذلك.
ومن الجدير بالذكر أن اللقاء أو المعاصرة لا يكفيان بمجردهما، بل لا بد أن ينضم إليهما ما سبق شرحه، حتى إنه ربما يتوفر للناقد من المعلومات عن الراوي الذي لم يعاصره ما لم يتوفر له عمن عاصره، فالأمر دائر مع مقومات ومسوغات تقويم حال الراوي في نظر الناقد، سواء كانت معاصرة أم لا؟
بل في الرواة من لقيهم بعض الأئمة، فتجملوا لهم، واستقبلوهم بأحاديث مستقيمة، فوثقوهم، وقد خبرهم أئمة آخرون واطلعوا منهم على ما يقدح في عدالتهم (راجع ترجمة ابن معين من القسم الثاني من هذا الكتاب).
وهذا نموذج تطبيقي للشيخ المعلمي ناقش فيه تلك القضية في "تنكيله".
ذكر المعلمي في النوع السابع من مغالطات ومجازفات الكوثري من "طليعة التنكيل"(ص 56) قوله في المعروف الموثق: "مجهول"، أو"مجهول الصفة"، أو"لم يوثق"، أو نحو ذلك، فمن الأمثلة:"عبد الله بن محمود السعدي المروزي".
قال الكوثري: "مجهول الصفة".
فقال المعلمي: "لعبد الله بن محمود السعدي المروزي ترجمة في كتاب ابن أبي حاتم، وقال: "كتب إلى أبي بمسائل ابن المبارك من تأليفه"، وله ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (جـ 2 ص 257).
قال الذهبي: "الحافظ الثقة محدث مرو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن عبد الله السعدي
…
قال الحاكم: ثقة مأمون".
وزاد المعلمي الحاشية: "وهو من شيوخ ابن خزيمة وابن حبان، وذكره ابن حبان في ثقاته مع روايته عنه في "صحيحه"، وتوثيق ابن حبان لمن عرفهم وخبرهم من أعلى التوثيق؛ فإنه يتشدد في هؤلاء ويحسن الظن بغيرهم".
ثم ذكره المعلمي في "التنكيل" رقم (135) وقال:
"زعم الأستاذ -الكوثري- في "الترحيب" أنه لم يوثقه أحد من أهل عصره، وأن الحاكم متأخر عنه، وقد نعى الشيخ المعلمي على الكوثري تناقضه، إذ رَدَّ هنا توثيق الحاكم؛ لأنه ليس عصريّ عبد الله بن محمود، ثم هو يردّ جرح المتقدمين لبشار ابن قيراط، ويتشبث بقول الخليلي -المتأخر عنه بقريب من مائتي سنة: "رضيته الحنفية بخراسان". (راجع ترجمة بشار من هذا الكتاب)، مع أن الحاكم لا يعتد به، فأما الذهبي فمتابع للحاكم، ثم أومأ الأستاذ إلى أن بعض أهل عصره وثقه، وإنني إذا فتشت وجدته.
فأقول: لا حاجة إلى التفتيش، والحاكم أقرب إلى عبد الله بن محمود من ابن معين إلى أبي حنيفة! فضلا عن التابعين وأتباعهم الذين يوثقهم ابن معين، ويعمل أهل العلم بتوثيقه لهم.
والحاكم إمام مقبول القول في الجرح والتعديل ما لم يخالفه من يرجح عليه وستأتي ترجمته.
ولم يقتصر الذهبي على حكاية كلمة الحاكم بل قال من عنده: "الحافظ الثقة" وفوق ذلك فعبد الله من شيوخ ابن خزيمة كما في "تذكرة الحفاظ" ولعله روى عنه في "صحيحه"، ومن شيوخ ابن حبان كما في "معجم البلدان"(بُسْت)، وذكره في "ثقاته" وذكر تاريخ وفاته، وتوثيق ابن حبان لمن عرفه حق المعرفة من أثبت التوثيق كما يأتي في ترجمته". اهـ.
* * *