الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - البحث الذى ذكره الشيخ المعلمي في "عمارة القبور
"
قال المعلمي في (ص 233) منه:
"لي بحث في اشتراط اللقاء، أحببت أن ألخصه هنا:
فأقول: الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي، أو أدركه، فتأمل هذا، وأفرض أمثلة بريئة عن القرائن من الطرفين، كأن تكون ببلدة فتسمع برجل غريب جاءها، وبعد أيام تلقاه، فيخبرك عن أناس من أهل تلك البلدة: أن فلانًا قال: كذا، وفلانًا قال: كذا، من دون أن يصرح بسماع، ولا علمت لقاءه لهم، ولكنك تعتقد أنه لا مانع له من لقائهم، ثم توسع في الأمثلة، ولاحظ أنها واقعة في عصر التابعين حين لا برق، ولا بريد، ولا صحافة، ولا تأليف، وإنما كان يتلقى العلم من الأفواه، والناس مشمرون لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ثم لاحظ أنه لم يكن يوجد منهم إلا نادرًا من لم يزر الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه، إذا كانا متعاصرين، وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين مع عدم اللقاء، فإذا كان الحال ما ذكر، وثبت أن أحد المتعاصرين روى عن الآخر بلا تصريح بسماع، ولا عدمه، كان المتبادر السماع، فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كل عام؛ فكيف إذا كان أحدهما ساكنًا أحد الحرمين! فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما! وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر.
فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء.
وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف، لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان، أن فلانًا أخبره عن فلان، أن فلانًا أخبره عن فلان -مثلًا- مع أن السلف كانوا أهل تثبت واحتياط.
إذا تقرر هذا، فما المانع من الأخذ بهذه الدلالة الظاهرة، المحصلة للظن، المستوفية لنصاب الحجية؟!
إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل، بدليل شيوع الإرسال فيهم.
قلت: أما الإرسال الجلي فَمُسَلَّمٌ، ولكن أقل من الإسناد، كما يعلم بالاستقراء، فهو كالمجاز، لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه.
وأما الخفي فقليل، حتى إنه أقل من التدليس.
فإن قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري -رحمهما الله تعالى- إلى اشتراط اللقاء يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف.
قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال، مع أن مسلمًا: نقل في مقدمة "صحيحه" الإجماع على عدم اشتراط اللقاء -أي قبلهما- كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه، فقيل:"إنه أراد به البخاري"، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني؛ فقد كان -أيضًا- معاصرًا له، فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق، على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية عن السماع، والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع؛ بدليل تصحيحهما لعنعنة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أن الظاهر من الرواية السماع لكانا إنما يعتمدان مجرد اللقاء، فيلزمهما أن يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه، وهذا كما ترى، وإنما اشترطا ثبوت اللقاء؛ لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا، ولكنه لا يقتضي إهدار الدلالة الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء ما دامت دلالته ظاهرة؛ مُحَصِّلة للظن مستكملة النصاب كما مَرَّ، وقد ألزمهما مسلم رحمهم الله عدم تصحيح المعنعن أصلًا؛ لأنه كما أن عنعنة من لم يثبت لقاؤه تحتمل عدم السماع، فكذلك من ثبت لقاؤه.
وأجيب بأن احتمال السماع في الثاني أقوى.
ويرد بأن احتمال السماع في الأول قوي ظاهر محصل للظن، فلا عبرة بزيادة الثاني؛ إذ هي زيادة على النصاب، مع أن لنا أمورًا تجيز هذه الزيادة.
منها: قلة الإرسال الخفي في السلف.
ومنها: أنه أقبح وأشنع من التدليس -كما سيأتي- فالثقة أشد تباعدًا عنه؛ تدينًا وخوفًا من نقد النقاد الذين كانوا يومئذ بالمرصاد، بخلاف التدليس؛ فإنه أشد خفاء على الناقد.
وأجيب -أيضًا- بأن احتمال العنعنة لعدم السماع مع ثبوت اللقاء اتهام للراوي بالتدليس، والفرض سلامته منه، بخلاف احتمالها له مع عدم ثبوت اللقاء، فإنما فيه اتهامه بالإرسال الخفي فقط.
ويُرد بأنه قد نقل محققون من أهل الفن أن الإرسال الخفي تدليس، منهم: ابن الصلاح (1)، والنووي (2)، والعراقي (3). وقال:"إنه المشهور بين أهل العلم بالحديث"، ولنا بحثٌ في تحقيق ذلك والإجابة عما ذكره الحافظ: لا حاجة لإثباته هنا؛ لأن الخلاف لفظي للاتفاق على أن في الإرسال الخفي إيهامًا، فاتهام الراوي به كاتهامه بالتدليس، فإذا اتهمتم الراوي بأنه يزسل خفيا -وإن لم يوصف به- فيلزمكم أن تتهموا الراوي بأنه يدلس، فإن قلتم: إن الأصل في الثقة عدم التدليس، قلنا: وكذا الإرسال الخفي.
فإن قلتم: الإيهام في الإرسال الخفي أضعف منه في التدليس، فهو أقرب إلى اتصاف الثقة به.
قلنا: مُسَلَّمٌ غالبًا، ولكن هذا لا يقتضي أن لا يكون الأصل في الثقة عدمه، ما دام فيه إيهامٌ وتغريرٌ وغشٌّ منافٍ لكمال الثقة، مع أن الإيهام في الإرسال الخفي لأمرين
(1) انظر: "المقدمة"(ص 14)، و"الاقتراح"(ص 213).
