المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - جواب المعلمي - النكت الجياد المنتخبة من كلام شيخ النقاد - جـ ٣

[إبراهيم بن سعيد الصبيحي]

فهرس الكتاب

- ‌الْقسم الثالث«القواعد النظرية والاستقرائية التي بنى عليها المعلمي منهجه في النقد»

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأولفي فصول نافعة في السنة وأهلها، وعناية الأئمة بها، ومدح أصحاب الحديث، وذم مخالفيهم من أهل الكلام والرأي

- ‌الفصل الأولفي تعريف "السنة

- ‌الفصل الثانيفي منزلة السنة من الدين

- ‌الفصل الثالثكتابة الحديث في العهد النبوي، وأسباب عدم انتشار ذلك حينئذٍ، والاستدلال بحفظ الله تعاله للسنة على دحض شبهات المخالف

- ‌الفصل الرابعتحقيق المقال في الأحاديث الواردة في النهى عن كتابة الحديث

- ‌الفصل الخامسعناية الأئمة بحفظ السنة واحتياطهم البالغ في نقد الرواة والأخبار

- ‌الفصل السادسفي الانتصار لأصحاب الحديث، وبيان مراعاتهم للعقل في نقد الأسانيد والمتون، وذم ما عليه المتكلمون والمتفلسفون لخوضهم في غوامض المعقول

- ‌الفصل السابعفي بيان بعض ما انتقد على أهل الرأي والكلام والكُتَّاب العصريين في دفع الصحيح من المرويات وقدح الثقات من الرواة وغير ذلك

- ‌الفصل الثامنفي رفع الإشكال عن كلمات في ذم الحديث وطلبته خرجت من أصحابها دون قصد ظاهرها

- ‌الفصل التاسعالإشارة إلى إعراض كثير من الناس في العصور المتأخرة عن هذا العلم العظيم، ووجوب تسليم مَن دون أئمة الحديث لهم في معرفة المقبول من المردود

- ‌الباب الثانيفي قواعد نقد الخبر وشرائط قبول الحديث

- ‌الفصل الأولالقواعد النظرية ومنزلتها من النقد

- ‌الفصل الثانيمراتب نقد الخبر، وشرائط قبول الحديث

- ‌المرتبة الأولى: النظر في أحوال رجال سنده واحدًا واحدًا

- ‌الشرط الأول: الإسلام

- ‌الشرط الثاني: البلوغ

- ‌الشرط الثالث: العقل

- ‌الشرط الرابع: العدالة

- ‌المبحث الأولفي معنى العدالة

- ‌المبحث الثانيفي ذكر بعض شروط تحقيق العدالة

- ‌المبحث الثالثفي عدالة الصحابة

- ‌المبحث الرابعفي عدالة التابعين

- ‌المبحث الخامسأوجه الطعن في العدالة

- ‌الوجه الأولرمي الراوي بالكذب في الحديث النبوي

- ‌المطلب الأولفي بيان حفظ الله تعالى للسنة من اختلاط الكذب ونحوه بها وأن وقوع الكذب في الرواية لا يمنع من معرفة الصدق فيها

- ‌المطلب الثانيفي ذم الكذب

- ‌المطلب الثالثفي الرواية عن الكذابين والمتروكين ونحوهم

- ‌المطلب الرابعفي رواية الأحاديث المكذوبة والباطلة والمنكرة في الكتب

- ‌المطلب الخامسفي سرقة الحديث

- ‌أولًا: المقصود بسرقة الحديث:

- ‌ثانيًا: الباعث على سرقة الحديث وقيمة معرفة ذلك:

- ‌ثالثًا: من دلائل الاتهام بسرقة الحديث:

- ‌رابعًا: بعض مسالك الكذابين والسارقين:

- ‌1 - تركيب الأسانيد على متون مسروقة:

- ‌2 - السارق يُدخل الحديثَ على من لا يُظن به الكذب ترويجًا له:

- ‌3 - الكذب على المغمورين أبعد عن الفضيحة:

- ‌4 - أمثلة للتهمة بسرقة الحديث ونظر المعلمي في ذلك:

- ‌خامسًا: السارق لا يُعتد بمتابعته:

- ‌المطلب السادسمن قواعد الحكم على الحديث بالبطلان أو الوضع، وأنه لا يلزم اشتمال إسناده على كذاب

- ‌أولا: قال الشيخ المعلمي في مقدمة الفوائد المجموعة:

- ‌ثانيًا: نماذج من تطبيق المعلمي لتلك القواعد:

- ‌الوجه الثانيأنواع من الكذب تُلحق بالكذب في الحديث النبوي

- ‌الوجه الثالثرمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي

- ‌الوجه الرابعالتهمة بالكذب

- ‌الوجه الخامسخوارم المروءة

- ‌الوجه السادسالبدعة

- ‌ قال العلامة المعلمي في كتاب "الاستبصار

- ‌ وقال في "عمارة القبور

- ‌ وقال المعلمي في القاعدة الثالثة من قسم القواعد من "التنكيل

- ‌الوجه السابعالجهالة

- ‌الفائدة الأولى: مناهج بعض الأئمة في توثيق المجاهيل

- ‌الفائدة الثانية: المجهول قد يَسْقُطُ أو يُتَّهَمُ بما يرويه إذا قامت القرائن على ذلك:

- ‌الفائدة الثالثة: عدم وقوف أمثالنا على ترجمة للرجل لا يُسَوِّغُ لنا الحكم عليه بالجهالة:

- ‌الفائدة الرابعة: أمثلة لـ: "مجهول الحال

- ‌الشرط الخامس من الشروط الواجب توفرها في الراوي: الضبط

- ‌ ضبط الصدر

- ‌المسألة الأولىالأصل فى الحفظ هو حفظ الصدور

- ‌المسألة الثانيةضبط الصغير المميز

- ‌المسألة الثالثةفي بيان حد الضابط لحديثه، وهل من شرط الضابط أن لا يقع له النسيان أو الشك

- ‌المسألة الرابعةهل الضبط يتجزأ

- ‌المسألة الخامسةالأمية وأثرها في ضبط الراوي

- ‌المسأله السادسةأوجه الطعن في ضبط الراوي أو مظاهر خفة ضبط الراوي

- ‌الوجه الأولوقوع الخطأ في حديث الراوي

- ‌المطلب الأولتفاوت درجات وقوع الخطأ في حديث الراوي، وأثر ذلك في الحكم عليه بالقبول والرد

- ‌المطلب الثانيالإصرار على الخطأ وأثره في قبول الراوي

- ‌الوجه الثاني من أوجه الطعن في ضبط الراوي

- ‌المطلب الأولكبر السن أو ذهاب البصر لا يستلزم التغير، فإنا كان فإنه لا يستلزم الاختلاط الاصطلاحي

- ‌المطلب الثانيقد يتغير الرجل أو يختلط ولا يظهر له في ذلك الحال ما يُنكر عليه

- ‌المطلب الثالثرواية حاكي الاختلاط عن المختلط هل يُعتد بها

- ‌الوجه الثالث من أوجه الطعن في الضبط: قبول التلقين

- ‌المطلب الأولمعنى التلقين وعلاقته بالوضع ونحوه

- ‌المطلب الثانيجواز التلقين على سبيل الامتحان مع بيان ذلك في المجلس وأن الشيخ يسقط بكثرة قبوله له

- ‌المطلب الثالثالإعلال باحتمال وقوع التلقين ممن جُرِّبَ عليه ذلك

- ‌الوجه الرابع من أوجه الطعن في الضبط: الإدخال في حديث الراوي

- ‌المطلب الأولالإدخال القادح وغير القادح

- ‌المطلب الثانيشأن من أُدخلت عليه أحاديث ألا يُقبل منه إلا ما رواه عنه متثبت ينظر في أصول كتبه

- ‌المطلب الثالثقد يسقط الرجل إذا حدث بأحاديث أدخلت عليه

- ‌الوجه الخامس من أوجه الطعن في الضبط: الغفلة

- ‌الوجه السادس من أوجه الطعن في الضبط: النسيان

- ‌ ضبط الكتاب

- ‌المطلب الأولأهميةُ الضبطِ بالكتابة، وعنايةُ المحدثين بأصلِ السماعِ، والمطالبةُ به إذا حَدَثتْ رِيبةٌ، وهل يُغمزُ الراوي حينيذٍ إذا لم يُبْرِزْهُ؟ وهل يُعذر أحيانا إذا لم يبرز بروايته أصلا

- ‌المطلب الثانيصحة كتاب الراوي تغني عن النص على ضبطه إذا كان صدوقا

- ‌المطلب الثالثهل تصح رواية الراوي من غير أصله إذا وثق به

- ‌المطلب الرابعهل الروايةُ من أصلٍ موثوقٍ فيه موثوقٍ أمتنُ أم الرواية من الحفظ

- ‌المطلب الخامستقديم المفضول على الفاضل في شيخٍ لروايته عنه من أصله

- ‌المطلب السادسرواية أهل الثبت والتحري عمن في أصوله سُقْمٌ واضطراب ونحو ذلك

- ‌المطلب السابعوقع الخطأ في الحداثة وبقاؤه في الأصل العتيق للشيخ

- ‌المطلب الثامنضياع الكتب أو دفنها وأثر ذلك على ضبط الراوي

- ‌المطلب التاسعرواية الضرير من كتبه

- ‌المطلب العاشرفوائد تتعلق بالنُسَخِ والأصولِ، وذِكْرِ التسميعات والتصحيحات، وعادة المحدثين في كتابة السماع في كل مجلس، وكيف تصح رواية الحفاظ المتأخرين للكتب الستة ونحوها

- ‌كثرةُ التسميعات والتصحيحات في الأصول القديمة لا ينفي وقوع الخلل فيها

- ‌عادةُ المحدثين كتابةُ السماع في كل مجلس، وما يترتب على ذلك

- ‌استغناء أهل العلم بالوثوق بصحة النسخة عن اشتراهما صحة السند إليها

- ‌المرتبة الثانية: النظر في اتصال الخبر

- ‌المطلب الأولقضية اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين

- ‌1 - البحث الذى ذكره الشيخ المعلمي في "عمارة القبور

- ‌2 - القاعدة التاسعة من مقدمة "التنكيل" تحت عنوان: مباحث في الاتصال والانقطاع:

- ‌المبحث الأول

- ‌المبحث الثاني

- ‌المبحث الثالث

- ‌المبحث الرابع

- ‌المبحث الخامس

- ‌3 - جواب المعلمي

- ‌المطلب الثانيفوائد متفرقة تتعلق بقضية التدليس

- ‌الأولى: أثر التدليس على العدالة

- ‌الثانية: الفرق بين حدِّ التدليس والإرسال:

- ‌الثالثة: الوصف بمطلق التدليس يُحمل على أخف أنواعه وهو: تدليس الشيوخ، أما تدليس التسوية فلا بد فيه من التصريح به:

- ‌الرابعة: عنعنة المدلسين داخل "الصحيحين

- ‌الخامسة: الإعلال بالتدليس:

- ‌المطلب الثالثضرورة إجراء القواعد في نقد صيغ الأداء الواردة في الأسانيد

- ‌المطلب الرابعقضايا ومسائل تتعلق بالسماع

- ‌1 - معنى السماع بمعناه الواسع:

- ‌2 - نفي السماع لا يلزم منه انتفاء جميع صور التحمل كالإجازة والمكاتبة ونحوها:

- ‌3 - لا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع؛ فإن كثيرا من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشيء:

- ‌4 - عادة المحدثين إثبات سماع الحاضرين في مجالس السماع:

- ‌المطلب الخامسالاعتماد على النظر في سني الولادة والوفاة للرواة لبحث قضية السماع أو الإدراك لاسيما إذا لم توجد نصوص في ذلك

- ‌المطلب السادسنقد بعض صور التحمل سوى السماع

- ‌1 - الوجادة:

- ‌2 - الإجازة:

الفصل: ‌3 - جواب المعلمي

‌3 - جواب المعلمي

عن الأحاديث التي استشهد بها مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة "صحيحه" على ما ذهب إليه من عدم اشتراط العلم باللقاء

قال الشيخ المعلمي:

1 -

حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "كنت أطيب

" (1). ورواه جماعة عن هشام، عن أخيه عثمان، عن أبيه.

أقول: فهذا تدليس من هشام، وراجع ترجمة هشام في مقدمة "الفتح"، و"معرفة الحديث" للحاكم (ص 104).

قال الفقير إلى الله تعالى:

قد حمل المعلمي في هذا الجواب صنيعَ هشام على أنه تدليسٌ منه، وهو القول الأحدث له، ومقتضاه إيهامُ السماع، ودَعَّمَ ذلك بما أحال به على مقدمة "الفتح" و"معرفة علوم الحديث" للحاكم.

ففي مقدمة "الفتح"(ص 471): "قال يعقوب بن شيبة: هشام ثبت ثقة، لم ينكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق؛ فإنه انبسط في الرواية عن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده. والذي نراه أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمع منه، فكان تساهله أنه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه، عن أبيه. قال ابن حجر: هذا هو التدليس. اهـ.

(1) لفظ مسلم من رواية أبي أسامة عن هشام، عن أخيه عثمان، عن عروة، عن عائشة "كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم". مسلم: كتاب الحج، (باب: الطيب للمحرم عند الإحرام) (2/ 847)(رقم 1189/ 37).

ص: 400

وفي "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص 104) ذكر أجناس التدليس قال:

الجنس الثاني من المدلسين: قوم يدلسون الحديث فيقولون: "قال فلان"، فإذا وقع إليهم من ينقر عن سماعاتهم، ويُلح، ويراجعهم، ذكروا فيه سماعاتهم، ثم ذكر مثالا لرواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة حديثًا، ثم بيَّن أن بعضه لم يسمعه من أبيه، إنما هو عن الزهري. اهـ.

أقول:

مقتضى ما ذهب إليه المعلمي هنا -وهو أن صنيعَ هشام: تدليسٌ؛ مستدلا بوصف الحاكم وابن حجر لفعل هشام بذلك- ينقضُ استدلالَ مسلم؛ وذلك لأن الأمثلة التي ذكرها مسلم مفروضة في غير المدلس، ومقتضى استدلال مسلم برواية هشام: تصريح بأن هشاما لا يدلس.

وهو الذي ذهب إليه المعلمي قبل ذلك في "التنكيل"(1/ 503)؛ فقال فى ترجمة هشام رقم (789):

"التحقيق أنه لم يدلس قط، ولكن كان ربما يحدث بالحديث عن فلان، عن أبيه، فيسمع الناس منه ذلك ويعرفونه، ثم ربما ذكر ذلك الحديث بلفظ: "قال أبى" أو نحوه؛ اتكالًا على أنه قد سبق منه بيانُ أنه سمعه من فلان، عن أبيه، فيغتنم بعض الناس حكايته الثانية، فيروي ذاك الحديث عنه، عن أبيه؛ لما فيه من صورة العلو، مع الإتكال على أن الناس قد سمعوا روايته الأولى وحفظوها. وفي مقدمة "صحيح مسلم" ما يصرح بأن هشامًا غير مدلس، وفيه أن غير المدلس قد يرسل، وذكر لذلك أمثلةً، منها: حديث رواه جماعة عن هشام: "أخبرني أخي عثمان بن عروة، عن عروة" ورواه آخرون عن هشام، عن أبيه، ومع هذا فإنما اتفق لهشام مثل ذلك نادرًا، ولم يتفق إلا حيث يكون الذي بينه وبين أبيه ثقة لا شك فيه؛ كأخيه عثمان، ومحمد ابن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة، والله الموفق". اهـ.

ص: 401

وقد نحا ابنُ رشيد في كتابه "السنن الأبين"(ص 91 - 97) نحوًا آخر؛ إذ ذكر أن الأمثلة التي أوردها مسلم في هذا الموضع لرواةٍ لقي بعضهم بعضًا، وأسندوا رواياتِهم معنعِنين ممن لم يُتهم بالتدليس.

ثم قال: على أن هشامًا قد وقع له بعض الشيء، ثم أورد المثال الذي ذكره الحاكم في الجنس الثاني من أجناس التدليس، والذي أشار إليه المعلمي آنفًا.

ثم قال ابن رشيد: "فحاصل ما أتيتَ به أيها الإمام من الأمثلة أن من عُلم سماعُه من إنسانٍ، ثم اختلفت الرواةُ عنه؛ فزاد بعضهم بينهما رجلًا أو أكثر، وأسقطه بعضهم، ومثَّلتَ ذلك بهشام عن أبيه عن عائشة؛ فإنه يحكم لمن في زاد بالاتصال، ولمن نقص بالإرسال، وهذه المسألة أيها الإمام من معضلات هذا العلم، وهي من باب العلل التي يعز لدائها وجود الدواء، ويتعذر في كثهير منها الشفاء، فكيف يصح أن يجعل ما هذه حاله دليلًا في محل نزاع أو يحكم فيه حكمًا جمليًّا، وليت الحكم التفصيلي يكشف بعض أمره.

فنقول: إذا ورد حديث معنعن عن رواة لقي بعضهم بعضا، ثم ورد ذلك الحديث بعينه بزيادة رجل منصوصا على التحديث فيه أو معنعنا أيضا، نظرنا إلى حفظ الرواة وكثرة عددهم، وانفتح باب الترجيح، فحكمنا لمن يرجح قوله من الزائد أو الناقص أو لمن تيقنا صوابه؛ كأن نتحقق أنه لم يسمعه ممن رواه عنه مرسلا، أو أن ذلك الزائد في الإسناد خطأ، كما قد نحكم بذلك إذا كان الحديث بلفظ:(نا)، ثم زاد أحدهما راويا نقصه غيره، أو أن الحديث عند الراوي عنهما معا، وقد بان ذلك كله في بعضها كما هو معلوم عند أهل الصنعة.

فإن أشكل الأمر توقفنا وجعلنا الحديث معلولا، إذ كل واحد من الطريقين متعرض لأن يعترض به على الآخر؛ إذ لعل الزائد خطأ، وإذا كان الزائد بلفظ:(عن) أيضا، فلعله نقص رجل آخر غير ذلك المزيد، وإنما يرتفع هذا الاحتمال إذا قال الراوي الزائد: حدثنا، ويبقى احتمال أن يكون الحديث عنده عنهما معا.

ص: 402

فأما أن يحكم بأنه لم يسمعه منه لزيادة رجل في الإسناد مطلقا، ففيه نظر، لا سيما في رواية الأبناء عن الآباء عن الأجداد أو عن الآباء فقط أو الإخوة بعضهم عن بعض، فكثيرا ما يتحملون النزول ويدَعون العلو -وإن كان عندهم- حرصا على ذكره عن الآباء والأجداد وإبقاءً للشرف

... وقد حكم بعض المتأخرين بإرسال الناقص ووصل الزائد، وهو الذي ظهر منك أيها الإمام في حكمك هنا، وهو كما قدمناه لا يسلم من التعقب بأن يعترض على أحدهما بالآخر.

فمن ذلك أنك قلت: إن أيوب السختياني وابن المبارك ووكيعا وابن نمير وجماعة غيرهم رووا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولحرمه بأطيب ما أجد.

فروى هذه الرواية بعينها الليث بن سعد وداود العطار وحميد بن الأسود ووهيب بن خالد وأبو أسامة عن هشام قال: أخبرني عثمان بن عروة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم أوردت في كتابك حديث عثمان؛ لأنه الذي رجح عندك أنه المسند، ومن أسقطه أرسل، ولسنا ننفي أن يحصل ظنٌ في بعض الأحاديث بأن الحُكم لمن زاد، كما قد يرجح أيضا في بعض أن الحكم لمن نقص، فتعميم الحُكم في المسألة لا يصح. اهـ.

ص: 403

قال الفقير إلى الله تعالي:

هذه ثلاثة أجوبة على هذا النموذج الذي ساقه مسلم:

الجواب الأول:

للمعلمي، وهو أنه تدليسٌ من هشام، وهو ينقضُ استدلالَ مسلم كما سبق؛ لأن الفرض في المسألة أنها في غير المدلس، ولذا اكتفى المعلمي في الجواب بقوله: فهذا تدليسٌ من هشام.

أقول:

لكنَّ هشاما لم يصفْه أحدٌ من المتقدمن بالتدليس صراحةً، قال العلائي في جامع التحصيل (ص 111):

"هشام بن عروة إمام مشهور، لم يشتهر بالتدليس، ولكن قال علي بن المديني: سمعت يحيى يعني ابن سعيد يقول: كان هشام بن عروة يحدث عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما خُيِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وما ضرب بيده شيئا .. الحديث. فلما سألته قال: أخبرني أبي عن عائشة، قالت: ما خُيِّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين. لم أسمع من أبي إلا هذا، والباقي لم أسمعه إنما هو عن الزهري. رواه الحاكم في "علومه" (ص 104 - 105) عن ابن المديني. وفي جعل هشام بمجرد هذا مدلسا نظر، ولم أر من وصفه به". اهـ. كلام العلائي.

وذكره ابن حجر في المرتبة الأولى من المدلسين، وهم من لم يوصف بذلك إلا نادرا، ووصف ما وقع لهشام بأنه تدليس، كما سبق أن وصفه بذلك في "مقدمة الفتح"، وكذا ذكره احتمالا في "النكت الظراف"(12/ 16).

وانظر ما يأتي في الجواب الثاني.

ص: 404

الجواب الثاني:

للمعلمي أيضا؛ وهو أن هشاما لم يكن مدلسا، وإنما كان يعتمد على ما وصله قبل ذلك فيرسله، ولم يتفق له ذلك إلا نادرا، حيث يكونُ الذي بينه وبين أبيه ثقةٌ لا شكَّ فيه.

أقول:

في "شرح علل الترمذي" لابن رجب (2/ 487 - 491):

"قال الأثرم: فقلت له -يعني لأحمد-: هذا الاختلاف عن هشام، منهم من يرسل، ومنهم من يسند عنه، مِنْ قِبَلِه كان؟ فقال: نعم.

وقال الأثرم أيضًا: قال أبو عبد الله:

ما أرى ذاك إلا على النشاط، يعني أن هشامًا ينشط تارة فيسند، ثم يرسل مرة أخرى.

قلت لأبي عبد الله: كان هشام تغير؟ قال: ما بلغني عنه تغير

اهـ.

فقول الإمام أحمد: مما أرى ذاك إلا على النشاط، يعني أن هشاما ينشط تارة فيسند، ثم يرسل مرة أخرى: يؤيد قول المعلمي الثاني؛ أنه ليس بالتدليس المقتضي للإيهام، وإنما هو الإرسال الذي يسوغه ما سبق من الوصل.

الجواب الثالث:

لابن رشيد؛ وهو أنه خلافًا من الرواة عن هشام، فمنهم من زاد بينه وبين أبيه رجلا -وهو أخوه عثمان- ومنهم من لم يذكره، فينبغي أن يكون الأمرُ دائرا على الترجيح بين الرواة في ذلك، فقد تكون الزيادةُ خطًا، أو قد يكون الساقطُ من الرواية الناقصة أكثرَ من رجل، أو قد يكون الراوي سمع الحديث بواسطة وبدون واسطة، لا سيما إذا كان قد صرح بالسماع في الحالة الثانية.

إذًا، فليست كلُّ زيادةِ رجلٍ في إسنادٍ تدل على أن الرواية بدونه مرسلة أو منقطعة.

ص: 405

هذا إجمالُ ما ذكره ابن رشيد، وأزيد هنا فأقول:

أولا: إذا كان سماعُ الراوي من شيخه ثابتا بالطرق المعتبرة، ورُوي عنه عن شيخه حديثٌ بلا واسطة، ثم زاد بعضهم واسطة، فإنه تجري فيه الاحتمالات التي ذكرها ابن رشيد، بحسب صيغ الاتصال الواردة في الإسنادين، وبحسب قرائن الترجيح المعتمدة، فلا يُحكم دائما برجحان الرواية الزائدة.

لكن في هذه الحالة التي نحن بصددها قد ثبت ما يُقوي أن هشاما إنما أخذ هذا الحديث عن أخيه عثمان، وأنه لم يسمعه من أبيه.

وهذا ما رواه سفيان بن عيينة قال: قال لي عثمان بن عروة: ما يروي هشام بن عروة هذا الحديث إلا عني. اهـ.

