الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
193 - ابن راشد القفصي (736 هـ)(1336 م)
أصبحت تونس من مراكز اشعاع الثقافة الإسلامية في العصر الحفصي فحفلت بالاعلام، وزخرت بالأدباء من ابنائها ومن الوافدين عليها من الأندلسيين، وغيرهم، ونشطت فيها حركة التأليف في الفقه والأصول، والنحو، والأدب، والتاريخ، والطب، والعلوم الرياضية، وقد تساندت عدة عوامل على نمو هذه الحركة العلمية وانتشارها منها استقرار الأمن والنظام، والقضاء على الفتن والاضطرابات وتأسيس المدارس، واستقرار جالية من علماء الأندلس وأدبائها اشتهروا بمواهبهم الخصبة ونشاطهم العظيم في التدريس والتأليف، وإحياء الدراسات النحوية والأدبية والتاريخية، كابن الابار، وحازم القرطاجني وابن الغماز، واللبلي، وابن عصفور وغيرهم من يطول تعداده.
وتجددت الرحلة إلى المشرق العربي، وبالخصوص إلى مصر التي أصبحت زعيمة العالم الإسلامي في النهضة العلمية بعد سقوط الخلافة العباسية ببغداد، واستبحر فيها العمران واكتظت باعلام ذوي شهرة ومكانة في كل المعارف المتداولة في ذلك العصر.
وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون في «المقدمة» إذ قال: «ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر، فهي أم العالم، وايوان الإسلام، وينبوع العلم والصنائع» .
ومنذ نشوء الحركة العلمية في أقطار المغرب لم تنقطع رحلة علمائه
إلى المشرق إلا في عصور الفتن والاضطرابات. وهذه الرحلات لها أثرها في انتقال مؤلفات المغاربة إلى المشرق، ومؤلفات المشارقة إلى المغرب، وما يتبع ذلك من تلقيح لمناهج التدريس، وأساليب التأليف، ومن توفر المادة، وتعدد المصادر أمام الباحثين والدارسين.
وفي صدر العصر الحفصي رحل أبو القاسم بن زيتون إلى مصر مرتين، وأدرك تلامذة ابن خطيب الري فخر الدين الرازي، فأخذ عنهم واقتبس مناهجهم في التدريس القائمة على حرية الجدل والمناقشة، ومهر في العقليات والنقليات، ومال إلى الاجتهاد في الفقه، وهو أول من درّس بتونس تآليف فخر الدين الرازي الأصولية ذات الأسلوب الخاص في تقرير الحقائق، وإيراد شبه الخصم كاملة، ثم مناقشتها ونقضها في هدوء واتزان مما يكسب العقل دربة على الجدل، ويقوي العارضة، ويربي نزعة الاحاطة والشمول في الدراسة والبحث. وجاء بعد ابن زيتون من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي المغربي الذي قرأ على علماء مصر، واقتبس منهم أسلوبهم في التدريس، واستقر بتونس يدرس بها وفقا للمنهج الذي اقتبسه من شيوخه المصريين. وعن هذين الرجلين ابن زيتون والدكالي تلقى أهل تونس أسلوبهما في التدريس، واستمر متسلسلا في تلاميذهما الآخذين عنهم جيلا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام الهواري شارح ابن الحاجب الفرعي، ومعاصر ابن راشد. هذا ما يفهم من كلام ابن خلدون (1).
وتطورت الدراسات الفقهية في هذا العهد، فبعد أن كانت مقصورة على مؤلفات القيروانيين والصقليين وغالبها يدور حول المدونة بالشرح والتعليق كتآليف أبي سعيد البراذعي، وابن أبي زيد، وأبي إسحاق التونسي، وأبي الحسن اللخمي، وابن يونس، أصبحت تعتمد أيضا على مؤلفات الأندلسيين من شروح وتعاليق على الجنبية ثم ظهر مختصر ابن الحاجب الفرعي المسمى «بجامع الأمهات» الذي لخص فيه طرق أهل
(1) راجع المقدمة ص 431 (مطبعة مصطفى محمد، القاهرة، بلا تاريخ).
المذهب في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة فجاء كالبرنامج للمذهب (1) وأول من أدخله إلى المغرب ناصر الدين المشدّالي الزواوي البجائي وعن طريق تلاميذه انتشر في سائر أقطار المغرب فانكب التونسيون على تدارسه مع تعاهد كتاب تهذيب المدونة لأبي سعيد البراذعي (2).
في جو هذه التقاليد العلمية تربى وتخرج محمد بن عبد الله بن راشد البكري القفصي المولود بقفصة وبها نشأ وتعلم، ثم رحل إلى تونس فأدرك بها ابن الغمّاز، وحازما القرطاجني وغيرهما، وبرع في العربية والفقه وأصوله، والحساب، والفرائض قال عن نفسه:«قرأت العربية، والفرائض والحساب، وأدركت بتونس جملة من النبلاء وصدورا من النحاة والأدباء، ثم تشاغلت بالأصول والفقه زمانا» .
ثم رحل إلى مصر، ونزل بالاسكندرية حيث أخذ عن ناصر الدين الابياري تلميذ ابن الحاجب المأذون له في اصلاح مختصره الفقهي، وأخذ عن ناصر الدين بن المنيّر، وعن الكمال بن التنيسي تهذيب المدونة للبراذعي، وعن ضياء الدين بن العلاف، وقرأ على اللغوي الأديب محيي الدين المازوني المعروف بحافي رأسه، ثم رحل إلى القاهرة ولازم امام المالكية العلامة النظار شهاب الدين القرافي، وقرأ عليه المحصول في أصول الفقه لفخر الدين الرازي، ومختصره الحاصل للأرموي، واجازه بالامامة في علم الأصول، وأذن له في التدريس والافادة، وتردد على العلامة النظار تقي الدين بن دقيق العيد في مختصر ابن الحاجب الفقهي، وحضر دروس شيخ العقليات في عصره الشمس الأصبهاني، واستفاد منه طريقته الرشيقة وأبحاثه الأنيقة وكان يشكر ذهن ابن راشد ويفضله على غيره كما أخذ عن غيرهم «ممن لا يحصى كثرة» .
وبعد أن حج سنة 680/ 1282 رجع إلى وطنه وتولى قضاء بلده
(1) المقدمة 450.
(2)
راجع المقدمة 451 قال ابن خلدون عند كلامه عن شراح مختصر ابن الحاجب الفرعي من التونسيين وسابق حلبتهم في الاجادة في ذلك ابن عبد السلام (المقدمة 451).