الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
121 - الحداد (1317 - 1354 هـ)(1901 - 1935 م)
الطاهر بن علي بن بلقاسم الحداد، الكاتب الأديب الشاعر الصحفي، نصير المرأة، وأحد مؤسسي الحركة النقابية الأولى، أصله من فطناسة من قرى حامة قابس، ومولده ونشأته بالعاصمة، وهو ينحدر من أسرة عمالية فقيرة، حفظ القرآن بأحد الكتاتيب ثم التحق بجامع الزيتونة سنة 1330/ 1914، ولبث مواصلا للدراسة به ثماني سنوات بدلا من سبع لأن شيخ الإسلام الحنفي أحمد بيرم منعه هو ورفاقه من اجتياز الامتحان في نهاية السنة السابعة لعدم توفر بعض الشروط في الدراسة حسب القانون، وأحرز على شهادة التطويع عام 1336/ 1920 وتابع دروس الحقوق التونسية، وأحرز على الجزء الأول من شهادتها أما الجزء الثاني وهو الجزء النهائي فقد منعه مدير العدلية التونسية - وهو آنذاك فرنسي - من اجتياز الامتحان بناء على ما لديه من تعليمات، لأن جلالة الباي تداخل وطلب منعه من اجتياز الامتحان، وذلك على اثر الحملة الشعواء التي قامت ضده بعد صدور كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» والذين اتصلوا بالباي، وأبدوا له هذه الرغبة هم رجال الشريعة، ومن الملاحظ أنه بعد صدور هذا الكتاب جرّد من شهادة التطويع، ومثل هذه المواقف من علماء جامع الزيتونة ورجال الشريعة تدعو إلى الاستغراب، فإذا كان الحداد عندهم ملحدا وزائغا يكون من حقهم منعه من التدريس أو مباشرة أية وظيفة ادارية في جامع الزيتونة أو الفروع التابعة له، أما بدعة تجريده من شهادة علمية أحرز عليها بجهده وكفاءته فأمر غير مقبول ولا معقول، فما معنى استردادها منه؟ هل هي منحة أو هبة يستردونها متى أرادوا إذا غضبوا؟ وهو اجراء ظالم من الحكمة عدم تبنيه والأخذ به، لكن الأزهر قد سبقهم
في ذلك في قضية الشيخ عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم» فلماذا لا يقتدون به؟ وما معنى منعه من اجتياز امتحان شهادة الحقوق؟ أليس هو عين الظلم المتطرف؟ وهل المحاكم العدلية هي محاكم دينية حتى يخشى عليها من انحراف الحداد والحاده؟ هي محاكم مدنية تحكم بالأحكام الوضعية ورئاسة هذه المحاكم اداريا بيد مدير العدلية الفرنسي.
الحق ان الحملة هذه كانت متطرفة وظالمة، حتى أصبح الحداد في نظر الكثيرين ضحية التآمر عليه من الرجعية التي زلزل الأرض من تحت أقدامها، والضحية تكوّن العطف عليها في النفوس التي راحت تلتمس المعاذير للتبرير والانتصار والمشايعة لآرائه وإلا فما هي الرجعية؟ وهل لها مصالح خاصة تخالف مصالح بقية الطبقات الاجتماعية تدافع عنها وتقدم لها الضحايا لاستبقائها؟ وراح أنصاره والمؤيدون له بعد وفاته بزمان يلتمسون الأسباب، ويخلعون عليه هالة الاكبار إن لم نقل التقديس، والحق بين طرفي الافراط والتفريط، أن علماء جامع الزيتونة ورجال الشريعة نسوا أو تناسوا أنهم يعيشون في ظل نظام غير إسلامي وإلا لما انزلقوا في ورطة منعه من اجتياز شهادة الحقوق، وبلغ بهم الغضب أنهم حاولوا قتله كفرا لاحدا بواسطة موافقة الباي الذي لا يتصرف في مثل هذا إلا بعد موافقة المقيم العام الفرنسي ولكنه امتنع محتجا بأن لا يقتل أحد من أجل أفكاره، ولم يكن الحداد مرضيا عليه من السفارة الفرنسية حتى يقال إن المقيم دافع عن صنيعة من الصنائع بل كان الحداد عاملا نشيطا في اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري القديم، وألقى بنفسه مرات في مواقع الخطر من أجل وطنه، وكان عضدا متينا للزعيم النقابي الدكتور محمد علي الحامي.