رواه عن ابن عيينة: الشافعي (مسنده: 565) والحميدي (1/ 105) وأحمد (6/ 160) وأبو خيثمة زهير بن حرب (تاريخه: 3049).

وذكر الدارقطني في العلل (15/ 53) فيمن روى ذلك عن ابن عيينة: علي بن المديني.

وقال الدارقطني: الصحيح: عن هشام بن عروة أنه سمع هذا الحديث من أخيه عثمان بن عروة، عن عروة. وكان أحيانا يرسله. اهـ.

وقال ابن عبد البر في التمهيد (19/ 296): لم يسمعه هشام من أبيه، إنما سمعه من أخيه عثمان، عن أبيه. اهـ.

ثانيا: إذا لم يكن السماع ثابتا، فإن مما يستدل به الأئمة على عدم السماع: ورود بعض الروايات بالواسطة بينهما، وهذا مستفيضٌ عنهم.

مثاله:

أ- ما في جامع التحصيل في أحكام المراسيل (1/ 179):

ص: 406

سالم بن أبي الجعد الكوفي

وقال أحمد بن حنبل: لم يلق ثوبان؛ بينهما معدان بن أبي طلحة. وسئل ابن معين عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة البهزي؟ فقال: هو مرسل؛ قد أدخل شعبة بينهما: شرحبيل بن السمط.

ب- و (1/ 270):

محمد بن ميمون أبو حمزة السكري، قال أبو حاتم: كنت أرى أبا حمزة أدرك بكير بن الأخنس، حتى قيل لي إن المراوزة يدخلون بينهما: أيوب بن عائذ.

وثَمَّ جوابٌ رابع احتمله الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف"(12/ 16)؛ فقال: "إما أن يكون هشام دلسه، وإما أن يكون مِمَّن رواه عنه بدون ذكر عثمان سوَّاه". اهـ.

أقول:

الاحتمال الأول سبق إيراده واحتمالُ التسوية من أمثال: أيوب، وابن المبارك، ووكيع، وابن نمير بعيدٌ، والله تعالى أعلم.

وثَمَّ جوابٌ خامس وهو أنه بسبب نقصٍ في حفظ هشام لما كبر؛ ففي "شرح علل الترمذي" لابن رجب (2/ 605):

قال يعقوب بن شيبة: "هشام مع تثبته ربما جاء عنه بعض الاختلاف".

فقال ابن رجب: "وذلك فيما حدث بالعراق خاصة، ولا يكاد يكون الاختلاف عنه فيما يفحش، يُسند الحديث أحيانًا، ويُرسله أحيانًا، لا أنه يقلب إسناده، كأنه على ما تذكر من حفظه. يقول: عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أتقنه أسنده وإذا هابه أرسله.

وهذا فيما نرى أن كتبه لم تكن معه بالعراق فيرجع إليها. والله أعلم". اهـ.

وسبق أن الإمام أحمد قال: ما بلغني عنه تغير.

ص: 407

ومع ذلك وصفه ابن القطان بالتغير، فقال الذهبي في "الميزان": "هشام حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبدا، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبى صالح اختلطا وتغيرا.

نعم الرجل تغير قليلا، ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان؟

ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك، ولشعبة، ولوكيع، ولكبار الثقات

". اهـ.

2 -

هشام، عن أبيه، عن عائشة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف"(1) ورواه مالك (2) عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة.

في أبواب الاعتكاف "باب لا يدخل البيت إلا لحاجة". [4/ 320 فتح]

عندما روى البخاري المتن بمعنى هذا عن الليث، عن الزهري، عن عروة وعمرة، ذكر الحافظ أن منهم من اقتصر على عروة، ثم قال:"اتفقوا على أن الصوابَ قولُ الليث، وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد".

أقول: ويؤيد ذلك ما في كتاب الحيض من "صحيح" البخاري [1/ 478 فتح] من طريق هشام عن أبيه، وفيه من قوله:"أخبرتني عائشة أنها كانت ترجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حائض، ورسول الله حينئذ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه، فترجله وهي حائض". اهـ.

(1) يعني: يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض. أخرجه مسلم من رواية هشام بنحوه في كتاب الحيض، (باب: جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله ....). (1/ 244) رقم (9/ 297) وهو آخر إسناد عنده لحديث عروة.

(2)

مسلم (1/ 244) رقم (297/ 6) من رواية مالك مصدرا بها الباب.

ص: 408

قال الفقير إلى الله تعالي:

قال ابن رشيد جوابًا على هذا الموضع:

"هذا أيضا من ذلك القبيل؛ حكمتَ فيه أن من نقص عَمرة فهو مرسل، والصحيح في هذا الحديث أنه عند ابن شهاب عن عروة وعمرة معًا عن عائشة، وهو الذي اعتمد البخاري، فقال:

نا قتيبة، قال نا ليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن، أن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قالت:"وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجته إذا كان معتكفا".

وأما أنت فظهر من فعلك في كتابك أنك لم يَصْفُ عندك كَدَرُ الإشكال في هذا الحديث، فأوردتَّ في كتابك حديثَ مالك مُصَدِّرًا به بناء على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع، فقلتَ: نا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة، قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم وإذا اعتكف يدني إليَّ رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان".

ثم أتبعته باختلاف الرواة فيه على شرطك من أنك لا تكرر إلا لزيادة معنى أو إسنادٍ يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، فقلت:

حدثنا قتيبة بن سعيد قال نا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح قال أنا الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا". وقال ابن رمح: "إذا كانوا معتكفين".

ص: 409

فقد بيَّنَ الليث في حديثه عندك وعند البخاري أنه له عنهما، وقد كان يمكننا أن نقول إنه عند ابن شهاب عن عروة وعمرة بهذا السياق الأتم، وعن عروة فقط مختصرا، لولا ما أورده البخاري عن ابن شهاب عن عروة وعمرة مختصرا أيضا. [4/ 320 فتح]

وقد كفى الإمام أبو عبد الله البخاري مؤونةَ البحث، وبيَّنَ أنه عند عروة مسموع من عائشة، فذكر رواية هشام عن أبيه بإسقاط عمرة من طريق مالك وابن جريح عن هشام عن أبيه عن عائشة، ووقع في رواية ابن جريج من قول عروة: أخبرتني عائشة، وذكر الحديث في كتاب الحيض من صحيحه في باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله

فهذا نص جلي على سماع عروة من عائشة، وذلك بخلاف ما اعتقده مسلم رحمه الله من انقطاع رواية من أسقط عمرة من الإسناد فيما بين عروة وعائشة.

ولم يقل فيه أحد: عن عروة، عن عمرة إلا مالك رحمه الله، وأنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر، عن الزهري، فتابع مالكا، والجمهور على خلافهما؛ بيَّن ذلك الإمام أبو الحسن الدارقطني في جزء له جمعه في الأحاديث التي خولف فيها مالك رضي الله عنه فقال:

روى مالك في الموطأ عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم وإذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله.

خالفه عقيل بن خالد، ويونس بن يزيد، والليث بن سعد، فرووه عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة، وقيل ذلك عن الأوزاعي، وتابعهم ابن جريج، والزبيدي، والأوزاعي، ومعمر، وزياد بن سعد، وابن أخي الزهري، وعبد الرحمن ابن نمير، ومحمد بن أبي حفصة، وسفيان بن حسين، وعبد الله بن بديل، وغيرهم، فرووه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، لم يذكروا فيه عمرة، ويشبه أن يكون القول قولهم؛ لكثرة عددهم واتفاقهم على خلاف مالك.

ص: 410

وقد رواه أنس بن عياض أبو ضمرة عن عبيد الله بن عمر، عن الزهري، فوافق مالكا، ولا نعلم أحدا تابع أبا ضمرة على هذه الرواية عن عبيد الله، والله أعلم. انتهى كلام الدارقطني رحمه الله.

قلت -والله المرشد-: والصحيح عندي في هذا الحديث أنه عند ابن شهاب عن عروة وعمرة معا، ولاشك أنه عند عروة مسموع من عائشة كما بينه البخاري من طريق ابن جريح حيث قال: أخبرتني عائشة

". اهـ.

3 -

الزهري وصالح بن أبي حسان، عن أبي سلمة، عن عائشة:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم". ققال يحيى بن أبي كثير: أخبرني أبو سلمة أن عمر بن عبد العزيز أخبره أنا عروة أخبره أنا عائشة أخبرته. [أخرج مسلم حديث يحيى دون الحديث الأول، كتاب الصيام، (باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته) (2/ 778) (رقم 1106/ 69)].

أقول: الظاهر أن الحديث عند أبي سلمة من الوجهين، وإنما رواه بنزول؛ توقيرا لـ "عمر بن عبد العزيز"، وإظهارًا لفضله، وهذا أولى بلا ريب من اتهام أبي سلمة بالتدليس.

قال الفقير إلى الله تعالى:

قال ابن رشيد: "فزاد يحيى -كما تراه في الإسناد- رجلين نصًّا على الإخبار، فاعتمدتَ -يعني مسلمًا- في كتابك على حديث يحيى بن أبي كثير؛ لأنه زاد في الإسناد، والحُكم عندك لمن زاد، ولسنا نُسلم ذلك؛ فإن أبا سلمة معلومُ السماع من عائشة، والزهري ويحيى إمامان، وصالح بن أبي حسان صالح للمتابعة والاعتبار، وهو معلومُ السماع من أبي سلمة وسعيد بن المسيب، ذكر سماعه منهما البخاري [التاريخ الكبير (4/ 275)] فيما حكاه القاضي أبو الفضل وغيره، فتقوى به جانب

ص: 411

الزهري

ومع ذلك فيحتمل أن يكون الحديث عند أبي سلمة عن عائشة، ويكون عنده أيضًا عن عمر بن عبد العزيز، عن عروة عن عائشة، فاحتاج إلى نقله من طريق عمر بن عبد العزيز لأرب له في ذلك، فأعد نظرًا في هذا الحديث، فإنه لا يصفو من كدر العلة". اهـ.

أقول:

قد عبر المعلمي عن هذا الأَرَب -ولم ير كلامَ ابنِ رشيد- بتوقير عمر بن عبد العزيز، وإظهار فضله.

وفي الحديث اختلاف كثير، ذكره الدارقطني في "العلل"(5/ 151 / أ، ب) فليراجعه من شاء، وفي "علل ابن أبي حاتم"(739) جانبٌ منه، وقد تعرضت له في كتابي:"السعي الحثيث في كشف ما أغلق من علل الحديث" وهو شرح لكتاب العلل لابن أبي حاتم.

4 -

وروي ابن عيينة وغيره، عن عمرو بن دينار، عن جابر، قال:"أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل" رواه حماد بن زيد (1) عن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر.

أقول: عمرو ذكره ابن حجر في "طبقات المدلسين" وقال: "أشار الحاكم في "علوم الحديث" إلى أنه كان يدلس".

أقول: عبارة الحاكم في "المعرفة"(ص 111) في الكلام على المدلسين: "هذا باب يطول، فليعلم صاحب الحديث أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة

وأن الأعمش لم يسمع من أنس، وأن قتادة لم يسمع من صحابي غير أنس، وأن عامة حديث عمرو

(1) رواية حماد أخرجها البخاري (4219)(5520)(5524)، ومسلم (1941/ 36)، ولم يخرجا الرواية الأولى.

ص: 412

ابن دينار عن الصحابة غير مسموعة"، وقد حمل الترمذي (1) رواية حماد على الوهم، وقال: "سمعت محمدًا -يعني البخاري- يقول: ابن عيينة أحفظ من حماد" (2).

ولكن ذكر الحافظ في "الفتح "(9/ 513) أن حمادًا توبع، ثم قال:"والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمرو بالسماع من جابر، فتكون رواية حماد من المزيد في متصل الأسانيد، وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة".

أقول: إن لم يثبت عن عمرو ما يدل على التدليس غير هذا، فينبغي حمل كلام الحاكم على الصحابة الذين لم يلقهم عمرو، وقد بين الأئمة كثيرًا منهم في ترجمة عمرو من "التهذيب"، وهذا عند الحاكم تدليس، كما صرح به، والحق أنه لا يلزم من ثبوت هذا عن الراوي أن يحكم عليه بالتدليس في شيوخه الذين قد سمع منهم، ثم يحمل ما وقع في هذا الحديث على نحو ما تقدم في الذي قبله، وهو أن عمرًا أراد تكريم محمد بن علي؛ لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، وفضله، فروى عنه ما قد سمعه هو من شيخه، والله أعلم.

ثم رأيت في "مسند" أحمد (3/ 268)"ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو ابن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: "كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني العزل، قال: قلت لعمرو: أنت سمعته من جابر؟ قال: لا" والحديث في "الصحيحين" (3) من طريق عمرو، عن عطاء، عن جابر مصرحًا فيه بالسماع، فقد يقال إن عمرًا إنما يفعل مثل هذا فيما سمعه نادرًا، حيث قد حدَّثَ بالحديث على وجهه، ويكون سمعه من ثقة متفق عليه.

(1)"الجامع"(1793)، وقال: رواية ابن عيينة أصح.

(2)

لعل البخاري عني: في الجملة، لا في هذا الحديث بعينه؛ ولا في روايتهما عن عمرو كما سيأتي؛ وبدليل أن البخاري لم يخرج رواية ابن عيينة وخرج رواية حماد كما سبق.

(3)

أخرجه البخاري برقم (5208) من طريق سفيان قال عمرو: أخبرني عطاء، سمع جابرا، أما مسلم فأخرجه (1440/ 136) من طريق معقل عن عطاء، قال سمعت جابرا.

ص: 413

قال الفقير إلى الله تعالى:

قال ابن رشيد: "هذا أيضًا من ذلك القبيل؛ حكمتَ -يعني مسلمًا- فيه لرواية حماد على رواية سفيان، فأوردت رواية حماد في كتابك، وليس حماد بن زيد ممن يُضاهى بسفيان بن عيينة، لاسيما في عمرو بن دينار؛ فهو المَلِيُّ به، الثبت فيه، المقدَّم على غيره.

قال ابن الجنيد: قلت ليحيى: من أثبت في عمرو بن دينار، سفيان أو محمد بن مسلم؟ فقال: سفيان أثبت في عمرو بن دينار من محمد بن مسلم ومن داود العطار ومن حماد بن زيد، سفيان أكثر حديثا منهم عن عمرو وأسند، قيل: فابن جريج؟ قال هما سواء.

قال عثمان بن سعيد: قال يحيى بن معين: ابن عيينة أحب إلي في عمرو بن دينار من سفيان الثوري. وهو أعلم به، ومن حماد بن زيد. قلت: فشعبة؟ قال: وأي شيء عند شعبة عن عمرو بن دينار؟ إنما يروي عنه نحوا من مائة حديث ..

فكيف يُقدَّمُ أحدٌ على من هذه حاله في عمرو، مع أن عمرًا معلوم بالرواية عن جابر، وقد تابع سفيانَ على قوله: الحسنُ بن واقد، ذكر ذلك النسوي، وما أرى محمد بن علي في هذا الموضع إلا من المزيد في متصل الأسانيد". والله أعلم. اهـ.

5، 6 - "عبد الله بن يزيد الأنصاري، وقد رأي النبي صلى الله عليه وسلم، روي عن حذيفة حديثًا، وعن أبي مسعود حديثًا، ولم يصرح بالسماع، ولا علمنا لقيه لهما".

أقول: أما حديث حذيفة فذكر النووي أنه قوله: "أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم بما هو كائن" الحديث، خرجه مسلم (1).

(1)(2891)(24).

ص: 414

أقول: أخرج أولًا معناه (1) مطولًا من طريق أبي إدريس عن حذيفة، ومن طريق أبي وائل (2) عن حذيفة، ثم ذكره؛ فهو متابعة. والحديث مشهور عن حذيفة، فإن صح قول مسلم في عدم العلم بلقاء عبد الله بن يزيد لـ "حذيفة"، فالجواب أنه لما لم يكن له عنه إلا حديث واحد، والحديث مشهور من غير طريقه عن حذيفة، لم يَحْتَجْ أهل العلم إلى الكلام فيه، بل رووا الحديث على أنه متابعة، فهو مقبول في مثل ذلك، وإن كان محكومًا عليه بالانقطاع (3).

وأما حديثه عن أبي مسعود ففي شرح النووي أنه حديث "نفقة الرجل على أهله".

أقول: والحديث في "الصحيحين"(4) من طرق، وفي رواية للبخاري (5): "

عن عبد الله بن يزيد أنه سمع أبا مسعود

" فقد ثبت اللقاء والسماع لهذا الحديث نفسه (6). راجع "الفتح" (9/ 401).

قال الفقير إلى الله تعالي:

أجاب ابن رُشيد عن الاستدلال بهذين الحديثين بجوابين:

الأول عام: وهو أن عبد الله بن يزيد الأنصاري له صحبة، وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم كما قال مسلم، وذكره في الكوفيين من الصحابة في كتاب "الطبقات".

والصحابة رضوان عليهم عدول بأجمعهم، بإجماع أهل السنة على ذلك، فلو قدَّرْنا إرسالَ بعض الصحابة عن بعض لم يضرنا ذلك شيئًا، ولم يكن قادحًا،

(1)(2891)(22).

(2)

(2891)(23).

(3)

قال ابن رشيد: "ليس فيه ذكر سماع، ولا نعلم الآن من ذكر فيه سماعًا". اهـ.

(4)

البخاري (55)(5351)، ومسلم (1002).

(5)

(4006).

(6)

كذلك قال ابن رشيد.

ص: 415

ولا يدخل هنا قولك: "إن المرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"؛ لما قلناه من الاتفاق على عدالة الجميع، ولذلك قبل الجمهور مراسل الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم

فإن اعترضت أيضا أيها الإمام بإمكان احتمال الإرسال عن تابعي؛ إذ يحتمل أن يكون الصحابي رواه عن تابعي، عن صحابي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أرسله، قلنا: نادرٌ بعيدٌ، فلا عبرة به، وغاية ما قدر عليه الحفاظ المعتنون أن يبرزوا من ذلك أمثلة نَزْرة تجري مجرى المُلَح في المذاكرات والنوادر في النوادي".

الثاني خاص: وهو شقان:

أولهما: ثبوت سماع عبد الله بن يزيد من أبي مسعود، كما رواه البخاري في الصحيح، وهذا مما غاب عن مسلم رحمه الله.

ثانيهما: حديث عبد الله عن حذيفة، قال: لم يخرجه البخاري؛ إما لعلةٍ اطلع عليها بسعة علمه لم يطلع عليها مسلم، أو يكون تركه للاختصار" اهـ.

وجواب المعلمي عن هذا الحديث جواب حسن، والله تعالى أعلم.

7، 8 - "أبو عثمان النهدي، وأبو رافع الصائغ، وهما ممن أدرك الجاهلية، وصحبا البدريين، ونقلا عنهم الأخبار، حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة، قد أسند كل واحد منهما عن أُبيِّ بن كعب حديثًا، ولا يعلم لقاؤهما له".

أقول: حديث أبي عثمان، قال النووي: إنه قوله: "كان رجل لا أعلم أحدًا أبعد من المسجد بيتًا منه" خرجه مسلم (1).

(1)(663)(278).

ص: 416

والجواب عنه أن في "مسند" أحمد (5/ 33): "حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أُبَي"، فذكر الحديث، ثم قال أحمد:"ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله بن المبارك أنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان، حدثني أُبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنَّ لك ما احتسبت".

وهي قطعة من هذا الحديث، فثبت اللقاء والسماع. اهـ.

قال النووي: وأما حديث أبي رافع عنه فهو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأُخر، فسافر عامًا، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين يومًا". رواه أبو داود.

أقول: لم يخرجه مسلم: في "الصحيح"، وذلك يدل على توقفٍ له فيه؛ لأنه ليس هناك طريقٌ أخرى صحيحةٌ يوردها، ويجعل هذه متابعةً لها، والحديثُ في حُكْمٍ وسُنَّة، وقد أنصف بذلك.

قال الفقير إلى الله تعالي:

قد استدل ابنُ رشيد على ثبوت سماع أبي عثمان النهدي من أُبي بن كعب يقول ابن المديني في كتاب "التاريخ" له: "أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن ملّ، وكان جاهليًّا، ثقة، لقي عمر وابن مسعود وأبا بكرة وسعدًا وأسامة، وروى عن علي وأبي موسى وعن أبي بن كعب، وقال في بعض حديثه: حدثني أُبي بن كعب، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ.

قال ابن رشيد: "قد نصَّ علي أنه يقول في بعض حديثه: حدثني أُبي بن كعب، فمنه ما اطّلعنا عليه، ومنه ما لم نطّلع عليه

".

ولعل ما قصده عليُّ بن المديني هو الحديث الذي استدل به المعلمي من "مسند" أحمد، فإن عني غيره فالأمر أثبت. والله تعالى الموفق.

ص: 417

9، 10، 11، 12 - أسند أبو عمرو الشيباني، وأبو معمر عبد الله بن سخبرة، كل واحد منهما عن أبي مسعود خبرين.

قال النووي: "حديثا الشيباني أحدهما حديث: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه أُبْدَع بِي"، والآخر: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة، فقال: لك بها" أخرجهما مسلم (1)، وأسند أبو عمرو أيضًا عن أبي مسعود حديثا

"المستشار مؤتمن" رواه ابن ماجه" (2).

أقول: ومتن الأول: "من دل على خير، فله مثل أجر فاعله".

وأما الثاني، فمتنه:"لتأتين"(3) أي الناقة، وكلها في فضائل الأعمال، وشواهد الأول من السنن الثابتة معروفة، كقوله صلى الله عليه وسلم:"من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها"، وقوله:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه".

ودليل الثاني قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [سورة البقرة: 261].

وللثالث شواهد من حديث جابر وابن عباس وأبي هريرة، ومعناه ثابت في العقول (4) أن الإنسان لا يستشير على الحقيقة إلا من يأتمنه، فمن استشارك فقد ائتمنك.

قال النووي: "وأما حديثا أي معمر، فأحدهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم "يمسح مناكبنا في الصلاة" أخرجه مسلم (5)، والآخر: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل صلبه فيها في

(1) الأول (1893)، والثاني (1892).

(2)

لم يذكر الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 225)، لأبي عمرو الشيباني عن أبي مسعود سوى هذه الأحاديث الثلاثة، فكأنه ليس له عنه غيرها.

(3)

كذا، ولفظه: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة، كلها مخطومة".

(4)

في منسوخة العلامة الأنصاري، (المعقول)(ل/ 2).

(5)

(432)(122).

ص: 418

الركوع" أخرجه أصحاب السنن وغيرهم، وقال الترمذي: (هو حديث حسن صحيح) ".

أقول: أما الحديث الأول فأخرج معه مسلم عدة أحاديث صحيحة تؤدي معناه، فهو في حكم المتابعة، وأقرب تلك الشواهد من لفظه حديث النعمان بن بشير، فهو إذًا في معنى المتابعة.

وأما الحديث الثاني فلم يخرجه مسلم، ولعل ذلك لأنه في حكم مختلف فيه، ولم يجد له شاهدًا صريحًا صحيحًا.

ومن شواهده: حديث المسيء صلاته وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فصل فإنك لم تصل" وهو في "الصحيحن"؛ لكن لم يقع في روايتهما أن الرجل إنما قصر بأنه لم يقم صلبه في الركوع والسجود، كان وقع معنى ذلك في رواية لغيرهما كما في "الفتح"(1).

ومن شواهده قول زيد بن وهب: "رأى حذيفة رجلًا لا يتم الركوع والسجود، فقال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم عليها" أخرجه البخاري (2)؛ ولكن في الحكم له بالرفع خلاف، والله أعلم.

13 -

قال مسلم: "وأسند عبيد بن عمير (3) عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا، وعبيد بن عمير ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم".

قال النووي: "هو قولها لما مات أبو سلمة: قلت غريب وفي أرض غريبة (4)، لأبكينه بكاء يتحدث عنه. أخرجه مسلم (5).

(1)(2/ 223).

(2)

رقم (791).

(3)

هو ابن قتادة، أبو عاصم الليثي.

(4)

كذا في المطبوع، والذي في "صحيح" مسلم:"أرض غُرْبة".

(5)

(922).

ص: 419

أقول: حاصله أنه بعد موت أبي سلمة جاءت امرأة لتسعدها في البكاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة:"أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتًا قد أخرجه الله منه" فهو في النهي عن النياحة، وهو ثابت بأحاديث كثيرة، وفيه فضيلة لأبي سلمة وذلك -أيضًا- ثابت.

14، 15، 16 - قال مسلم:"وأسند قيس بن أبي حازم (1) -وقد أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أخبار".

قال النووي: "هي حديث: "إن الإيمان هاهنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين" (2)، وحديث: "إن الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد" (3)، وحديث: "لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان" (4)، أخرجها كلها البخاري ومسلم.

أقول: قال البخاري في "الصحيح"، في كتاب الكسوف: "حدثنا شهاب بن عباد، قال: حدثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، قال سمعت أبا مسعود يقول

"، فذكر الحديث الثاني (5).

وقال في أبواب الإمامة: "حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا إسماعيل، قال: سمعت قيسًا قال: أخبرني أبو مسعود"، فذكر الحديث الثالث (6)، فثبت اللقاء والسماع، ولله الحمد.

(1) يراجع: "العلل" لابن المديني (ص 79)، و"جامع التحصيل"(121)، و"السنن الأبين"(ص 150)، و"شرح علل الترمذي"(1/ 375).

(2)

أخرجه البخاري (3302)(3498)(4387)(5303) ومسلم (51).

(3)

أخرجه البخاري (1041)(1057). ومسلم (911).

(4)

البخاري (90)(702)، ومسلم (466).

(5)

هو برقم (1041).

(6)

برقم (702).

ص: 420

قال الفقير الى الله تعالى:

استدل ابن رُشيد أيضا على سماع قيس من أبي مسعود بهذين الحديثين اللذين أخرجهما البخاري وفيهما التصريح بالسماع، وكذا استدل يقول علي بن المديني بسماعه منه في كتابه "التاريخ والعلل"، وهو في المطبوع من "العلل"(ص 49 - 50).

17 -

قال مسلم: "وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى -وقد حفظ عنه عمر، وصحب عليا- عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا".

قال النووي: "وهو قوله: "أمر أبو طلحة أم سليم، اصنعي طعامًا للنبي صلى الله عليه وسلم"، أخرجه مسلم"(1).

أقول: هو عنده في كتاب الأشربة والأطعمة: "باب جواز استتباعه (2) غيره"، ساق مسلم الحديث من طريق (3) إسحاق بن عبد الله بن (4) أبي طلحة أنه سمع أنسًا"، ثم من طريق (5) سعد (6) بن سعيد حدثني أنس، ومن طريق أخرى عنه: سمعت أنسا، ثم ذكر رواية ابن أبي ليلى، فهي عنده متابعة ثم ذكره من طريق خمسة آخرين عن أنس.

18، 19، 20 - قال مسلم:"وأسند ربعي بن حراش (7) عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين، وعن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا، وقد سمع ربعي من علي، وروى عنه".

(1)(2040)، (143 - مكرر 3).

(2)

في المطبوع من كتاب المعلمي: "استتباع"، والمثبت من الصحيح.

(3)

(2040)(142).

(4)

في المطبوع: "عن" وهو خطأ.

(5)

(2040)(143).

(6)

في المطبوع: "بُسْر" وهو تحريف.

(7)

في المطبوع من كتاب المعلمي: "خراش"، أوله معجمة، وهو تصحيف.

ص: 421

قال النووي: "أما حديثاه عن عمران فأحدهما في إسلام حصين والد عمران، رواه عبد بن حميد في "مسنده" (1)، والنسائي في كتاب "عمل اليوم والليلة" (2) بإسناديهما الصحيحين (3)، والحديث الآخر: "لأعطن الراية رجلًا يحب الله ورسوله"، رواه النسائي في "سننه" (4).

أقول: لم يخرجهما مسلم، ولا فيهما حُكم، وقد تُوبع ربعي على كُلٍّ منهما.

قال النووي: "وأما حديثه عن أبي بكرة فهو: "إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح، فهما على حرف جهنم" أخرجه مسلم (5)، وأشار إليه البخاري (6).

أقول: ذكراه في المتابعات.

21 -

قال مسلم: "وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا".

قال النووي: "أما حديثه فهو حديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره"، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان هكذا (7)، وقد أخرجه البخاري ومسلم -أيضًا- من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري (8) ".

(1)"المنتخب من مسند عبد بن حميد"(1/ 429).

(2)

(ص 413)، أبواب الجاهلية، (باب: ما يؤمر به المشرك أن يقول).

(3)

في منسوخة العلامة الأنصاري (ل/ 4): "في الصحيحين" وهو سبق قلم.

(4)

(5/ 46)، المناقب، (باب: فضائل على رضي الله عنه.

(5)

رقم (2888)(16).

(6)

رقم (7083).

(7)

رقم (48).

(8)

البخاري رقم (6019)، ومسلم رقم (48)(ص 1352).

ص: 422

أقول: أخرج مسلم حديث أبي هريرة (1) بمثل أبي شريح، ثم أخرج حديث نافع عن أبي شريح، فهو شاهد، مع ثبوته عن أبي شريح من طريق سعيد المقبري سماعًا من أبي شريح (2).

22، 23، 24 - قال مسلم:"أسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحاديث".

قال النووي: "الأول: "من صام يومًا في سبيل الله" (3)، والثاني: "إن في الجنة شجرة" (4)، أخرجهما البخاري ومسلم، والثالث: "إن أدنى أهل الجنة"، أخرجه مسلم (5) ".

أقول: قال البخاري في "التاريخ"(4/ 712): "النعمان بن أبي عياش الزرقي الأنصاري، سمع أبا سعيد الخدري

"، وقال في "الصحيح" في كتاب الرقاق في باب صفة الجنة والنار: "وقال إسحاق بن إبراهيم: أنبأنا المغيرة بن سلمة، حدثنا وهيب عن أبي حازم عن سهل بن سعد

" قال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش، فقال: أخبرني أبو سعيد

فذكر الحديث الثاني، بل رواه مسلم نفسه في أوائل كتاب الجنة بهذا السند نفسه، وفيه: وقال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي، فقال حدثني أبو سعيد الخدري.

(1) رقم (47).

(2)

رقم (48/ 16)(ص 1353).

(3)

البخاري (2840)، ومسلم (1153)، وجاء التصريح بالسماع عند النسائي في "السنن"(2249)(2250) وغيره.

(4)

البخاري (3553)، ومسلم (2828).

(5)

رقم (188)، (211).

ص: 423

25 -

قال مسلم: "وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا".

قال النووي: "هو حديث: الدين النصيحة".

أقول: أخرجه مسلم (1) في كتاب الإيمان (باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون)، وذكر معه أحاديث تؤدي معناه، منها: حديث أبي هريرة: "لا تؤمنوا حتى تحابوا"؛ وحديث جرير: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم"، وقد روي:"الدين النصيحة" من حديث ثويان وغيره، ومعناه ثابت بنصوص كثيرة، كقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسْلِمُهُ" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" إلى غير ذلك.

قال الفقير إلي الله تعالي:

قد صرح ابن المديني في كتابه "العلل"(ص 68) بلقائه لجماعة من الصحابة منهم تميم الداري.

26 -

قال مسلم: "وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا".

قال النووي: "هو حديث المحاقلة أخرجه مسلم (2) ".

أقول: في باب كراء الأرض بالطعام، وأخرج له عدة متابعات، وشواهد.

27 -

قال مسلم: "وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث".

(1) رقم (55).

(2)

رقم (1048).

ص: 424

قال النووي: "من هذه الأحاديث: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" أخرجه مسلم (1) "، ثم ذكر (2) عن الحميدي: أنه ليس للحميري عن أبي هريرة في الصحيح غيره، قال النووي:"وربما اشتبه بـ "حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، وقد رويا له في "الصحيحين" أحاديث كثيرة، وليس للحميري عن أبي هريرة -أيضًا- في "سنن" أبي داود (3) والترمذي (4) والنسائي (5) غير هذا الحديث".

قال مسلم في (باب: فضل صوم المحرم)، والترمذي في (باب: ما جاء في صوم المحرم)، والنسائي في (باب: فضل صلاة الليل)، قال النسائي:"أخبرنا قتيبة"، زاد مسلم والنسائي:"ابن سعيد ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن حميد بن عبد الرحمن الحميري"، كذا قال مسلم والترمذي، أما النسائي فقال:"هو ابن عوف عن أبي هريرة"، وقال أبو داود:(باب: في صوم المحرم)، "حدثنا مسدد وقتيبة بن سعيد، قال أبو عوانة، عن أبي بشر، بن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة".

وقال أحمد في "المسند"(3/ 344): "ثنا عفان، ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن حميد ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وأخرجه النسائي عن سعيد بن نصر عن عبد الله عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، أنه سمع حميد بن عبد الرحمن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النسائي: "أرسله شعبة".

ورواه أحمد (3/ 335): عن أبي الوليد الطيالسي عن أبي عوانة عن عبد الملك عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

ورواه البيهقي في "السنن"(4/ 291) من طريق مسدد، ثنا أبو عوانة عن عبد الملك ابن عمير عن محمد بن المنتشر، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة.

(1) رقم (1163).

(2)

يعني النووي.

(3)

رقم (2429).

(4)

رقم (438)، (740).

(5)

رقم (1613) ووقع عنده: ابن عوف كما قال المعلمي.

ص: 425

وقد رواه مسلم أيضًا من طريق جرير عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن المنتشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ومن طريق زائدة عن عبد الملك بن عمير، قال مسلم بهذا الإسناد في ذكر الصيام عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله.

وقد أخرجه ابن ماجه من طريق زائدة عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن المنتشر عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ قال: "شهر الله الذي تدعونه المحرم".

قال البيهقي (1): "وخالفهم في إسناده عبيد الله بن عمرو (2) الرقي"، ثم ساقه من طريق الربيع بن نافع عن عبيد الله عن عبد الملك بن عمير عن جندب بن سفيان البجلي، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره (3).

أقول: ورجاله ثقات، ويمكن أن يكون شعبة -والله أعلم- إنما أرسله لهذا الاختلاف.

وقال البخاري في "التاريخ"(1/ 2 / 343): "حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري عن أبي هريرة وابن عباس".

أقول: وفي الحديث نظر من وجوه:

الأول: ما ذكره مسلم من أنه لا يعلم لـ "حميد الحميري" لقاء لأبي هريرة.

الثاني: ما سمعتَ من الاختلاف.

والثالث: أنه لا يُتابع عن أبي هريرة، ولا عن جندب، مع ما لأبي هريرة من الأصحاب الحفاظ المكثرين.

(1)"سننه الكبرى"(3/ 4)، (4/ 291).

(2)

في المطبوع من كتاب المعلمي: "عمير"، وهو خطأ.

(3)

وأخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(2/ 169) و"الأوسط"(6/ 281) من طريقين آخرين عن عبيد الله بن عمرو.

ص: 426

الرابع: أنه بالنسبة إلى الصوم ليس له شاهد -فيما أعلم- إلا ما رواه الترمذي (1) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي، وقال الترمذي:"حسن غريب" وعبد الرحمن بن إسحاق هو: ابن شيبة الواسطي، قال أحمد: ويحيى: "ليس بشيء"، وقال أحمد، وغيره:"منكر الحديث" وقال مرة: "ليس بذلك، وهو الذي يحدث عن النعمان بن سعد أحاديث مناكير"، وضعفه غيرهم أيضًا، والنعمان بن سعد تفرد عنه عبد الرحمن بن إسحاق فيما قال أبو حاتم (2)، وكذا قال البخاري (4/ 3 / 77)، كما ثبت في بعض نسخ "التاريخ" (3). قال ابن حجر في "التهذيب" (4):"والراوي عنه ضعيف، فلا يحتج بخبره".

أقول: ذكره ابن حبان في "الثقات"(5)، والثقة عنده من روى عن ثقة، وروى عنه ثقة، ولم يرو منكرًا، وهذا الشرط مع تساهله مفقود هنا؛ لأن الراوي عنه غير ثقة، وروى عنه المناكير، كما مر.

الخامس: أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه لم يكن يصوم شهرًا كاملا؛ إلا أنه كان يكثر الصيام في شعبان، والله أعلم.

المجموع 23 حديثًا (6).

8: الذي يثبت السماع فيه.

(1) رقم (741).

(2)

"الجرح والتعديل"(7/ 411).

(3)

(8/ 78).

(4)

(8/ 113).

(5)

(5/ 11).

(6)

هكذا جاء المجموع (23) والأعداد الآتية مجموعها (24) لكن مجموع ما مر حسبما رقمنا: (27) حديثًا.

ص: 427

4: الذي لم يخرجه مسلم.

11: الذي أخرجه في المتابعات والشواهد ونحوها.

1: الذي أخرجه محتجًا به فيما يظهر. اهـ.

قال الفقير إلى الله تعالى:

قد أجاب الشيخ المعلمي عن الشواهد التي ساقها مسلم للتدليل على ما قرره في عدم اشتراط العلم باللقاء أو السماع في صحة الإسناد المعنعن، وقد استوفى النظر فيها، ولم يكن الجواب فيها جميعًا واحدًا، بل كُلٌّ بحسبه.

ووافق المعلمي ابنَ رشيد في بعض ما أجاب به، مع عدم اطلاع المعلمي على كلام ابن رشيد، ولم يُتم ابنُ رشيد النظر في كل الشواهد.

والمتحصَّل أن تلك الأجوبة غالبُها ظاهرٌ في الرد على احتجاج مسلم بها، وقد اعترف بذلك بعض المؤيدين لمسلم، بل والزاعمين إجماع المحدثين على مذهبه، وهو حاتم العوني، واعتذر لمسلم فيما اعتذر به أن مسلمًا استهان بخصمه غاية الاستهانة، وأنه كان عنده أقل وأدنى من أن ينقر له الأدلة ويصفي له الرويَّة، قال: ولو كان مسلم يرد على البخاري أو على بن المديني أو على غيرهما من أئمة السنة لرأيت غير ذلك ولاختلف الأمر تمامًا، قال: لقد كان مسلم مترددًا في الرد -كما ذكر- استخفافًا بذلك المبتدع المستحدث لذلك القول، ثم تصبَّر على الرد وهو مستثقله، ولذلك لم يحزم له كُلَّ حُموله ولا أعدَّ له كُلَّ عُدَّتِه.

كذا قال العوني، ومثل هذا الاعتذار لا يليق بمثل مسلم رحمه الله، أن تدفعه الاستهانةُ بخصمه أن يسوق أدلةً لا تنهض ولا تصلح فيما ساقها من أجله فيعطي لخصمه ما يُسَوِّغُ له ردَّ كلامِه.

ص: 428

وقد يُتَصور هذا إذا كان كلامُ مسلم جوابًا على سؤالٍ عارضٍ، أما إذا كان في صَدر تصنيفٍ كهذا، مع شدة التشنيع على المخالف، فكيف لا يحزم له حُمولَه، ويعدُّ له عُدَّتَه، وفي الفصل الآتي جواب مجمل عما أورده العوني في هذا الكتاب، والله تعالى الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

* * *

ص: 429

فصل: جوابٌ مُجْمَلٌ على كتاب: (إجماع المحدثين)

للدكتور/ حاتم العوني

قال الفقير إلى الله تعالى.

هذه مجامع بعض الفوائد والفرائد التى يُستعان بها في تحرير هذه القضية، كنت قد قيَّدتُها في الجواب عن الكتاب المذكور، وقد خَلَّط فيه صاحبُه، ونحا فيها منحًى لم يُسبق إليه؛ إذ ذهب إلى أن إجماعَ المحدثين -ومنهم ابن المديني والبخاري- موافقٌ لما ذهب إليه مسلم من عدم اشتراط العلم بالسماع في الحديث المعنعن بين المتعاصرين.

وقد رأيتُ أن أورد مجامعَ هذه النِّكات هاهنا؛ تتميما للفائدة، دون استقصاءٍ للقضية المذكورة، فلها موضع آخر.

وطريقتي أن أذكر أرقام الصفحات التي أُعلق عليها من الكتاب المذكور أولًا، ثم أذكر ما يُمكِنُ لغير الناظر فيه أن يستفيد من هذا التعليق، ولو كان ناظرا فيه لكان أَوْلَى، والله تعالى الموفق.

ص (16 - 17):

أقول:

ثبوتُ الاتصال شرطٌ من شروط قبول الحديث، فإذا لم يثبت الاتصال وفق شرطه عند قائله، لزم عدمُ قبول الحديث حتى يثبت، وعليه فلا يلزم من أجل رَدِّ الحديث الجزمُ بالانقطاع؛ لأن ذلك يحتاج إلى دليل آخر.

ص: 430

إذًا، فسواء توقف الناقد فى ثبوت الاتصال، أو جزم بالانقطاع، فالنتيجة واحدة من حيث عدم القبول، وإن كان الأولُ أخفَّ باعتبار أنه يحتمل أن يقف الناقد فيما بعدُ على شرطه فى الاتصال. لكن إذا وجدنا الناقد ينفي علمه بثبوت ما يدل على الاتصال فى كتابٍ مصنف له، فهل نقول مع ذلك: إنه متوقف فقط، غير جازم بالانقطاع، لعله يقف على ما نفاه بعد ذلك؟ فيه بُعدٌ واضحٌ.

هذه هى ثمرة التفريق بين التوقف فى ثبوت الاتصال، والجزم بالانقطاع، وهو افتراض جدلي، لا يُعوِّل عليه أحدٌ فيما أعلم؛ لأن الأصل أن نفي الإمام ما ذكرنا لا يكون إلا مع استقصاء البحث والنظر.

إذًا، فكلام ابن القطان إذا كان تقسيما من حيث التسمية فقط، فلا بأس، أما مِن حيث الحُكم فحسبما قدمنا.

ولذا فقد تعقبه الذهبي بكلام عمليّ إذ قال: بل رأيهما دال على الانقطاع. يعني بذلك الانقطاع الحكمي، وهو المعتبر هنا.

وموقف الذهبي -فى ضوء ما حررتُه آنفا- منضبطٌ لا إشكال فيه، وليس فيه غرابةٌ ولا اضطرابٌ كما زعم العوني.

ص (22):

قول العوني: فلم خشي مسلم الإرسال مع تحقق المعاصرة الطويلة؟

أقول:

لم يذكر العوني القرينة التى راعاها مسلم في نفي سماع الحسن من عمران -إذا صحَّ ما نسبه الحاكم إلى مسلم - والبخاري- في جزمهما بهذا النفي.

ومن الدلائل البينة التى تُراعَى في سماع المتعاصرين، والتي لا يسعُ مسلما ولا غيره إهمالها: ورود نفي السماع من إمام معتمد في هذا الباب، كيحيى القطان

ص: 431

وابن مهدي، وأحمد وابن معين، فقولهم حجة في مثل هذا عند الشيخين، إذا لم يقم عندهما أو أحدهما دليل مناهض لهذا القول.

وقد قال بعدم سماع الحسن من عمران بن حصين: ابن المديني، وأحمد، وبهز بن أسد العمي، ويحيى بن معين، وهو قول أبى حاتم وغيره.

ص (23 - 25):

أقول:

مسلمٌ قد نَصَّ في مقدمة صحيحه أن من شروط اتصال الإسناد المعنعن: عدم وجود دلالة بينة على عدم اللقاء أو السماع.

فإذا وجدت الدلالة، اتفق الجميع على الحكم بانقطاع ذلك الإسناد: مسلمٌ؛ لِنَصِّهِ على ذلك، ومخالفُه من بابٍ أَولى؛ لأن شرطه أبعد من هذا.

وإنما محل الخلاف: إذا لم توجد دلالة بينة أو قرينة على ذلك، فمسلم -بحسب كلامه فى ذاك الموضع- لا يتردد -مع توفر الشرطن الآخرين- في أن الرواية على السماع حتى تكون هناك دلالة على خلافه.

وأما من نَقل مسلمٌ قولَه، فلا يحكم لتلك الرواية بالاتصال حتى يتبين له بالدليل وقوع اللقاء أو السماع ولو مرة.

في ضوء ذلك يمكن توجيه وفهم ما ألزم به ابنُ رجب مسلما، فأقول:

من ثبتت له رؤية النبى صلى الله عليه وسلم، فإن كان حينئذ رضيعا أو صغيرا لا يضبط، فتلك دلالة تاريخية بينة على عدم السماع المعتد به، فمسلم كغيره، يرى تلك الرواية مرسلة، لأن الرؤية حصلت في سِنٍّ لا يحتمل، ولذا فقد ذكرهم مسلم فى طبقة ما قبل كبار التابعين؛ لأن لهم حُكمهم.

ص: 432

وهؤلاء لا يعنيهم ابنُ رجب فى قوله: "ويَرِدُ على ما ذكره مسلم: أنه يلزمه أن يحكم باتصال كل حديث رواه من ثبت له رؤية من النبى صلى الله عليه وسلم، بل هؤلاء أَوْلى؛ لأن هؤلاء ثبت لهم اللقي، وهو يكتفي بمجرد إمكان السماع"، وإنما يعني من كان وقت الرؤية بالغا، ولم يرد ما يدل على ثبوت السماع أو ما يدل على حضوره مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، أو مصاحبته في سفر، أو نحو ذلك مما يمكن معه سماع شيء من حديثه.

وهذا مُتصور فيمن أسلم يوم الفتح، ولم يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يمتنع أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ذلك اليوم، وليست هناك دلالة على عدم السماع، ولم يرو ما يدل على نحو ما سبق، فيكون على قول مسلم حديثه متصل، وعلى قول مخالفه حديثه مرسل، ولو مع ثبوت الرؤية التى هى أبلغ من مجرد إمكان السماع، حتى يثبت السماع ولو مرة.

ومثل هؤلاء من قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد ثبتت رؤيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجمع الغفير.

والمخالف لمسلم لا يرى ذلك كافيا في ثبوت سماعهم لغير ما سمعه عامة الصحابة في خطبة الوداع.

وكذلك مَن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الجزيرة، فقد عاصره، وأمكن لقاؤه له، لقرب دار بعضهم، ولم تقم دلالة على عدم سماعه منه. فهذا على قول مسلم هاهنا حديثه متصل، ومخالفه لا يرى ذلك كافيا، بل لابد من قيام دليل على لقائه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو سماعه منه ولو مرة.

فإذا قامت دلالة بينة على عدم اللقاء أو السماع، كقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما إلا أنه لم يدركه؛ لِوَفاته صلى الله عليه وسلم، فالجميع متفقون على أن حديثه مرسل.

وهذا الصنف الأخير من "المخضرمين" وقد ذكرهم مسلم فى طبقاته سردا، ولم يذكر لكل واحدٍ دلالةً على عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن يكون اعتمد قولَ مَن

ص: 433

سبقه من الأئمة في وصف هؤلاء بذلك، أو استدل مع ذلك بكون جُل رواية هؤلاء عن الصحابة، وليس فيها رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعله لذلك قد نصَّ ابن رجب في إلزامه بأن يكون مُعاصر النبي صلى الله عليه وسلم مع إمكان لقائه: روى عنه شيئا، فحينئذ يكون الإلزام قائما، والله تعالى أعلم.

ص (27):

تعليقا على الملاحظة الواردة هناك.

أقول:

إنما قال مسلم "

وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعا كانا فى عصر واحد

".

فمسلم قد صرح بأنه يُكتفى بإمكانية اللقاء والسماع للمعاصر، شريطة ألا يقوم دليلٌ ينقض تلك الإمكانية، فالحديث عنده على الاتصال بهذه الإمكانية مع تحقق الشرطين الآخرين، فهو لا يشترط العلم بالسماع بدليل خاص، بل يكتفي بما قدمنا.

أما مخالفه فيشترط تحقق العلم باللقاء أو السماع بدليل خاص؛ كثبوت تصريحه بما يدل عليه من ألفاظ الاتصال المعروفة، كسمعت وحدثنا، أو ما يدل على حضور مجلسه أو مماشاته أو نحو ذلك من الأدلة الخاصة المُثبِتة لوقوع اللقاء أو السماع ولو مرة.

فمسلم لا يشترط -لثبوت الاتصال- تحقُّق العلم باللقاء أو السماع، بل إذا توفرت الشروط التى ذكرها، فالأصل هو حصول اللقاء والسماع.

ومخالفه لا يراه أصلا فى ذلك، بل هو على الاحتمال حتى يأتي دليلٌ خارجي يُثبت ذلك، ولو مرة.

فليس في تعبير أهل العلم بأن البخاري يشترط العلم باللقاء أو السماع، وأن مسلما لا يشترط العلم بذلك: أيّ تجوّز أو تسمّح أو اختصار، بل هي كبد الحقيقة، والله تعالى أعلم.

ص: 434

ص (31):

قول العوني في توجيه كلام السمعاني في اشتراط طول الصحبة: "من كان مختصا بشيخٍ ملازما له حُملت عنعنته عنه على الاتصال، ولو كان من مشاهير المدلسين، كما هو مقرر فى هذا العلم". اهـ.

أقول:

هذا الكلام فيه نظر من جهة أنه أطلقه، والصواب أن يكون ذلك أغلبِيًّا.

وشاهدُ ذلك مواضعُ عنعن فيها مشهور بالتدليس، عن شيخ قد أكثر عنه جدا؛ كرواية الأعمش عن إبراهيم بن يزيد النخعي.

راجع ترجمة الأعمش من القسم الأول من هذا الكتاب.

ص (34).

أما عدم تصريح البخاري بالشرط المنسوب إليه، فشأنه في ذلك شأن عامة المتقدمين من الأئمة، لا يذكرون مناهجهم وشروطهم بعباراتٍ تعريفية أو بحدودٍ فاصلة، على طريقة متأخري المتكلمن والأصوليين، بل جرت عادتهم باستعمال اللغة الخاصة بأهل هذا الفن، فإذا لم يفهم غيرهم المراد من مفردات تلك اللغة، فالعتْبُ عليهم؛ إذ لم يرجعوا إلى أصحاب التخصص فى ذلك.

وليس عدمُ نصِّ أئمة هذا الشأن على ما ذكرنا بمسوِّغٍ لغير أهل الاختصاص: أن يطلقوا العنان لنسبة ما يتراءى لهم من شروطٍ للأئمة أو مناهجَ لهم.

بل الأمر بحاجة إلى طول النظر، والبحث المتواصل، مع توفر الملكة والأدوات اللازمة لفهم تصرفات الأئمة وعباراتهم.

وأما عدم صلاحية (صحيح البخاري) لإثبات نسبة شرطٍ ما من شروط الصحة إلى البخاري بحجة أن البخاري قد أسَّسَ كتابه على شدة الاحتياط والمبالغة في

ص: 435

التحري، فهذه مجازفةٌ، تُفقد (صحيح البخاري) أيَّ اعتبارٍ لناظر، أو مجالٍ لباحث، أو متأملٍ لدارس.

فما عساهُ ينفع النظر والبحث والدرس في كتابِ إمامٍ يبالغ في التحري والاحتياط، فلا يُقاسُ على أحكامه، ولا تصرفاته.

هذا لو سلمنا بافتراض أن تكون المبالغةُ في التحري أو شدةُ الاحتياط أمرًا خاصًّا بالبخاري، زائدًا على تصرفات الأئمة في تعاملهم مع النصوص، فهل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد وابن معين، وأبو حاتم وأبو زرعة، لا يبالغون في الاحتياط في حكمهم على الحديث أو على الرواة؟ وهل لا يوصف الإمام بذلك إلا إذا صنف كتابا في "الصحيح"؟

لقد اتفق المحققون من أئمة هذا الفن على أن الحديث لا يصلح فيه حُسْنُ الظنِّ، وأنَّ مَبْناه على الاحتياط والتحري، فهو أصلٌ فيه، وكُلُّ أحكامهم وقواعدهم تؤيد ذلك وتؤكده، وما حادَ مَن حادَ مِمَّن بعدهم عن منهج النقد إلا بسبب التفريط في هذا الأصل.

وهذا موضوعٌ مِن الأهمية بمكان، وقد حاولتُ بَسْطَ القول فيه في رسالتي "القواعد المهمة فى إحياء مناهج الأئمة"، وهي قَيْدُ الجمع، يسَّر الله إتمامها.

والمقصود هنا أن البخاري قد صنف كتبا عِدَّة منها ما جمع فيه ما احتج به طوائف أهل العلم في بعض المسائل محل النظر، ككتاب "القراءة خلف الإمام" و"خلق أفعال العباد"، ورجح من ذلك ما رآه راجحا.

ومنها ما صنفه ليكون ما يخرجه فيه حجةً بينه وبين الله تعالى، وسماه "المسند الصحيح". فما لم يخرجه فيه، فإن جاء عنه نقلٌ -لا إشكال فيه- أنه صحَّحه، فإن كان مِمَّا لا يَسَعُهُ تركُه؛ لظهور الحاجة إليه في أبوابٍ قد خرجها فى صحيحه، فإنه لم يُغفله -مع وضوح الاحتياج إليه، واستغناء البخاري بالخفي فى ذلك- إلا لأنه لم

ص: 436

ير ذلك الحديث صالحا لأن يخرج في مصافِّ ما يُحتج به في بابه، وأما إن كان مما يَسَعُهُ إغفالُه؛ لإخراجه ما يُغني عنه في بابه، فإن كانا سواء، فقد استغنى البخاري بما خرجه، ولم ير في الثاني مزيدَ فائدة، وإن كان في الثاني ما ليس فيما خرجه، فتَرْكُ البخاري له مع ذلك يُشعر بما قدمنا.

هذا إذا كان نَقْلُ التصحيح لا إشكالَ فيه؛ فإن أكثر مَن نَقل عن البخاري في ذلك هو الإمام أبو عيسى الترمذي، وفي بعض النقولات المروية عنه من طريقه إشكالٌ يحتاج إلى تحرير، وقد وقفتُ لبعض المحققين كابن عبد البر والذهبي على اعتراضات على الترمذي بهذا الصدد، فلم يُسَلِّمُوا بأشياء نقلها الترمذي عن البخاري، بل وشنَّع عليه الذهبي أحيانا.

وقد وقع لي قدرٌ غيرُ قليل من هذه الإشكالات أثناء استقرائي لكتاب "الجامع" مع ترتيب "العلل الكبير" للقاضي، وقيَّدتُّ فى ذلك تحريراتٍ على هذه المواضع، وهي فى جزء، يسر الله إتمامه وإخراجه.

أما إذا لم يُنقل عنه تصحيحُه، فالأمر في ذلك أوضح.

ومن المعلوم لِكل باحثٍ أن البخاري قد أودع اختياراتِه وما يذهب إلى القول به في أبواب العلم المختلفة: فيما بوَّب به، وما خرجه في تلك الأبواب، حتى إنه قد اشتهر بين المحققين أن "فقه البخاري" في تراجمه، فهل بالغ أيضا فى التحري والاحتياط في اختياراته تلك، بحيث لا يمكن أن يُستفاد مما فيها من أحكام ونظر واجتهاد، إلا لمن أراد الاحتياط والتحري البالِغَيْن؟.

الحَقُّ أن هذه النظرة لكتاب "الصحيح" للبخاري قد اخترعها بعضُ متأخري المحققين، ولا أثر لها عند المتقدمين، الذين أخضعوا كتابَه للنقد كسائر الكتب، وإنَّ مما أَكْسَبَ كَتاب "الصحيح" مكانتَهُ: نُدْرَةَ ما صفا للنقاد من تعقباتهم على البخاري فيه، بخلاف غيره من الكتب.

ص: 437

فزعمُ أن البخاري قد وضع لأحاديث هذا الكتاب ورواته شروطا: هي فوق المقاييس التى تعارف عليها النقاد حينئذٍ؛ زيادةً في الاحتياط والتحري: زعمٌ خالٍ من أي تحقيق أو تحرير.

نعم، يمكن أن تكون تلك المقاييس والضوابط بالنسبة لكثير من المتأخرين ممن شهروا هذا المعنى وأُشْربوه: فيها تشددٌ واحتياطٌ بالغٌ، لِبُعْدِ الهْوَّةِ -ليس بين البخاري وحده، بل- بين المتقدمين بعامة وبين المتأخرين في باب النقد.

ولا شك أن البخاري لمَّا كان على رأس مَن صنَّفُوا في الصحيح من المتقدمين، صار وصفُ منهجه بالمبالغة في الاحتياط والتحري: إفساحا للمجال أمام المتوسعين في التسامح مع النصوص، تخففا من ذلك الاحتياط المزعوم، فَصُنِّفَتْ لذلك كثيرٌ من الكتب الموسومة بالصحة وُلوجا من هذا المدخل.

هذه إشارة، وراجع تراجم: ابن حبان، والحاكم، والضياء المقدسي، من القسم الثاني من هذا الكتاب.

وقد عاد العوني فنقض ما ذكره من أن كتاب "صحيح البخاري" لا يصلح أن يكون دليلا على صحة نسبة ذلك الشرط على البخاري للسبب الذى ذكرناه عنه آنفا، بِرَدِّهِ على مَن زعم أن شرطَ البخاري المنسوبَ إليه شرطُ كمال، بمعنى أنه شرطٌ له في (الجامع الصحيح) لا في أصل الصحة، مع أن ما ردَّه هو من مقتضيات ما أكَّدَهُ قبل ذلك، لكنه فضَّل انتفاء هذا الشرط عن البخاري أصلا.

هذا من حيث الجواب العقلي على ما قاله العوني، أما الجواب العملي الخاص بنسبة هذا الشرط إلى البخاري بصفة عامة، فيأتي طرف منه في موضعه.

ص: 438

ص (37 - 38):

في الجواب عما طرحه العوني عن سبب عدول ابن رجب وابن حجر عن انتزاع الأدلة من (صحيح البخاري) إلى كتب البخاري الأخرى كـ (التاريخ الكبير) و (الأوسط) و (القراءة خلف الإمام).

أقول:

لا فرقَ بين مذهب البخاري فى (الصحيح) وغيره في أصل ما يَتوقف عليه قبولُ الحديث أو ردُّه، لكن قد يتخفف البخاري من بعض الشروط خارج (الصحيح) في مفردات أسانيد يراها دالةً بمجموعها على صحة ما يستدل عليه.

والباحث عن دليل شيء يعمد إلى الأصرح والأوضح من ذلك.

وصنيعُ البخاري في غالب صحيحه إنما هو: "تصرفاتٌ" تحتاج إلى فهم خاص، مع البحث في قرائن خارجية، أما في كتبه الأخرى فهي عباراتٌ صريحةٌ وواضحةٌ وذِكْرُ إدراكِ ولقاءِ وسماعِ الرواة بعضهم من بعض في تلك الكتب -لا سيما التاريخ- من أعظم المقصود فيها، كما يُعلم باستقراءها.

ص (42 - 43):

حول الفرق بين قولهم: "لا أعرف لفلان سماعا من فلان" و: "لم يسمع فلان من فلان" ودعوى العوني أنهما جميعا جزمٌ بالانقطاع.

أقول:

سبق أن ذكرتُ أن تحققَ الاتصال شرطٌ في ثبوت صحة الرواية، ومقتضى كونِ الشىء شرطا لصحة أمرٍ ما: أنه ما لم يتحقق ثبوتُ ذلك الشرط، لا يمكن الحُكم بصحة ذلك الأمر، فنافِي الصحة: على أصله حتى يتبأنه أو لغيره -ممن هو على مذهبه- ثبوتُ ذلك الشرط.

ص: 439

فإذا تحقق من عدم ثبوته جزم بعدم الصحة، وإذا لم يتحقق من ذلك، ولم يقف على ما يفيد الثبوت كان على أصله في لزوم ثبوت الشرط.

ففى الحالتين لا يثبت عنده ذلك الأمر: تارة للجزم بالبطلان، وتارة لتخلف شرط الصحة.

ففي مسألتنا هذه يُعبر الناقد عن الحال الأولى بقوله مثلا: "فلان عن فلان منقطع" أو "مرسل" أو "لم يسمع فلان من فلان"، وفي الحال الثانية يقول:"لا أعرف أو: لا أعلم لفلان سماعا من فلان" ونحو ذلك من العبارات الدالة على ما قدَّمنا.

فلما لم يتحقق عدم ثبوت السماع بدليل خاص -فلم يجزم بالانقطاع-، اكتفى بالتنصيص على عدم توفر شرطه فى الاتصال وهو العلم بالسماع، ليدل على عدم اعتداده بهذه الرواية حتى يثبت عنده ذلك، فربما قال حينئذ: هذا إسناد ليس بمتصل مثلا، يعني لم يتوفر فيه عنده شرط صحة الاتصال.

فاحتجاج المحققين يقول البخاري وغيره: "لا أعلم لفلان سماعا من فلان" على أنه اشتراطٌ للعلم بالسماع لثبوت الاتصال احتجاجٌ صحيحٌ وواضح.

• وقد ينفي الناقدُ علمَه بسماع راوٍ من آخر، فهو على أصله السابق ذِكْرُه، ثم يدعم ذلك بقرينةٍ تُقَوي ثبوت عدم السماع -الذى لم يتحقق من ثبوته- كأن يقف على رواية بواسطة بأن الراويين، أو كأن يذكر أنه لم يعلم ما يدل على إدراك الراوي الأول للثاني.

• وقد يجزم الناقد -مع عدم علمه بالسماع- بالانقطاع أو الإرسال بناءً على أصله في لزوم تحقق شرط العلم بالسماع، فالحديث عنده مرسل لما سبق من فَقْد شرط الاتصال.

ولا يلزم أن يكون الانقطاع مجزوما به في كل موضع، بل إذا تخلف شرط الاتصال كان للإسناد حُكم الانقطاع كما بيناه آنفا.

ص: 440

• وقد ينفي الناقدُ العلمَ بالسماع في وقت، وتستقر نفسُه على ذلك، فيجزم بعدم السماع في وقتٍ آخر؛ لدليل وقف عليه، أو لغلبة ظن، أو لقرينة، ونحو ذلك، لكن هذا قليل جدا، بل نادر الوقوع، ويمكن حمله على محامل أخر.

• وقد يختلف ناقدان؛ فيجزم أحدهما بالانقطاع، ويتوقف الثاني، بحسب قوة ما توفر لكل منهما من الدلائل، وإن كانا جميعا لا يريان فيه حجة كما سبق.

والمقصود هنا أن نفي العلم بالسماع ليس هو نفيا للسماع في نفس الأمر، وإن كان له حُكمه، والله تعالى أعلم.

ص (51 - 52):

النظر فى بعض نماذج من القرائن ذكرها العوني للدلالة على أن نفي العلم بالسماع ليس اشتراطا للعلم به:

• جهالة الراوى، فيقال: لا يُعرف له سماع من شيخه، أو: إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضهم من بعض.

أقول:

هذه قرينة على عكس ما استدل به العوني؛ فالمجهول لا يمكن الجزم بعدم سماعه من شيخه؛ لأنه لا تعرف عينُه أو حالُه، ولا تُعلم سَنَةُ ميلاده ولا وفاته، وربما لم تُعرف بلدُه، فمثل هذا لا يُعلم سماعه، ولا يُجزم بنفيه، لكن يكفي عدم العلم في سقوط الاعتداد بروايته فضلا عن جهالته.

أما ما ذُكر من القرائن الأخرى فهى ترجح عدم السماع، وإن لم تكن كافيةً للجزم به، لكن محل النظر في هذه القضية هو حيث لا توجد قرائن كما سبق، وإلا فمُسلم نفسه قد اشترط عدم وجود دلائل بينة على عدم السماع.

ص: 441

فمن القرائن المشهورة في ذلك:

• ذكر وسائط بين راويين لم يثبت التقاؤهما.

• نكارة المتن.

• بُعْد البلدان بين الرواة المتعاصرين.

• اختلاف طبقات الرواة.

• وقوع كتاب شيخٍ لراوٍ، فيروي عنه، ولا يذكر ما يدل على السماع.

• عدم ثبوت رواية راوٍ عن شيخٍ، تقضي العادة بإكثاره عنه لو لقيه وسمع منه، فإذا حدَّث عنه بحديث أو حديثين لم يُثبتوا له السماع بذلك.

ص (63 - 65):

ومما ذُكر من معاني نفى العلم بالسماع:

1 -

نفي أن يكون الراوي قد تلقى روايته عن شيخه بطريق السماع، وإن كان قد تلقاها إجازة أو مكاتبة أو وجادة أو عرضا.

أقول:

هذا خلاف الأصل في حقيقة السماع، وهو مُفتقِرٌ لنصٍّ خاصٍّ ممن أطلقه، وهو واضح في النماذج التى سيقت فى ذلك.

2 -

الخبر المجرَّد عن أن الراوي لم يذكر ما يدل على السماع ممن روى عنه دون إعلالٍ للحديث بذلك -بل مع الحكم بالاتصال والقبول-؛ يعني أن الناقد يريد إخبارنا بذلك فقط، دون إعلال.

أقول:

لو صحَّ هذا لكان كلامُ الناقد لَغْوا، لا يُقصد به شيء ذو بال، وهذا غير معهود في كلام أئمة هذا الشأن.

ص: 442

والنموذج الذى سيق للتدليل على هذا العنى لا يُغني شيئا.

وهو قول البخاري في سليمان بن بريدة بن الحصيب: "لم يذكر سماعا من أبيه" وقد ولد هو وأخوه عبد الله في بطن واحد على عهد عمر، وقد أدركا من أبيهما ثلاثين سنة أو أكثر، وقد كان معه بالمدينة إلى أن ذهب إلى البصرة، إلى أن استقر أخيرا بمرو في خراسان، وهو معه في جميع تنقلاته، هكذا قرر العوني.

أقول:

مع ذلك كله لم يُثبت البخاري لهما السماع، ولم يخرج في صحيحه لسليمان عن أبيه شيئا، ولم ينفرد بذلك، بل توقف في هذا السماع: أحمد في أصح الروايات عنه ونفاه إبراهيم الحربي.

وإذا كان هذا مع ما سبق من توفُّر حيثيات السماع، فما بالك بما هو أقل من ذلك بكثير؟.

وقد استدل العوني على أن نفي البخاري العلمَ بسماع سليمان من أبيه إنما هو خبر مجرد، ليس فيه قصد الإعلال أو التوقف عن الحكم بالاتصال: بنقل الترمذي في كتابه "العلل الكبير"(بترتيب القاضي 1/ 202 - 203) عن البخاري قوله: "أصح الأحاديث عندي في المواقيت: حديث جابر بن عبد الله، وحديث أبي موسى، قال: وحديث سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه في المواقيت، وهو حديث حسن، ولم يعرفه إلا من حديث الثوري".

استدل العوني على ما سبق بتحسين البخاري لحديث سليمان عن أبيه، وبإخراج مسلم له فى صحيحه (613)، وبتصحيح ابن خزيمة (323، 324) وابن الجارود (151) وابن حبان (1492) له في صحاحهم.

ص: 443

أقول:

ليس في تصحيح هؤلاء في قضيتنا هذه مدخل، إنما النظر في تحسين البخاري -بحسب حكاية الترمذي عنه-، فيقال: لو افترضنا أن معنى "الحسن" عند البخاري يفيد وصف الحديث بالقوة أو بدرجة ما من القبول، فما أَدْرَى العوني -أو غيره- أن مقتضيات "الحسن" عند البخاري هي مقتضيات "الصحيح"، حتى يقال إن تحسين البخاري لتلك الرواية يدل على صحة السماع المذكور؟

والبخاري لم يخرج في "جامعه" شيئا مما رآه -بحسب نقل الترمذي- أصح الأحاديث عنده في المواقيت، ولم يذكر شيئا منه في بابه، مع شدة الحاجة إليه؛ لأنه بوَّب عليه، ولم يذكر فيه سوى حديث أبي مسعود الأنصاري، وليس فيه بداية وقت كل صلاة ونهايتها، وهو بيت القصيد فيه.

وأحاديث المواقيت يمكن تقسيمها بطريقتن:

الأولى:

1 -

ما كان منها في إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم يومين متتالين، يصلي به الصلوات الخمس في اليوم الأول لأول أوقاتها، وفي الثاني لآخر أوقاتها، فيكون وقت كل صلاة بين هذين الوقتين.

وقد رُوي حديثُ إمامة جبريل عن جماعة من الصحابة، منهم: جابر، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد. وتكاد تتفق تلك الروايات في سياق مواقيت الصلوات.

2 -

ما كان منها حكاية عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في بيانه لتلك المواقيت، وممن رُوي عنه ذلك: عبد الله بن عمرو، وبريدة، وأبي موسى.

ص: 444

والطريقة الثانية:

1 -

ما وقعت فيها صلاة المغرب في وقت واحد هو غروب الشمس، فليس فيها وقتان كسائر الصلوات.

2 -

ما وقعت فيها في وقتين؛ هما غروب الشمس وقبل غياب الشفق لصلاة العشاء.

ولم تختلف روايات حديث إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في أن لصلاة المغرب وقتا واحدا، سوى من لم يتعرض لذلك من الرواة.

واتفقت روايات عبد الله بن عمرو، وبريدة؛ وأبي موسى، على أن له وقتين.

لم يخرج مسلم من حديث إمامة جبريل شيئا، إنما خرج حديث عبد الله بن عمرو أولًا، ثم حديث بريدة ثم حديث أبي موسى. وهي جميعا متفقة على أن لصلاة المغرب وقتين.

والذي جاء في ترتيب "العلل الكبير" للقاضي: "قال محمد -يعني البخاري-: أصح الأحاديث عندي في المواقيت: حديث جابر بن عبد الله، وحديث أبي موسى، قال: وحديث سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه في المواقيت، وهو حديث حسن، ولم يعرفه إلا من حديث الثوري".

لكن يبدو أن في هذا السياق شيئا؛ ففيه عطفُ حديث أبي موسى وبريدة على حديث جابر في الوصف بـ "أصح الأحاديث عندي"، وعلى ذلك بَنَى العوني كلامَه.

ونُسخة "ترتيب العلل" معروفة بالسقم، لا يُركن إليها دائما؛ ففي نَقْل البيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 371) عن "علل الترمذي" عن البخاري أنه قال:"حديث أبي موسى حسن، وحديث الثوري عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه في المواقيت هو حديث حسن". اهـ.

ص: 445

وفي نَقل ابن الملقن في "البدر المنير"(3/ 179) عن "علل الترمذي": سألت البخاري عنه - يعنى حديث بريدة، فقال: حديث حسن، ولم يعرفه إلا من حديث سفيان - يعني الثوري.

فصواب عبارة البخاري حسبما جاء في الكتب الناقلة لهذا الموضع:

"أصح الأحاديث عندي في المواقيت حديث جابر بن عبد الله، وحديث أبي موسى حسن، وحديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة حديث حسن، ولم يعرفه إلا من حديث الثوري، وحديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبى هريرة في المواقيت هو حديث حسن".

قال الترمذي: وحديث جابر في المواقيت قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فالذي قدمه البخاري بإطلاق هو حديث جابر، والأحاديث الأخرى قد حسَّنها، والدليل على ذلك أن كُلَّ مَن نقل كلام الترمذي ذكر قول البخاري: أصح شيء في المواقيت حديث جابر. ولم ينقلوا ذلك في سائر الأحاديث، وإنا نقلوا فيها التحسين فقط.

وقد فهم عبد الحق الإشبيلي من عبارة الأصحية لحديث جابر أن ذلك في إمامة جبريل، لا في كل أحاديث المواقيت، نقله عنه الحافظ ابن حجر في كتاب "التلخيص الحبير".

والمتأمِّل في الأحاديث الثلاثة التي نقل الترمذي فيها عن البخاري القولَ بتحسينها يراها جميعا تشتمل على فردية وغرابة في أسانيدها، ولعل في كلام الترمذى عقبه في ذكر تعدد الرواة عن جابر إشارة إلى ذلك.

ص: 446

بيانه:

1 -

أن حديث أبي موسى الأشعري لا يُعرف إلا من طريق بدر بن عثمان، عن أبى بكر بن أبي موسى، عن أبيه، به. ورواه عن بدر جماعةٌ حفاظ مشاهير.

قال البزار في مسنده (البحر الزخار 8/ 44): "حديث أبي موسى لا نعلم رواه عن أبى بكر إلا بدر بن عثمان". ثم قال: "وأكثر الأحاديث التى تُروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى المغرب في اليومين جميعا لوقتٍ واحد، إلا حديث أبي موسى هذا، وحديث أبي هريرة الذي رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وحديث قتادة عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو؛ فإن هؤلاء رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمغرب وقتين". اهـ.

وفاتَهُ حديثُ سليمان بن بريدة عن أبيه، وروايةٌ لسليمان بن موسى، عن عطاء، عن جابر.

وبدر بن عثمان ليس له في "صحيح مسلم"(614) و"سنن النسائي"(523) سوى هذا الحديث الواحد، ورواه أبو داود في "سننه" (334) وقال: "روى سليمان ابن موسى، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بنحو هذا

وكذلك روى ابن بريدة عن أبيه". اهـ.

وفاتَه رواية قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو في ذلك.

وذكر البخاري حديث بدر هذا في ترجمته من "التاريخ الكبير"(2/ 139).

2 -

وأما حديث بريدة بن الحصيب، فلا يُعرف إلا من طريق علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة -وهو سليمان- عنه به. ونقل الترمذي -كما في ترتيب العلل- عن البخاري أنه لم يعرفه إلا من حديث الثوري، عن علقمة. مع أن الحديث قد رُوي عن شعبة، عن علقمة، كذا حكاه الترمذي نفسه في "الجامع"(152)

ص: 447

وخرجه مسلم من طريقه كذلك في "الصحيح" عن شيخه إبراهيم بن محمد بن عرعرة السامي، عن حرمي بن عمارة، عن شعبة به.

فسواءٌ قلنا إن البخاري لم يقف على رواية شعبة أصلا -وهو بعيد- أو قلنا إنه لم يرها محفوظةً، كما عُهد عن غير واحد من النقاد إذا عبروا بهذه الجملة، فهو يَرى أن الحديث لا يُعرف إلا من طريق الثوري، عن علقمة بن مرثد، وهذا يؤيد معنى الغرابة الذي قدمنا.

ورواية شعبة مدارها على حرمي بن عمارة، وقد رواها عنه غير ابن عرعرة شيخ مسلم: جماعةٌ منهم: ابن المديني، وبندار -محمد بن بشار-.

ولما روى بندار هذا الحديث عن حرمي، ذكره لأبي داود -الطيالسي- فأنكره عليه، وقال: صاحب هذا الحديث ينبغي أن يُكَبَّرَ عليه.

قال بندار: فمحوتُه من كتابي.

وكأنَّ أبا داود رأى أن هذا الحديث ليس من حديث شعبة -وقد كان من المكثرين عنه والمقدَّميِن فيه- وأن الوهم إما من حرمي بن عمارة راويه عن شعبة، أو من بندار نفسه، فمحاه بندار من كتابه خشية أن يكون الحديث خطأ.

هذا هو الظاهر من استنكار أبي داود، لكن ابن خزيمة لم يفهم منه هذا، بل كأنه فهم أن أبا داود يستنكر الحديث من أصله، لا من رواية شعبة فحسب، فقال في صحيحه:"ينبغي أن يُكبَّر على أبي داود؛ حيث غلط، وأن يُضرب بندار عشرة؛ حيث محا هذا الحديث من كتابه، (وهو) حديث صحيح على ما رواه الثوري أيضا عن علقمة، غلط أبو داود، وغيَّر بندار". اهـ.

وحرمي بن عمارة ليس من المقدَّمِين في شعبة، وله عنه أوهام، وقد استنكر عليه الإمام أحمد حديثين عن شعبة، -صحَّحَ الشيخان أحدَهما، ووصفه أحمد بالغفلة مع كونه صدوقا.

ص: 448

والمقصود أن الحديثَ عند البخاري في جميع الأحوال غريبٌ من جهة الثوري، عن علقمة بن مرثد.

ورواه عن الثوري: إسحاق بن يوسف الأزرق عند مسلم وغيره، ومخلد بن يزيد الحراني عند النسائي وغيره.

3 -

وأما حديث محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، فكذلك، لا يُعرف الحديثُ عن أبي هريرة إلا من هذا الطريق، وجاء عنه من طريق آخر أعلَّه البخاري بالإرسال، وهو حديث الأعمش عن أبي صالح، عن أبى هريرة، راجع "جامع الترمذي" رقم (151).

ومحمد بن عمرو بن علقمة ليس بذلك الحافظ، ولابن معين كلام في روايته عن أبي سلمة، وله عنه مناكير.

والملاحظ أن حديثي بريدة وأبي موسى يجعلان للمغرب وقتين، بخلاف حديث محمد بن عمرو، فيجعل له وقتا واحدا.

أما حديث جابر، فله عنه طرق عدة، كما حكاه الترمذي، اتفقت جميعها على أن للمغرب وقتا واحدا، سوى رواية لسليمان بن موسى الأشدق، عن عطاء، عن جابر، ففيها أن له وقتا واحدا، وقد خولف سليمان فى ذلك.

وبعد هذا الاستطراد، فإن من المعلوم أن قول البخاري: أصح الأحاديث عندي حديث كذا، لا يقتضي صحته عنده، وإنما هو من باب التفضيل والترجيح، وأَنْزَلُ منه ما وصفه بعد ذلك من الأحاديث بالحُسْن، ولو رأى البخاري في شيء من تلك الأخبار ما يصلح أن يخرجه في صحيحه أو يذكره تعليقا أو نحو ذلك في باب المواقيت -وهو بحاجة إلى ذلك وليس عنده ما يغني عنه- لَفَعَلَ.

ص: 449

فالاستدلال بوصف حديث سليمان بن بريدة، عن أبيه بـ "الحسن" على أن البخاري يرى صحة سماع سليمان من أبيه -مع ما مَرَّ شرحُه- استدلالٌ في غاية البُعد، والله تعالى الموفق.

وأما رواية عبد الله بن بريدة، عن أبيه فلم يسلك فيها البخاري مسلك رواية أخيه سليمان، فلم يقل: لم يذكر عبد الله سماعا من أبيه، ولا أعرض عن إخراج حديث عبد الله عن أبيه في صحيحه، بل اكتفى بقوله في ترجمته من "التاريخ الكبير":(5/ 51): "عن أبيه سمع سمرة، ومن عمران بن حصين".

ففرَّق بين (عن) أبيه و (سمع) سمرة. وعلَّق مغلطاي على هذا الموضع من ترجمة عبد الله من كتابه "الإكمال" بأن فيه إشعارا بل جزما بانه لم يسمع منه. اهـ.

لكن لا يتساوى صنيع البخاري في ترجمة سليمان وعبد الله من هذه الزاوية، فترجمة سليمان أصرح فى المراد.

وبالنظر في الحديثين الذين خرجهما البخاري لعبد الله بن بريدة، عن أبيه في كتاب "المغازي" نلاحظ ما يلي:

الحديث الأول: رقم (4350)

أخرجه البخاري في باب: "بعث علي بن أبى طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع" الحديث الثانى في الباب.

قال البخاري: "حدثني محمد بن بشار حدثنا روح بن عبادة حدثنا علي بن سويد بن منجوف عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى خالد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: يا بريدة أتبغض عليا؟ فقلت: نعم.

قال: لا تبغضه، فإن له فى الخمس أكثر من ذلك".

ص: 450

هذا الحديث بهذا السياق المختصر، معروف برواية روح بن عبادة، عن علي بن سويد بن منجوف به. رواه عن روح جماعة، منهم الإمام أحمد في المسند (5/ 359).

وعلي بن سويد ليس له في البخاري سوى هذا الموضع، كما قاله ابن حجر.

وللحديث طريق أخرى عن عبد الله بن بريدة، يرويها عنه عبد الجليل بن عطية القيسي، وممن رواه عن عبد الجليل:

(1)

يحيى بن سعيد القطان، رواه عنه الإمام أحمد في المسند (21889).

(2)

والنضر بن شميل، رواه النسائي في "خصائص علي" عن إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه عنه به. ومن طريق النسائي أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار"(7/ 74).

(3)

وعبد الصمد بن عبد الوارث، أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (968). وتتميز رواية عبد الجليل عن رواية علي بن سويد بن منجوف بما يلي:

1 -

قال عبد الجليل -في رواية القطان والنضر عنه-: حدثنا عبد الله بن بريدة قال: حدثني أبي: بريدة قال

ففيه تصريح عبد الله بسماعه من أبيه.

2 -

في آخره -من روايتهم جميعا عنه- قال عبد الله: فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث غير أبي: بريدة.

وهذا تأكيد لما سبق من السماع.

3 -

في سياق حديث عبد الجليل زيادات، ففيها في أوله قولُ بريدة: "أبغضتُ عليا بغضا لم أبغضه أحدا، وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، قال: فأصَبْنا سَبْيًا، فكتب -أي الرجل- إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفةٌ هى أفضل السبي، قال: فخَمَّس

ص: 451

وقسم، فخرج رأسه يقطر، فقلت: يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تر إلى الوصيفة؟ فإنها صارت في الخمس، ثم صارت في آل محمد، ثم صارت في آل علي، فوقعت بها".

ثم قال: "فكتب الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقصة، فقلت: ابعثني، فبعثني، فجعل يقرأ الكتاب ويقول صدق". وفيه: "لا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حبا".

وفيه: "فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة".

وزاد: "قال: فما كان أحدٌ من الناس أحبَّ إليَّ من علي".

وعبد الجليل هذا وثقه يحيى بن معين، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 123):"ربما وهم".

وقال ابن كثير في "البداية والنهاية"(5/ 121): "تفرد به بهذا السياق عبد الجليل ابن عطية الفقيه أبو صالح البصري".

ودخولُ الوهم على مثل عبد الجليل في ذِكْره صيغة التحديث بأن عبد الله وأبيه ممكنٌ. لكن ربما يُبعده نَقْلُ عبد الجليل قول عبد الله في آخر الحديث: "فوالذي لا إله غيره ما بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث غير أبي: بريدة".

فالوهم في هذا بعيد، وحينئذٍ فربما أشعر هذا أن عبد الله احتاج إلى بيان سماعه لهذا الحديث من أبيه مباشرة بلا واسطة؛ إذ كان السامعون يَعرفون عدم سماعه من أبيه في الجملة.

فهل استأنس البخاري -على افتراض وقوفه عليه- برواية عبد الجليل في ذِكْر السماع في هذا الحديث بِعَيْنِه؛ لبُعده عن مظنة الوهم، لكنه لمَّا لم يكن على شرطه لم يخرج روايته، ولم يعتمد على لفظه، واكتفى بإيراد أصل الحديث مختصرا من رواية غير عبد الجليل عن عبد الله.

ص: 452

يُشجع على هذا الاحتمال عدمُ جزم البخاري بما يفيد عدم السماع -كما فعل مع سليمان- وإخراجه لعبد الله، عن أبيه حديثين في صحيحه.

وللحديث طريق ثالثة، أخرجها الحاكم في "المستدرك"(6/ 195) من حديث الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن عبد الله بن بريدة. لكن اختلف في إسناده على الأعمش؛ فرواه أبو قلابة، قال: ثنا يحيى بن حماد -هو ابن أبي زياد اليصري- ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، حدثني عبد الله بن بريدة، قال: إني لأمشي مع أبي، إذ مَرَّ بقوم ينقصون عليا

ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه: أنه مَرَّ على مجلسٍ .. ثم ذكر الحديث.

والإسناد الأول صريح في الاتصال بخلاف الثاني، ولم أر الإسناد الأول إلا عند الحاكم في هذا الموضع، أما الاسناد الثانى فقد رواه أحمد فى "المسند"(5/ 358) وغيره، ورواه أبو معاوية عن الأعمش، مختصرا جدا، بلفظ:"ابن بريدة عن أبيه". أخرجه النسائي (5/ 130) وغيره.

وهذا الإسناد الثانى أَسْلَمُ من جهة رواته، وأَبْعَدُ عن أسباب الوهم.

وقد يمكن أن يقال: لم يخرج البخاري لعبد الله عن أبيه ما يحتج به أو يعتمد عليه فى بابه.

أما هذا الحديث فقد خرج البخاري أولا حديث البراء: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد إلى اليمن. قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه

".

وهو كافٍ في معنى ما بوَّب به: "باب: بعث علي بن أبى طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع"، ثم خرج حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه، وهو شاهد لهذا المعنى، وليس فيه فيما زاد على ذلك شيء يُنكر.

ص: 453

وأما الحديث الثانى، فأخرجه (4473) في آخر باب:"كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم" من كتاب المغازي أيضا، وفيه أن بريدة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة.

وقد صدَّر البخاري الباب بحديث زيد بن أرقم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، غزا هو معه سبع عشرة منها.

وهذا كافٍ في معنى الباب المعقود لعدد غزواته صلى الله عليه وسلم.

ثم أعقبه بحديث البراء أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة، ثم حديث بريدة أنه غزا معه ست عشرة غزوة. فهما شاهدان لصحة حديث زيد بن أرقم في الجملة، والله تعالى أعلم.

والإمام أحمد، مع روايته لحديث عبد الجليل بن عطية وإخراجه له في المسند -مع اشتماله على تصريح عبد الله بن بريدة بسماعه من أبيه- لمَّا سُئل عن سماعه منه، قال:"ما أدري، عامَّة ما يُروى عن بريدة عنه وضعف حديثه". رواه أبو القاسم البغوي: حدثني محمد بن علي الجوزجاني قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل

وكذا قال حنبل بن إسحاق لأحمد: "فسمع عبد الله من أبيه شيئا؟ قال: لا أدري". اهـ.

فهاتان روايتان عن أحمد تفيد توقفه في هذا السماع.

لكن عقَّب محمد بن علي الجوزجاني -وهو أبو جعفر الوراق- بقوله: "لا أدري ما معنى قول أحمد هذا؛ فإن عبد الله بن بريدة ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وبقي أبوه بريدة إلى أيام يزيد بن معاوية، فكيف لم يسمع منه، على أن أحمد قد روى له حديثا أنه وفد مع أبيه على معاوية، فكيف خفي سماعه منه". اهـ.

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(27/ 134).

ص: 454

أقول:

خبر وفادة عبد الله بن بريدة مع أبيه على معاوية قد رواه عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن زيد بن الحباب، عن حسين -وهو ابن واقد- عن عبد الله بن بريدة، وفيه حكاية.

ورواه أبو زرعة الدمشقي عن أحمد بن شبوية، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة بذكر الوفادة فقط دون الحكاية.

أخرجهما ابن عساكر (27/ 126).

وأحمد لم ينف لقاء عبد الله لأبيه حتى يُستدرك عليه لإخراجه لما يدل على ذلك، وإن كان لأحمد كلام فى رواية حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة، وعزا أحمد ما يُنكر من حديث عبد الله إلى رواية حسين عنه، وكذا أبي المنيب، فلعله أن يقال: لم يَركن أحمد لهذا الخبر. وعلى كل حال، فإن كان ثَمَّ استدراك أو تعقيب، فبرواية عبد الجليل السالفة؛ ففيها التصريح بالتحديث، بل وفيها نَصُّ عبد الله على ما يدفع الشك في سماعه؛ بأنه لا يوجد بينه وبين أبيه في هذا الخبر واسطة.

لكن يبقى افتراض أن يكون هذا الإسناد عند أحمد صحيحا محفوظا حتى يصلح الإلزام به. ولم أقف لأحمد على رأي في عبد الجليل بن عطية.

وكثيرا ما نَفى النقاد سماعا أو توقفوا فيه مع حصول اللقاءة لقرينةٍ أو لأمرٍ ما دفعهم إلى ذلك، وهذا مستفيضٌ من صنيعهم.

ومع اتفاق حنبل بن اسحاق ومحمد بن علي الجوزجاني في روايتهما عن الإمام أحمد قوله في سماع عبد الله بن بريدة من أبيه: "لا أدري"، فقد روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 134) من طريقين: أحدهما: معمر بن محمد الجوهري -وهو ابن عيسى بن سعيد أبو حفص المعروف بالسذابي- والخضر بن داود -فرقهما- قالا: حدثنا أحمد بن هانىء -هو أبو بكر الأثرم- قال: قلت لأبي عبد الله: ابنا

ص: 455

بريدة سليمان وعبد الله- زاد الجوهرى: كيف هما عندك؟ وقالا: فقال: أما سليمان فليس في نفسي منه شيء، وأما عبد الله. ثم سكت، ثم قال: كان وكيع يقول: كانوا لسليمان بن بريدة أَحْمَدَ منهم لعبد الله، أو شيئا هذا معناه.

زاد الجوهرى: "قلت لأبي عبد الله: سمعا من أبيهما؟ قال: ما رأيت أحدا يشك في هذا أيهما (كذا) سمعا" اهـ. ولعل المراد: (أنهما) سمعا.

أقول:

أما رواية الخضر بن داود، فهى من رواية العقيلي عنه، رواها في ترجمة عبد الله بن بريدة من كتابه "الضعفاء". وهذا المعنى الذي اتفق الخضر بن داود والجوهري على روايته عن الأثرم مستفيضٌ عن الإمام أحمد، وهو تقديم أحاديث سليمان على أحاديث بريدة، وأرجع أحمد ما يوجد في أحاديث عبد الله عن أبيه من النكارة إلى بعض الرواة عن عبد الله كما مَرَّ.

أما ما جاء من زيادة الجوهري في روايته عن الأثرم، وسؤاله لأحمد عن سماع سليمان وعبد الله من أبيهما، وجواب أحمد بأنه ما رأى أحدا يشك في هذا (أنهما) سمعا، فإن صح السياق هكذا ولم يكن فيه تحريف -ولم أجده في غير هذا الموضع- فهي زيادة مخالفة لما سبق نقلُه عن أحمد في ذلك.

وعمر بن محمد الجوهري هذا قد ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد"(11/ 225) وعنه الذهبي في "الميزان"(6200) وابن حجر في "اللسان"(6208).

ولم يذكر الخطيب فيه توثيقا، بل قال:"وفي بعض حديثه نكرة" وساق له خبرا مرفوعا، قال الذهبي عنه: هذا موضوع.

ولذا فلا يمكن الوثوق بزيادة الجوهري هذه عن الأثرم، إن صحت العبارة هكذا، وإجراء قواعد النقد على روايته تلك يقضى بخطأها وشذوذها، والله تعالى أعلم.

ص: 456

ص (71 - 75):

استطرد العوني في استدلاله على أن نفي العلم بالسماع ليس دليلا على اشتراط العلم به، وإنما هو نفي لنفس السماع، فذكر ثلاثة أمثلة تدل على أن مسلما نفسه استعمل الإعلال بنفي السماع، والمفترض أنه لا يذهب هذا المذهب، بل يُشَنِّع على قائله، فهو دليل على أنه لم يقصد نفي العلم المجرَّد، بل نفي السماع بالقرائن التى وقف عليها.

وهاك الجواب عما ذكره من الأمثلة:

المثال الأول:

ذكر مسلم حديثًا في كتابه "التمييز" من رواية محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن جده عبد الله بن عباس، وهو حديث:"أن النبى صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل المشرق العقيق"، ثم تعقبه بقوله:"لا يُعلم له سماعٌ من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه".

قال العوني:

"لم يلجأ مسلم إلى الجزم بعدم السماع اعتمادا على عدم المعاصرة، وإنما لجأ إلى الإعلال بنفي العلم بالسماع، التي هي عبارة عن ترجيحٍ لعدم السماع.

قال: ويشهد لوقوع المعاصرة فعلا بين محمد بن علي وجدّه: أن ابن حبان ذكر محمد بن علي في طبقة التابعين، ولم يذكر له رواية عن صحابي غير جدّه ابن عباس.

قال: واستدل لوقوع المعاصرة أيضا الشيخ أحمد محمد شاكر بطبقة الآخذين عن محمد بن علي، حتى مال إلى صحة سماعه من جده.

وقال: بَيَّن ابنُ القطان في "بيان الوهم والإيهام" أن سبب الشك في سماع محمد ابن علي من جده ابن عباس أنه أدخل بينه وبينه واسطة في بعض حديثه عنه. اهـ.

ص: 457

أقول:

الجواب: أن راوي هذا الحديث عن محمد بن علي هو يزيد بن أبي زياد القرشي أبو عبد الله الكوفي، قال مسلم نفسُه قبل كلامه السابق في سماع محمد من جده: يزيد ممن قد اتقى حديثَه الناسُ والاحتجاجَ بخبره إذا تفرد؛ (للذي) اعتبروا عليه من سوء الحفظ والمتون (؟) في رواياته التي يرويها.

فالعلة التى ردَّ بها مسلمٌ هذه الرواية هي ضعفُ يزيد هذا؛ لسوء حفظه -وما كان يتلقن في آخر عمره- فلا يحتج بما يتفرد بيع وقد تفرد بهذا الحديث عن محمد بن علي، وجعله مع ذلك: عن جده.

وقول مسلم بعد ذلك: "ومحمد بن علي لا يُعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه" ليس من باب تعدد مواطن العلة فى هذا الحديث، وإنما هو لتقرير نكارة هذا الإسناد، وإلزام يزيد بالوهم فيه؛ بأن محمد بن علي بن عباس لا يُعرف بروايته عن جده، ولا يُعلم له لقاؤه أو رؤيته.

ومن المعلوم أنه لا يُنظر في سماع راوٍ من شيخ له فى إسناد، إلا إذا كان الطريق إلى ذلك الراوي محفوظا حتى يستحق النظر في سماعه من شيخه هذا، فإن لم يكن كذلك، اكتفى الناقد ببيان عدم صحة الإسناد من أصله.

وللنقاد نظرٌ خاصٌّ بمن يُعَلَّلُ به الإسنادُ فَيُحَمِّلُونه تبعةَ الخطأ فيه، وليس من منهجهم (فرز) الإسناد واحدا واحدا، واستخراج ما فيه من العيوب: فهذا ضعيف، وهذا لين، وهذا مدلس وقد عنعن، وهذا اختلط والراوي عنه ممن سمعه بعد الاختلاط، وهذا لم يسمع من شيخه، وهكذا. بل يصيبون كبد الحقيقة -ما أمكن- فيما يُعللون به الحديث، أو يُعِلُّون الحديث ولا يترجح لهم سببٌ خاصٌّ فى ذلك، فيتوقفون عن ذِكره مع جزمهم بالإعلال، ومع وجود عدة أسباب محتملة لذلك.

ص: 458

ولم يذكر أحدٌ من المعتمَدين في باب التراجم -وعلى رأسهم البخاري والرازيان- أن محمد بن علي يروي عن ابن عباس، ومن المعلوم أن أصحاب التواريخ وكتب التراجم يَذكرون أعلى مَن روى عنهم المترجَم له، فلو أن لمحمد بن علي رواية عن ابن عباس لقدموها على روايته عن أبيه. وهذا لا ينفي وجود روايته عن ابن عباس في بعض الأسانيد التي لا يرونها محفوظةً، فلم يعولوا عليها.

أما ابن حبان، فمع اعتماده على البخاري في سوق تراجمه في الغالب، إلا أنه أحيانا يعتمد على ما يقع له في بعض الأسانيد، فيذكر الراوي في طبقة - بل وطبقتين، بناء على ما وقع له من ذلك، وعليه في بعض ذلك اعتراضات ومؤاخذات.

والحافظ ابن حجر مع قوله في "تهذيب التهذيب": "ذكره ابن حبان فى طبقة التابعين من الثقات" إلا أنه لم يُقم لذلك وزنا، فقال في "التقريب":"من السادسة، لم يثبت سماعه من جده، مات سنة أربع -أو خمس- وعشرين يعني ومائة". والطبقة السادسة كما بيَّنها في مقدمة "التقريب" هي: طبقة من عاصروا صغار التابعين، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة.

فصنيع ابن حبان خطأ وشذوذ بلا شك.

وما قدَّمته من عدم اعتداد الأئمة برواية محمد بن علي عن ابن عباس، فلم يذكروها في ترجمته، وقولُ مسلم السابق في كتاب "التمييز":"لا يُعلم له سماعٌ من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه" قاضٍ على تلك الرواية بالشذوذ، ولو ثبتت فهي منقطعة حتما، ولا عبرة حينئذ بميل أحدٍ إلى صحة ذلك السماع بناء على مقدمات واهية في مقابل تصرفات الأئمة.

وفَهْمُ العوني لجواب ابن القطان: بأن سبب الشك في سماع محمد بن علي من جده ابن عباس أنه أدخل بينه وبينه واسطة في بعض حديثه عنه: خطأ؛ لأسباب:

ص: 459

أما أولًا: فلأن ابن القطان إنما قال: "ومحمد بن علي إنما هو معروف بالرواية عن أبيه عن جده ابن عباس

ولم يذكر البخاري ولا ابن أبي حاتم أنه روى عن جده". ثم نقل كلام مسلم في "التمييز"، فهذا واضح من كلام ابن القطان -كما سبق في تقريرنا- أن الأصل في رواية محمد بن علي أنها عن أبيه عن جده، فلما جاءت رواية يزيد بن أبى زياد هذه بإسقاط (أبيه) وقع الشك -حسبما عبَّر ابن القطان- في سماع محمد من جده. لا أن ابن القطان يقول إن سبب الشك في هذا السماع هو وجود (أبيه) بين محمد وجده في بعض حديثه، فهذا قَلْبٌ للأمر.

ثانيًا: لا يصح ما ذكره العوني شرحا لكلام ابن القطان إلا إذا عكسنا القضية، فتكون رواية محمد بن علي عن جده مستفيضة، أو قائمة يعترف بها الأئمة ويثبتونها في كتبهم، ثم يبحثون في سماعه منه، فيقعون على بعض الروايات التى ترد بزيادة (أبيه)، فحينئذ يقولون: لم يذكر سماعا، ويروي أحيانا بواسطة، فيغلب على ظنهم عدم السماع.

وهذا نموذج عجيب لعدم فهم تصرفات القوم في تعاملهم مع الأسانيد والروايات. وعُذر العوني ميلُه الشديد لإثبات ما تقرر عنده سلفا. والله تعالى الموفق.

المثال الثاني:

ذكر ابن رجب في "فتح الباري" حديثا لأبي صالح -مولى أم هانىء- عن ابن عباس، ثم قال: وقال مسلم في كتابه "التفصيل": "هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس". اهـ.

أقول:

أبو صالح هذا قد اتُّهم بالكذب، والقضية إنما هي في رواية الثقة غير المدلس، وأبو صالح ليس هو بالثقة، ولا هو ممن يُؤمن منه التدليس، فقول مسلم: لا يثبت له سماع من ابن عباس، إنما هو باعتبار أنه في نفسه ليس بثقة حتى تُحتمل منه عنعنةٌ بالشرائط التي ذكرها مسلم. فالمثال لا يصلح إلا مع اكتمال أركان المسألة، والله تعالى أعلم.

ص: 460

المثال الثالث:

قال العوني:

تُذكر قصة صحيحة أن مسلما دخل على البخاري، فقال له مسلم: دعني أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله!. ثم ذكر بمحضرهما حديث كفارة المجلس، من رواية موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، فقال مسلم للبخاري: في الدنيا أحسن من هذا؟! تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثا غير هذا؟! فقال البخاري: لا، إلا أنه معلول. فقال مسلم: لا إله إلا الله! (وارتعد)، أخبرني به؟ فقال: استر ما ستر الله، فألحَّ عليه، وقبَّل رأسه وكاد أن يبكي، فقال: اكتب إن كان ولابد. وأَمْلَى عليه رواية وهيب، عن سهيل بن أبي صالح، عن عون بن عبد الله بن عتبة موقوفا عليه، وقال له: لم يذكر موسى بن عقبة سماعا من سهيل، وحديث وهيب أَوْلَى، فقال مسلم:"لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك"!

أقول:

بصرف النظر عن الشك في صحة هذه القصة، وما في سياقها من بعض الغرابة -ولعلنا نتعرض لذلك لاحقا- فإن القَدْر المتعلق بإعلال البخاري لرواية موسى بن عقبة قد أورده البخاري في "تاريخه الكبير"(4/ 105) وغيره، والملاحظ أن العلة الأصلية لرواية موسى هي مخالفة وهيب بن خالد، وإجراء بعض قواعد النقد على تلك المخالفة يقضى لرواية وهيب على رواية موسى.

بيان ذلك:

1 -

أن وهيبا -بالإضافة إلى تثبته البالغ- هو أعرف بسهيل وحديثه، وقد أكثر عنه، وله في "صحيح" مسلم عنه عدة أحاديث، وسماعُه منه مستفيضٌ، أما موسى بن عقبة فهو من أقران سهيل، ولا تكاد تعرف له عنه رواية إلا في هذا الحديث، وحديث

ص: 461

آخر بهذا الإسناد مرفوعا: "وفد الله ثلاثة: الغازي والحاج والمعتمر" وقد خالفه وهيب فيه أيضا: فرواه عن سهيل، عن أبيه، عن مرداس، عن كعب قوله.

ذكره الدارقطني في "العلل"(10/ 125) والبيهقي في "سننه"(5/ 262). بل إن رواية سهيل عن موسى هي الأكثر والأشهر في الكتب.

2 -

أن رواية وهيب تدل على حفظه؛ لأنها طريق غير معهودة، قد سلك فيها خلاف الجادة من حديث سهيل.

3 -

أن إسناد: ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، لا يُعرف إلا في هذا الحديث، كما قال البخاري لمَّا سأله مسلم:"في الدنيا أحسن من هذا؟ تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثا غير هذا؟ ". وهو سؤال استغراب من مسلم أن يأتي هذا المتن بمثل هذا الإسناد، فلمَّا أطلعه البخاري على علة قاضيةٍ بخطأ ذلك الإسناد، زال استغرابُه.

4 -

ليس من اللازم أن تكون المقارنة بين وهيب وموسى في روايتهما عن سهيل، يدل عليه من كلام البخاري قوله: لم يذكر موسى سماعا من سهيل، فكأنه يُحيل على ما بينهما من الواسطة، وكذلك فقد أعلَّ روايةَ موسى برواية وهيب كُلٌّ من: الإمام أحمد، حكاه الدارقطني في "العلل"(8/ 203) وأبو زرعة وأبو حاتم كما في "العلل"(2077) وأرجع أحمد احتمال الوهم فيه لابن جريج، وتردد أبو حاتم في سبب الوهم بين ابن جريج وبين سهيل، ولم يذكروا موسى بن عقبة بشيء.

فهؤلاء كأنهم يذهبون:

أولا: -بتخطئة ابن جريج- إلى:

1 -

أن الحديث لم يكن عند ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، بل هو عنده بإسناد آخر.

ص: 462

2 -

أو عنده عن موسى بن عقبة، لكن ليس عن سهيل، بل عن رجل عن سهيل، فالعهدة على تلك الواسطة.

3 -

أو عنده عن موسى بن عقبة، عن سهيل، لكن ليس عن أبيه، عن أبى هريرة مرفوعا.

وثانيا: -بتخطئة سهيل- إلى أنه كان عنده: عن عون بن عبد الله موقوف، فوهم وسار على جادة الإسناد، فجعله: عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا.

فالبخاري قد قدم رواية وهيب، وأعلَّ الرواية الأخرى، كما صنع أحمد والرازيان، لكن قوله:"لم يذكر موسى بن عقبة سماعا من سهيل" كأنه يُلمح إلى الاحتمال الثاني، على اعتبار أن بين موسى وسهيل واسطة؛ لأنه لا يُعرف له سماع منه، سواء كان موسى يرسله عن سهيل، أو أخطأ فيه ابن جريج، وإلى الاحتمال الأول على اعتبار أن موسى بن عقبة لا يُعرف بالرواية عن سهيل، فالإسناد خطأ.

يؤيدُ الأخيرَ جزمُه بأنه لا يعرف في الدنيا بهذا الإسناد إلا هذا الحديث، ولشهرة رواته، كان ذلك أمارةً على شذوذ هذا الإسناد من أصله. فلما وقف على رواية وهيب زالت تلك الإشكالات، وتبين وجه الصواب في الإسناد، بغض النظر عن تعيين وجه الخطأ فيه.

أما مسلم فقد استغرب إسناد هذا الحديث، وعبَّر عن ذلك بقوله:"في الدنيا أحسن من هذا! " كعادة غير واحدٍ من المتقدمين في التعبير أحيانا عن الغرابة بالحسن، وزاد:"تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثا غير هذا؟ ".

فحديثٌ غريبٌ؛ لا تُعرف روايةُ بعض رواته عن بعض -مع شهرتهم- إلا في هذا الحديث الواحد، لَيُثير الريبة، مع شيء من التعجب والهيبة، فلما أوقفه البخاري على رواية وهيب الموقوفة، زال عنه إشكال تلك الغرابة، وعلم أن هذا الإسناد خطأ كشأن كثير مما يشبهه من غرائب الأسانيد ذات الرواة المشاهير.

ص: 463

هذا هو ما اطمأن له مسلم من العلة المذكورة، وليس رضاه عن ذلك منحصرا فيما ذكره البخاري من عدم علمه بسماع موسى بن عقبة من سهيل، فلم تكن صحة الإسناد عنده متوقفة على ذلك السماع حتى يقال: إنه رضي بنفيه من البخاري، بل وكاد يطير فرحًا بذلك!!. بل أسباب الخلل في هذا الإسناد لاسيما مع الاطلاع على رواية وهيب ظاهرة لصغار الطلبة فضلا عن إمامٍ كمسلم رحمه الله.

يؤيد ذلك تعليلُ أحمد وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني وغيرهم للحديث دون التعرض لذلك السماع. وقد سبق شرحُ تلك الأسباب آنفا.

والمقصود أن ما جعله العوني إعلالا من البخاري -وهو عدم العلم بالسماع- إنما هو قرينة لذلك، وما جعله قرائن للإعلال -وهو ما اشتملت عليه رواية وهيب من المخالفة- إنما هو عين الإعلال، والله تعالى الموفق.

وأما فيما يتعلق بصحة هذه القصة، فقد سبق العوني إلى تصحيحها: الحافظ ابن حجر في كتاب "النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 227) وجاء تصحيحه لها ردا على توهين العراقي -وغيره- لها، واتهامه لراويها: أحمد بن حمدون القصار، وقد حقق ابن حجر وغيره أن المستنكر في هذه القصة ما جاء فيها من قول البخاري:"لا أعلم في الباب غير هذا الحديث" وهذا غير متصور أن يصدر من مثل البخاري في سعة اطلاعه، مع وجود عدة أحاديث في هذا الباب. وذكر أن صواب العبارة:"لا أعلم في الدنيا بهذا الإسناد غير هذا الحديث" وقد سبق شرحُ ما يستفاد من هذه العبارة.

وذكر ابن حجر أن الوهم جرى لأبي عبد الله الحاكم في سياقه لهذه الحكاية في كتابه "معرفة علوم الحديث"، وقد روى تلك الحكاية من طريق الحاكم بهذا اللفظ المستنكر: الخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 496)(13/ 102) وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(58/ 91)، ورواه الخطيب (1/ 205) وابن عساكر (52/ 68) باللفظ الآخر من غير طريق الحاكم.

ص: 464

وقد ساقها الحاكم نفسه على الصواب في "تاريخ نيسابور" كما قاله ابن حجر وغيره.

ووهم الحاكم في هذا الحديث وهمًا آخر، فقال عقبه في "المستدرك":"هذا الحديث صحيح على شرط مسلم إلا أن البخاري قد علله بحديث وهيب عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن كعب الأحبار". اهـ.

كذا قال، وقد سبق أن رواية وهيب التي ذكرها البخاري وغيره إنما هي عن: سهيل، عن عون بن عبد الله بن عتبة من قوله.

ولعل الحاكم ذهب وهمُه إلى حديث: "وفد الله ثلاثة

" الذي سبقت الإشارة إليه، وقد خالف فيه أيضا وهيب ما رواه موسى بن عقبة عن سهيل.

وأحمد بن حمدون القصار الذي تدور عليه هذه القصة -وهو صاحبها، والذي اتهمه بها بعضهم- قد حمل عليه أبو علي الحافظ شيخ الحاكم، وقال: حدثنا أحمد بن حمدون إن حلت الرواية عنه، وأنكر عليه أحاديث.

وقد كان حافظا، وقال الخليلي في "الإرشاد":"صاحب غرائب وحفظ".

وسأل الحاكمُ شيخَه: لم قال ذلك؟ أهذا بسبب ما نُسب إليه من المجون والسخف، أم لأجل الحديث؟ فقال: لأجل الحديث. فساق له أحاديث استنكرها عليه، فأجاب عنها الحاكم بأنه قد رواها غيره، وذكر أنه فتش في حديثه فلم ير شيئا يكون الحمل فيه عليه، وقال: أحاديثه مستقيمة، وهو مظلوم.

ويشهد لأصل القصة فيما يتعلق بإعلال البخاري لرواية ابن جريج عن موسى تلك، ما ذكره البخاري بلفظه في ترجمة سهيل من "التاريخ الكبير" كما سبق.

لكن يبقى النظر في بقية سياق القصة وألفاظها، وليس بالمستغرب أن يسأل مسلمٌ البخاريَّ عن هذا الحديث على النحو الذي ذكرناه آنفا، لكن لا يبعد أن يصبغها راويها أحمد بن حمدون القصار بتلك الصبغة حسبما يتفق مع ما وصف به من المزاح والسخف، ففي السياق "صنعة" و"كلفة".

ص: 465

وفي بعض السياق غرابة، فليس من عادة البخاري ولا غيره من النقاد ذلك التمنُّع والعُسْر الشديد في بيان ما عندهم من نقد الأخبار، حتى تبلغ أن يُلِحَّ مسلمٌ، ويُقَبِّلَ رأسَ البخاري، ويكاد يبكي!

وليس يسوغ لأئمة هذا الشأن أن يستروا -أو يكتموا- أخطاء الرواة أو علل الأسانيد، لاسيما إذا سُئلوا عنها، أو عُرضت عليهم. فلا يُقال في هذا:"استر ما ستر الله" فليس هذا من جنس ما يسوغ سِتْرُهُ.

هذا ما أردت تقييده هنا بهذا الصدد على عجالة، والله تعالى الموفق.

ص (77):

في المسألة الثالثه: الأدلة على بطلان نسبة اشتراط العلم باللقاء إلى البخاري وغيره من العلماء.

الدليل الأول:

سبق الجواب عن شبهات العوني في محاولته إسقاط الحجة التي اعتمد عليها الناسبون لذلك الشرط إلى البخاري وغيره من الأئمة.

الدليل الثاني:

نَقْل مسلم الإجماع في مقدمة "صحيحه" على ما ذهب إليه.

أقول:

1 -

إطلاق ذلك الإجماع إنما هو دعوى في محل نزل تحتاج إلى ما يدعمها، وما ذكره مسلم من شواهد على ذلك الإجماع قد نُوزع فيها كما سبق، بل وفي صنيعه نفسه ردٌ على بعض ذلك.

2 -

ومَنْ زُعم اطلاعُه على "مقدمة مسلم" دون نكير -وهو أبو زرعة- هو من مشاهير من نُسب إليه خلافُ مذهب مسلم، وفي مناقشة تلك القضية الشائكة

ص: 466

لا يُكتفى باحتمال اطلاع فلان وفلان على ما قاله مسلم دون نكير؛ لأن الجواب عن ذلك باحتمالات مناهضة يُفسد الحِجاج ويُسقطه. والواجب اعتبار الصريح من تصرفات الأئمة، دون الركون إلى احتمالات ومنطقيات لا تقدم ولا تؤخر.

3 -

ومهما يكن من قوة عبارات مسلم في نقل ذلك الإجماع وثقته بذلك، فهو يعكس قناعته التامة بما يطرحه في هذه القضية، وقد بناه على ما ذكره من أن طائفة من أهل الحديث الذين ذكرهم -ومنهم شعبة والقطان وابن مهدي، ومن بعدهم- لم يكونوا يفتشون عن سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إلا إذا كان الراوي ممن عُرف بالتدليس في الحديث وشُهر به.

وقد خُولف مسلمٌ فيما بَنى عليه ذلك الإجماع بأن ما نفاه من صنيع أهل الحديث قد وُجد بكثرة، ونظرةٌ في كتب المراسيل -مثلا- تُبين ذلك بجلاء.

4 -

وقضيةُ قَصْد مسلم بذلك التشنيع البخاريَّ رحمه الله، قضيةٌ فرعيةٌ لا تُغير من حقائق الأمور شيئا، وسواء أقصد مسلمٌ البخاريَّ أم لا؟ فالمراد: هل هو مذهب البخاري -كما أكده غير واحد من المحققن وأثبتوه من صنيعه في كتبه- أم لا؟ واستبعادُ أن يكون مسلمٌ قصد البخاريَّ لشناعة الألفاظ التي استعملها في الحَطِّ على قائل تلك المقالة، لا ينفي عن البخاري أن يكون من أصحابها، والعبرة بالدلائل والبينات.

5 -

ولا حاجةَ لِنَصْبِ أو زَعْم خلافٍ بين البخاري ومسلم في تلك المسألة، وناسِبُ ذلك الشرط الذي أنكره مسلم إلى البخاري لا يلزمه القول بنصب ذلك الخلاف، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

6 -

قول العوني في جوابه عما تُعُقب به على مسلم من الوقوف على تصريح بعض الرواة بالسماع من بعض في تلك الأسانيد التي زعم مسلم أنه لم يُحفظ عنهم فيها سماع، ومن ذلك في "صحيح" مسلم نفسه، قوله (ص 93): "إني لأتلمس

ص: 467

من وقوع السهو لمسلم في بعض ذلك أنه كان مستهينا بخصمه غاية الاستهانة، وأنه كان عنده أقل وأدنى من أن يُنَقِّر له الأدلة، ويُصَفِّيَ له الروَّية؛ استخفافا بذلك المبتدع المستحدث لذلك القول، ثم تصبَّر على الرد، وهو مستثقله، ولذلك لم يَحزم له كُلَّ حُموله، ولا أعد له كُلَّ عدته"!!

أقول:

هذا أقرب إلى انتقاص مسلم من الاعتذار له؛ إذ كيف يُقيم الدنيا في رد دعوى جاهل خامل الذكر، ثم يستهين به حتى يفتح الباب له لينقده بل اللائق به أن يعتني بتمحيص الأدلة، وانتقاء البراهن التي تُلزم خصمه وتلجمه مهما كان حاله، بل رد الجاهل خامل الذكر على مثل مسلم أشد عيبا لمسلم من رد ذي العلم المعروف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص (93):

• قول الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى: سألت أبا الوليد: أكان شعبة يفرق بين (أخبرني) و (عن)؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما.

أقول:

الحاكم هو أبو عبد الله، ومحمد بن يحيى هو الذهلي، وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي. وتعتمد صحة وجادة الحاكم تلك على معرفته بخط الذهلي وتمييزه له، وقراءته من كتابٍ له، وأبو الوليد كأنه يُلمح إلى مذهب شعبة في ذلك بأن ذكر ما يخالفه، وشعبة قد استفاض عنه قوله:"كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خَلٌّ وبَقْلٌ"، وهو من أَجَلِّ شيوخ هشام، وقد عُرف بالتشدد في هذا الباب، وكان يتتبع ألفاظ الرواة، ويوقفهم على السماع، وقد كَفى مَن بعده النظر في عنعنة المدلسين الذين روى عنهم كما هو مشهور في موضعه.

ص: 468

وعلى كل حال فمطلق عبارة هشام غير مراد قطعا، ولابد لها من حَمْلٍ مقبول، ولذا فقد ضيَّقه البيهقي بأن حمله على من لا يُعرف بالتدليس، فمن لم يُعرف بذلك لم يُراع العلماء ذكره التحديث أو الإخبار في روايته، لكن وُجد في صنيع النقاد الإعلال بعدم السماع لفقد التصريح من غير المدلس في أحيان كثيرة، وجعلوه من قبيل المرسل، ولذلك فقد زاد ابن رجب فاحتمل حمله على من ثبت لقاؤه، حتى يحترز من المرسل.

وعبارة أبي الوليد لا تفيد معنى الإجماع المذكور، بل تصدق على جماعة ممن أدركهم، ويبقى افتراض أنهم ممن يؤخذ عنهم ذلك الفن.

ص (95):

• قول الحاكم في النوع الحادي عشر من "علوم الحديث"(ص 34):

"معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس، وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل على تورع رواتها عن أنواع التدليس".

أقول:

الملاحظ أن الحاكم لم يتعرض لاشتراط العلم باللقاء، لكنه شرط خلو الإسناد من أنواع التدليس.

وبالرجوع إلى النوع السادس والعشرين من "علوم الحديث" وهو معرفة المدلسين (ص 103) نجد الحاكم قد ذكر للتدليس عنده ستة أجناس:

قال: الجنس السادس من التدليس:

"قوم رَوَوْا عن شيوخ لم يَرَوْهم قط ولم يسمعوا منهم، إنما قالوا: قال فلان، فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عال ولا نازل". اهـ.

ص: 469

فبان بذلك أن قوله في الموضع الأول: "

وليس فيها تدليس

على تورع رواتها عن أنواع التدليس" يدخل فيه التحرز من الإرسال الذي هو رواية الراوي عمن عاصره ولم يره أو لم يدركه إلا أنه لم يسمع منه.

والتحرز من الإرسال هو أساس اشتراط العلم باللقاء أو السماع بين المتعاصرين كما هو معلوم.

نعم، تطبيقات الحاكم تفيد اكتفاءه بالمعاصرة، فهذا مذهبُه، وقد جُرِّب على الحاكم مخالفته لتقريراته النظرية في كتابه "المستدرك" لمن تأمل ذلك، والله الموفق.

وقد شرح ابن حجر في "النكت" ظهور الاتصال الذي هو من شروط "المسند" وعَوَّلَ فيه على كلام الحاكم الذي اختلفت النسخ الخطية في نقله عنه، بقوله:"ظهور الاتصال يخرج المنقطع، لكن يدخل فيه ما فيه انقطاع خفي؛ كعنعنة المدلس، والنوع المُسمَّى بالمرسل الخفي، فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يُسمى مسندا".

وعبارة الحاكم التي يدور الجدل حولها هي قوله: "المسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه لِسن يَحتمله (وفي نسخ: ليس يحتمله) وكذلك سماع شيخه من شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فقد بيَّن الحافظ أن هذا الظهور لا يشترط انتفاء عنعنة المدلس ولا الإرسال الخفي، مع أن الحاكم قد شرط لقبول الحديث المعنعن ألا يكون فيه تدليس -مع تورع رواته عن أنواع التدليس- كما سبق بيانه، واشتمال ذلك عنده على الإرسال.

ص (102).

لست أطيل في هذا الموطن فيما وقع في كلام أبي عمرو الداني، والبيهقي، وابن حزم بهذا الصدد، لكني أقول:

أما أبو عمرو الداني فهو آخذٌ من عبارة الحاكم، وقد عاب ابنُ حجر على ابن الصلاح نقل هذا القول عن أبي عمرو مع أنه أخذه من كلام الحاكم.

ص: 470

قال ابن حجر: "لا شك أن نقله عن الحاكم أَوْلَى؛ لأنه من أئمة الحديث، وقد صنف في علومه".

يعني أن أبا عمرو الداني ليس من أئمة الحديث، فإن فنه القرآن وعلومه كما هو معلوم. وقد سبقت الإشارة إلى كلام الحاكم في هذا الصدد.

ص (105):

أما البيهقي، فإن العوني ادعى أن الطحاوي أعلَّ حديث قيس بن سعد عن عمرو بن دينار بعدم العلم بسماعه منه، فأجاب عليه البيهقي، والحق أن الطحاوي لم يُعل الحديث بعدم العلم بالسماع، بل قال:"أما حديث ابن عباس فمنكر؛ لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء" يعني حديث القضاء بشاهد ويمين.

وعبارة الطحاوي لا تفيد ما توهمه العوني، فإن الطحاوي قد ادعى أن الحديث منكر، ثم وجه ذلك بقوله:"لأن قيس بن سعد لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء".

فلم يتعرض لسماعه منه أو لقائه له بنفي ولا إثبات، ولا ملازمة بين عدم التحديث وعدم اللقاء أو السماع، فإن كثيرا من الرواة لقوا جماعة من المشايخ وسمعوا منهم ثم لم يحدثوا عنهم بشيء.

حرر ذلك العلامة المعلمي في "التنكيل"(2/ 153 - 154) وقال:

"فإن قيل: إنما ذاك لاعتقادهم ضعف أولئك المشايخ، وعمرو لم يستضعفه أحد.

قلت: بل قد يكون لسببٍ آخر؛ كما امتنع ابن وهب من الرواية عن المفضل بن فضالة القتباني؛ لأنه قضى عليه بقضية، وامتنع مسلم من الرواية عن محمد بن يحيى الذهلي؛ لما جرى له معه في شأن اختلافه مع البخاري، فكأن الطحاوي رأى أن قيسا لو كان يروي عن عمرو لجاء من روايته عنه عدة أحاديث؛ لأن عمرا كان أقدم وأكبر وأجل، وقد سمع من الصحابة، وحديثه كثير مرغوب فيه، وكان قيس معه

ص: 471

بمكة منذ ولد، فحَدَسَ الطحاوي أن قيسا كان ممتنعا من الرواية عن عمرو، فلما جاء هذا الحديث استنكره كما قد نستنكر أن نرى حديثا من رواية ابن وهب عن المفضل، أو من رواية مسلم عن محمد بن يحيى.

فإن قيل: فقد يكون لاستنكاره خشي انقطاعه.

قلت: كيف يبني على ظن امتناع قيس من الرواية عن عمرو نفسه أن يحمل هذا الحديث على أنه أرسله عنه، بل المعقول أنه إذا امتنع من الرواية عنه نفسه كان أشد امتناعا من أن يروي عن رجل عنه، فضلا عن أن يرسل عنه -أو بعبارة أخرى- يدلس، وقيس غير مدلس.

فإن قيل: فعلى ماذا يحمل؟

قلت: أما الطحاوي فكأنه خشي أن يكون سيف -وهو راوي الحديث عن قيس- أخطأ في روايته عن قيس، عن عمرو.

فإن قيل: فهل تقبلون هذا من الطحاوي؟

قلت: لا، فإن أئمة الحديث لم يعرجوا عليه؛ هذا البخاري مع استبعاده لصحة الحديث فيما يظهر إنما حَدَسَ أن عمرًا لم يسمعه من ابن عباس، وذلك يقضي أن الحديث عنده ثابت عن عمرو. وهذا مسلم أخرج الحديث في "صحيحه" وثبته النسائي وغيره. وليس هناك مظنة للخطأ، وسيف ثقة ثبت، لو جاء عن مثله عن ابن وهب عن المفضل بن فضالة، أو عن مسلم عن محمد بن يحيى لوجب قبوله؛ لأن المحدث قد يمتنع من الرواية عن شيخ ثم يضطر إلى بعض حديثه. هذا على فرض ثبوت الامتناع، فكيف وهو غير ثابت هنا؟ بل قد جاء عن قيس عن عمرو حيث آخر، روى وهب بن جرير عن أبيه قال: "سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار

" ووهب وأبوه من الثقات الأثبات.

ص: 472

ذكر البيهقي ذلك في الخلافيات ثم قال: "ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا" نقله ابن التركماني في "الجوهر النقي" ثم راح يناقش البيهقي بناء على ما توهموه أن مقصود الطحاوي الانقطاع ودعوى أنه لم يثبت لقيس لقاء عمرو، وقد مر إبطال هذا الوهم.

والطحاوي أعرف من أن يدعي ذلك لظهور بطلانه، مع ما يلزم من اتهام قيس بالتدليس الشديد الموهم للقاء والسماع، على فرض أن هناك مجالا للشك في اللقاء.

وقد بيَّنا أن الطحاوي إنما حام حول الامتناع، والحق أنه لا امتناع، ولكن قيسا عاجله الموت، ولما كان يحدث في حلقته في المسجد الحرام كان عمرو حيا في المسجد نفسه، ولعل حلقته كانت بالقرب من حلقة عمرو، فكان قيس يرى أن الناس في غنى عن السماع منه عن عمرو؛ لأن عمرا معهم بالمسجد، فكان قيس يحدث بما سمعه من أكابر شيوخه، فإن احتاج إلى شيء من حديث عمرو في فتوى أو مذاكرة فذكره، قام السامعون أو بعضهم فسألوا عمرا عن ذلك الحديث فحدثهم به فرووه عنه ولم يحتاجوا إلى ذكر قيس، واستغنى سيف في هذا الحديث وجرير في الحديث الآخر بالسماع من قيس، لأنه ثقة ثبت، ولعله عرض لهما عائق عن سؤال عمرو

".

وقد قال المعلمي قبل ذلك (ص 153):

"قيس ولد بعد عمرو ومات قبله، وكان معه بمكة وسمع كل منهما من عطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم.

وكان عمرو لا يدع الخروج إلى المسجد الحرام والقعود فيه إلى أن مات، كما تراه في ترجمته من طبقات ابن سعد، وكان قيس قد خلف عطاء في مجلسه كما ذكره ابن سعد أيضا، وسمع عمرو من ابن عباس وجابر وابن عمر وغيرهم ولم يدركهم قيس.

فهل يظن بقيس أنه لم يلق عمرا وهو معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات، أو لم يكونا يصليان معا في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟! أو لم يكونا يجتمعان في حلقة

ص: 473

عطاء وغيره في المسجد؟! ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة أذرع!

أو يظن بقيس أنه استنكف من السماع من عمرو؛ لأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالا؟ ". اهـ.

قال الفقير إلى الله تعالى:

المراد هنا أن البيهقي إنما رد استنكار الطحاوي رواية قيس عن عمرو بن دينار، وأنه لا يوجد مسوغ لردها واستبعادها، وأن الدلائل والبينات قائمة على وقوع اللقاء بينهما على ما ذكر البيهقي -وشرحه المعلمي وقرره- وهي من الحالات النادرة التي تتوفر فيها تلك الدلائل بين أمثال قيس بن سعد وعمرو بن دينار، ولا يوجد تصريح واحد بسماع ونحوه، ومع ذلك لم يطعن أحد في ذلك السماع، ولا أثبته أحدٌ بنصٍّ خاصٍّ.

ص (111):

وأما ابن حزم فنقلُه عدم الخلاف فيما ذَكر مجازفةٌ، فقد نقل أن العدل لا يروي عمن أدركه إلا ما سمعه، والمدلس عنده ساقط العدالة، وليس ابن حزم ممن يرجع إليه في مثل تلك القضايا.

ص (106):

وأما ابن عبد البر فكلامه واضح غاية الوضوح في الإجماع على قبول الإسناد المعنعن إذا كان رواته عدولا، وتحقق لقاء بعضهم لبعض مجالسةً ومشاهدةً، مع البراءة من التدليس.

وقد غالط العوني في تعليقه على كلام ابن عبد البر مغالطاتٍ يضيق هذا الموضع عن كشفها.

ص: 474

لكني أقول:

مراد ابن عبد البر أن الإسناد المعنعن إذا اجتمعت فيه تلك الشرائط فهو مجمع على قبوله، ولا يشترط التصريح بالسماع في كل موضع؛ لأن:(عن) حينئذ ظاهرها الاتصال، وهو الأصل فيها، فلو اختل شرط من تلك الشرائط تخلف هذا الظهور. والمثال الذي ذكره ابن عبد البر يحتاج إلى إيضاح:

روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي، عن ابن المبارك، عن ثور بن يزيد قال: حُدِّثْتُ عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر خفيه وباطنهما.

ورواه الوليد بن مسلم عن ثور، عن رجاء بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة به مرفوعا.

فأعلَّ أحمد والبخاري وأبو زرعة والترمذي وغير واحد رواية الوليد برواية ابن المبارك، والذي صنعه الوليد هو إبدال صيغة:"حُدِّثْتُ" بين ثور وحيوة بصيغة: "عن"، وزاد ذكر المغيرة، فوصل الإسناد.

والذي يعنينا هنا هو قضية الإبدال، فأقول:

لفظة: "حُدِّثْتُ" صريحةٌ وظاهرة في الانقطاع، أما لفظة:"عن" فكما سبق أن الأصل في استعمالها الاتصال بالشروط المذكورة، فإذا اختل شرط منها لم يُقطع بالانقطاع، بل فَقدت ظهور الاتصال، فهي على الاحتمال، والتردد في ذلك كافٍ في التوقف في الخبر أو حتى رده إلى أن يثبت الاتصال.

فالذي صنعه الوليد هو إبدال ما هو صريح في الانقطاع بما هو محتمل أو ظاهر في الاتصال بشروطه، وهذا شبيا جدًّا -بل هو هو- بتدليس التسوية؛ لأن صيغة "حُدِّثْتُ" عِوَضٌ عن ذكر الواسطة، فأسقطها الوليد بقوله:"عن"؛ لأنها ليست صريحة في ذكر الواسطة.

ص: 475

ومما يؤكد ما ذكرتُ أن قضية الإبدال هنا ليست هي لصريحٍ في الانقطاع بظاهرٍ في الاتصال مطلقا، أن ثور بن يزيد لا يكاد يُعرف بالرواية عن رجاء بن حيوة إلا في هذا الحديث، وخبر آخر موقوف، قد خولف في إسناده فيه كما في:"سنن" الدارقطني (3/ 309) و"سنن" البيهقي (7/ 447) وإن جاء فيه تصريحه بالسماع من رجاء بن حيوة، والحديث قال فيه أحمد: هذا حديث منكر.

ص (114 - 115):

كلام الشافعي يشتمل قبول الحديث المعنعن بشروط ثلاثة - هي كما سبق في كلام ابن عبد البر: العدالة واللقاء والبراءة من التدليس، فحينئذٍ يستوي "سمعت فلانا" و"عن فلان"

وكلام العوني فيه ما فيه.

(116 - 117):

أقول:

كلام الحميدي الذي نقله الخطيب في "الكفاية"(ص 24) عليه مناقشات.

من ذلك:

1 -

الاكتفاء بمعرفة شيخه الثقة لمن روى عنه، وإن لم يعرفه هو، فيكفيه ثبوته عند من حدثه. فقد قال الحميدي في صفة الحديث الذي يثبت وتلزم الحجة به: "

أو يكون حديثا متصلا حدثنيه ثقة معروف عن رجل جهلته وعرفه الذي حدثني عنه، فيكون ثابتا يعرفه من حدثنيه حتى يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. ".

فيكتفي الحميدي بمجرد معرفة شيخه الثقة لمن روى عنه، ولم ينص على كون شيخه وثَّقَهُ، بل يعرفه، والمحققون لا يرون في قول الراوي:"حدثني الثقة" حجةً في قبول خبره، فكيف إذا كان يعرفه فقط؟

ص: 476

2 -

قوله: "وإن لم يقل كلُّ واحدٍ ممن حدثه: سمعت أو حدثنا حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أمكن أن يكون بين المحدث والمحدث عنه واحد أو أكثر؛ لأن ذلك عندي على السماع لإدراك المحدث من حدث عنه حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولازمٌ صحيحٌ يلزمنا قبوله ممن حمله إلينا إذا كان صادقا مدركا لمن روى ذلك عنه

فهذا الظاهر الذي يحكم به، والباطن ما غاب عنا من وهم المحدث وكذبه ونسيانه وإدخاله بينه وبين من حدث عنه رجلا أو أكثر، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يكون ذلك على خلاف ما قال، فلا نُكَلَّفُ علمُه إلا بشيء ظهر لنا، فلا يسعنا حينئذ قبولُه لما ظهر لنا منه. اهـ.

أقول:

أولًا: لم يتعرض الحميدي لبراءة الرواة من التدليس، وهو الحد الأدنى عند الجميع، وعليه فهذا إطلاق لم يقل به أحد فيما أعلم.

ثانيًا: قوله: "وإن أمكن أن يكون بين المحدث والمحدث عنه واحد أو أكثر

والباطن ما غاب عنا

لما يمكن أن يكون ذلك على خلاف ما قال

".

أقول:

من أجل هذا الإمكان احتاط المحققون ووضعوا قواعد لنقد الأسانيد ونصبوا شروطا لقبول الأخبار، ولم يتركوا سبيلا لهذه "الإمكانات" أو "الاحتمالات" إلا أغلقوه، سوى القليل النادر مما لا يغيب أمره عن مجموع النقاد.

ولو فُتح البابُ لهذا الإمكان وهذا الباطن، ورُكن إلى ذلك لما اطمأن ناقدٌ لخبر. وهذا لا يتنافى مع كون هذا العلم إنما هو بغلبة الظن، لكنه الظن الغالب والراجح الذي هو مناط التكليف في كثير من العلوم.

ففي مسألتنا هذه شُرط لقبول الإسناد المعنعن:

ص: 477

1 -

عدالة الرواة؛ لإخراج كل مَنْ مِنْ شأنه الوقوع في الخطأ عمدا أو سهوا.

2 -

البراءة من التدليس؛ لإخراج مَنْ يروي عمَّن سمع منه ما لم يسمع؛ مُوهما السماع منه.

3 -

تعاصر الراويين؛ لإخراج مَنْ يروي عمَّن لم يدركه، أو أدركه في سِنٍّ لا تحتمل.

4 -

لقاء الراوييْن، ولو مرة، أو يَرد سماعه له من طرق محفوظة تقوم بها الحجة؛ لاستبعاد احتمال أن يروي عمن لم يلقه أو لم يسمع منه قط، وهو المعروف عند الأكثر بالإرسال، فإذا ثبت هذا لم يضره أن يقول بعد ذلك:"عن"؛ لأن الفرض أنه غير مدلس، وهذا هو الشرط الذي نازع فيه مسلم.

5 -

ألَّا توجد دلائل وبينات على عدم اللقاء أو السماع؛ تحرزا من دخول الوهم أو الخطأ فيما جاء صريحا في الدلالة عليهما.

ولذا، وجب التفتيش عمَّا مِن شأنه أن يكون وإلا على عدم اللقاء أو السماع، أو مُغَلِّبا للظن بذلك قبل الحكم بالاتصال؛ لأن هذا من لوازم الشروط: أن تُستوفى أولًا قبل الحكم بمقتضاها.

ص (117 - 121):

قول الخطيب في "الكفاية"(ص 291):

"أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث: حدثنا فلان عن فلان صحيح معمول به:

(1)

إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه.

(2)

ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس.

ص: 478

(3)

ولا يُعلم أنه يستجيز إذا حدثه أحد شيوخه عن بعض من أدرك حديثا نازلا فسمى بينهما في الإسناد مَن حدثه به أن يُسقط ذلك ويروي الحديث عاليا، فيقول: حدثنا فلان عن فلان، أعني الذي لم يسمعه منه؛ لأن الظاهر من الحديث السالم رواية مما وصفنا الاتصال، وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده".

ثم أسند الخطيب إلى الشافعي قوله الذي سبق التعليق عليه، وهو:

"

وكان قول الرجل: سمعت فلانا يقول: سمعت فلانا، وقوله: حدثني فلان عن فلان سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه، فمن عرفناه بهذا الطريق قبلنا منه: حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا

".

فأقول:

نَقْلُ الخطيب للإجماع المذكور مشتملا على الإدراك واللقاء والسماع هو كلمة اتفاق في حمل الإسناد المعنعن على الاتصال، سوى القول الشاذ بلزوم التصريح بما يدل على السماع في كل موضع.

وما استشهد به الخطيب من كلام الشافعي في قوله:

"لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه

" يسير في نفس المضمار، وسبق تكلف العوني في توجيه تلك العبارة.

وتبقى الحالة التي ذكرها مسلم ونقل عليها الإجماع أيضا، وهي عدم تحقق اللقاء أو السماع، وهذه لم يتعرض لها الخطيب في هذا الموضع، أما قوله في (ص 289):

"وأما قول المحدث: قال فلان، فإن كان المعروف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه جعل ذلك بمنزلة ما يقول فيه غيره: ثنا، وإن كان ربما يروي سماعا وغير سماع لم يحتج من رواياته إلا ما بين الخبر فيه".

ص: 479

فهذا أعَمُّ من أن يكون ثبت سماعُه ممن روى عنه أم لا، وتعينُ أنه لم يثبت سماعه حتى يقال إن الخطيب هنا يوافق مذهب مسلم تكلفٌ وتحكمٌ، فالتشبث به سراب، وليس هذا موطن تحرير هذه القضية عند الخطيب.

ص (122):

سبق الجواب عن دعوى عدم صلاحية "صحيح" البخاري دليلا على اشتراط العلم باللقاء.

ص (123):

مناقشة الأمثلة التي ضربها العوني للدلالة على اكتفاء البخاري في "صحيحه" بالمعاصرة دون اشتراط ثبوت اللقاء أو السماع.

المثال الأول:

حديثا أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه:

الأول: حديث: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(5027).

والثاني: حديث حصار عثمان، وما فيه من قصة حفر بئر رومة، وتجهيز جيش العسرة (2778).

أقول:

قد صرح البخاري في "تاريخيه" المطبوعين بسماع أبي عبد الرحمن من عثمان، بالإضافة إلى علي وابن مسعود.

مع أنه قد قال شعبة: لم يسمع أبو عبد الرحمن من عثمان ولا من عبد الله، ولكن قد سمع من علي، روى هذا الدوري في "تاريخه"(3180) عن يحيى بن معين عن حجاج عن شعبة.

ص: 480

ورواه ابن الجنيد في "سؤالاته"(603) عن ابن معين نفسه، ثم قال:"وأظن يحيى ذكر هذا عن شعبة". ولم يشك الدوري، بل جزم بأنه من نقل ابن معين عن شعبة، فنسبة هذا القول لابن معين -كما فعل العوني- غير دقيقة.

نعم، نَقْلُ ابن معين وسكوتُه يُفيد الموافقة في الجملة، وإلا لبيَّن مخالفته في ذلك، كما هي عادة النقاد، كما فعل أحمد فيما رواه عنه الأثرم أنه لما ذكر قول شعبة: لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان ولا من ابن مسعود، لم يُنكر، وقال: دَعْ عبد الله، فإني تركته، أراه وهما. "مراسيل" ابن أبي حاتم (107 - 108).

ويؤكد أحمد ذلك الوهم بقوله -كما نقله عنه ابنه في "العلل ومعرفة الرجال"(4506) -: "

وقرأ أبو عبد الرحمن (يعني السلمي) على عبد الله، وكان قارئا للقرآن

".

وقال ابن أبي حاتم عن أبيه في كتاب "الجرح"(5/ 37): "روى عن عثمان وعلي وابن مسعود، روى عن عمر مرسل"، فلم يجزم هاهنا بالانقطاع إلا بين أبي عبد الرحمن وعمر، وكذا جزم ابن معين بعدم سماعه من عمر.

وقال أبو حاتم في "المراسيل"(106): "ليس تثبت روايته عن علي، فقيل له: سمع من عثمان بن عفان؟ قال: روى عنه، لا يذكر سماعا". اهـ.

وقد أخرج البخاري لأبي عبد الرحمن السلمي عن علي عدة أحاديث، جاء التصريح بسماعه منه في واحد منها (3081)(6939).

ومسلم لم يخرج لأبي عبد الرحمن عن عثمان شيئا، إنما خرج له عن علي في عدة مواضع.

والمقصود هنا ما يلي:

1 -

لم يعتمد البخاري في تصحيح حديثيّ أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان على المعاصرة وحدها كما زعم العوني، وإلا لصحح كثيرا من الروايات المشابهة،

ص: 481

ولأورد الباحث لذلك عشرات النظائر، لا أربعة نماذج لا يصفو له منها شيء، وهذا خلاف ما عرف من طريقة البخاري ومذهبه، فكم أعرض عما صححه غيره من أجل هذا الشرط.

والذي يقتضيه جزم البخاري بسماع أبي عبد الرحمن من عثمان في "تاريخيه" أنه وقف على دليل أو أكثر، أو قرائن تبلغ مبلغ الأدلة على ثبوت ذلك السماع.

2 -

هناك فرقٌ بين أن يصرح مثل البخاري بسماع راوٍ من آخر، وبين أن يصحح تلك الرواية لقرائن احتفت بها.

3 -

لم ينفرد البخاري بمخالفة قول شعبة فيما يتعلق بسماع أبي عبد الرحمن السلمي من المذكورين، فقد خالفه أحمد في سماعه من عبد الله بن مسعود كما مَرَّ، وخالفه أبو حاتم في روايته عن علي، ومسلم يظهر أنه وافقه في أنه لم يسمع من عثمان - فلم يخرج له عنه شيئا، ووافقه في سماعه من علي كما فعل البخاري، والبخاري قد خالفه في سماعه من عثمان، ووافقه في علي، وخالفه في ابن مسعود فصرح بسماعه منه، إلا أنه لم يخرج لأبي عبد الرحمن عنه شيئًا.

4 -

يدل هذا على أن القضية في هذا المثال وأكثر الأمثلة الآتية في كلام العوني إنما هي قضايا خلافية اجتهادية، يُثبت البخاري فيها سماعَ راوٍ من آخر وينفيه غيره، وهناك كثير من النماذج -بل هي الغالبة- على عكس ذلك؛ ينفي البخاري أو يتوقف في سماعٍ يُثبته غيره، وذلك بحسب ما يتوفر لكل ناقد أو إمام من دلائل ثبوت السماع، كما يختلفون في توفر شروط العدالة والضبط.

المثال الثاني:

حديث عروة بن الزبير، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:"إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك، والناس يصلون"(1619)(1626).

ص: 482

ذكره الدارقطني في "التتبع" وقال: "هذا مرسل" وبيَّن أنه روي من طريق عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة.

وقال الطحاوي في "بيان مشكل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم": "عروة لا نعلم له سماعًا من أم سلمة".

أقول:

لي على هذه الرواية بعض الملاحظات:

أولًا: أخرج البخاري في "صحيحه" عدة أحاديث، جميعها من طريق عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة ومنها هذا الحديث في السياق الأول، ولم يخرج هذا الإسناد بدون ذكر زينب إلا في السياق الثاني من هذا الحديث.

ثانيًا: عروة لم تشتهر روايته عن أم سلمة وله عنها في الكتب أحاديث ربما لا تزيد على السبعة، ليس في شيء مما وقفت عليه ما يدل على السماع، بل في بعضها صيغ ظاهرها الحكاية عن قولها لا الرواية عنها، مثل: قالت أم سلمة.

ثالثًا: جُلُّ أحاديث عروة عن أم سلمة إنما هي بواسطة زينب بنت أبي سلمة، وبعضها بواسطة عائشة، أخرج منها البخاري حديثين أو ثلاثة.

رابعًا: لم يتعرض البخاري في "تاريخيه" المطبوعين لرواية عروة عن أم سلمة، فضلًا عن السماع منها.

خامسًا: خرج البخاري حديث عروة، عن زينب، عن أم سلمة بلفظه تامًّا في باب (64): طواف النساء مع الرجال، رقم (1619)، ثم خرجه في باب (71): من صلى ركعتي الطواف خارجًا من المسجد، رقم (1626) مصدرًا به الباب، ولم يُتم لفظه، بل ذكر صدره فقط، ثم عطف عليه (1627) رواية عروة عن أم سلمة تامًّا.

ص: 483

ولفظ الرواية الأولى ليس فيه محل الشاهد للتبويب، فلم يتمه، وساق الرواية الثانية بلفظها المشتمل على موضع الحاجة منها، وهي قوله:"فلم تُصلِّ حتى خرجت".

والملاحظ أن الرواية الأولى مسندة إلى أم سلمة من قولها، أما الثانية فحكاية عما دار بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن فعلها.

وصنيع البخاري في اكتفائه بصدر الرواية الأولى، وعطف الأخرى عليها تامَّة يقتضي أنهما عن قصة واحدة، الأولى مسندة من لفظ أم سلمة، والثانية حكاية عن فعلها.

سادسًا: احتياط البخاري وتوقِّيه المعروف عنه يقضي باعتماده في الباب على الإسناد الأول، وهو الإسناد المشهور المتفق على اتصاله، والذي أكثر من الاحتجاج به في "صحيحه"، لكن لما لم يكن فيه ما احتاج إليه صريحا منصوصا عليه في معنى التبويب، تجوَّز في إيراد اللفظ التامّ المحتوي على موضع الحاجة بإسناد محتمل، أخرج أصله قبل ذلك.

وقد صنع البخاري شبيها بهذا في كتاب الصلاة، ففي باب: الصلاة على الفراش، أخرج البخاري (383) حديث عروة، أن عائشة أخبرته، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة. ثم أعقبه (384) برواية عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة على الفراش الذي ينامان عليه.

قال الحافظ في الرواية الثانية: "صورة سياقه بهذا الإرسال، لكنه محمول على أنه سمع ذلك من عائشة بدليل الرواية التي قبلها، والنكتة في إيراده أن فيه تقييد الفراش بكونه الذي ينامان عليه بخلاف الرواية التي قبلها فإن قولها: "فراش أهله" أعم من أن يكون هو الذي نام عليه أو غيره".

ص: 484

أقول:

المثالان قريبا الشَّبَه، والفرق أن حديث الصلاة ظاهر الإرسال بخلاف حديث الحج، وقد قال الحافظ:"سماع عروة من أم سلمة ممكن؛ فإنه أدرك من حياتها نيفا وثلاثين سنة، وهو معها في بلد واحد"؛ ولذا لم يقل الحافظ هنا ما قاله في حديث الصلاة "لكنه محمول على أنه سمع ذلك من زينب بنت أبي سلمة".

وعندي أنه ينبغي قول ذلك، فمن المعطيات الست السابقة وغيرها يظهر لي أن البخاري لم يورد حديث يحيى بن أبي زكريا الغساني أبي مروان، عن هشام، عن عروة، عن أم سلمة من أجل أنه يرى أن عروة سمع من أم سلمة، ولكن اعتمادا -كما سبق بيانه- على أن الرواية عند عروة، عن زينب، عن أم سلمة، ولكنه احتاج إلى حكاية عروة للحديث عن فعل أم سلمة للموضع الذي سقناه آنفًا.

يؤيد ذلك أن النسائي لما أعلَّ رواية عروة عن أم سلمة أعلها بأنه لم يسمعه منها، وإنما سمعه من زينب عنها، ثم ساقه من طريق مالك عن أبي الأسود، عن عروة به، فحمل رواية عروة عن أم سلمة على أنه سمعها من زينب عنها، كما يدل عليه صنيع البخاري.

أما الدارقطني فقد أعله بالإرسال، وتتبَّع في ذلك البخاريَّ آخذًا عليه إخراجه في "الصحيح"، وذكر أن حفص بن غياث رواه عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أيى سلمة، عن أمها أم سلمة، فوصله من طريق هشام عن عروة، لكن المحفوظ من رواية جماعة عن هشام إنما هو بدون ذكر زينب، كما قال الحافظ.

ومن تدبر صنيع البخاري ظهر له أنه لا يلزمه بإيراده رواية عروة عن أم سلمة اعتراضٌ ولا انتقاضٌ، على ما شرحناه سابقا.

ولا يتوجه أو يسوغ حملُ إيراده تلك الرواية على أنه يكتفي في ثبوت الاتصال بالمعاصرة، ولو كان ذلك يحتمل ولو من وجه بعيد لاكتفى البخاري بإيراده

ص: 485

إسنادا ومتنا في الباب المعقود لأجله، وما الذي ألجأه إلى تصدير الباب برواية عروة عن زينب دون أن يسوق لفظها الذي لا يشتمل على موضع الشاهد منه؟!

هذا ما عَنَّ لي، والله تعالى من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.

ص (127):

المثال الثالث:

حديث قيس بن أبي حازم، عن بلال بن أبي رباح، أنه قال لأبي بكر:"إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله".

رقم (3755).

قال العوني:

"وقد قال علي بن المديني في "العلل": "روى عن بلال ولم يلقه". فلما أراد العلائي الدفاع عن ذلك قال: "في هذا القول نظر؛ فإن قيسا لم يكن مدلسًا، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة بها مجتمعون، فإذا روى عن أحدٍ: الظاهرُ سماعُه عنه".

وبنحو ذلك دافع خالد الدريس عن هذا الحديث في "صحيح" البخاري، مضيفا أنه حديث موقوف، وفي باب المناقب. وبذلك نرجح أن البخاري اكتفى في إخراجه لهذا الحديث بشرط مسلم". انتهى ما قاله العوني.

أقول:

هكذا ساق العوني طرف إسناد الحديث: قيس بن أبي جازم، عن بلال بن أبي رباح، أنه قال لأبي بكر

والذي في "الصحيح"(3755): "قيس أن بلالًا قال لأبي بكر

" وبينهما فرق؛ فالأُولى صريحةٌ في الرواية عن بلال نفسه، وهي تقتضي الاتصال بالشروط التي ذكرناها آنفا، والثانية حكاية عن القول المذكور، ولا تُحمل بظاهرها على الاتصال، حسبما جرى عمل النقاد في التفريق بين "عن" و"أن" كما سبق التنبيه عليه في غير موضع.

ص: 486

والمقصود أن سياق إسناد الصحيح لا يُعد من مسند قيس عن بلال، وإنما يَحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون قيس قد حضر ذلك الموقف فحكى ما شاهده وسمعه بناء على لقائه لأبي بكر وسماعه منه وروايته عنه، وقد أثبت له السماع منه: ابن المديني نفسه، وقد ثبت التصريح بسماعه منه وحضور مجلسه في غير موضع، بل قد قيل: إن أصح الأسانيد إلى أبي بكر هو: إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن أبي بكر.

الثاني: ألا يكون شهد ذلك، وإنما بلغه؛ إما حدَّث به أبو بكر في حضوره، أو جرى ذكر ذلك في مجلسه، أو حدَّثه أحدٌ ممن حضروا ذلك القول، فأرسله.

وقد ذكر الطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 356) ما رواه قيس بن أبي حازم عن بلال فذكر حديثين غريبين:

أحدهما: بلفظ: عن بلال يرفعه

والثاني: عن بلال أنه رأى رجلا

ولم يذكر هذا الحديث، وقد ذكره في ترجمة بلال (1/ 337) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن أبي أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم بلفظ: قال بلال لأبي بكر حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم

وبمثل هذا اللفظ أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 238) عن محمد بن عبيد الطنافسي، عن إسماعيل به.

وقوله: "قال بلال" هو نحو "أن بلالا قال"، وكلاهما غير صريحين في الاتصال على ما بيَّنا.

واستظهر الحافظ بلفظ أحمد: "حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم" على أن ذلك القول كان في خلافة أبي بكر، يعني بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يُلمح إلى وقوع ذلك حال وجود قيس في المدينة على المشهور من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيس في طريقه إليه، فلم يدركه.

ص: 487

والمراد أن سياق البخاري لهذا الحديث في هذا الموطن إن كان على الاحتمال الأول الذي ذكرناه آنفا، وهو حضور قيس لذلك الموقف وشهوده إياه، فالأمر على السلامة والجادّة، فلا إشكال، وليس بممتنع أن يختلف البخاري مع شيخه ابن المديني في مثل هذا، فإن مقتضى إثبات ابن المديني سماع قيس من أبي بكر ونفي لقاءه لبلال أنه يرى عدم حضوره ذلك الموقف.

وعلى كل حالٍ فالأصلُ عدم ثبوت اللقاء أو السماع حتى تأتي بينةٌ عليه، ولذا فالاحتمال الأول لا تُساعد عليه الأدلة، ووجب العمل بكلام ابن المديني في ذلك؛ لأنه لم ينهض دليلٌ أو قوله يخالفه، وسياق البخاري للإسناد ظاهره الإرسال كما بيناه سابقا.

وإن كان على الاحتمال الثاني -وهو الأقرب- فقد تجوز فيه البخاري بإيراده في كتاب المناقب، وليس فيه حُكمٌ، ولا ما يُحتاج فيه إليه وحده.

وأمَّا أنَّ البخاري بإخراجه لهذه الرواية بهذا السياق يرى سماع قيس من بلال؛ اكتفاءً بمطلق المعاصرة، فهو خطأ يكشفه ما سبق إيضاحه، والله تعالى الموفق.

ص (127):

المثال الرابع: حديثا عبد الله بن بريدة عن أبيه، وقد سبق النظر في ذلك، فليراجعه من شاء.

ص (128):

احتجاج العوني بأن هناك مجموعة من الأسانيد نُفي سماعُ بعض رواتها من شيوخهم، وهي في "صحيح" البخاري، والنُّفاة للسماع أمثال: أبي داود، وأبي حاتم الرازي، والعقيلي، والإسماعيلي، والدارقطني، وغيرهم، بقوله: لو كان متقررًا عندهم أن البخاري يشترط العلم بالسماع لما تجرءوا على انتقاد بعض أحاديث "صحيحه" بعدم السماع

ص: 488

أقول:

هذا احتجاجٌ في غاية السقوط؛ لأنه لا يَعْدُو أن يكون ذلك اختلافا في الاجتهاد والنظر.

"وعدم التجرؤ" الذي يصوره العوني هو اختراعٌ حادث ابتدعه بعض المتأخرين، ليس له أثرٌ عند متقدمي الأئمة والنقاد ممن عاصروا البخاري أو جاءوا بعده إلى زمن الخطيب فلم يُؤثَر عن أحدٍ من المعتبَرين منهم التوقفُ عما يراه مخالفا لرأي البخاري أو صنيعه من أجل أنه وضعه في "صحيحه".

وأقوال هؤلاء، والكُتب التي صنفها بعضهم في هذا الصدد، تشهد على ذلك، فالناقد يخبر عن رأيه في الرواة: عدالةً وضبطا وسماعا، وفي الأخبار: قبولا وردًّا، بغض النظر عن رأي غيره وشرطه كائنا من كان.

ولا يتهيأُ هذا ولا ينبغي لِكُلِّ أَحَد، ولكل مقامٍ رجال، والأمر يدور مع الدلائل والبينات، ولا علاقة لهذا الباب بـ "الأدب العلمي" الذي هَوَّل به العوني.

ولو صدقتْ تلك التوهمات، ما جرؤ!! أحدٌ من النقاد على الطعن أو الجرح في راوٍ خرج له البخاري في "صحيحه"، وكذلك مسلم، أو على إعلال حديث خُرج فيهما؛ لأن الفرض أنهما ينتقيان رجال "صحيحيهما" وأحاديثهما، فالطعن في أحدهما "سوء أدب" مع صاحب "الصحيح"، وعدم وثوق باجتهاده ونظره.

والحقُّ أن شأنَ أهل العلم عند أنفسهم أجلُّ من ذلك.

فمقاماتُ أئمة النقد، ومن أجلِّهم البخاري، محفوظةٌ، ومراتبُهم في هذا الفنِّ معلومةٌ، ولم يُتهم أحدٌ من المتقدمين بمخالفته لشيخه أو من تقدمه بسوء أدب أو نحوه، وكُلٌّ يُؤخذ من قوله ويُرَدُّ ولا يُضرب كلامُ أهل العلم بعضه ببعض، ولا يُلزم أحدُهم بقولِ آخر، بل تُجرى قواعدُ الفن في كل موضع. والله تعالى أعلم.

ص: 489

ص (130):

الدليل الحادي عشر: احتجاج البخاري في "صحيحه" بالمكاتبة والمناولة المقترنة بالإجازة، بل واحتجاجه بالوجادة.

أقول:

أما المكاتبة والمناولة المقترنة بالإجازة فلا إشكال فيهما، بل هما مما اتفق غالب أهل العلم على الاحتجاج بهما، وهو المشهور المعتمد المعمول به.

وليس ثمة علاقة بين الاحتجاج بهاتين الوسيلتين من وسائل التحمل وبين عدم اشتراط العلم بالسماع؛ لأنهما كافيان في الاتصال، وهو المراد، فبأي وسيلة ثبت مما يُحتج به واعتُبر عند النقاد: أَغْنَى ذلك عن الشرط المعهود للاتصال، وهو العلم بالسماع.

وأما الوجادة، فقد اختُلف في الاحتجاج بها، ووضع المحتجون بها شروطا لذلك، لكن لم يثبت أن البخاري احتج بها، والمثال الذي ذكره العوني قد وصفه الدارقطني بالمكاتبة، وأيَّده الحافظ في مقدمة "فتح الباري"(ص 380) وهو الصحيح.

ص (132):

الدليل الثاني عشر: اكتفاء البخاري بالمعاصرة في نصوص صريحة عنه.

1 -

سأل الترمذيُّ البخاريَّ كما في "ترتيب العلل الكبير"(2/ 632) عن حديثٍ لعطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي قائلا:"أترى هذا الحديث محفوظا؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم". اهـ.

أقول:

الحديث هو: "ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة" وهو من رواية زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وهذا الحديث لا يُعرف إلا من حديث زيد بن أسلم، كما قال الترمذي في "الجامع"(1480).

ص: 490

وقد اختلف عليه فيه؛ فرواه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن عطاء، عن أبي واقد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإسناد الذي سأل الترمذي البخاري عنه.

ورواه المسور بن الصلت وخارجة بن مصعب، عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه سليمان بن بلال، عن زيد، عن عطاء بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

ورواه هشام بن سعد، عن زيد، عن ابن عمر.

وهو اختلاف مشهور، حكاه غير واحد من الحفاظ، وهذا هو محل سؤال الترمذي للبخاري: هل المحفوظ من رواية زيد بن أسلم أنها عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي؟ على اعتبار أن للحديث عن زيد بن أسلم أسانيد أخر على ما ذكرنا.

فَرَدَّ البخاريُّ عن السؤال بالإيجاب؛ أي أن هذا الوجه محفوظ.

وقد خولف البخاري - فيما نقله عنه الترمذي هنا.

فرجح الدارقطني المرسل بقوله: "المرسل أشبه" كما في "علله"(1152).

وحكى البزار الأوجه الثلاثة الأُوَل، وقال: المسور لين الحديث، وقد روى عنه جماعة من أهل العلم، وعبد الرحمن بن عبد الله بن دينار فليس بالقوي في الحديث -"نصب الراية"(4/ 378) - ولم يذكر رواية سليمان المرسلة بشيء فكأنه يميل إلى تقويتها.

وخرج أبو نعيم في "الحلية"(8/ 251) رواية يوسف بن أسباط، عن خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال:"تفرد به خارجة فيما أعلم عن أبي سعيد، ورواه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن عطاء، عن أبي واقد الليثي، وهو المشهور الصحيح". اهـ.

ص: 491

هذا مما وقفت عليه بشأن ذلك الخلاف، وكلامِ بعض الحفاظ عليه، ولست بصدد النظر في الراجح من ذلك، ولكن الشأن الآن هو تقرير أن البخاري حكم فيما رواه عنه الترمذي في كتاب "العلل" بأن طريق عبد الرحمن بن عبد الله هذا محفوظ، وليس بمنكر أو خطأ، وليس هذا من قبيل الحكم على ذلك الإسناد بالصحة المشتملة على جميع مفردات الشروط المعتبرة المعروفة.

ولو كان مقتضى جواب البخاري على ما يفهمه كثير من المتأخرين في معنى المحفوظ في مثل هذا الموطن: أنه حكم على الإسناد بالصحة والقبول مطلقا، لما احتاج الترمذي إلى السؤال عن إدراك عطاء بن يسار لأبي واقد الليثي؛ لأنه حينئذٍ يكون البخاري قد أجاب ضمنا عمَّا هو أبعد من الإدراك وهو السماع، هذه واحدة.

الثانية: أن سؤال الترمذي عن الإدراك وليس السماع يشير إلى أن الإدراك كان عنده فيه بُعْدٌ أو غموض، ولذا فقد دفع البخاري عنه هذا الإشكال بأن الإدراك ليس بخافٍ؛ إذ كان عطاء قديما، وهو استدلال تاريخي بَحْت، ولم يتعرض البخاري لقضية السماع.

لكنَّ العوني قد رَكَّبَ من مجموع أمرين:

الأول: حُكْم البخاري على هذه الرواية بأنها محفوظة، ومقتضى ذلك عند العوني تصحيحها.

الثاني: إخباره بإدراك عطاء بن يسار لأبي واقد الليثي.

فَبَنَى الباحثُ على تصحيح البخاري لروايةٍ لم يزد فيها على الإخبار بإدراك بعض رواتها لبعض: أن البخاري يكتفي بالمعاصرة.

وهذا تركيبٌ وبناءٌ مغلوطٌ، ومجازفة، على ما بينا مقصودَ البخاري بكل من الأمرين فيما سبق، والله تعالى الموفق.

ص: 492

2 -

قال البخاري في "الأوسط": حدثني عبدة قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني، قال: سمعت يوسف بن عبد الله بن الحارث: كنت عند الأحنف بن قيس، وهو يوسف ابن أخت محمد بن سيرين.

وعبد الله أبو الوليد -وهو ابن الحارث والد يوسف- روى عن عائشة وأبي هريرة ولا نُنكر أن يكون سمع منهما؛ لأن بين موت عائشة والأحنف قريب من اثنتي عشرة سنة. اهـ.

أقول:

هذه قرينة تاريخية على عدم إنكار السماع لأجل احتمال سن الراوي للسماع من شيخه، لكن لم يجعل البخاري تلك القرينة- وهي الإدراك أو المعاصرة- قاضيةً بثبوت السماع، وعدمُ إنكار السماع لا يستلزم ثبوته.

بيان ذلك أن إنكار السماع يحتاج إلى دليل خاص؛ كعدم الإدراك، وهذا يثبت بالتاريخ، أو استحالة اللقاء؛ كتباعد البلدان مع عدم هجرة أحد الراويين إلى بلد الآخر، أو تصريح خاص بعدم السماع ممن تقوم الحجة بنفيه في ذلك، فإذا لم يوجد شيء من هذا ونحوه، لم يَسُغْ للناقد إنكارَ السماع أو نفيه، ولكنه أيضا يتوقف في إثباته حتى تتوفر الشرائط المعتبرة عنده في ذلك.

ص (134 - 139):

الدليل الثالث عشر: اكتفاءُ جمعٍ من الأئمة بالمعاصرة.

الجواب عن ذلك بإجمالٍ أُلَخِّصُه في النقاط التالية:

الأولى: عدم إنكار السماع، أو إثبات احتمال اللقاء بالنظر في سن الراوي وشيخه، أو مقارنة سن بعض من ثبت لقاء الراوي لهم بمن هو محل البحث في لقائه وسماعه منه، فهذا مما تختلف فيه أنظار الأئمة النقاد، وتتباين فيه اجتهاداتهم، ويتبادلون احتمال اللقاء ونفيه، وكذا السماع في أحوال متشابهة للرواة، ولكل مقام مقال.

ص: 493

وليس لكل واحد من النقاد طريقة مطردة في ذلك، بل لكل حالة نظر خاص، فمن ترجح له من الأئمة لقاءُ راوٍ لشيخٍ أو سماعُه منه بقرائن معتبرة، بَنى على هذا الرجحان ميلَه إلى تقوية الاتصال، ومن لم يترجح له ذلك منهم بَنى على الأصل في نفيه أو على الأقل توقفه فيه.

الثانية: قد تكون تلك القرائن عند الإمام أقوى من مجرد مجيء التصريح باللقاء أو السماع في رواية، صحَّت أم لم تصح، ومن المعلوم أن هذا النظر خاص بأئمة النقد لتوفر الملكات والأدوات اللازمة لهذا، فإن كانوا مع ذلك ربما اختلفوا في بعض الحالات، كان ذلك أَدْعَى لاحتياط مَن بعدهم، والتأني في الخوض في ذلك.

الثالثة: ميل الإمام إلى تقوية أو ثبوت اللقاء أو السماع للقرائن التي يراها ليس هو من باب الاكتفاء بمطلق المعاصرة في ثبوت الاتصال، وإلا لاستفاض ذلك وانتشر، وإذا عُرفت نسبة تلك الحالات إلى نسبة ما نُفي فيه اللقاء مع ظهور تحقق المعاصرة أو ما نُفي فيه السماع مع تحقق اللقاء: عُلم أن ما ذكره العوني عن أمثال ابن المديني، وأحمد، وابن معين، وأبي حاتم، وأبي زرعة، وغيرهم هو من قبيل النادر الذي احتفت به قرائن لم تتوفر لغيره عند القائل به، ومع ذلك فقد عبَّرُوا عن ذلك بعباراتٍ احتمالية يظهر فيها الميلُ دون الجزم، وكذلك فإنهم لم يتفقوا عليه، بل لم يقنع آخرون بتلك القرائن، فنفوا اللقاء أو السماع.

بهذا يتبين وهاءُ الاحتجاج بتلك المواضع التي تحيطها قرائن وملابسات ليس هذا موطن شرحها، والله تعالى الموفق.

ص (144).

الدليل الرابع عشر:

كتاب العوني: "المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس" يحتاج إلى وَقْفة، ليس هذا موضعها، لكني أقول هنا:

ص: 494

الأبحاث الاصطلاحية النظرية متى كانت نتيجتها شاذَّةً عن غالب تصرفات أهل الاصطلاح، فإن تلك الأبحاث تنادي على نفسها حينئذٍ بالشذوذ والهجران.

والعبرة ليست بالمسميات أو الإطلاقات، وإنما بحقائق الأمور.

وهاهنا سؤال يفرض نفسه ويتعين الجواب عنه:

ما هو الشرط الذي نعاه مسلم على مخالفه في قضية الإسناد المعنعن؟

الجواب: أنه شرط اللقاء ولو مرة، والمخالف يتفق مع مسلم في ألا يكون الراوي مدلسًا، ومع ذلك زاد هذا الشرط، فلو كان اشتراط انتفاء التدليس كافٍ في التحرز عن رواية الراوي عمن لم يلقه لما كان لهذا الاشتراط معنى؛ لأن التدليس حينئذٍ يشمله.

لكن لمَّا كان التدليس يُستعمل في غالب اصطلاح أهل العلم على رواية الراوي عمن سمع ما لم يسمع -ولا يمتنع إطلاق البعض أحيانا وصف التدليس على غير ذلك- احتاج المخالف إلى التحرز عن روايته عمن لم يلقه، فاشترط اللقاء ولو مرة.

ولو كان مسلم: يرى أن تلك الصورة داخلة في حَدِّ التدليس، لكفاه أن يرد على المخالف بقوله: قد اشترطت ألا يكون الراوي مدلسًا، وبالتالي فلن يروي عمن عاصره ولم يلقه، ولكنه لم يفعل، وكان هو الأَولى بذلك الجواب من العوني.

ص (146 - 147):

الدليل الخامس عشر:

بدون تعليق!!

ص (148):

المسألة الرابعة:

الأصل الأول: مقتضى "عن" في عرف المحدثين.

ص: 495

أقول:

نعم، الظاهر من استعمال "عن" ليس كالظاهر من استعمال "أن" و"قال"، فهاتان ونحوهما لا يُشعران بالاتصال، بل تُعَلُّ روايةٌ اشتملت على "عن" بأخرى أَوْلَى مشتملة على "أن" بدلا منها، ولو كانا سواء ما أُعِلَّتْ الأولى بالثانية؛ حيث إن الثانية خادشةٌ أو مريبةٌ في الاتصال.

أما "عن" فالمخالف لمسلم لا يقول إنها لا تدل على الاتصال، ولكنه يحتاج لحملها على ذلك إلى ثبوت اللقاء أو السماع ولو مرة واحدة كحد أدنى للتحرز عن الإرسال، ثم هو يحمل "عن" بعد ذلك على ظاهر الاتصال، فلا يفتش عن السماع في الإسناد المعنعن حينئذٍ إلا مع الريبة في بعض المواضع.

فالمخالف يرى أن "عن" جرى عُرف المحدثين على استعمالها في الإسناد المتصل تخففًا من ذكر صيغ السماع في كل موضع، لكن بشرط ثبوت الاتصال بين كل راويين ترد بينهما "عن".

ص (152 - 157):

الأصل الثاني: سبقت الإشارة إليه قريبًا.

قال الفقير إلى الله تعالى:

انتهى هاهنا ما بدا لي التعليق عليه من الكتاب المذكور، والله من وراء القصد، وهو يتولى السرائر، وهو حسبي ونعم الوكيل.

* * *

ص: 496