الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أَنه كَانَ لما نظمها عَالما حائرا ومذبذبا نافرا، يقر فيهمَا أَن الْحق قد خفى عَلَيْهِ وَيَوَد لَو ظفر بِالْيَقِينِ فَأَخذه بكلتا يَدَيْهِ كَمَا قَالَ فِي مرثية أَبِيه:
(طلبت بَقينَا من جُهَيْنَة عَنْهُم
…
وَلم تُخبرنِي يَا جهين سوى ظن)
(فَإِن تعهديني لَا أَزَال مسائلا
…
فَإِنِّي لم أعْط الصَّحِيح فأستغني)
ثمَّ وقفت لَهُ على كتاب ضوء السقط الَّذِي أملاه على الشَّيْخ أبي عبد اللَّهِ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيّ الَّذِي لَازم الشَّيْخ إِلَى أَن مَاتَ ثمَّ أَقَامَ بحلب يروي عَنهُ كتبه، فَكَانَ هَذَا الْكتاب عِنْدِي مصلحا لفساده، موضحا لرجوعه إِلَى الْحق وَصِحَّة أعتقاده، فَإِنَّهُ كتاب يحكم بِصِحَّة إِسْلَامه مأولا، ويتلوا لمن وقف عَلَيْهِ بعد كتبه الْمُتَقَدّمَة وللآخرة خير لَك من الأولى، فَلَقَد ضمن هَذَا الْكتاب مَا يثلج الصَّدْر ويلذ السّمع ويقر الْعين وَيسر الْقلب وَيُطلق الْيَد وَيثبت الْقدَم من تَعْظِيم رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم َ -
خير بريته، والتقرب إِلَى اللَّهِ بمدائح الْأَشْرَاف من ذُريَّته، وتبجيل الصَّحَابَة وَالرِّضَا عَنْهُم، وَالْأَدب عِنْد ذكر مَا يلتقي مِنْهُم، وإيراد محَاسِن من التَّفْسِير، وَالْإِقْرَار بِالْبَعْثِ والإشفاق من الْيَوْم العسير وتضليل من أنكر الْمعَاد، وَالتَّرْغِيب فِي أذكار اللَّهِ والأوراد
، والخضوع للشريعة المحمدية وتعظيمها، وَهُوَ خَاتمه كتبه والأعمال بخواتيمها، وَقد يعْذر من ذمه واستحل شَتمه، فَإِنَّهُ عول على مبادىء أمره وأوسط شعره، ويعذر من أحبه وَحرم سبه، فَإِنَّهُ اطلع على صَلَاح سره وَمَا صَار إِلَيْهِ فِي آخر عمره من الْإِنَابَة الَّتِي كَانَ أَهلهَا، وَالتَّوْبَة الَّتِي تجب مَا قبلهَا، وَكَانَ يَقُول رحمه الله: أَنا شيخ مَكْذُوب عَلَيْهِ.
وَلَقَد أغرت بِهِ حساده وَزِير حلب فَجهز لإحضاره خمسين فَارِسًا ليَقْتُلهُ فأنزلهم أَبُو الْعَلَاء فِي مجْلِس لَهُ بالمعرة، فَاجْتمع بَنو عَمه إِلَيْهِ وتألموا لذَلِك، فَقَالَ: إِن لي رَبًّا يَمْنعنِي، ثمَّ قَالَ كلَاما مِنْهُ مَا لم يفهم وَقَالَ: الضيوف الضيوف الْوَزير الْوَزير، فَوَقع الْمجْلس على الْخمسين فَارِسًا فماتوا، وَوَقع الْحمام على الْوَزير بحلب فَمَاتَ، فَمن النَّاس من زعم أَنه قَتلهمْ بدعائه وتهجده، وَمِنْهُم من زعم أَنه قَتلهمْ بسحره ورصده.
وَوضع أَبُو طَاهِر الْحَافِظ السلَفِي كتابا فِي أخباتر أبي الْعَلَاء، وَقَالَ فِيهِ مُسْندًا عَن القَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ رحمه الله: كتبت إِلَى أبي الْعَلَاء المعري حِين وافى بَغْدَاد وَقد كَانَ نزل فِي سويقه غَالب:
(وَمَا ذَات در لَا يحل لحالب
…
تنَاوله وَاللَّحم مِنْهَا مُحَلل)
(لمن شَاءَ فِي الْحَالين حَيا وَمَيتًا
…
وَمن رام شرب الدرج فَهُوَ مضلل)
(إِذا طعنت فِي السن فاللحم طيب
…
وآكله عِنْد الْجَمِيع معقل)
(وخرقانها للْأَكْل فِيهَا كزازة
…
فَمَا لحصيف الرَّأْي فِيهِنَّ مأكل)
(وَمَا يجتني مَعْنَاهُ إِلَّا مبرز
…
عليم بأسرار الْقُلُوب مُحَصل)
فَأَجَابَنِي وأملى عَليّ الرَّسُول فِي الْحَال:
(جوابان عَن هَذَا السُّؤَال كِلَاهُمَا
…
صَوَاب وَبَعض الْقَائِلين مضلل)
(فَمن ظَنّه كرما فَلَيْسَ بكاذب
…
وَمن ظَنّه نخلا فَلَيْسَ يجهل)
(لحومهما الأعناب الرطب الَّذِي
…
هُوَ الْحل والدر الرَّحِيق المسلسل)
(وَلَكِن ثمار النّخل وَهِي رطيبة
…
تمر وغض الْكَرم يجنى فيؤكل)
(يكلفني القَاضِي الْجَلِيل مسائلا
…
هِيَ النَّجْم قدرا بل أعز وأطول)
(وَلَو لم أجب عَنْهَا لَكُنْت بجهلها
…
جَدِيرًا وَلَكِن من يودك مقبل)
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: فأجبته عَنهُ وَقلت:
(أثار ضميري من يعز نَظِيره
…
من النَّاس طرا سَابق الْفضل مكمل)
(وَمن قلبه كتب الْعُلُوم بأسرها
…
وخاطره فِي حِدة النَّار مشعل)
(تساوى لَهُ سر الْمعَانِي وجهرها
…
ومعظلها باد لَدَيْهِ مفصل)
(وَلما أثار الخبء فار معينه
…
أَسِيرًا بأنواع الْبَيَان يكبل)
(وقر بِهِ من كل فهم بكشفه
…
وإيضاحه حَتَّى رَآهُ الْمُغَفَّل)
(وأعجب مِنْهُ نظمه الدّرّ مسرعا
…
ومرتجلا من غير مَا يتمهل)
(فَيخرج من بَحر ويسمو مَكَانَهُ
…
جلالا إِلَى حَيْثُ الْكَوَاكِب تنزل)
(فهنأه اللَّهِ الْكَرِيم بفضله
…
محاسنة والعمر فِيهَا مطول)
فأملى أَبُو الْعَلَاء على الرَّسُول مرتجلا:
(أَلا أَيهَا القَاضِي الَّذِي بدهاته
…
سيوف على أهل الْخلاف تسلل)
(فُؤَادك معمور من الْعلم آهل
…
وَجدك فِي كل الْمسَائِل مقبل)
(فَإِن كنت بَين النَّاس غير ممول
…
فَأَنت من الْفَهم المصون ممول)
(إِذا أَنْت خاطبت الْخُصُوم مجادلا
…
فَأَنت وهم مثل الحمائم أجدل)
(كَأَنَّك من فِي الشَّافِعِي مُخَاطب
…
وَمن قلبه تملي فَمَا تتمهل)
(وكبف يرى علم ابْن إِدْرِيس دارسا
…
وَأَنت بإيضاح الْهدى متكفل)
(تفضلت حَتَّى ضَاقَ ذرعي بشكر مَا
…
فعلت وكفي من جوابك أجمل)
(لِأَنَّك فِي كنه الثريا فصاحة
…
وَأَعْلَى وَمن يَبْغِي مَكَانك أَسْفَل)
(فعذري فِي أَنِّي أَجَبْتُك واثقا
…
بِفَضْلِك وَالْإِنْسَان يسهو وَيذْهل)
(وأخطأت فِي إِنْفَاذ رقعتك الَّتِي
…
هِيَ الْمجد لي مِنْهَا أخير وَأول)
(وَلَكِن عداني أَن أروم احتفاظها
…
رَسُولك وَهُوَ الْفَاضِل المتفضل)
(وَمن حَقّهَا أَن يصبح الْمسك غامرا
…
لَهَا وَهِي فِي أَعلَى الْمَوَاضِع تجْعَل)
(فَمن كَانَ فِي أشعاره متمثلا
…
فَأَنت امْرُؤ فِي الْعلم وَالشعر أمثل)
(تجملت الدُّنْيَا بأنك فَوْقهَا
…
وَمثلك حَقًا من بِهِ بتجمل)
فشهادة أبي الطّيب فِي الشَّيْخ مُقَدّمَة على شَهَادَة الْغَيْر وَحسن الظَّن وخصوصا بالعلماء
قد دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن والْحَدِيث وَهُوَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير، وَكَانَ شَيخنَا عبس حسن العقيدة فِيهِ، واعترف الطَّبَرِيّ لَهُ ومدحه يَكْفِيهِ:
(شَهَادَة الطَّبَرِيّ الحبر كَافِيَة
…
أَبَا الْعَلَاء فَقل مَا شِئْت أَو فذر)
(من أغمد السَّيْف عَنهُ كَانَ فِي دعة
…
وَمن نضى السَّيْف قابلناه بالطبري)
وَقَالَ لي يَوْمًا بعض أَصْحَابِي من الْأُمَرَاء ذَوي الْفَهم كَيفَ كَانَ أَبُو الْعَلَاء فِي اعْتِقَاد الْبَعْث فَأَنْشَدته قَوْله:
(فيا وطني إِن فَاتَنِي مِنْك سَابق
…
من الدَّهْر فلينعم لساكنك البال)
(وَإِن أستطع فِي الْحَشْر آتِك زَائِرًا
…
وهيهات لي يَوْم الْقِيَامَة أشغال)
وَبَلغنِي أَن بَعضهم زعم أَن أَبَا الْعَلَاء كَانَ يُنكر النبوات، فَهَذَا مَرْدُود بقول أبي الْعَلَاء:
(عجبت وَقد جزت الصراة رفلة
…
وَمَا خضلت مِمَّا تسربلت أذيال)
(أعمت إِلَيْنَا فعال ابْن مَرْيَم
…
فعلت وَهل يُعْطي النُّبُوَّة مكسال)
وَقَوله فِي شرِيف:
(يَا ابْن الَّذِي بِلِسَانِهِ وَبَيَانه
…
هدى الْأَنَام وَنزل التَّنْزِيل)
(عَن فَضله نطق الْكتاب وبشرت
…
بقدومه التوارة وَالْإِنْجِيل)
وَقَوله فِي الشريف أبي إِبْرَاهِيم الْعلوِي الموسوي:
(يَا ابْن مستعرض الصُّفُوف ببدر
…
ومبيد الجموع من غطفان)
(أحد الْخَمْسَة الَّذين هم الْأَغْرَاض
…
من كل منطق والمعاني)
(والشخوص الَّذِي خُلِقْنَ ضِيَاء
…
قبل خلق المريخ وَالْمِيزَان)
(قبل أَن تخلق السَّمَاوَات
…
أَو تُؤمر أفلاكهن بالدوران)
(وَافق اسْم ابْن أَحْمد اسْم
…
رَسُول اللَّهِ لما توَافق المعنيان)
(يَا أَبَا إِبْرَاهِيم قصر عَنْك الشّعْر
…
لما وصفت بِالْقُرْآنِ)
(أشْرب الْعَالمُونَ حبك طبعا
…
فَهُوَ فرض فِي سَائِر الْأَدْيَان)
وَقَوله:
(أيدفع معجزات الرُّسُل قوم
…
وفيك وَفِي بديهتك اعْتِبَار)
وَقد طَالَتْ هَذِه التَّرْجَمَة فَإِنِّي رَأَيْت الْمُؤلف سامحه اللَّهِ غض من الشَّيْخ فَأَحْبَبْت أَن أنبه على ذَلِك، وَالله أعلم.
وفيهَا: توفّي أَبُو عُثْمَان إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن الصَّابُونِي مقدم أَصْحَاب الحَدِيث بخراسان فَقِيه يعرف علوما، وأياز غُلَام مَحْمُود بن سبكتكين، وَله مَعَ مَحْمُود أَخْبَار مَشْهُورَة، وَأَبُو أَحْمد عدنان بن الرضي نقيب العلوبين.