الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيهَا: عقد الْمَنْصُور الْعلوِي ولَايَة جَزِيرَة صقلية لِلْحسنِ بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن الْكَلْبِيّ، وَاسْتمرّ يَغْزُو وَيفتح فِي جَزِيرَة صقلية حَتَّى مَاتَ الْمَنْصُور وَتَوَلَّى الْمعز فاستخلف الْحسن على صقلية ابْنه أَبَا الْحُسَيْن أَحْمد بن الْحسن فولاية الْحسن خمس سِنِين وشهران، وَسَار الْحسن عَن صقلية إِلَى إفريقية سنة اثنيتن وَأَرْبَعين وثلثمائة فَكتب بِولَايَة ابْنه أَحْمد على صقلية فاستقر أَحْمد عَلَيْهَا.
وَفِي سنة سبع وَأَرْبَعين وثلثمائة قدم أَحْمد بن الْحسن من صقلية وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ من وُجُوه الجزيرة على الْمعز بإفريقية فَبَايعُوا الْمعز وخلع عَلَيْهِم، ثمَّ عَاد احْمَد.
وَفِي سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة ورد عَلَيْهِ بصقلية كتاب الْمعز بِأَن يحضر أَطْفَال الجزيرة ويكسوهم ويختنهم فِي الْيَوْم الَّذِي يختن فِيهِ الْمعز وَلَده، فَكتب الْأَمِير أَحْمد خَمْسَة عشر ألف طِفْل، وابتدأ أَحْمد فختن ابْنه وَإِخْوَته فِي مستهل ربيع الأول مِنْهَا، ثمَّ ختن الْخَاص وَالْعَام وخلع عَلَيْهِم. وَوصل من الْمعز مائَة ألف دِرْهَم وَخَمْسُونَ حملا من الصَّلَاة فرقت على المسجونين.
وَفِي سنة اثنيتين وَخمسين وثلثمائة أرسل الْأَمِير أَحْمد بسبي طبرسين بعد فتحهَا إِلَى الْمعز وَجُمْلَته ألف سَبْعمِائة ونيف وَسَبْعُونَ نفسا.
وَفِي سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة جهز الْمعز أسطولا عَظِيما، وَقدم عَلَيْهِم الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحسن وَالِد الْأَمِير أَحْمد فوصل إِلَى صقلية، وَاجْتمعت الرّوم بهَا وَجرى بَينهم قتال شَدِيد فنصر اللَّهِ الْمُسلمين وَقتل فَوق عشرَة آلَاف من الْكفَّار وغنم الْمُسلمُونَ أَمْوَالهم وسلاحهم وَمن جملَته سيف منقوش عَلَيْهِ: هَذَا سيف هندي وَزنه مائَة وَسَبْعُونَ مِثْقَالا طَال مَا ضرب بِهِ بَين يَدي رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ -.
فَبعث بِهِ الْحسن بن عَليّ إِلَى الْمعز وبأسرى وَسلَاح.
ثمَّ عَاد الْحسن بعد النَّصْر إِلَى قصره بصقلية وَمرض فَتوفي فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة وعمره ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة.
وَفِي أَوَاخِر سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة استقدم الْمعز الْأَمِير أَحْمد من صقلية فَسَار
مِنْهَا بأَهْله وَمَاله وَولده فَكَانَت إمارته بهَا سِتّ عشرَة سنة وَتِسْعَة أشهر، واستخلف مَوْضِعه يعِيش مولى أَبِيه الْحسن، فَلَمَّا وصل أَحْمد إِلَى إفريقية ولى الْمعز الجزيرة أَخا أَحْمد أَبَا الْقَاسِم نِيَابَة عَن أَخِيه.
وَفِي سنة تسع وَخمسين وثلثمائة قدم الْمعز الْأَمِير أَحْمد على الأسطول وأرسله إِلَى مصر، فوصل إِلَى طرابلس فاعتل أَحْمد وَمَات بهَا.
وَفِي سنة سِتِّينَ وثلثمائة أرسل الْمعز إِلَى أبي الْقَاسِم سجلا باستقلاله بِولَايَة صقلية وتعزيته فِي أَخِيه أَحْمد.
وَفِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وثلثمائة غزا أَبُو الْقَاسِم عَليّ وعدى إِلَى الأَرْض الْكَبِيرَة وَنزل
بِموضع يعرف باترلاجة، فَرَأى عسكره قد أَكْثرُوا من جمع الْبَقر وَالْغنم فَأنْكر ذَلِك فَقَالَ: هَذَا يعوقنا عَن الْغَزْو فذبحت وَفرقت، فَسُمي ذَلِك الْموضع مناخ الْبَقر، وَشن غاراته فِي الأَرْض الْكَثِيرَة فأخرب مدنا ثمَّ عَاد منصورا، وَاسْتمرّ يَغْزُو إِلَى سنة اثنيتن وَسبعين وثلثمائة فاستشهد فِي قتال الفرنج فَقيل لَهُ: الشَّهِيد وولايته اثْنَتَا عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر وَأَيَّام، وَتَوَلَّى بعده ابْنه جَابر بِغَيْر ولَايَة من الْخَلِيفَة وَكَانَ سيء التَّدْبِير.
وَفِي سنة ثَلَاث وَسبعين وثلثمائة وصل إِلَى صقلية جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحُسَيْن أَمِيرا عَلَيْهَا من جِهَة الْعَزِيز خَليفَة مصر، فَاغْتَمَّ جَابر لذَلِك عَظِيما وَاسْتمرّ عَلَيْهَا جَعْفَر إِلَى أَن مَاتَ سنة خمس وَسبعين وثلثمائة، فتولاها أَخُوهُ عبد اللَّهِ حَتَّى توفّي سنة تسع وَسبعين وثلثمائة، فتولاها ابْنه أَبُو الْفتُوح يُوسُف بن عبد اللَّهِ فَأحْسن وَاسْتمرّ.
وَمَات الْعَزِيز بِمصْر، وَتَوَلَّى الْحَاكِم واستوزر ابْن عَم يُوسُف حسن حسن بن عمار بن عَليّ.
وَفِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وثلثمائة فلج يُوسُف الْمَذْكُور فتولاها فِي حَيَاته ابْنه جَعْفَر بسجل من الْحَاكِم لقب فِيهِ تَاج الدولة، ثمَّ ظلّ فَخَرجُوا عَن طَاعَته وحصروه فِي الْقصر، فَخرج وَالِده مفلوجا إِلَيْهِم فِي محفة ورد النَّاس وعزل جعفرا وَولى أَخَاهُ تأييد الدولة أَحْمد الأكحل بن يُوسُف فِي الْمحرم سنة عشر وَأَرْبَعمِائَة وَبَقِي الأكحل حَتَّى خرج عَلَيْهِ أهل صقلية وقتلوه فِي سنة سبع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وولوا أَخَاهُ صمصام الدولة الْحسن، فَاخْتلف فِي أَيَّامه أهل الجزيرة وتغلبت الْخَوَارِج عَلَيْهِ وَجرى للفرنج مَا سَيذكرُ إِن شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى.
قلت: وَفِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ عدا أَسد بِأَرْض الشَّام لم يسمع بِمثلِهِ كَانَ يفترس فِي بلد أنطاكية وَأَرْض حمص فِي لَيْلَة وَاحِدَة حَتَّى ظن النَّاس أَن الْأسد كلهَا عدت، ووثب على مباحي فَدس إصبعه فِي عين الْأسد فقلعها وَسلم مِنْهُ وَكَانَ يحدث بذلك فيكذب، فَلَمَّا قتلته الأكراد وجد أَعور، وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا ملك معز الدولة الْموصل وَسَار عَنْهَا نَاصِر الدولة إِلَى نَصِيبين، ثمَّ تحرّك عَسْكَر خُرَاسَان على بِلَاد معز الدولة فَرَحل وَأعَاد إِلَى الْموصل نَاصِر الدولة.
