الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ذكر الْخطْبَة بالعراق للمستنصر الْعلوِي وَمَا كَانَ إِلَى قتل البساسيري)
ثمَّ دخلت سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة فِيهَا: سَار إِبْرَاهِيم نيال إِلَى هَمدَان، وَسَار طغرلبك فِي أثر أَخِيه أَيْضا إِلَى هَمدَان وَتَبعهُ أتراك بَغْدَاد، فوصل البساسيري بَغْدَاد وَمَعَهُ قُرَيْش بن بدران الْعقيلِيّ فِي مِائَتي فَارس وَمَعَهُ أَرْبَعمِائَة غُلَام، وخطب البساسيري بِجَامِع الْمَنْصُور للمستنصر بِاللَّه الْعلوِي خَليفَة مصر وَأذن بحي على خير الْعَمَل، ثمَّ عبر عسكره إِلَى الزَّاهِر وخطب بِالْجمعَةِ الْأُخْرَى من وُصُوله للمصري بِجَامِع الرصافة.
وَجرى بَينه وَبَين مخالفيه حروب فِي أثْنَاء الْأُسْبُوع وَنهب البساسيري الْحَرِيم وَدخل الْبَاب النوبي، فَركب الْخَلِيفَة الْقَائِم بِالسَّوَادِ والبردة وَبِيَدِهِ سيف وعَلى رَأسه اللِّوَاء وَحَوله زمرة من العباسيين والخدم بِالسُّيُوفِ المسللة، وسرى النهب إِلَى بَاب الفردوس فَرجع الْقَائِم وَصعد المنظرة وَمَعَهُ رَئِيس الرؤساء فَقَالَ لقريش بن بدران: يَا علم الدّين أَمِير الْمُؤمنِينَ يستذم بذمامك وذمام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم َ -
وذمام الْعَرَب على نَفسه وَمَاله وَأَهله وَأَصْحَابه، فَأعْطى قُرَيْش مخصرته ذماما، فَنزل الْقَائِم وَرَئِيس الرؤساء إِلَى قُرَيْش وسارا مَعَه
فَأرْسل البساسيري يذكر قُريْشًا بِمَا عاهده عَلَيْهِ من الْمُشَاركَة فِي الْأَمر، ثمَّ اتفقَا على أَن يتسلم البساسيري رَئِيس الرؤساء لِأَنَّهُ عدوه
.
وَبَقِي الْخَلِيفَة عِنْد قُرَيْش ونهبت دَار الْخلَافَة وحريمها أَيَّامًا، ثمَّ سلم قُرَيْش الْخَلِيفَة إِلَى ابْن عَمه مهاوش، فَسَار مهاوش والخليفة فِي هودج إِلَى حَدِيثه عانة فَنزل بهَا وَسَار أَصْحَاب الْخَلِيفَة إِلَى طغرلبك.
وَركب البساسيري يَوْم النَّحْر بألوية خَليفَة مصر وَأحسن وَلم يتعصب لمَذْهَب، وأفرد البساسيري لوالدة الْقَائِم دَارا بجاريتين وجراية، وأحضر رَئِيس الرؤساء من الْحَبْس وَقد ألبسوه طرطورا استهزاء بِهِ وطافوا بِهِ إِلَى النجمي وَهُوَ يقْرَأ:{قل اللَّهُمَّ مَالك الْملك تؤتي الْملك من تشَاء وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء} . وبصق أهل الكرخ فِي وَجهه، ثمَّ ألبس جلد ثَوْر وَجعلت قرونه على رَأسه وَفِي فكه كلابان من حَدِيد وصلب فَمَاتَ آخر النَّهَار.
وَكتب البساسيري يعلم الْعلوِي بِمصْر بِالْخطْبَةِ لَهُ، وَكَانَ وَزِير مصر ابْن أخي أبي الْقَاسِم المغربي مِمَّن هرب من البساسيري فبرد فعله وخوفه من عاقبته فَعَادَت أجوبته بعد مُدَّة بِخِلَاف مَا أمله، ثمَّ سَار البساسيري إِلَى وَاسِط وَالْبَصْرَة فملكهما.