(2)
انظر: "الإرشاد"(1/ 314)، و"تدريب الراوي"(1/ 130).
(3)
انظر: "فتح المغيث"(1/ 113).
كلاهما خلاف الواقع: السماع لذلك الحديث واللقاء، بخلاف التدليس، فإنه وإن دل على الأمرين، فاللقاء موافق للواقع، فتبين أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس، كما قاله ابن عبد البر في "التمهيد"، ونحوه ليعقوب بن شيبة. انظر "فتح المغيث"(ص 75 - 74).
وعليه فالثقة أشد بعدًا عنه تدينا وخوفًا من نقد النقاد، كما مر، فإذا اتهمتم الثقة به من غير أن يوصف به، لزمكم من باب أولى اتهام الثقة بالتدليس، وإن لم يوصف به.
فإن قيل: لعل السامع يكون عالمًا بعدم اللقاء، فلا إيهام، فلا إرسال خفيا.
قلنا: وكذلك لعل السامع يكون عالمًا بعدم السماع مطلقًا، أو لذلك الحديث، فلا إيهام، فلا تدليس.
والتحقيق أنه لو كان الراوي يعلم بعدم اللقاء، أو عدم السماع، وهو ثقة غير مدلس، لبيَّنه لمن يأخذ عنه، ولو فرض أن الثاني كان عالمًا بذلك فاستغنى عن التبيين، فيلزم الثاني أن يبينه للثالث، وهكذا. فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس، أو الإرسال الخفي إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن عاصره وأمكن لقاؤه له، ولم ينص أحد من رجال السند ولا غيرهم على عدم اللقاء، فهو كما إذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن لقيه، وأمكن سماعه لذلك الحديث منه، ولم ينص أحد من رجال السند أو غيرهم على عدم السماع.
ففي قبول الأول احتمال اللقاء والسماع، وفي رده اتهام الثقة بإيهام اللقاء والسماع، وفي قبول الثاني احتمال السماع فقط، وفي رده اتهام الثقة بإيهام السماع فقط، فهذه بتلك.
فإذا لاحظنا قلة الإرسال الخفي في السلف واعتيادهم للإسناد وخوفهم من نقد النقاد، كان الأمر واضحًا، فكيف إذا اعتبرنا القرائن الدالة على اللقاء -كما سبق بيانها أول البحث.
فالمختار ما قاله مسلم: إن ثبوت اللقاء ليس بشرط الصحة، ولم نختره لما ذكره من الإجماع والإلزام، بل لما قدمنا أن الدلالة حينئذ دلالة ظاهرة محصلة للظن، مستكملة لنصاب الحجية. والله أعلم.
وقد رأيت عن الحافظ ما يوافق ما قلناه. قال تلميذه السخاوي في "فتح المغيث"(ص 62): "ولكن قيده ابن الصيرفي بأن يكون صرح بالتحديث ونحوه، أما إذا قال: عن رجل فن الصحابة وما أشبه ذلك، فلا يقبل. قال: لأني لا أعلم أسمع ذلك التابعي منه أم لا؟ إذ قد يحدث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل أم لا؟ فلو علمت إمكانه فيه لجعلته كمدرك العصر"، قال الناظم (العراقي):"وهو حسن متجه، وكلام من أطلق محمول عليه"، وتوقف شيخنا الحافظ في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس، حملت عنعنته على السماع، وهو ظاهر. قال: ولا يقال: إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمه حتى نعلم هل أدركه أم لا؟
لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك؛ إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلة في هذا المقام" اهـ.
أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدراك المعنعن للصحابي فضلا عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأظهر؛ لأنه قد ثبت الإدراك، وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كمامر.
والعجب من الحافظ: كيف مشى معهم في ترجيح رد عنعنة من علمت معاصرته دون لقائه، ولو مع قيام القرائن على اللقاء، وتوقف عن ردها، بل احتج لقبولها في حق من لم يعلم معاصرتها أصلا، فسبحان من له الكمال المطلق، وإنما ذكرنا هذا ليعلم صحة ما ذكرناه، من أن الدلالة ظاهرة، مستكملة نصاب الحجية. والله أعلم". اهـ.
قال الفقير إلي الله تعالى.
تمام البحث ذكره صاحب "البناء على القبور"(ص 93) في صلب الكتاب، بينما ذكره صاحب "عمارة القبور" في الحاشية (ص 240) على اعتبار أنه أخذه من النسخة التي اعتمد عليها الأول، والتي كانت مسودة للكتاب. وقد وقع لهما -لا سيما الثاني- تصحيفات وتخليط في أرقام أصحاب المناظرة، فأصلحت ذلك، وزدت أشياء لتميم الفائدة جعلتها بين حاجزين [].
قال المعلمي:
"نقل مسلم في مقدمة "صحيحه" إجماع السلف من أئمة الحديث على الاكتفاء بالمعاصرة في تصحيح المعنعن من غير المدلس، ما لم يقم دليل على نفي اللقاء، وشنَّع على من اشترط ثبوت اللقاء من أهل عصره.
ثم جاء المتأخرون فقالوا: إن الاشتراط قول المحققين، وذكروا منهم البخاري وشيخه ابن المديني.