قلت: وَلما جرى ذَلِك سَار سيف الدولة بن حمدَان إِلَى أَخِيه نَاصِر الدولة، وَفِي ذَلِك يَقُول أَبُو الطّيب المتنبي:
(أَعلَى الممالك مَا يَبْنِي على الأسل
…
والظعن عِنْد محبيهن كالقبل)
وفيهَا: ملك سيف الدولة حصن برزيه فأنشده المتنبي عِنْد نُزُوله بأنطاكية:
(وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بِأَن تسعدا والدمع أشفاه ساحمه)
وَهَذَا الْبَيْت مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه صعبان وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: فِيهَا احْتَرَقَ حصن أفاميه وَكَانَ بيد المغاربة وَضعف فنازله الدوقس فِي ثَلَاثِينَ ألفا وحاصره سَبْعَة أشهر وأشرف على أَخذه فَدفعهُ عَنهُ صمصامة وَالِي دمشق من جِهَة المغاربة فاتفقوا فَقتل الدوقس وَقتل من عسكره اربعة عشر ألفا وَأسر مِنْهُم خلق وكسروا بعد أَن ظَهَرُوا وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ عماد الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن بويه بشيراز بقرحة الكلى وتوالي الأسقام، وَجعل ابْن أَخِيه ولي عَهده على فَارس وَهُوَ فناخسرو عضد الدولة بن ركن الدولة وَحكمه وَهُوَ حَيّ.
وَلما مَاتَ عماد الدولة اخْتلف عَسْكَر فَارس على عضد الدولة، فجَاء أَبوهُ ركن الدولة من الرّيّ وَمر بشيراز فزار قبر أَخِيه عماد الدولة بإصطخر حافيا حاسرا وَعَسْكَره كَذَلِك وَلزِمَ الْقَبْر ثَلَاثًا، ثمَّ وصل وَقرر قَوَاعِد ابْنه. وَكَانَ عماد الدولة أَمِير الْأُمَرَاء ثمَّ بعده صَار ركن الدولة أَمِير الْأُمَرَاء.
وفيهَا: مَاتَ المستكفي المخلوع أعمى مَحْبُوسًا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة: قلت فِيهَا خرج بسيل ملك الرّوم فَنزل على أفامية وَجمع عِظَام الْقَتْلَى وَصلى عَلَيْهِم ودفنهم، وَفتح شيزر بالأمان لقلَّة رجالها.
وفيهَا: جَاءَ ثلج وجليد لم ير مثله حَتَّى جمد الْفُرَات وَمَشوا عَلَيْهِ وَكَانَت الْقُدُور على النَّار يجمد أَعْلَاهَا ويبس شجر الزَّيْتُون بالمعرة وَكفر طَابَ وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد الصَّيْمَرِيّ وَزِير معز الدولة، فاستوزر أَبَا مُحَمَّد الْحسن المهلبي.
وفيهَا: غزا سيف الدولة الرّوم فأوغل وفتك وغنم وَأخذت الرّوم عَلَيْهِ المضايق فِي عوده فَهَلَك غَالب عسكره وَمَا مَعَه وَنَجَا فِي عدد يسير.
وفيهَا: أعَاد القرامطة الْحجر الْأسود إِلَى مَكَّة، أَخَذُوهُ سنة سبع عشرَة وثلثمائة فمكثه عِنْدهم اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سنة.
قلت: وَلما أَخَذُوهُ ونقلوه هلك تَحْتَهُ جمال كَثِيرَة، وَلما أعادوه حمله بعير لطيف فَسلم وَهَذَا من آيَات هَذَا الْحجر الشريف، وَقبل إِعَادَته علقوه بِجَامِع الْكُوفَة ليراه النَّاس وَالله أعلم.
وفيهَا توفّي أَبُو نصر مُحَمَّد بن طرخان الفارابي الفيلسوف التركي اشْتغل على أبي بشر مَتى بن يُونُس الْحَكِيم، ثمَّ اشْتغل بحران على أبي حنا الْحَكِيم النَّصْرَانِي، ثمَّ أتقن بِبَغْدَاد الفلسفة والموسيقى وَجل كتب أرسطو وَألف بِبَغْدَاد مُعظم تصانيفه، ثمَّ دخل مصر ثمَّ دمشق وَأقَام بهَا أَيَّام سيف الدولة بن حمدَان فَأكْرمه وَكَانَ على زِيّ الأتراك، وَحضر يَوْمًا بِدِمَشْق عِنْد سيف الدولة وَعِنْده فضلاؤها فَمَا زَالَ كَلَام الفارابي يَعْلُو وَكَلَامهم يسفل حَتَّى صمتوا ثمَّ أخذُوا يَكْتُبُونَ مَا يَقُول، وَكَانَ لَا يُجَالس النَّاس، وَمُدَّة مقَامه بِدِمَشْق أما عِنْد
مُجْتَمع مَاء أَو مشتبك رياض، أجْرى سيف الدولة عَلَيْهِ كل يَوْم أَرْبَعَة دَرَاهِم فاقتصر عَلَيْهَا، وَتُوفِّي بِدِمَشْق وَقد ناهز الثَّمَانِينَ وَدفن خَارج بَاب الصَّغِير.
وفيهَا: مَاتَ الزجاجي النَّحْوِيّ أَبُو بالقاسم عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق صحب إِبْرَاهِيم بن السّري الزّجاج فنسب إِلَيْهِ، وصنف الْجمل.
ثمَّ دخلت سنة أَرْبَعِينَ وثلثمائة: فِيهَا توفّي عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن الْكَرْخِي الْفَقِيه الْحَنَفِيّ المعتزلي العابد، ومولده سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ.
وفيهَا: توفّي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن إِسْحَاق الْمروزِي الشَّافِعِي انْتَهَت إِلَيْهِ الرياسة بالعراق بعد ابْن سريح وصنف كثيرا وَشرح مُخْتَصر الْمُزنِيّ.
قلت: وفيهَا توفّي يماك التركي غُلَام سيف الدولة وَكَانَ مقدم مماليكه وَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف مَمْلُوك شِرَاء مَال، ورثاه المتنبي بقوله:
(لَا يحزن اللَّهِ الْأَمِير فإنني
…
لآخذ من حالاته بِنَصِيب)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا سَار يُوسُف بن وجيه صَاحب عمان فِي الْبَحْر وَالْبر إِلَى الْبَصْرَة وحصرها وساعده القرامطة، ثمَّ أدركهم المهلبي وَزِير معز الدولة بالعساكر فرحلوا عَنْهَا.
وفيهَا: توفّي الْمَنْصُور بِاللَّه الْعلوِي أَبُو طَاهِر إِسْمَاعِيل بن الْقَائِم بِاللَّه أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الْمهْدي عبيد اللَّهِ سلخ شَوَّال وخلافته سبع سِنِين وَسِتَّة عشر يَوْمًا وعمره تسع وَثَلَاثُونَ سنة، وَكَانَ خَطِيبًا بليغا يخترع الْخطْبَة لوقته، وعهد إِلَى ابْنه أبي تَمِيم بعده بِولَايَة الْعَهْد وَهُوَ الْمعز لدين اللَّهِ فبويع يَوْم مَاتَ أَبوهُ فِي سلخ شَوَّال مِنْهَا، وَعمر الْمعز إِذْ ذَاك أَربع وَعِشْرُونَ سنة.
وفيهَا: ملك الرّوم سروج وَسبوا وغنموا وخربوا الْمَسَاجِد.
قلت: وتيع سيف الدولة الرّوم وبلغهم ذَلِك فَوَلوا رَاجِعين فَبنى حِينَئِذٍ مرعش، فَقَالَ المتنبي:
(فَدَيْنَاك من ربع وَإِن زدتنا كربا
…
فَإنَّك كنت الشرق للشمس والغربا)
وَمِنْهَا:
(سراياك تترى والدمستق هارب
…
وَأَصْحَابه قَتْلَى وأمواله نهبا)
(أَتَى مرعشا يستقرب الْبعد مُقبلا
…
فَأَدْبَرَ إِذْ أَقبلت يستبعد القربا)
وَمِنْهَا:
(كفى عجبا أَن يعجب النَّاس أَنه
…
بنى مرعشا تَبًّا لآرائهم تَبًّا)
(وَمَا الْفرق مَا بَين الْأَنَام وَبَينه
…
إِذْ حذر الْمَحْذُور واستصعب الصعبا)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الصفار النَّحْوِيّ الْمُحدث من أَصْحَاب الْمبرد ثِقَة، مولده سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ.