وَأما طغرلبك: فَكَانَ قد خرج عَلَيْهِ أَخُوهُ إِبْرَاهِيم قبل هَذِه مرَارًا وَيَعْفُو عَنهُ وَفِي هَذِه السّنة خرج عَلَيْهِ فَأسرهُ طغرلبك وخنقه بِوتْر ثمَّ سَار إِلَى الْعرَاق لرد الْخَلِيفَة الْقَائِم إِلَى خِلَافَته، فَلَمَّا قَارب بَغْدَاد انحدر مِنْهَا خدم البساسيري وَأَوْلَاده فِي دجلة سنة إِحْدَى وَخمسين، وَوصل طغرلبك بَغْدَاد واستقدم مهاوشا صُحْبَة الْخَلِيفَة فَأرْسل الْخيام الْعَظِيمَة والآلات لتلقي الْقَائِم، وَوصل الْخَلِيفَة النهروان رَابِع وَعشْرين ذِي الْقعدَة، وَخرج طغرلبك
لتلقيه وَاعْتذر لَهُ عَن تَأَخره بِقِتَال أَخِيه إِبْرَاهِيم وبوفاة أَخِيه دَاوُد بخراسان، وَسَار الْخَلِيفَة ووقف طغرلبك فِي الْبَاب النوبي مَكَان الْحَاجِب وَأخذ بلجام بغلة الْخَلِيفَة إِلَى دَاره يَوْم الْإِثْنَيْنِ لخمس بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَخمسين.
ثمَّ توجه جَيش طغرلبك لقِتَال البساسيري فِي ثامن ذِي الْحجَّة، فهزمت أَصْحَاب البساسيري وَقتل البساسيري وَبعث طغرلبك بِرَأْسِهِ إِلَى الْخَلِيفَة فعلق وَأخذت أَمْوَال البساسيري ونساؤه وَأَوْلَاده.
والبساسيري: أَصله مَمْلُوك تركي لبهاء الدولة بن بويه واسْمه أرسلان نِسْبَة إِلَى بسا بِفَارِس الَّتِي مِنْهَا سَيّده.
وفيهَا: - أَعنِي سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة - توفّي شهَاب الدولة أَبُو الفوارس بن مَنْصُور بن الْحُسَيْن الْأَسدي صَاحب الجزيرة، وَاجْتمعت عشيرته على ابْنه صَدَقَة.
وفيهَا: توفّي الْملك الرَّحِيم أَبُو نصر خسرو فَيْرُوز آخر مُلُوك بني بويه بقلعة الرّيّ مسجونا.
وفيهَا: توفّي القَاضِي أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ الْفَقِيه الشَّافِعِي الثِّقَة الصَّحِيح الِاعْتِقَاد وَله مائَة وسنتان وَكَانَ صَحِيح الْحَواس والأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك وَدفن عِنْد الإِمَام أَحْمد.
وفيهَا: توفّي قَاضِي الْقُضَاة أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن حبيب الْمَاوَرْدِيّ وَله الْحَاوِي وَغَيره وعمره سِتّ وَثَمَانُونَ، أَخذ الْفِقْه عَن أبي حَامِد الإسفرايني وَغَيره، وَله تَفْسِير الْقُرْآن والنكت والعيون وَالْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة وقانون الوزارة وَنسبَة الْمَاوَرْدِيّ: إِلَى بيع الماورد على غير قِيَاس.
وفيهَا: زلزل الْعرَاق والموصل سَاعَة، فخربت وأهلكت كثيرا.
ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْملك فرخزاد بن مَسْعُود بن مَحْمُود بن سبكتكين صَاحب غزنة بالقولنج، وَملك بعده أَخُوهُ إِبْرَاهِيم فَأحْسن وغزا الْهِنْد وَفتح حصونا وَصَالح دَاوُد بن مِيكَائِيل بن سلجوق صَاحب خُرَاسَان.
وفيهَا: فِي رَجَب توفّي دَاوُد الْمَذْكُور أَخُو طغرلبك وعمره سَبْعُونَ سنة وَهُوَ يُقَاتل آل سبكتكين، وَملك بعده ابْنه ألب أرسلان، وَكَانَ لداود من الْبَنِينَ ألب أرسلان وياقوتي وفاروت بك وَسليمَان، فَتزَوج طغرلبك بِأم سُلَيْمَان امْرَأَة أَخِيه.
وفيهَا: قدم طغرلبك بَغْدَاد وَأعَاد الْخَلِيفَة وَقتل البساسيري كَمَا ذكرنَا.