ولا يخفى أن هذا لا ينافي سَبْقَ الإجماعِ لهما، ومجردُ حسنِ الظن بهما أنهما لا يخرقان الإجماع، وأنهما اطلعا أنه لم يزل في طبقات السلف من يشترط اللقاء: لا يغني شيئًا.
فلو ناظر مسلم البخاري، فقال: أنت وشيخك مسبوقان بالإجماع، لم يفده إلا أن يصرح بالنقل عن بعض السلف من جميع الطبقات في موافقة قوله؛ فأما مجرد إنكار الإجماع فلا يفيد؛ إذ الإجماع من الأمور التي لا يطالب مدعيها بدليل.
أما لو قال البخاري: إنه يلزمك وغيرك حسن الظن بنا، لكان قد أتى بما يضحك منه.
نعم، ذكر السخاوي في "فتح المغيث" (ص 66) [1/ 287 طبعة دار المنهاج] عن الحارث المحاسبي ما يُظن خادشًا للإجماع؛ حيث قال: "اختلف أهل العلم .. [فيما
يثبت به الحديث على ثلاثة أقوال: أولها أنه لابد أن يقول كُل عدل في الإسناد: حدثني أو سمعت إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يقولوا أو بعضهم ذلك فلا؛ لما عُرف من روايتهم بالعنعنة فيما لم يسمعوه] ". اهـ.
لكنه لا يصادم نقلَ مسلم؛ لاحتمال أن يكون [يعني المحاسبي] راعَى خلافَ ابن المديني، ومع هذا فإننا لا نقنع لأنفسنا بالتمسك بدعوى الإجماع، كما لا يهولنا دعوى التحقيق في الطرف الآخر، بل نسعى لتحقيق البحث بأدلته الحقيقية على صورة مناظرة؛ مشيرين لمذهب مسلم برقم (1) ومُقابله برقم (2).
ونستوفي البحث بقدر الجهد، بحسب ما اطلعنا عليه من أدلة الفريقين، وما ظهر لنا أنه قد يستدل به. والله المستعان.
(1)
الأصل الثابت في الرواية أن يكون عما شاهده الراوي وأدركه، سواء أعلم السامع لقاء الراوي للمروي عنه أم لا، وعليه فهذا هو الأصل، والظاهر الذي يجب التمسك به حتى يتبين خلافه.
(2)
وما دليلكم على ذلك؟
(1)
نذكر أمثلة نوضحه بها:
أ- مصري زار اليمن، ثم عاد فأخذ يخبر عن فلان من علماء صنعاء أنه قال كذا، وعن آخر من علماء زبيد، وثالث من علماء تَعز، والسامعون لا يسمعون بأولئك العلماء، ولم يخبرهم أنه لقيهم، ولا أنهم أحياء.
ب- هندي زار الحجاز، ثم عاد، فأخبر عن فلان من علماء مكة، وفلان من علماء المدينة، وفلان من علماء الطائف، والسامعون كما تقدم.
ج- عالم هندي أخذ يخبر بمثل الذي قبله، مع أن السامعين لا يعلمون أزار الحجاز أم لا؟
من تأمل هذه الأمثلة علم أن الذي يتبادر إلى الأذهان من رواية أولئك الأشخاص أنها عن سماع، مع أن الفرض أن الراوي عنعن، وأن السامع لا يعلم المعاصرة بدليل خارجي فضلًا عن اللقاء؛ أما إذا علمها فإن الأمر يزداد قوة.
(2)
هذه الأمثلة تُعارَض بغيرها، فإذا ذهب شرقي إلى أوربا، ثم عاد فأخبر عن فلان بإنجلترا، أو عن فلان بفرنسا، وعن فلان بألمانيا، فإن الذي يتبادر عدم السماع، وإن علمت المعاصرة.
(1)
هذا التبادر لوجود القرائن الصارفة عن الأصل كتباعد البلدان، وضعف الدواعي إلى زيارتها، وزيادة المشقة في ذلك، ووجود البرق والبريد والصحافة والتآليف بكثرة، وغلبة الإرسال بحيث لا تكاد تجد إنسانًا يقول: أخبرني فلان عن فلان، وغير ذلك، ولهذا مثلنا أمثلة بريئة عن القرائن، وإن شئت فتصورها واقعة في زمن التابعين حيث كانت الأقوال -ولاسيما السُّنَّة- إنما تؤخذ من ألسنة الرجال، فلا برق ولا بريد ولا صحافة، بل ولا تأليف.
والناس يومئذ أهل جد وتشمير في الرحيل لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف إذا كان الراوي والمروي عنه بأحد الحرمين، والناس يومئذ كلهم يزورون الحرمين، وكثير منهم من يحج كل سنة.
فكيف إذا ثبتت زيارة الحرمين بالفعل، أو كان أحد الرجلين ببلدة قد وصلها الآخر، فكيف إذا ما أقاما ببلدة واحدة.
والحاصل: أن الأصل كما قررناه، وأنه قد تقوم قرائن تصرف عنه، وقد تقوم قرائن تؤيده، ولنذكر مثالًا آخر نوضح ذلك الأصل:
كنا في بومباي -مثلًا- فجاء رجل من السند، لم يصل بومباي قبلُ، فمكث في بومباي بضعة أيام، ثم لقينا، فأخذ يخبرنا عن فلان المدرس بمدرسة كذا في بومباي أنه قال كذا، وعن فلان الإمام بمسجد كذا فيها أنه صلى الجمعة بسورة كذا، وعن
فلان التاجر بها أن سائلًا سأله فرد عليه بكذا، فالذي يتبادر إلى الأذهان أنه لقي أولئك الأفراد، وسمع منهم، مع أنه لو لم يخبرنا بذلك، لم يترجح لنا ألقيهم أم لا؟
فتبين أن التبادر إنما جاء من الرواية، فثبت أن الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي وأدركه.
(2)
لعل اصطلاح المحدثين كان على خلاف ذلك، كما يدل عليه ذهاب ابن المديني والبخاري ومن تبعهما إلى ما ذهبوا إليه.
(1)
قد أسلفنا أن مجرد ذهابهما إلى ذلك القول لا يصح نقضًا لما نقله مسلم من إجماع السلف، وهو يدل أبلغ دلالة أن اصطلاحهم كان موافقًا للأصل، بل هناك من القرائن ما يدل على شدة محافظتهم على الأصل أشد من محافظة غيرهم، وذلك مزيد احتياطهم وتثبتهم وجريان عادتهم بالإسناد، والتحفظ من نقد النقاد، وغير ذلك، على أننا لو تنازلنا عن دعوى الإجماع بقيت الأغلبية، وهي كافية في إثبات المطلوب.
مع أن موافقة البخاري وشيخه على حمل عنعنة من ثبت لقاؤه على السماع يدل على ما ذكرنا، وإلا لكانت الحجة عندهما هي مجرد اللقاء، فيلزمهما أن كل من لقي شيخًا ثبت سماعه لكل حديثه، وهذا كما ترى، وإنما رأيا أن دلالة الرواية بدون ثبوت اللقاء لا تخلو عن ضعف، فاشترطا تقويتها بثبوت اللقاء، ونحن نسلم أن الرواية مع ثبوت اللقاء أقوى منها بدونه غالبًا، ولكن هذا لا يقتضي عدم حجيتها إذا كانت في نفسها دلالة ظاهرة محصلة للظن، على أنه يُعلم مما قدمناه أن القرائن قد تتظافر على إثبات اللقاء حتى تكاد تقطع به وإن لم ينقل صريحًا.
(2)
لنا: شيوع الإرسال في السلف؛ فإنه دليل على أن اصطلاحهم على خلاف الأصل الذي قدمتم.
(1)
أما الإرسال الجلي فلا نزل فيه؛ لأن المرسِل يتكل على وضوح القرينة الصارفة عن الأصل، وهذا إنما هو كشيوع المجاز، لا يقتضي إلغاء الحقيقة، وأما الإرسال الخفي، فلنا جوابان عنه [أ، ب]:
أ- لا نُسلم شيوعه، والاستقراء يدل على قِلَّتِه؛ فإن أكثر رواية التابعين وتابعيهم المتصلة مُعَنْعَنَة، ولو كان الإرسال الخفي شائعًا فيهم لأقلُّوا خشية الإيهام.
(2)
لعلهم كانوا يتَّكِلُون على ثبوت اللقاء.
(1)
ما كل سامع لحديثهم مطلع على اللقاء، فالإيهام باق بالنسبة إلى من لم يطلع.
(2)
لعلهم كانوا يتَّكِلُون على أن من لم يطلع على ثبوت اللقاء يَسأل عنه.
(1)
قد يتساهل فلا يسأل، مع أنه قد يغلب على ظنه ثبوت اللقاء؛ للقرائن المتقدمة، فالأسهل والأحوط التصريح بالتحديث من أول وهلة، ولا حامل على تركه.
فتبين أنهم كانوا يعنعنون المتصلات لاعتقادهم دلالة ذلك على السماع، بل إذا تتبعت رواية المدلسين وجدهم كثيرًا ما يعنعنون المتصلات، فلماذا يعنعنون مع علمهم بأن عنعنتهم لا تحمل على السماع لتدليسهم؟ هل يقال: إنهم كانوا يريدون أن يوهموا أنهم لم يسمعوا تلك الأحاديث، والحال أنهم سمعوها، هذا عكس التدليس المتعارف.
فالتدليس: إيهامُ السماع مع عدمه، وهذا إيهام عدم السماع مع ثبوته، وغرض المدلس إنما يتعلق بالأول دون الثاني.
فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون جريًا على الأصل والعرفِ المطرد في الاكتفاء بالعنعنة في المسموع.
ب- الإرسال الخفي تدليس، والكلام في الراوي غير المدلس، فإذا سوَّيْتُم بين من وُصف بالتدليس وغيره لزمكم أن تردوا المعنعن مطلقًا، كما ذكره مسلم رحمه الله تعالى.
(2)
كلا، ليس الإرسال الخفي تدليسًا؛ إذ لا إيهام فيه مع عدم اللقاء.
(1)
قد قدمنا ما يُعلم منه أن الإيهام واقع، وإن لم يثبت اللقاء، ويتأكد بالقرائن، كما مَرَّ.
(2)
على كل حال: المختار أنه ليس تدليسًا، كما يُعلم بمراجعة كتب المصطلح.
(1)
التحقيق أنه تدليس، ولكن لا نطيل ببيانه، إذ يغنينا أن نقول: لا يضر الخلاف في الاسم، فالإرسال الخفي كالتدليس في الإيهام والتغرير، بل هو أقبح منه وأشنع، قال في "فتح المغيث" (ص 74 - 75) [1/ 316 ط دار المنهاج]:
"فقال ابن عبد البر في "التمهيد" [1/ 28]: ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة، فإن دلس عن غير ثقة فهو تدليس مذموم عند جماعة أهل الحديث، وكذلك إن حدث عمن لم يسمع منه، فقد جاوز حَدَّ التدليس الذي رخَّص فيه من رخَّص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه.
وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة، كما حكاه الخطيب عنه [الكفاية ص 516]، وهو -مع قوله في موضع آخر: إذا وقع فيمن لم يلقه أقبح وأسمج [التمهيد 1/ 27]:- يقتضي أن الإرسالَ أشدُّ، بخلاف قوله الأول، فهو مشعر بأنه أخفُّ، فكأنه هنا عني الخفي لما فيه من إيهام اللقي والسماع معًا، وهناك عني الجلي لعدم الالتباس" اهـ.
أقول: قوله: "إيهام اللقي والسماع معًا" أي لأن الرواية توهم السماع، ولا يكون سماع إلا مع لقي، وكلاهما غير واقع، بخلاف التدليس، فإن أحدهما وهو اللقي واقع.
(2)
لكن الإيهام في التدليس أقوى لثبوت اللقاء.
(1)
نعم غالبًا، لكن قوة الإيهام فيه لا تنافي وجود الإيهام في الإرسال الخفي، على أن الإيهام في هذا لأمرين كلاهما غير واقع، وفي التدليس لأمر واحد غير واقع، مع أنه قد يكون هناك قرائن تقوي إيهام اللقاء.
(2)
............................. [طمس بمقدار خمس أو ست كلمات].
(1)
فقد لزمكم على الأقل أن تسووا بين الأمرين، فكما أنكم لا تقبلون عنعنة من لم يثبت لقاؤه خشيةَ الإرسال الخفي، وإن لم يوصف بأنه كان يفعله، فكذلك لا تقبلوا عنعنة من ثبت لقاؤه خشيةَ التدليس، وإن لم يوصف بأنه كان يدلس.
(2)
هاهنا فرق، وهو أن السلامة من التدليس هي الأصل والظاهر من حال الثقة، فلا يُقام لاحتماله وزنٌ ما لم يُنقل.
(1)
وكذلك نقول في الإرسال الخفي سواء، بل السلامة من الإرسال الخفي أقرب؛ لأمور، منها: أنه أقبح وأشنع كما مَرَّ، فالثقة أشد بُعدًا عنه.
ومنها: أن الغرض الحامل عليه أضعف من الحامل على التدليس؛ لأن الشخص قد يستنكف عن إدخال واسطة بينه وبين شيخ قد لقيه وسمع منه؛ لأن ذلك يوهم تقصيره، بخلاف من لم يلقه.
ومنها: أن الشخص يرغب في التدليس؛ لأنه أروج لدلسته من الإرسال الخفي.
ومنها: أنه لا يأمن الإنكار في الإرسال الخفي، فإنه قد يكون هناك من يعلم عدم اللقاء فيبادر بالإنكار عليه، بخلاف التدليس؛ فإنه لا ينكر عليه الرواية عن شيخ قد لقيه وسمع منه.
(2)
أما المدلسون فقد تكفل الأئمة ببيانهم، بخلاف الإرسال الخفي، فلم يبينوا أهله على جهة الاستقصاء، وهذا يدل أنهم كانوا يرون الخطر في التدليس، ولا يرون في الإرسال الخفي خطرًا.
وهذا إنما يتمشى على أنهم كانوا يشترطون اللقاء في قبول المعنعن، فمتى فُقد اللقال فالعنعنةُ غيرُ مقبولة لِفقده، سواء أكان الراوي ممن يرسل الإرسال الخفي أم لا، ومتى ثبت اللقاء فالعنعنةُ مقبولة، إلا إن كانت من مدلس؛ فلهذا اهتموا ببيان المدلسين، بخلاف أهل الإرسال الخفي.
(1)
هذه مغالطة، فقد قدمنا بيان دلالة الرواية على السماع، وقدمنا نقل مسلم لإجماع السلف على حملها على السماع إذا ثبتت المعاصرة فقط، وبسطنا ذلك أحسن بسط، وأما هذه الشبهة فلنا جوابان عنها: جواب مكافأة وجواب إنصاف.
أ- أنه إذا كان الأئمة لم يَنقلوا عن أحدٍ أنه كان يرسل إرسالًا خفيًّا، فهذا دليلٌ لنا على غلظه وشدة شناعته وقبحه، بحيث إن جميع المحدثين تنزهوا عنه، إلا الكذابين؛ فإن وصفهم بالكذب يغني عن وصفهم بالإرسال الخفي.
وإن كان الأئمة نقلوا ذلك، ولكن عن قليلٍ بالنسبة إلى مَن نقلوا عنه التدليس، فهذا أيضًا دليل لنا على شناعة الإرسال الخفي، بحيث إن الموصوفين به من المحدثين قليلٌ جدًّا بالنسبة إلى المدلسين.
ب- المشهور بين المحدثين أن الإرسال الخفي تدليس، فالوصف بالتدليس يتناول النوعين، ولنا بحث في تحقيق هذه المسألة نلخصه هاهنا:
في عبارة ابن الصلاح في حَدِّ التدليس: "فتح المغيث"(ص 73)[1/ 314][مقدمة ابن الصلاح ص 66]: "وعمن عاصره ولم يلقه موهمًا أنه قد لقيه وسمعه"، وتبعه النووي، وعبارته في "التقريب":"بأن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهمًا سماعه".
وكذا العراقي، فقال "فتح المغيث" (ص 74) [التقييد والإيضاح ص 98]:"إنه هو المشهور بين أهل الحديث". ومثله للسيوطي في شرح "التقريب"، وهو ظاهر عبارة الخطيب في "الكفاية". انظر "فتح المغيث"(ص 74)[الكفاية ص 510].
وإن قال الحافظ [النكت على ابن الصلاح 2/ 614 - 615]: إنها تخالفه. ويؤيد هذا القول أن معنى التدليس لغة يتناوله، والأصلُ عدمُ النقل.
وأما البزار، وابن القطان، وابن عبد البر، فإنهم وإن خَصوا تعريف التدليس بما ثبت فيه اللقاء، فقد فرقوا بينه وبين الإرسال بوجود الإيهام في الأول بخلاف الثاني،
وهذا يدلك أنهم أسقطوا الإرسال الخفي، فلا أدخلوه في تعريف التدليس كما مَرَّ، ولا في الإرسال؛ لقولهم: إن الإرسال لا إيهام فيه، ومع ذلك فكلامهم يدل على إلحاقه بالتدليس؛ لوجود الإيهام فيه، فليس من الإرسال، ولقولهم: إن التدليس إنما كان تدليسًا لوجود الإيهام، وفي هذا إيهام، وأي إيهام، انظر عبارة ابن عبد البر المنقولة سابقًا.
وأما كلام الشافعي [يعني أبا بكر الصيرفي، وهو قوله فيما نقله السخاوي في فتح المغيث (1/ 286): كل من عُلم له -يعني ممن لم يظهر تدليسه- سماعٌ من إنسان، فحدث عنه، فهو على السماع حتى يُعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه. وكل من عُلم له لقاءُ إنسان فحدث عنه فحكمه هذا الحكم اهـ. وهذا قد نقله السخاوي عن ابن الصلاح (مقدمته ص 59) وقوله: يعني ممن لم يظهر تدليسه هو من كلام ابن الصلاح] فلم أقف عليه الآن [قال الزركشي في النكت (2/ 38): ما حكاه -يعني ابن الصلاح [المقدمة ص 156]- عن أبي بكر الصيرفي رأيته مصرحا به في كتابه المسمى بالدلائل والأعلام في أصول الأحكام، فقال: وكل من عُلم له سماع
…
لأن السماع واللقاء قد حصلا، اللهم إلا أن يتبين أنه لم يسمع مع اللقاء. قال: ومن أمكن سماعُه وعدمُ سماعِه فهو على العلم حتى يتحقق سماعه، وكذلك الحكم في اللقاء. انتهى
وقول ابن الصلاح: إنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه؛ يعني لأنه قال قبل هذا الكلام: ومن ظهر تدليسه عن غير الثقات لم يقبل خبره حتى يقول حدثني وسمعت. وقال في موضع آخر: متى قال المحدث: حدثنا فلان عن فلان. قُبل خبرُه؛ لأن الظاهر أنه حكى عنه، وإنما توقفنا في المدلس لعيب ظهر لنا منه، فإن لم يظهر فهو على سلامته، ولو توقفنا في هذا لتوقفنا في "حدثنا" لإمكان أن يكون حدث قبيلته وأصحابه كقول الحسن:"خطبنا فلان بالبصرة" ولم يكن حاضرا؛ لأنه احتمال لاغٍ، فكذلك من عُلم سماعه إذا كان غير مدلس، وكذلك إذا قال الصحابي أبو بكر أو
عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو محمول على السماع، والقائل بخلاف ذلك مغفل انتهى]، إلا أن المدعَّى إنما هو أنه يقتضيه، وليس صريحًا فيه.
وأما قول أبي حاتم في أبي قلابة الجرمي -"فتح"(ص 67) -[يعني فتح المغيث (1/ 289)، وهو في الجرح 5/ 58، والمراسيل ص 110]: "أنه كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم لكنه عاصرهم، كأبي زيد عمرو بن أخطب، وقال مع ذلك: إنه لا يعرف له تدليسًا". اهـ.
فيحمل على الإرسال الجلي، بأن يكون مشهورًا بين الناس أنه لم يلقهم، فلا إيهام، والرواية عن المعاصر إنما تكون تدليسًا إذا وجد الإيهام. [تراجع ترجمة أبي قلابة من القسم الأول من هذا الكتاب رقم (396)]
وأما استدلال الحافظ -"فتح"(ص 73) -[يعني فتح المغيث (1/ 313)، وهو في نزهة النظر ص 72 - 73]: بإطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل الإرسال، لا من قبيل التدليس، فلو كان مجرد المعاصرة يكتفى به في التدليس؛ لكان هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم قطعًا، ولكن لم يعرف هل لقوه أم لا؟ اهـ.
وجوابه: أن الصحبة أمر غير مجمل لا يخفى، فكان معلومًا للتابعين أن هؤلاء ليسوا بصحابة، فلم يكن في إرسالهم إيهام.
وقوله رحمه الله "ولم يعرف لقوه أم لا؟ " فيه نظر. راجع تراجمهم في كتبه.
على أنه لو فرض أنه لم يقم دليل على عدم لقائهم له صلى الله عليه وسلم، لالتزمنا أن تكون روايتهم عنه دعوى صحبة لها حكمُها.
ومع هذا كله فالمدَّعَى إنما هو كون هذا القول هو المشهور بين أهل الحديث، فلا ينافيه أن يكون منهم من يخالفه.
على أنه لو فرض أن الإرسال الخفي لا يسمى تدليسًا، لكان وصف الشخص بالتدليس يدل على أنه لا يتنزه عن الإرسال الخفي؛ لأنهما متقاربان متشابهان.
(2)
بقي لنا اعتراض واحد، إن تفصيتم عنه [يعني تخلصتم منه] فقد فلجتم [بالجيم يعني فزتم وظفرتم]، وهو أن الثقة قد يرسل عمن عاصره غير قاصد إيهامًا، بل اتكالًا على معرفة السامع بعدم اللقاء، كما حملتم عليه قول أبي حاتم في أبي قلابة الجرمي، فيكون هذا إرسال خفي.
وفي الحقيقة لا يمتنع اتصاف الثقة به. ولا يلزم الأئمة نقله وإن صار فيما بعد خفيا.
(1)
هذا أشفُّ ما أوردتموه وعلى ذلك فجوابه من وجهين: إلزامي، وتحقيقي.
أما الإلزامي؛ فلأنه يلزمكم مثله في التدليس، بأن يقال: إن الثقة قد يرسل عمن لقيه وسمع منه غير قاصد إيهامًا بل اتكالًا على معرفة السامع بأنه وإن لقيه لم يسمع منه، أو سمع منه ولكن هذا المعنعن ليس مما سمعه، وهذا لا يسمى تدليسًا، إذ لا إيهام فيه، فلا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقلُه وإن صار فيما بعد تدليسًا، فإذا اعتبرتم الاحتمال هناك، لزمكم اعتباره هنا، فيردون كل معنعن، كما قاله مسلم رحمه الله.
وأما التحقيقي فنقول: إن السامع من المعنعِن إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين أن شيخه لم يلق الذي روى عنه، فإن فرض أن هذا السامع حدث من يعلم بعدم لقاء المعنعن لشيخه، فهذا المحدَّث إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين وهكذا.
فتلخص من هذا أنه إذا ثبت عن أحد رجال السند بيان أن المعنعِن لم يلق المعنعَن عنه، فالأمر واضح، وإن لم يجيء البيان عن أحد منهم، ولا عن غيرهم، وجب حمل تلك العنعنة على السماع، وإلا لزم أن يكون في الرجال مدلس، والمفروض سلامتهم من التدليس، وهذا هو جوابكم عما ألزمناكم، فصح، وثبت أن العنعنة من المعاصر غير المدلس إذا رويت بسند رجاله ثقات غير مدلسين، فهي محمولة على السماع، إلا
أن يقوم دليل على خلافه، ومثل العنعنة غيرها من ألفاظ الرواية التي ليست صريحة في السماع، ولا في عدمه.
(2)
هل وافقكم أحد على رأيكم هذا؟
(1)
ها هي الأدلة بين أيديكم، تأملوها، فإن رأيتم الدليل موافقًا لنا، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن رأيتموه علينا، فلن ينفعنا موافقة أحد، على أننا قد قدمنا أن هذا قول الإمام مسلم بن الحجاج، ونقل أنه إجماع السلف من أهل الحديث، ولم تُخدش دعوى الإجماع بما يُعد خادشًا، وقد نقل السخاوي (ص 62) بعد كلام ما عن أبي بكر [سقطت لفظة بكر من الأصل] الصيرفي، ملخصه:
أن التابعي إذا قال: عن رجل من الصحابة، لا تقبل، إذ لا يعلم أعاصره أم لا، فلو أمكن علم أنه عاصره جعل كمدرك العصر
…
ثم قال السخاوي: "وتوقف شيخنا في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس، حملت عنعنته على السماع، وهو ظاهر، قال: ولا يقال: إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين فلابد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنه لم يسمه حتى يعلم هل أدركه أم لا؟ لأنا نقول سلامته من التدليس كافية في ذلك؛ إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلة في هذا المقام". اهـ.
أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدراك المعنعِن الصحابي فضلًا عن لقائه، ففي مسئلتنا أولى وأحرى؛ لأنه قد ثبت الإدراك، وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء كما، والعجب من الحافظ: كيف مشى معهم في ترجيح رد عنعنة من علمت معاصرته دون لقائه، مع أنه قد تقوم القرائن على اللقاء، وتوقف عن ردها بل احتج لقبولها في حق من لم يعلم معاصرته أصلًا. وكان العكس أقرب، كما هو واضح. والله أعلم". اهـ.
قال الفقير إلى الله تعالي:
قد سقت ما كتبه الشيخ المعلمي في هذا الموضع، ولي على ما كتبه ملاحظات، أُجملها فيما يلي:
أولًا: اعتمد المعلمي فى بحثه هنا على أمور، أهمها:
1 -
أن الأصل فى الرواية أن تكون عما شاهده الراوي أو أدركه، وجعله هو الظاهر الذى يُتمسك به حتى يتبين خلافه.
وفى استدلاله على هذا الأصل، ذكر أمورا عقليةً وحالاتٍ افتراضيةً تقع للناس فى نقلهم عن غيرهم، ولِمُخالفه أن ينقض بعض ما قرره فى ذلك، بالإضافة إلى أن باب "الرواية" يلزم فيه من "الاحتياط" و"التحري" أكثر مما يلزم في غيره.
2 -
نَقْل مسلم إجماع السلف من أئمة الحديث على الاكتفاء بالمعاصرة في تصحيح المعنعن من غير المدلس ما لم يقم دليل على نفي اللقاء.