ثمَّ دخلت سنة اثنيتين وَأَرْبَعين وثلثمائة: قلت فِيهَا أنْشد المتنبي بَين يَدي سيف الدولة قصيدته الَّتِي أَولهَا:
(لكل امرىء من دهره مَا تعودا
…
وَعَاد سيف الدولة الطعْن فِي العدا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ الْأَمِير نوح الحميد بن نصر بن أَحْمد بن إِسْمَاعِيل الساماني فِي ربيع الآخر، وَتَوَلَّى سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وثلثمائة فَأحْسن وكرمت أخلاقه، وَملك بعده ابْنه عبد الْملك.
وفيهَا: غزا سيف الدولة الرّوم فجرت بَينهم وقْعَة عَظِيمَة وَنصر سيف الدولة وغنم وَقتل.
قلت: أسر سيف الدولة فِي هَذِه الْوَقْعَة قسطنطين ولد الدمستق وَحمله الإبريق إِلَى بَيت المَاء وَكَانَ امرد فَخرج فَوَجَدَهُ قَائِما يبكي واعتل عِنْده فَمَاتَ، فَكتب إِلَى أَبِيه يُخبرهُ أَنه المسوح، فَقَالَ أَبُو الطّيب:
(فَلَو كَانَ يُنجي من عَليّ ترهب
…
ترهبت الْأَمْلَاك مثنى وموحدا)
وفيهَا: بنى سيف الدولة الْحَدث.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَمْرو الزَّاهِد مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بِبَغْدَاد، وَحدث أَبُو الْعَلَاء المعري أَن البغداديين حدثوه بهَا أَنه لما عبرت السّنة بِأبي عَمْرو رحمه الله فِي الكرخ وهم شيعَة بَغْدَاد وَحَوله التَّكْبِير والتهليل، قَالَ قَائِل: هَذَا وَالله لَا كمن دفنت لَيْلًا يَعْنِي فَاطِمَة عليها السلام، فثار أهل الكرخ وَقتل بَينهم جمَاعَة وَطرح أَبُو عَمْرو عَن النعش وجرح جراحا كَثِيرَة، وَالله أعلم.
وفيهَا: أرسل معز الدولة سبكتكين فِي جَيش إِلَى شهرزور فَعَاد وَلم يفتحها.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بِابْن النَّحْوِيّ الْفَقِيه، وَمُحَمّد بن الْقَاسِم الْكَرْخِي.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ أَبُو عَليّ بن الْمُحْتَاج صَاحب جيوش خُرَاسَان بعد أَن عَزله نوح عَنْهَا، فَخرج عَن طَاعَة نوح وَلحق بِرُكْن الدولة بن بويه وَمَات فِي خدمته.
وفيهَا: أنشأ عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي مركبا عَظِيما فِيهِ تِجَارَة إِلَى الْمشرق فلقي مركبا فِيهِ رَسُول من صقلية إِلَى الْمعز الْعلوِي وَمَعَهُ مكاتبات فَأَخذهُم بِمَا مَعَهم؛ وَبلغ ذَلِك الْمعز فَجهز أسطولا إِلَى الأندلس وَاسْتعْمل عَلَيْهِ الْحسن بن عَليّ عَامله على صقلية، فوصلوا إِلَى المرية وأحرقوا كل مَا فِي ميناها من المراكب وَأخذُوا ذَلِك الْمركب الْعَظِيم الْمَذْكُور بعد عوده من الْإِسْكَنْدَر ية وَفِيه جواري مغنيات وأمتعه لعبد الرَّحْمَن، وَظهر أسطول الْمعز إِلَى الْبر فَقتلُوا ونهبوا وَرَجَعُوا إِلَى المهدية، فَجهز عبد الرَّحْمَن أسطولا إِلَى بِلَاد إفريقية فوصلوها، فقصدهم عَسَاكِر الْمعز فَرَجَعُوا إِلَى الأندلس بعد قتال.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا سَار سيف الدولة إِلَى الرّوم فسبى وَفتح حصونا، وَعَاد إِلَى أدنة ثمَّ إِلَى حلب.
قلت: فأنشده المتنبي قصيدته الَّتِي أَولهَا:
(الرَّأْي قبل شجاعة الشجعان
…
هُوَ أول وَهِي الْمحل الثَّانِي)
قَالَ ابْن جني: هَذَا الْبَيْت وَحده لَو كَانَ فِي شعر شَاعِر لجمله كُله.
وَمِنْهَا:
(لَوْلَا الْعُقُول لَكَانَ أدنى ضيغم
…
أدنى إِلَى شرف من الْإِنْسَان)
وَمِنْهَا:
(لَوْلَا سمي سيوفه ومضاؤه
…
لما سللن لَكِن كالأجفان)
(مَا زلت تضربهم درا كَافِي الذري
…
ضربا كَأَن السَّيْف فِيهِ اثْنَان)
(فرموا بِمَا يرْمونَ عَنهُ وأدبروا
…
يطأون كل حنينة مرنان)
(يَغْشَاهُم مطر السَّحَاب مفصلا
…
بمهند ومثقف وَسنَان)
(يَا من يقتل من أَرَادَ بِسَيْفِهِ
…
أَصبَحت من قتلاك بِالْإِحْسَانِ)
(فَإِذا رَأَيْتُك حاد دُونك ناظري
…
وَإِذا مدحتك حَار فِيك لساني)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عمر مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد الزَّاهِد غُلَام ثَعْلَب الْمَعْرُوف بالمطرز لغَوِيّ مكثر صحب ثعلبا زَمَانا فَعرف بِهِ، كَانَ مضيقا عَلَيْهِ لاشتغاله بِالْعلمِ عَن الْكسْب كَانَ يلقِي تصانيفه من حفظه وأملى فِي اللُّغَة ثَلَاثِينَ ألف ورقة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا مَاتَ السلار بن الْمَرْزُبَان صَاحب أذربيجان، وَملك بعده ابْنه خستان فأوقع وهسودان عَم خستان بَين أَوْلَاد أَخِيه وتقاتلوا فَبلغ مُرَاده.
وفيهَا: نقص الْبَحْر ثَمَانِينَ باعا فَظهر فِيهِ جزائر وجبال.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بن يَعْقُوب الْأمَوِي النَّيْسَابُورِي الْمَعْرُوف بالأصم عالي الْإِسْنَاد صحب الرّبيع بن سُلَيْمَان.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا صَار أَبُو الْحسن جَوْهَر عبد الْمعز فِي رُتْبَة الوزارة وَسَار بِجَيْش كثيف إِلَى أقاصي الْمغرب، فَسَار إِلَى تاهرت ثمَّ إِلَى فاس فأغلق أَحْمد ابْن بكر أَبْوَابهَا فَلم يقدر جَوْهَر عَلَيْهَا وَمضى حَتَّى انْتهى إِلَى الْبَحْر الْمُحِيط، ثمَّ عَاد وَفتح فاس عنْوَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة وكا مَعَه زيزى بن مُنَاد الصنهاجي شَرِيكه فِي الإمرة.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن عَليّ بن البوشنجي الصُّوفِي الْمَشْهُور بنيسابور.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْحسن مُحَمَّد ولد القَاضِي أَبُو الشَّوَارِب، وَأَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عَليّ النَّيْسَابُورِي، وَأَبُو مُحَمَّد عبد اللَّهِ الْفَارِسِي النَّحْوِيّ أَخذ عَن الْمبرد.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا توفّي أَبُو بكر بن سُلَيْمَان الْحَنْبَلِيّ النجاد وعمره خمس وَتسْعُونَ، وجعفر بن مُحَمَّد الْخُلْدِيِّ الصُّوفِي من أَصْحَاب الْجُنَيْد.
وفيهَا: انْقَطع الْقطر وغلا السّعر فِي كثير من الْبِلَاد.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وثلثمائة: فِيهَا صَالح أَوْلَاد الْمَرْزُبَان عمهم وهسوذان فغدر بهم وَقتل خستان وناصرا ابْني أَخِيه وأمهما.
وفيهَا: غزا سيف الدولة الرّوم فَفتح وأحرق وغنم وَبلغ إِلَى خرشنه فَأخذُوا فِي عوده عَلَيْهِ المضايق واستردوا الْغَنِيمَة وَأخذُوا أثقاله وَقتلُوا، وتخلص سيف الدولة فِي ثلثمِائة نفس وَكَانَ معجبا بِرَأْيهِ لَا يقبل المشورة.
قلت: وَفِي ذَلِك يَقُول المتنبي فِيمَا أَظن:
(غَيْرِي بِأَكْثَرَ هَذَا النَّاس ينخدع
…
إِن قَاتلُوا جبنوا أَو حدثوا شجعوا)
وَمِنْهَا:
(قل للدمستق إِن الْمُسلمين لكم
…
خانوا الْأَمِير فجازاهم بِمَا صَنَعُوا)
(لَا تحسبوا من أسرتم كَانَ ذَا رَمق
…
فَلَيْسَ يَأْكُل إِلَّا الْمَيِّت الضبع)
وَالله أعلم.
وفيهَا: أسلم من الأتراك نَحْو مِائَتي ألف خركاه.
وفيهَا: أَخذ السَّيْل حجاج مصر وأثقالهم فِي اللَّيْل فِي عدوهم فألقاهم فِي الْبَحْر.
وفيهَا: أَو قَرِيبا مِنْهَا: توفّي أَبُو الْحسن التيناتي نِسْبَة إِلَى التينات وعمره مائَة وَعِشْرُونَ سنة، وَله كرامات.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو جور بن الأخشيد وَولي أَخُوهُ مَكَانَهُ مصر.
ثمَّ دخلت سنة خمسين وثلثمائة: فِيهَا فِي حادي عشر شَوَّال تقطر بِعَبْد الْملك بن نوح الساماني فرسه فَمَاتَ، فافتتنت خُرَاسَان بعده ووليها أَخُوهُ مَنْصُور.
قلت: كَذَا صَوَابه تقطر بِهِ الْفرس بِلَا نون وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي عبد الرَّحْمَن النَّاصِر الْأمَوِي صَاحب الأندلس وإمارته خَمْسُونَ سنة وَنصف وعمره ثَلَاث وَسَبْعُونَ، أول من تلقب من الأمويين بالأندلس بألقاب الْخُلَفَاء فتسمى أَمِير الْمُؤمنِينَ لضعف خلائف الْعرَاق وخوطبوا قبله بالأمير وَأَبْنَاء الخلائف، وَأمه مزنة أم ولد وَولي بعد ابْنه الحكم الْمُنْتَصر. وَترك عبد الرَّحْمَن أحد عشر ابْنا.
وفيهَا: ولي قَضَاء قُضَاة بَغْدَاد أَبُو الْعَبَّاس عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن بن أبي الشَّوَارِب وَالْتزم أَن يُؤَدِّي كل سنة مِائَتي ألف دِرْهَم، وَهُوَ أول من ضمن الْقَضَاء وَذَلِكَ فِي أَيَّام معز الدولة بن بويه، ثمَّ ضمنت الْحِسْبَة والشرطة.
قلت: وَقَالَ بعض النَّاس فِي ذَلِك:
(مذل الدولة ابْن بويه يقْضِي
…
لَهُ ابْن أبي الشَّوَارِب بِالضَّمَانِ)
(تصرم ملك ذَا وَقَضَاء هَذَا
…
وَصَارَت سنة طول الزَّمَان)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو شُجَاع فاتك كَانَ روميا أَخذه الأخشيد من سَيّده بالرملة فارتفع وَهُوَ رَقِيق كافور فَلَمَّا مَاتَ الأخشيد وَصَارَ كافور أتابك ابْنه أنف فاتك من ذَلِك وانتقل إِلَى الفيوم إقطاعه، ووخم فَعَاد إِلَى مصر، وَكَانَ كافور يخافه ويخدمه ومدحه المتنبي بِإِذن كافور بقصيدته الَّتِي أَولهَا:
(لَا خيل عنْدك تهديها وَلَا مَال
…
فليسعد النُّطْق إِن لم يسْعد الْحَال)
(كفاتك وَدخُول الْكَاف منقصة
…
كَالشَّمْسِ قلت وَمَا للشمس أَمْثَال)
وَلما توفّي فاتك رثاه المتنبي بقصيدته الَّتِي أَولهَا:
(الْحزن يقلق والتجمل يردع
…
والدمع بَينهمَا عصي طيع)
وَمِنْهَا:
(إِنِّي لأجبن من فِرَاق أحبتي
…
وتحس نَفسِي بالحمام فأشجع)
(تصفو الْحَيَاة لجَاهِل أَو غافل
…
عَمَّا مضى مِنْهَا وَمَا يتَوَقَّع)
(وَلمن يغالط فِي الْحَقِيقَة نَفسه
…
ويسومها طلب الْمحَال فتطمع)
(أَيْن الَّذِي الهرمان من بُنْيَانه
…
مَا قومه مَا يَوْمه مَا المصرع)
(تتخلف الْآثَار عَن أَصْحَابهَا
…
حينا ويدركها الفناء فتتبع)
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا ملك الدمستق عين زربة بالأمان فَقتلُوا وأطلقوا الْأَكْثَر.
وفيهَا: استولت الرّوم على حلب دون قلعتها وعَلى الحواضر وحصروا الْمَدِينَة وثلموا السُّور، وَقَاتل أَهلهَا الرّوم أَشد قتال فَتَأَخر الرّوم إِلَى جبل جوشن ثمَّ وَقع بَين أهل الْبَلَد نهب فَلم يبْق على السُّور اُحْدُ فهجم الرّوم الْبَلَد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السَّيْف وَسبوا بضعَة عشر ألف صبي وصبية وغنموا مَا لَا يُوصف وأحرقوا مَا بَقِي لعجزهم عَن حمله، وَأقَام
الملعون تِسْعَة أَيَّام وَعَاد وَلم ينهب قرى حلب وَأمرهمْ بالزراعة ليعادو من قَابل فِي زَعمه، وَمَا علم بِهِ يُوسُف الدولة إِلَّا عِنْد وُصُوله فَمَا تمكن من الْجمع وَخرج فِيمَن مَعَه وَقَاتل الدمستق قبل هجم الْبَلَد فَقتل غَالب أَصْحَاب سيف الدولة وَانْهَزَمَ سيف الدولة، وظفر الدمستق بداره وَهِي خَارج الْبَلَد تسمى الدَّاريْنِ فَأخذ مِنْهَا ثلثمِائة بدرة وألفا وَأَرْبَعمِائَة بغل وَمن السِّلَاح مَا لَا يُحْصى، ثمَّ كَانَ هجم الْبَلَد بعد ذَلِك.
وفيهَا: استولى ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان.
وفيهَا: فتح الْمُسلمُونَ طبرمين وَهِي أمنع الْحُصُون بعد حِصَار سَبْعَة أشهر وَنصف.
وفيهَا: فتحت الرّوم حصن دلوك بِالسَّيْفِ، وَثَلَاث حصون مجاورة لَهُ.
وفيهَا: فِي شَوَّال أسرت الرّوم أَبَا فراس الْحَارِث بن سعيد بن حمدَان من منبج وَكَانَ مُتَقَلِّدًا لَهَا.
وفيهَا: توفّي أَبُو بكر مُحَمَّد بن حسن النقاش الْموصِلِي صَاحب كتاب شِفَاء الصُّدُور.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا توفّي الْوَزير المهلبي أَبُو مُحَمَّد وزارته ثَلَاث عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر، وَكَانَ كَرِيمًا عَاقِلا ذَا فضل.