وفيهَا: توفّي عَليّ بن مَحْمُود بن إِبْرَاهِيم الزوزي الْمَنْسُوب إِلَيْهِ رِبَاط الزوزي. قبالة جَامع الْمَنْصُور بِبَغْدَاد.
قلت: وفيهَا تسلم الْأَمِير أَبُو الْفَتْح الْحسن بن عبد اللَّهِ بن أبي حَصِينَة المعري من بَين
يَدي الْخَلِيفَة الْمُسْتَنْصر الْعلوِي صَاحب مصر السّجل بتأميره وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر، فعلا قدره وَعظم شَأْنه، وَكَانَ سَبَب شهرته وتقدمه أَنه وَفد إِلَى حَضْرَة الْمُسْتَنْصر رَسُولا من قبل الْأَمِير تَاج الدولة بن مرداس سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة ومدح الْمُسْتَنْصر بقوله:
(طهر الْهدى وتجمل الْإِسْلَام
…
وَابْن الرَّسُول خَليفَة وَإِمَام)
(مستنصر بِاللَّه لَيْسَ يفوتهُ
…
طلب وَلَا يعتاص عَنهُ مرام)
(حاط الْعباد وَبَات يسهر عينه
…
وعيون سكان الْبِلَاد نيام)
(قصر الإِمَام أبي تَمِيم كعبة
…
وَيَمِينه ركن لَهَا ومقام)
(لَوْلَا بَنو الزهراء مَا عرف التقي
…
فِينَا وَلَا تبع الْهدى الأقوام)
(يَا آل أَحْمد ثبتَتْ أقدامكم
…
وتزلزلت بعدكم الْأَقْدَام)
(لَسْتُم وغيركم سَوَاء أَنْتُم
…
للدّين أَرْوَاح وهم أجسام)
(يَا آل طه حبكم وولاؤكم
…
فرض وَإِن عذل الوشاة ولاموا)
وَهِي طَوِيلَة، ومدحه سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة ثمَّ أنْجز لَهُ وعده بالتأمير فَقَالَ فِيهِ قصيدة مِنْهَا:
(أما الإِمَام فقد وَفِي بمقاله
…
صلى الْإِلَه على الإِمَام وَآله)
(لذنا بجانبه فَعم بفضله
…
وببذله وبعفوه وبماله)
(لَا خلق أكْرم من معد شِيمَة
…
محمودة فِي قَوْله وفعاله)
(فاقصد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَا ترى
…
بؤسا وَأَنت مظلل بظلاله)
(زَاد الإِمَام على البحور بفضله
…
وعَلى البدور بحسنة وجماله)
(وعَلى سَرِير الْملك من آل الْهدى
…
من لَا تمر الفاحشات بِبَالِهِ)
(النَّصْر والتأييد فِي أَعْلَامه
…
وَمَكَارِم الْأَخْلَاق فِي سرباله)
(مستنصر بِاللَّه ضَاقَ زَمَانه
…
عَن شُبْهَة وَنَظِيره ومثاله)
وَكَانَ الَّذِي كتب لَهُ سجل التأمير وسعى فِي مَصَالِحه ونهض فِيهِ هُوَ الشَّيْخ الْأَجَل أَبُو عَليّ صَدَقَة بن إِسْمَاعِيل بن فَهد الْكَاتِب بِحَضْرَة الْمُسْتَنْصر، فَشكر الْأَمِير أَبُو الْفَتْح سَعْيه فِي قصيدة مِنْهَا قَوْله:
(قد كَانَ صبري عيل فِي طلب العلى
…
حَتَّى استندت إِلَى ابْن إسماعيلا)
(فظفرت بالخطر الْجَلِيل وَلم يزل
…
يحوي الْجَلِيل من اسْتَعَانَ جَلِيلًا)
(لَوْلَا الْوَزير أَبُو عَليّ لم أجد
…
أبدا إِلَى الشّرف الْعلي سَبِيلا)
(إِن كَانَ ريب الدَّهْر قبح مَا مضى
…
عِنْدِي فقد صَار الْقَبِيح جميلا)
(وَأجل مَا جلّ الرِّجَال صلَاتهم
…
للراغبين الْعِزّ والتبجيلا)
(الْيَوْم أدْركْت الَّذِي أَنا طَالب
…
والأمس كَانَ طلابه تعليلا)
وَلَوْلَا التَّطْوِيل لذكرت من شعر الْأَمِير أبي الْفَتْح الْمَذْكُور كثيرا، فَإِنَّهُ السهل الْمُمْتَنع سَلس القياد عذب الْأَلْفَاظ حسن السبك لطيف الْمَقَاصِد عري عَن الحشو نَالَ رَحمَه اللَّهِ
التأمير الَّذِي مَاتَ المتنبي بحسرته ورحل إِلَى كافور بِسَبَبِهِ، وَتُوفِّي الْأَمِير أَبُو الْفَتْح بسروج منتصف شعْبَان سنة سبع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَالله أعلم.
ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا ملك مَحْمُود بن نصر بن صَالح بن مرداس حلب كَمَا مر.
قلت: وَفِي مَحْمُود هَذَا يَقُول ابْن أبي حَصِينَة من قصيدة:
(كفي ملامك فالتبريح يَكْفِينِي
…
أَو جربي بعض ماألقي ولوميني)
(برمل يبرين أَصْبَحْتُم فَهَل علمت
…
رمال يبرين أَن الشوق يبرين)
(أَهْوى الحسان وَخَوف الله يردعني
…
عَن الْهوى والعيون النجل تغويني)
(مَا بَال أَسمَاء تلويني مواعدها
…
أكل ذَات جمال ذَات تلوين)
(كَانَ الشَّبَاب إِلَى هِنْد يقربنِي
…
وشاب رَأْسِي فَصَارَ الْيَوْم يقصيني)
(يَا هِنْد أَن سَواد الرَّأْس يصلح
…
للدنيا وَأَن بَيَاض الرَّأْس للدّين)
(لست امْرَءًا غيبَة الْأَحْرَار من شيمي
…
وَلَا النميمة من طبعي وَلَا ديني)
(دَعْنِي وحيداً أعاني الْعَيْش منفرداُ
…
فبعض معرفتي فِي النَّاس تكفيني)
(مَا ضرني ودفاع الله يعصمني
…
من بَات يهدمني وَالله يبنيني)
(وَمَا أُبَالِي وَصرف الدَّهْر يسخطني
…
وسيب نعماك يَا ابْن السَّيْل يرضيني)
(أَبَا سَلامَة عش واسلم حَلِيف على
…
وسؤدد بشعاع النَّجْم مقرون)
(أَشْقَى عداكم وأهوى أَن أدين لكم
…
وللعدا دينهم فِيكُم ولي ديني)
وَالله أعلم.
وفيهَا: توفيت وَالِدَة الْقَائِم بِاللَّه الأرمنية الأَصْل، وَاسْمهَا قطر الندى.
ثمَّ دخلت سنة ثَلَاثَة وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة: فِيهَا توفّي الْمعز بن باديس صَاحب إفريقية بِضعْف الكبد وَمُدَّة ملكه سبع وَأَرْبَعُونَ سنة، كَانَ عمره لما ملك إِحْدَى عشرَة سنة وَقيل: ثَمَان وَملك بعده ابْنه تَمِيم.
وفيهَا: توفّي قُرَيْش بن بدران بن الْمُقَلّد بن الْمسيب صَاحب الْموصل ونصيبين بنصيبين، وَقَامَ بعده ابْنه شرف الدولة أَبُو المكارم مُسلم.
وفيهَا: توفّي نصر الدولة أَبُو نصر أَحْمد بن مَرْوَان الْكرْدِي صَاحب ديار بكر وعمره نَيف وَثَمَانُونَ وإمارته اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ سنة، وتنعم بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ اشْترى بعض مغنياته بِخَمْسَة آلَاف دِينَار وَملك خَمْسمِائَة سَرِيَّة وتوابعهن وَخَمْسمِائة خَادِم وآلات مجْلِس يزِيد على مِائَتي ألف دِينَار وَعلم طباخيه بِمصْر، ووزر لَهُ أَبُو الْقَاسِم المغربي وفخر الدولة بن جهير، وقصده الشُّعَرَاء وَالْعُلَمَاء، وَملك بعده ابْنه نصر ميافارقين وَابْنه الآخر سعيد آمد.
وفيهَا: توفّي شكر الْعلوِي الْحُسَيْنِي أَمِير مَكَّة، وَمن شعره الْحسن قَوْله: