الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في منزلة السنة من الدين
قال المعلمي في "الأنوار الكاشفة"(ص 21):
* فأما منزلة السنة جُمْلَةً من الدين فلا نزل بين المسلمين ن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين فهو ثابت عن الله عز وجل، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، منها:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وكل مسلم يعلم أن الإيمان لا يحصل إلا بتصديق الرسول فيما بلغه عن ربه، وقد بلغ الرسول بسنته كما بلغ كتاب الله عز وجل.
* ثم تكلم الناس في الترتيب بالنظر إلى التشريع، فمِنْ قائلٍ: السنة قاضية على الكتاب، وقائلٍ: السنة تُبين الكتاب، وقائل: السنة في المرتبة الثَّانية بعد الكتاب، وانتصر الشاطبي في "الموافقات" لهذا القول وأطال.
ومما استدل به هو وغيره قول الله عز وجل: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
قالوا: فقوله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} واضح في أن الشريعةَ كلَّها مُبَيَّنَةٌ في القرآن، ووجدنا الله تعالى قد قال في هذه السورة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. [النحل: 44].
فعلمنا أن البيان الذي في قوله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} غير البيان الموكول إلى الرسول. ففي القرآن سوى البيان المفصل الوافي بيانٌ مجملٌ، وهو ضربان:
الأول: الأمر بالصلاة والزكاة والحج والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، والنهي عن الفحشاء والنكر والبغي، وتحريم الخبائث وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك.
الثاني: الأمر باتباع الرسول وطاعته وأخذ ما آتى، والانتهاء عما نهى ونحو ذلك.
وفي "الصحيحين" وغيرهما من علقمة بن قيس النخعي -وكان أعلم أصحاب عبد الله بن مسعود أو من أعلمهم- قال: "لعن عبد الله الواشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله".
فقالت أم يعقوب: ما هذا؟ قال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله؟
قالت: والله لقد قرأت ما بين اللوحين فبها وجدته.
قال: والله لئن قرأتيه لقد وجدتيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} (1)[الحشر: 7].
* ظاهر صنيع ابن مسعود أن الاعتماد في كون القرآن مبينًا لكل ما بينته السنة على الضرب الثاني.
وتعقيب آية التبيان بالتي تليها كأنه يشير إلى أن الاعتماد على الضربين مجتمعين، ورجحه الشاطبي، وزعم أن الاستقراء يوافقه، فعلى هنا لا يكون للخلاف ثمرة.
* ثم قال قوم: جميع ما بيَّنَهُ الرسول عَلِمَهُ بالوحي.
وقال آخرون: منه ما كان باجتهادٍ، أَذِنَ الله له فيه وأقره عليه.
(1)"صحيح البخاري"(4886)(5931)(5939)(5943)(5948)، ومسلم (2125) ..
ذكرهما الشافعي في "الرسالة" ثم قال (ص 104): "وأي هذا كان فقد بين الله أنه فرض فيه طاعة رسوله
…
".
وبالغ بعضهم فقال: كل ما بلَّغه الرسول فَهِمَهُ من القرآن، ونسبه بعض المتأخرين إلى الشافعي.
فعلى هذا كان القرآن في حق الرسول تبيانا لكل شيء وتفصيلًا، فأما في حق غيره فعلى ما مر، والله الموفق. اهـ.
ثم تعقب المعلمي (ص 23) قولَ بعض المتأخرين:
"والنبي مبين للقرآن بقوله وفعله، ويدخل في البيان: التفصيل والتخصيص والتقييد، لكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق أن السنة لا تنسخ القرآن".
فقال: أقول:
* أما الإبطال ونقض الخبر بمعنى تكذيبه فهذا لا يقع من السنة للقرآن ولا من بعض القرآن لبعض.
فالقرآن كله حق وصدق {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42].
* وأما التخصيص والتقييد ونحوهما والنسخ فليست لإبطال ولا تكذيب، وإنما هي بيان:
1 -
فالتخصيص مثلًا إن اتصل بالخطاب بالعام؛ كأن نزلت آية فيها عموم ونزلت معها آية من سورة أخرى فيها تخصيص للآية الأولى، أو نزلت الآية فتلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وبيَّن ما يخصصها: فالأمر واضح؛ إذ البيان متصل بالمبيَّن، فكان معه كالكلام الواحد.
2 -
وإن تأخر المخصِّصُ عن وقت الخطاب بالعام ولكنه تبعه قبل وقت العمل بالعام أو عنده: فهذا كالأول عند الجمهور، وهذا مرجعه إلى عُرف العرب في لغتهم كما بيَّنه الشافعي في "الرسالة".
3 -
أما إذا جاء بعد العمل بالعام ما صورته التخصيص: فإنما يكون نَسخا جزئيا، لكن بعضهم يُسمي النَّسخ تخصيصا جزئيا كان أو كليا؛ نظرًا إلى أن اقتضاء الخطاب بالحكم لشموله لما يستقبل من الأوقات: عموم، والنسخ إخراج لبعض تلك الأوقات وهو المستقبل بالنسبة إلى النص الناسخ، وهذا مما يحتج به من يُجيز نَسْخَ بعض أحكام الكتاب بالسنة. اهـ.
* * *