وفيهَا: فِي عَاشر الْمحرم أَمر معز الدولة بالنياحة واللطم وَنشر شُعُور النِّسَاء وتسويد وجوههن على الْحُسَيْن رضي الله عنه، وعجزت السّنة عَن منع ذَلِك لكَون السُّلْطَان مَعَ الشِّيعَة.
وفيهَا: عزل ابْن أبي الشَّوَارِب عَن الْقَضَاء وأبطل ضَمَانه.
وفيهَا: قتل الرّوم ملكهم وملكوا غَيره، وَصَارَ ابْن شمشقيق دمستقا. وفيهَا: فِي ثامن ذِي الْحجَّة أَمر معز الدولة بِإِظْهَار الزِّينَة لعيد غَدِير خم.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا استولى معز الدولة على الْموصل ونصيبين وهرب مِنْهُ نَاصِر الدولة، ثمَّ اتفقَا وَضمن مِنْهُ الْموصل.
ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا حاصر تقفور ملك الرّوم المصيصة وَفتحهَا عنْوَة بِالسَّيْفِ يَوْم السبت ثَالِث عشر رَجَب، ثمَّ رفع السَّيْف عَمَّن بَقِي من الْمُسلمين ونقلهم إِلَى الرّوم وَكَانُوا نَحْو مِائَتي الف، ثمَّ أَمن أهل طرسوس.
قلت: وَكَانَ فِيهَا اربعون ألف فَارس وطلع تقفور على مِنْبَر طرسوس فَقَالَ لمن حوله: أَيْن أَنا؟ فَقَالُوا: أَيهَا الْملك على مِنْبَر طرسوس، فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي على مِنْبَر بَيت الْمُقَدّس وَهَذِه كَانَت تمنعكم من ذَلِك، وَجمع مصاحف الْجَامِع وَكَانَت ألف مصحف فِي الْمِحْرَاب وطين عَلَيْهَا وَالله أعلم، وَسَار أَهلهَا عَنْهَا فِي الْبر وَالْبَحْر وجهز مَعَهم من يحيمهم إِلَى أنطاكية.
قلت: ولقيهم أهل أنطاكية بالبكاء والنحيت وَكَانَ فِي أول أهل طرسوس رجل مِنْهُم
يقْرَأ: {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا وَأَن اللَّهِ على نَصرهم لقدير. الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ بِغَيْر حق إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا اللَّهِ} . وَجعل جَامع طرسوس إصطبلا وأحرق الْمِنْبَر وحصن طرسوس، وتراجع بعض أَهلهَا وَتَنصر بَعضهم، ثمَّ عَاد اللعين إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة.
وفيهَا: أطَاع أهل أنطاكية المقدمين الَّذين حَضَرُوا من طرطوس وخالفوا سيف الدولة وَاسم الْمُقدم الَّذِي أطاعوه رَشِيق، فَسَار إِلَى جِهَة حلب وَقَاتل عَامل سيف الدولة قرعويه، وَكَانَ سيف الدولة بميافرقين فَأرْسل سيف الدولة عسكرا مَعَ خادمه بِشَارَة وقاتلا رشيقا فَقتل رَشِيق وهرب أَصْحَابه إِلَى أنطاكية.
قلت: وَلما عَاد سيف الدولة اجْتمع حربه ابْن الْأَهْوَازِي ودزير الديلمي الَّذِي قَامَ مقَام رَشِيق فَقتل دزير وَابْن الْأَهْوَازِي وَقتل من ولاتهما وقضاتهما وشيوخهما خلقا، وَالله أعلم.
وفيهَا: قتل أَبُو الطّيب المتنبي قَتله الْأَعْرَاب وَأخذُوا مَا مَعَه، وَهُوَ أَحْمد بن الْحُسَيْن بن الْحسن بن عبد الصَّمد الْكِنْدِيّ، ومولده سنة ثَلَاث وثلثمائة بِالْكُوفَةِ بمحلة تسمى كِنْدَة فنسب إِلَيْهَا لَا إِلَى الْقَبِيلَة فَإِنَّهُ جعفي الْقَبِيلَة - بِضَم الْجِيم -، وَقيل: كَانَ أَبوهُ سقاء بِالْكُوفَةِ، وَفِيه يَقُول بَعضهم:
(أَي فضل لشاعر يطْلب الْفضل
…
من النَّاس بكرَة وعشيا)
(عَاشَ حينا يَبِيع فِي الْكُوفَة
…
المَاء وحينا يَبِيع مَاء الْمحيا)
كَانَ مطلعا على اللُّغَة لَا يسْأَل عَن شَيْء إِلَّا اسْتشْهد فِيهِ بِكَلَام الْعَرَب حَتَّى أَن أَبَا عَليّ الْفَارِسِي قَالَ لَهُ: كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فَقَالَ فِي الْحَال: حجلى وظربى، قَالَ أَبُو عَليّ: فطالعت كتب اللُّغَة ثَلَاث لَيَال فَلم أجد لَهما ثَالِثا، وحسبك بِمن يَقُول فِيهِ أَبُو عَليّ هَذَا.
قلت: وحجلى جمع حجل وَهُوَ القبج، والظربي جمع ظربان بِوَزْن قطران دويبة مُنْتِنَة الرَّائِحَة، وَالله أعلم.
وشعره هُوَ النِّهَايَة ورزق فِيهِ السَّعَادَة قيل: إِنَّه ادّعى النُّبُوَّة فِي بَريَّة السماوة وَتَبعهُ خلق من بني كلب وَغَيرهم فَخرج إِلَيْهِ لُؤْلُؤ نَائِب الأخشيدية بحمص فَأسرهُ وتفرق أَصْحَابه وحبسه طَويلا، ثمَّ استتابه وَأطْلقهُ فالتحق بِسيف الدولة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة، ثمَّ فَارقه إِلَى مصر سنة سِتّ وَأَرْبَعين فمدح كافورا الأخشيد، ثمَّ هجاه وفارقه سنة خمسين وَقصد عضد الدولة بِفَارِس ومدحه، ثمَّ قصد الْكُوفَة فَقتل بِقرب النعمانية من الْجَانِب الغربي من سَواد بغدا عِنْد دير العاقول.
قلت: وَلما رأى المتنبي الْغَلَبَة من الْأَعْرَاب فر فَذكره غُلَامه بقوله:
(الْخَيل وَاللَّيْل والبيداء تعرفنِي
…
والطعن وَالضَّرْب والقرطاس والقلم)
فكر رَاجعا حَتَّى قتل.
وروى الْكِنْدِيّ لَهُ بَيْتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح وليسا فِي ديوانه وهما:
(أَرْبَعِينَ مفتقر إِلَيْك نظرتني
…
فأهنتني وقذفتني من حالق)
(لست الملوم أَنا الملوم لأنني
…
أنزلت آمالي بِغَيْر الْخَالِق)
وفيهَا: توفّي أَبُو حَاتِم مُحَمَّد بن حَاتِم بن حبَان - بِالْبَاء الْمُوَحدَة وحاؤه مَكْسُورَة - البستي صَاحب التصانيف.
ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا وصلت الرّوم إِلَى آمد وحصروها، ثمَّ انصرفوا وقاربوا نَصِيبين، ثمَّ سَارُوا ونازلوا أنطاكية طَويلا، ثمَّ رحلوا إِلَى طرطوس.
وفيهَا: وَقع بَين سيف الدولة وَبَين الرّوم الْفِدَاء، فخلص أَبَا فراس ابْن عَمه وَغَيره قلت: سَار سيف الدولة بالبطارقة الَّذين فِي أسره إِلَى الْفِدَاء ففداهم أَبَا فراس ابْن عَمه وَغُلَامه وروطاس وَجَمَاعَة من أكَابِر الحلبيين والحمصيين، وَلما لم يبْق مَعَه من أسرى الرّوم أحد اشْترى البَاقِينَ كل نفس بِاثْنَيْنِ وَسبعين دِينَارا حَتَّى نفذا مَا مَعَه من المَال فَاشْترى البَاقِينَ وَرهن عَلَيْهِم بدنته الْجَوْهَر المعدومة الْمثل، ثمَّ لما لم يبْق أحد من أسرى الْمُسلمين كَاتب تقفور ملك الرّوم على الصُّلْح وَهَذِه من محَاسِن سيف الدولة.