وقد استصحب المعلمي هذا النقل فى غير موضع من المناظرة التى أجراها، وأكَّد به تقرير الأصل السابق، ودفع به استدلال من ذهب إلى خلاف ذلك الأصل كابن المديني والبخاري ومن تبعهما، وأن مجرد ذهاب هؤلاء إلى ذلك لا يصح نقضا لما نقله مسلم من إجماع السلف، وأن دعوى الإجماع لم تُخدش بما يُعد خادشا.
وكذلك دفع به قولَ بعض المتأخرين: إن اشتراط ثبوت اللقاء هو قول المحققين، وذكروا منهم البخاري وابن المديني، دفع ذلك بقوله: لا يَخفى أن هذا لا ينافي سَبْق الإجماع لهما.
هذا، مع أنه قد قال بعد ذلك:"فلو ناظر مسلمٌ البخاري فقال: أنت وشيخك مسبوقان بالإجماع، لم يُفِدهُ إلا أن يُصرح بالنقل عن بعض السلف من جميع الطبقات فى موافقة قوله".
وهذا لم يفعله مسلم، بل اكتفى بنقل الإجماع، ثم استشهد ببعض الأحاديث التي زعم قبولَ أهل العلم لها مع عدم تحقق ذلك الشرط فيها، وأنه يلزم على قول المخالف ردها.
وتلك الأحاديث قد قام المعلمي نفسُه فيما بعدُ بالجواب عنها بما يُسقط الاستدلال بها.
ثم عاد المعلمي فتنزل، فقال:"على أننا لو تنازلنا عن دعوى الإجماع، بقيت الأغلبية، وهي كافية فى إثبات المطلوب" يعني بذلك مَنْ سِوى ابن المديني والبخاري.
ثم عاد فذكر أنه لم يُعَوِّلْ على هذا الإجماع، فقال:"فالمختار ما قاله مسلم: أن ثبوت اللقاء ليس بشرط الصحة، ولم نختره لما ذكره من الإجماع والإلزام، بل لما قدمنا أن الدلالة حينئذ ظاهرة، مُحَصِّلة للظن، مستكملة لنصاب الحجية".
فعاد إلى الاعتماد على ذلك الأصل، مع أنه قد كان قوَّى ذلك الأصل بهذا الإجماع، فى قضايا أُخَر سبق تقريرها وتدعيمها به، مع جوابه عن حُججٍ للمخالف اعتمادا عليه كذلك.
3 -
ابتنى هذا الأصل أيضا ودعَّمه بـ "قلة الإرسال الخفي" في السلف حسبما ادعاه بالاستقراء، أما "الإرسال الجلي" فلا نزل فيه، لأن المرسِل يتكل على وضوح القرينة الصارفة عن الأصل. وأكد هذا أيضا بنقل مسلم ذلك الإجماع الذى يدل على عدم شيوع هذا النوع من الإرسال.
ثانيًا: لم يعتن المعلمي في بحثه بالجانب العملي فيه، وهو النظر فى تصرفات الأئمة حيال هذه القضية، وأرى أن مِما أوقع المعلمي فى ذلك: فقدُه لكثير من المصادر التى يمكن الوقوف من خلالها على حقيقة الأمر، مثل كتب المراسيل؛ ككتاب الرازي، ولا سيما الجامعة منها كـ"جامع التحصيل" للعلائي، وإنما يوجد شيء من ذلك فى بعض تراجم "تهذيب التهذيب" لابن حجر، وهي مواضع متناثرة فى أنحاء الكتاب.
ومثل بعض كتب العلل المعنية بهذا الأمر؛ كالعلل والسؤالات المنقولة عن أحمد وابن المديني، ومثل كتاب "شرح علل الترمذي" لابن رجب، وفيه نَقَلَ المذهب الذى شنع عليه مسلم: عن جمهور المحدثين والمتقدمين، وأجاب عن الأحاديث التى استشهد بها مسلم على مذهبه جوابا إجماليا (1).
ومثل كتاب "السَّنَن الأبين" لابن رشيد، وقد ألفهُ لبحث تلك القضية بحثا موسعا، وهو ملىء بالنقولات المعنية بهذا الأمر عن سائر الأئمة، وقد أجاب عن معظم أحاديث مسلم جوابا مسهبا.
وقد نعى المعلمي -كما سيأتي- على من خالف مسلما بأنهم لم يجيبوا على تلك الأحاديث، ذلك أنه لم يطلع على تلك المصنفات وغيرها، فتعنَّى هو الجوابَ عنها جوابا مختصرا، وهو آخر عهده ببحث تلك المسألة فيما يظهر، وتطبيقاته العملية في ثنايا كتبه -كما سيأتي- تؤكد ذلك.
وقد رأيت بعض الفضلاء، وهو الشيخ إبراهيم عبد الله اللاحم في كتابه:"الاتصال والانقطاع"(2) ذكر المعلمي فيمن اختار مذهب مسلم من المعاصرين.
وقد يصح هذا بالنسبة لما كتبه في "عمارة القبور"، لكن في "التنكيل" يُفيد كلامُه نوعا من التوقف وعدم الجزم بذلك، بل فتح فيه بابا لنقض الأمثلة التي ساقها مسلم مستدلا بها على مذهبه، مما دفعه بعد ذلك للكتابة فيه رأسا كما سيأتي، وانتظر.
* * *
(1) انظر من (ص 359 إلى ص 375).
(2)
(ص 101).