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا سَار معز الدولة إِلَى وَاسِط وجهز الجيوش إِلَى محاربة عمرَان بن شاهين صَاحب البطيحة وَانْطَلق بَطْنه فَترك الْعَسْكَر يُقَاتلُون وَعَاد إِلَى بَغْدَاد، فتزايد مَرضه فعهد إِلَى ابْنه بختيار ولقبه عز الدولة وَتَابَ وَتصدق بِأَكْثَرَ مَاله وَأعْتق مماليكه، وَتُوفِّي معز الدولة بِبَغْدَاد فِي ثَالِث عشر ربيع الأول مِنْهَا وَدفن بِبَاب التِّين فِي مَقَابِر قُرَيْش وإمارته إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَأحد عشر شهرا، فاستقر عز الدولة فِي الْإِمَارَة وَكتب إِلَى الْعَسْكَر فصالحوا عمرَان بن شاهين وعادوا.
وَكَانَت يَد معز الدولة قد قطعت قبل بكرمان فِي حَرْب، وَهُوَ الَّذِي أنشأ السَّعَادَة بِبَغْدَاد لإعلام أَخِيه ركن الدولة بالأحوال سَرِيعا فَنَشَأَ فِي أَيَّامه فضل ومرعوش، وفافا السَّعَادَة فَكَانَ يسير أَحدهمَا فِي الْيَوْم نيفا وَأَرْبَعين فرسخا وَكَانَ أَحدهمَا ساعي السّنة وَالْآخر ساعي الشِّيعَة.
وأساء بختيار السِّيرَة وَلعب وعاشر النِّسَاء وَنفى كبار الديلم شَرها فِي أقطاعهم.
وفيهَا: قبض ابْن نَاصِر الدولة أَبُو تغلب على أَبِيه لكبره وَسُوء أخلاقه وتضييقه على أَوْلَاده وَأَصْحَابه ووكل بِهِ من يَخْدمه، وَخَالفهُ بعض إخْوَته فَاحْتَاجَ إِلَى مداراة بختيار ليعضده فضمن مِنْهُ الْبِلَاد بِأَلف ألف ومائتي ألف دِرْهَم.
وفيهَا: مَاتَ وشمكير بن زيار أَخُو مرداويج حمل عَلَيْهِ فِي الصَّيْد خِنْزِير مَجْرُوح فَقَامَتْ بِهِ فرسه فَسقط فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمر ابْنه بيستون. وَقيل: مَاتَ سنة سبع وَخمسين فِي الْمحرم.
وفيهَا: مَاتَ كافور الأخشيدي الْخصي الْأسود من موَالِي مُحَمَّد بن طغج صَاحب مصر وَاسْتولى على مصر ودمشق بعد موت أَوْلَاد الأخشيد فَإِنَّهُ ملك بعد الأخشيد ابْنه أنوجور وَالْأَمر إِلَى كافور ثمَّ ابْنه الآخر عَليّ، وَتُوفِّي صَغِيرا سنة خمس وَخمسين وثلثمائة فاستقل كافور بالمملكة، كَانَ شَدِيد السوَاد اشْتَرَاهُ الأخشيد بِثمَانِيَة عشر دِينَارا. قَالَ المتنبي: كنت أَدخل على كافور أنْشدهُ وَهُوَ يضْحك إِلَى أَن أنشدته:
(وَلما صَار ود النَّاس خبا
…
جزيت على ابتسام بابتسام)
(وصرت أَشك فِيمَن أصطفيه
…
لعلمي أَنه بعض الْأَنَام)
قَالَ: فَمَا ضحك بعْدهَا فِي وَجْهي، فعجبت من فطنته. وقبره بالقرافة الصُّغْرَى.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب المعري أَن كافورا توفّي بِمصْر وَحمل إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَالله أعلم.
وَكَانَ يدعى لَهُ على المنابر بِمَكَّة والحجاز جَمِيعه والديار المصرية وَالشَّام، وعمره خمس وَسِتُّونَ تَقْرِيبًا، وَولي بعده أَبُو الفوارس أَحْمد بن عَليّ بن الأخشيد وخطب لَهُ فِي جُمَادَى الأولى سنة سبع وَخمسين وثلثمائة.
قلت: وَفِي تَارِيخ ابْن الْمُهَذّب إِنَّه تولى مصر بعد وَفَاة كافور نحرير الأخشيدي، وزحف إِلَيْهِ الْقَائِد جَوْهَر فِي عَسَاكِر الْمعز وطالت الحروب بَينهم وَقتل هَذَا نحريرا الأخشيدي سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة، وولوا بعده من الاخشيدية رجلا اسْمه تبر فغلبه جَوْهَر المغربي وَدخل مصر وملكها وَأقَام بهَا بَقِيَّة سنة ثَمَان وَخمسين وتسع وَخمسين قبل مَجِيء الْمعز، وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ سيف الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد اللَّهِ بن حمدَان بن حمدون الثَّعْلَبِيّ الربعِي بحلب فِي صفر وَنقل تابوته إِلَى ميافارقين، ومولده سنة ثَلَاث وثلثمائة، ومرضه بعسر الْبَوْل والفالج، وَهُوَ أول من ملك حلب من بني حمدَان أَخذهَا من أَحْمد بن سعيد الْكلابِي نَائِب الأخشيد.
وَمن شعر سيف الدولة فِي أَخِيه نَاصِر الدولة:
(وهبت لَك الْعليا وَقد كنت أَهلهَا
…
وَقلت لَهُم بيني وَبَين أخي فرق)
(وَمَا كَانَ لي عَنْهَا نُكُول وَإِنَّمَا
…
تجاوزت عَن حَقي فتم لَك الْحق)
(أما كنت ترْضى أَن تكون مُصَليا
…
إِذا كنت أرْضى أَن يكون لَك السَّبق)
وَله:
(قد جرى فِي دمعه دَمه
…
فَإلَى كم أَنْت تظلمه)
(رد عَنهُ الطّرف مِنْك فقد
…
جرحته مِنْك أسهمه)
(كَيفَ يَسْتَطِيع التجلد من
…
خطرات الْوَهم تؤلمه)
وَملك بِلَاد سيف الدولة بعده ابْنه أَبُو الْمَعَالِي سعد الدولة شرِيف.
وفيهَا: توفّي أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن إلْيَاس صَاحب كرمان.
وفيهَا: توفّي أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْهَيْثَم بن عبد الرَّحْمَن بن مَرْوَان بن عبد اللَّهِ بن مَرْوَان بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن الحكم الْأمَوِي الْكَاتِب الْأَصْفَهَانِي صَاحب كتاب الأغاني، جده مَرْوَان بن مُحَمَّد آخر خلفاء بني أُميَّة وَهُوَ أصبهاني الأَصْل بغدادي المنشأ روى عَن خلق، كَانَ عَالما بأيام النَّاس والأنساب وَكَانَ على أمويته متشيعا، جمع الأغاني فِي خمسين سنة وَحمله إِلَى سيف الدولة فَأعْطَاهُ ألف دِينَار وَاعْتذر، وصنف كتبا لبني أُميَّة أَصْحَاب الأندلس وسيرها إِلَيْهِم سرا وجاءه إنعامهم سرا، وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْوَزير المهلبي وَله فِيهِ مدائح، ومولده سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَسْمَاء الْكتب الَّتِي صنفها لبني أُميَّة: نسب بني عبد شمس وَأَيَّام الْعَرَب ألف وَسَبْعمائة يَوْم وجمهرة النّسَب وَنسب بني شَيبَان.
ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا استولى عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه على كرمان بعد موت صَاحبهَا عَليّ بن إلْيَاس.
وفيهَا: فِي ربيع الآخر قتل أَبُو فراس بن حمدَان، كَانَ مُقيما بحمص فَجرى بَينه وَبَين أبي الْمَعَالِي بن سيف الدولة وَحْشَة، وَطَلَبه أَبُو الْمَعَالِي فانحاز أَبُو فراس إِلَى صدد فَأرْسل أَبُو الْمَعَالِي عسكرا مَعَ قرعويه وَأَحْدَقُوا بِأبي فراس وَعَسْكَره فكبسوا أَبَا فراس فِي صدد وقتلوه، وَأَبُو فراس خَال أبي الْمَعَالِي وَابْن عَمه وَاسم أبي فراس الْحَارِث بن أبي الْعَلَاء سعيد بن حمدَان وَهُوَ ابْن عَم سيف الدولة وناصر الدولة، أسر بمنبج كَمَا ذكرنَا وَحمل إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَأَقَامَ أَسِيرًا أَربع سِنِين وَكَانَت منبج إقطاعه، وَفِي مقلته بصدد يَقُول بَعضهم:
(وَعَلمنِي الصد من بعده
…
من الْيَوْم مصرعه فِي صدد)
(فسقيا لَهَا إِذا حوت شخصه
…
وبعدا لَهَا حَيْثُ فِيهَا ابتعد)
قلت: وَلما بلغ بجية أم أبي فراس قَتله قلعت عينهَا جزعا عَلَيْهِ وَالله أعلم.
وفيهَا: مَاتَ المتقي لله إِبْرَاهِيم المقتدر فِي دَاره أعمى مخلوعا وَدفن فِيهَا.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن بنْدَار الصُّوفِي النَّيْسَابُورِي.
ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا سير الْمعز أَبُو تَمِيم معد بن إِسْمَاعِيل الْمَنْصُور الْقَائِد أَبَا الْحُسَيْن جوهرا الرُّومِي غُلَام الْمَنْصُور فِي جَيش كثيف فاستولى على الديار المصرية فَإِنَّهُ بِمَوْت كافور اخْتلفت الْأَهْوَاء، وَبلغ ذَلِك الْمعز فَجهز الْعَسْكَر فهربت العساكر الأخشيديه من جَوْهَر قبل وُصُوله وَوصل فِي سَابِع عشر شعْبَان وأقيمت الدعْوَة للمعز بالجامع الْعَتِيق فِي شَوَّال وَكَانَ الْخَطِيب أَبَا مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ بن الْحُسَيْن السميساطي.
وَفِي جُمَادَى الأولى قدم جَوْهَر إِلَى جَامع ابْن طولون وَأمر فَأذن فِيهِ بحي على خير الْعَمَل، ثمَّ بعده أذن فِي الْجَامِع الْعَتِيق بذلك وجهر فِي الصَّلَاة بِبسْم اللَّهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم،
وَشرع جَوْهَر فِي بِنَاء الْقَاهِرَة وسير جمعا كثيرا مَعَ جَعْفَر بن فلاح إِلَى الشَّام، فَبلغ الرملة وَبهَا الْحسن بن عبد اللَّهِ بن طغج وَجَرت بَينهمَا حَرْب فَأسر ابْن طغج وَغَيره وجهزهم جَوْهَر إِلَى الْمعز وَاسْتولى على تِلْكَ الْبِلَاد وجبوا أموالها، ثمَّ سَار ابْن فلاح بالعساكر إِلَى طبرية فَوجدَ أَهلهَا قد أَقَامُوا الدعْوَة للمعز قبل وُصُوله فَسَار عَنْهَا إِلَى دمشق فقاتلوه، فظفر بهم وَملك دمشق وَنهب بَعْضهَا وَأقَام الْخطْبَة للمعز لأيام خلت من الْمحرم سنة تسع وَخمسين، وَقطعت الْخطْبَة العباسية.
وَجَرت فِي أثْنَاء هَذِه السّنة بعد الْخطْبَة العلوية فتْنَة بَين أهل دمشق وجعفر بن فلاح وَوَقع بَينهم حروب وَقطعت الْخطْبَة العلوية ثمَّ استظهر ابْن فلاح واستقرت دمشق للمعز.
وفيهَا: كَاتب نَاصِر الدولة ابْنه حمدَان ليعضده فِي الْخَلَاص من قبض ابْنه أبي ثَعْلَب عَلَيْهِ، فظفر أَوْلَاده أَبُو ثَعْلَب وَأَبُو البركات وَفَاطِمَة أَوْلَاد الكردية بِالْكتاب فحبسوه فِي قلعة كواشي شهورا وَبهَا مَاتَ فِي ربيع الأول مِنْهَا، وَوَقع بَين حمدَان وَبَين إخْوَته لذَلِك حروب قتل فِيهَا حمدَان أَبَا البركات، ثمَّ قوي أَبُو ثَعْلَب فطرد حمدَان عَن بِلَاده وَاسْتولى عَلَيْهَا ولقب أبي ثَعْلَب عدَّة الدولة الغضنفر.
وفيهَا: دخل ملك الرّوم الشَّام بِلَا ممانعة أحد، وَسَار إِلَى طرابلس وَفتح قلعة عَرَفَة بِالسَّيْفِ ثمَّ أحرق حمص وَقد أخلاها أَهلهَا وأتى على السَّاحِل نهبا وتخريبا وَملك ثَمَانِيَة عشر منبرا وَأقَام بِالشَّام شَهْرَيْن وَعَاد بالأسرى وَالْأَمْوَال.
وفيهَا: استولى قرعويه غُلَام سيف الدولة على حلب وَأخرج ابْن استاذه أَبَا الْمَعَالِي شرِيف بن سيف الدولة مِنْهَا، فَأَقَامَ شرِيف عِنْد والدته بميافارقين ثمَّ أَقَامَ بحماه.
وفيهَا: طلب سَابُور بن أبي طَاهِر القرمطي من أَعْمَامه أَن يسلمُوا الْأَمر إِلَيْهِ، فحبسوه ثمَّ أخرج مَيتا.
ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا ملك الرّوم أنطاكية بِالسَّيْفِ وَقتلُوا أَهلهَا وَسبوا وقصدوا حلب فتحصن قرعويه بالقلعة وملكوا الْمَدِينَة، ثمَّ اصْطَلحُوا على مَال يحملهُ قرعويه كل سنة عَن حلب وَعَن حمص وحماه والمعرة وَكفر طَابَ وأفامية وشيزر، فرحلت الرّوم وَمَعَهُمْ الرهائن على ذَلِك وَصَارَت الْبِلَاد سائبة لَا مَانع للروم عَنْهَا.
وفيهَا: طمع نقفور ملك الرّوم فِي ملك جَمِيع الشَّام وَلم يكن من بَيت المملكة وَإِنَّمَا قتل الْملك الَّذِي قبله وَتزَوج امراته يفانو وَأَرَادَ أَن يخصي أَوْلَادهَا من بَيت المَال ليقطع نسلهم ويبقي الْملك فِي نَسْله، فاتفقت أمّهم مَعَ الدمستق وأدخلته فِي جمَاعَة على زِيّ النِّسَاء إِلَى كَنِيسَة مُتَّصِلَة بدار نقفور، ونام نقفور فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَقتلُوا نقفور وأراح اللَّهِ الْمُسلمين مِنْهُ، وَأقَام الدمستقق أحد الْأَوْلَاد الْمَذْكُورين ملكا.
قلت: وَهُوَ بسيل بن أرمانوس، وَالْمُعْتَمد فِي هَذِه التَّرْجَمَة أَن يفانو الملكة زَوْجَة أرمانوس قتلت أرمانوس وَتَزَوَّجت نقفور الْملك، ثمَّ قتلته وَتَزَوَّجت يانس بن شمشقيق
وولته الْملك، ثمَّ خافته على ولديها بسيل وقسطنطين ابْني أرمانوس فجهزت إِلَيْهِ وَهُوَ بِالشَّام سما فَقتلته قبل عوده إِلَى الرّوم وَوَلَّتْ ابْنهَا بسيل، وَملك بعده على الرّوم أَخُوهُ قسطنطين وَكَانَ زَمنا لِأَن دبا وثب عَلَيْهِ فأزمنه وَالله أعلم.
وفيهَا: حاصر أَبُو ثَعْلَب بن يُوسُف الدولة حران وَفتحهَا بالأمان وَاسْتعْمل عَلَيْهَا البرقعيدي، ثمَّ عَاد أَبُو ثَعْلَب إِلَى الْموصل.
وفيهَا: صَالح قرعويه ابْن استاذه أَبَا الْمَعَالِي وخطب لَهُ بحلب هَذَا وَأَبُو الْمَعَالِي بحمص، وخطب أَيْضا بحمص وحلب للمعز، وبمكة للمطيع، وبالمدينة للمعز، وخطب أَبُو أَحْمد الموسوي وَالِد الشريف الرضي خَارج الْمَدِينَة للمطيع.
وفيهَا: مَاتَ مُحَمَّد بن دَاوُد الدينَوَرِي الْمَعْرُوف بالرقى من مَشَايِخ الصُّوفِيَّة الْمَشَاهِير، وَالْقَاضِي أَبُو الْعلَا محَارب بن مُحَمَّد بن الْمُحَارب الشَّافِعِي الْفَقِيه الْمُتَكَلّم.
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وثلثمائة: فِيهَا فِي ذِي الْقعدَة وصلت القرامطة إِلَى دمشق وكبسوا جَعْفَر بن فلاح نَائِب الْمعز خَارج دمشق وقتلوه وملكوا دمشق وأمنوا أَهلهَا ثمَّ ملكوا الرملة، وَاجْتمعَ إِلَيْهِم خلق من الأخشيدية فقصدوا مصر ونزلوا بِعَين شمس وَجَرت بَينهم وَبَين المغاربة وجوهر حَرْب فانتصرت القرامطة، ثمَّ انتصرت المغاربة فَعَادَت القرامطة إِلَى الشَّام وكبير القرامطة حِينَئِذٍ الْحسن بن أَحْمد بن بهْرَام.
وفيهَا: استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أَبَا الْقَاسِم بن عباد.
وفيهَا: مَاتَ أَبُو الْقَاسِم سُلَيْمَان بن أَيُّوب الطَّبَرَانِيّ صَاحب المعاجم الثَّلَاثَة بأصفهان وعمره مائَة.
وفيهَا: توفّي السّري الرفاء الشَّاعِر الْموصِلِي بِبَغْدَاد.
قلت: هُوَ السّري بن أَحْمد بن السّري الْكِنْدِيّ أَقَامَ عِنْد سيف الدولة بحلب، ثمَّ مدح الْوَزير المهلبي، وراج شعره وَكَانَ لَا يعلم إِلَّا الشّعْر، فَمن شعره يذكر صناعته:
(قد كَانَت الإبرة فِيمَا مضى
…
صائنة وَجْهي وأشعاري)
(فَأصْبح الرزق بهَا ضيقا
…
كَأَنَّهُ من ثقبها جاري)
وَمن محَاسِن شعره قَوْله:
(يلقى الندى برقيق وَجه مُسْفِر
…
فَإِذا التقى الْجَمْعَانِ عَاد صفيقا)
(رحب الْمنَازل مَا أَقَامَ فَإِن سرى
…
فِي جحفل ترك الفضاء مضيقا)
وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخمسين وثلثمائة: فِيهَا وصلت الرّوم إِلَى الجزيرة والرها ونصيبين فغنموا وَقتلُوا، وَوصل الْمُسلمُونَ إِلَى بَغْدَاد مستصرخين فثارت الْعَامَّة وَجَرت بِبَغْدَاد فتن واستغاثوا إِلَى بختيار وَهُوَ فِي الصَّيْد، فَوَعَدَهُمْ بالغزاة وَطلب من الْمُطِيع مَالا فَقَالَ: أَنا
لَيْسَ لي غير الْخطْبَة فَإِن أَحْبَبْتُم اعتزلت، فهدده بختيار فَبَاعَ الْخَلِيفَة قماشه وَغير ذَلِك حَتَّى حمل إِلَى بختيار أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم، فقبضها بختيار وأخرجها فِي مصَالح نَفسه وَبَطلَت الغزة وشاع أَن الْخَلِيفَة صودر.
وفيهَا: فِي أَوَاخِر شَوَّال سَار الْمعز من إفريقية وَاسْتعْمل عَلَيْهَا يُوسُف بلكين بن زيزي بن مُنَاد الصنهاجي وَجعل على صقلية أَبَا الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن عَليّ بن أبي الْحسن وعَلى طرابلس الغرب عبد اللَّهِ بن يحلف الْكِنَانِي، واستصحب الْمعز مَعَه اهله وخزانته الْعَظِيمَة وفيهَا دَنَانِير مثل الطواحين، وَلما وصل برقة قتل مَعَه مُحَمَّد بن هانىء الشَّاعِر الأندلسي غيلَة لَا يدْرِي من قَتله وَكَانَ مجيدا، وغالى فِي مدح الْمعز حَتَّى كفر فمما قَالَه:
(مَا شِئْت لَا مَا شَاءَت الأقدار
…
فاحكم فَأَنت الْوَاحِد القهار)
قلت: ابْن هانىء عِنْد المغاربة كالمتنبي عِنْد المشارقة، وَكَانَ أَبُو الْعَلَاء المعري إِذا سمع شعر ابْن هانىء يَقُول: مَا أشبهه إِلَّا برحا تطحن قرونا أَي تسمع قعقعة وَلَا طائل تحتهَا وَله:
(هَل من أعقة عالج يبرين
…
أم مِنْهُمَا بقر الحدوج الْعين)
(وَلمن لَيَال مَا ذممنا عهدها
…
مذ كن إِلَّا أَنَّهُنَّ شجون)
(المشرقات كأنهن كواكب
…
والناعمات كأنهن غصون)
وَالله أعلم.
ثمَّ سَار الْمعز حَتَّى وصل الْإسْكَنْدَريَّة فِي أَوَاخِر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة، واتاه أَعْيَان مصر فَلَقِيَهُمْ وَأكْرمهمْ، وَدخل الْقَاهِرَة خَامِس شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وثلثمائة.
قلت: وَذكر ابْن الْمُهَذّب المعري فِي تَارِيخه أَن الْمعز ورد إِلَى مصر فِي سنة سِتِّينَ وثلثمائة، قَالَ: وَكَانَ عادلا منصفا، وَمن جملَة عدله أَن امْرَأَة الأخشيدي أودعت عِنْد يَهُودِيّ بدنه منسوجة بالدر جَعلتهَا فِي جرة نُحَاس، فَلَمَّا زَالَت المملكة عَنْهُم جَحدهَا الْيَهُودِيّ فتنازلت مَعَه إِلَى أَن يُعْطِيهَا شَيْئا قَلِيلا مِنْهَا فَلم يفعل، فَجَاءَت إِلَى الْمعز فأجلسها على كرْسِي فشكت حَالهَا مَعَ الْيَهُودِيّ فَأحْضرهُ وعاقبه بأنواع الْعقُوبَة فَلم يقر، فَلَمَّا خشِي عَلَيْهِ الْهَلَاك أَمر من يقْلع دَاره من الأساس فَوجدت الجرة فِيهَا الْبَدنَة فِي مغارة من الدَّار، فاجتهدت بالمعز أَن يَأْخُذ الْبَدنَة هَدِيَّة فَلم يفعل، وَالله أعلم.
وفيهَا: تمّ الصُّلْح بَين مَنْصُور بن نوح الساماني صَاحب خُرَاسَان وَبَين ركن الدولة بن بويه على أَن يحمل ركن الدولة إِلَيْهِ كل سنة مائَة ألف دِينَار وَخمسين ألف دِينَار، وَتزَوج مَنْصُور بابنة عضد الدولة.
وفيهَا: ملك أَبُو تغلب بن نَاصِر الدولة بن حمدَان قلعة ماردين سلمهَا إِلَيْهِ نَائِب أَخِيه حمدَان فَأخذ مَا لِأَخِيهِ فِيهَا من مَال وَسلَاح.