كان من حق جماعة جامع الزيتونة الرد عليه في هدوء واعتدال وبعد عن الاسفاف عملا بقوله تعالى: {اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أما التطرف واشتداد الحملة فلا يتولد عنهما إلا العناد، وقد كان، ثم إن الإسلام ليس من الهزال بمكان حتى يؤثر في أصوله وأحكامه عشرات من أمثال الحداد، وإن قالوا هذا كله لسد الذريعة وردع لغيره أفلا يراعى في سد الذريعة ما تتركه من آثار في النفوس؟ والتنكيل الظالم
لا يردع الغير بل يخلق فيه روح الصلابة والعناد وهدوء العاصفة مسألة وقت ثم تأتي وتهب بعنف فتذهب بالأوتاد، إن بيان وجه الصدق والحق ينير الدرب، ويوضح الرؤية، ويضع المعالم الهادية، وتبقى شهوة الانتقام امرا غير مرغوب فيه يتعالى عنه ذوو النفوس الكريمة والعقول الراجحة وقد استمرت الحملة على أشدها لمدة سنوات في صحف ذلك الوقت كالزهرة، والنهضة والنديم الخ، وفي الحملة التبس الحق بالباطل، فالحداد عند أنصاره ومؤيديه مجدد وإمام مجتهد سابق لعصره ومجاهد، والحق وراء ذلك، أن من يدرس كتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» دراسة موضوعية بعيدة عن الاندفاع العاطفي، والانسياق الانفعالي، والاغترار بالأغراض الدعائية يجد فيه أن الحداد محدود الافق في الثقافة الإسلامية فهو في الفقه لا يتجاوز معرفة ما في «تحفة الحكام» لابن عاصم وشرحها للتاودي، وفي التفسير لا يتجاوز الاطلاع على تفسير البيضاوي، مع فقر مدقع في الحديث وعلومه كالاطلاع على دواوين السنة، وعلى كتب الطبقات، والجرح والتعديل، فهل من كان على مثل هذا المستوى المتدني يكون مجددا أو مجتهدا؟ ثم ما هو الاجتهاد؟ هل يكون مخالفا للنص الصريح والقاعدة السليمة، إنه لا اجتهاد مع النص، والحداد أراد أن يجتهد في أحكام صريحة قطعية النص والدلالة كأحكام الميراث، فقد جنح إلى تسوية المرأة بالرجل في الميراث، بدعوى تغير الأحوال الاقتصادية، وأن الوحي لو أدرك هذا العصر لغيّر هاتيك الأحكام، وهذه دعوى خطيرة تبيح لكل أحد التسور على الأحكام الشرعية وتغييرها حسب هواه، ثم إنه ينطوي ضمنا على أن الإله غير عالم بما سيحدث أو أنه لم يبين العلاج لهذه الحالة الطارئة، وتركها للهوى والغرض، يضاف إلى هذا أن أحكام الميراث جاءت مردفة بصيغ التأكيد والتهديد لمن يحاول تغييرها مما ينفي كل دعوى للاجتهاد لتبدل العصور وتغير أحوالها الاقتصادية وطراز معاشها، إن دعوى الاجتهاد، ومحاولة التغيير للأحكام الشرعية لغير متمكن من عبقرية اللغة، ولا له ذوق في استشفاف ما يقتضيه سياق الكلام سابقا ولاحقا، ومثل هاته المعرفة والذوق من شروط الاجتهاد أو أن يكون الشرط متوفرا ولكنه لا يطبق لبلوغ مقصد معين يمليه الهوى، فلا وزن لهذا الاجتهاد. وله موقف آخر
حول الحدود، وأثار حولها غبار النقاش هدفا لتبرير تعطيلها، ويطول المقام عن جداله في كل ما أورد من جزئيات، ونكتفي برد اجمالي نقول فيه: إن الحدود الإسلامية هي على شدتها الظاهرية أرحم بكثير من قوانين العقوبات الوضعية، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، أية شبهة تسقط الحد حتى أن المجرم لو اعترف أولا بما نسب إليه ثم لاذ بالانكار في خاتمة المطاف، فإن هذا يكون شبهة تسقط الحد، وهذا لا يسقط العقاب المقرر في القانون، ومن القواعد المقررة لأن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقاب، وللمقارنة بين الحدود الإسلامية وقوانين العقوبات الوضعية نذكر أن السارق لخبزة من أجل سد جوعته لا تسقط عنه العقاب المقرر للسرقة في القوانين الجنائية غاية ما في الأمر أنه يسعف بظروف التخفيف، لا سيما إن كان مبتدئا غير متعود، لأن التعود أي من سبق منه ارتكاب هذه الفعلة، وصدر حكم ضده فإن هذا يكون ظرفا من ظروف التشديد، بينما القانون الإسلامي يسقط عنه الحد إذا كانت السرقة لأجل سد الجوع، ولا يرى فيها اعتداء على المجتمع ويرى أن هذا المجتمع مقصر في حقه حين لم يوفر له العمل والعيش الكريم حتى ألجأه إلى السرقة، والحدود الإسلامية زواجر غايتها تطهير المجتمع من العناصر الفاسدة التي لا يجدي معها أي إصلاح أو أية مرحمة ليبقى المجتمع متماسكا منسجما لا تتطاول عليه العناصر الشريرة، وتعبث بالقيم والمبادئ التي يدين بها المجتمع.
وهناك أمر آخر في هذا الكتاب، أثار عليه غضب الناقدين، وذلك أنه في معرض كلامه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن النبي بشر كسائر البشر» ومعناه أنه لا يتحكم في غريزته الجنسية كسائر البشر التافهين العاديين الذين لم يتحكموا في شهواتهم أو يعملوا على إعلاء غرائزهم والتسامي بها، والنظرة العابرة البسيطة تنسف تلك المقولة من أساسها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا إلا السيدة عائشة، والباقيات كنّ أيامى ثيبات قد ذهب أطيب شطرهن فالزواج بهن كان لمقاصد إنسانية صرفة، وإذن فعامل الشهوة أو الباعث الغريزي مفقودان، هذا زيادة عما في هذا التعبير
النابي من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاء لشعور المواطنين الذين يحترمونه بالغ الاحترام.
إن الحداد لو تحاشى الخوض في مثل هذه المسائل، واقتصر على تعليم البنت وسفورها لم تبلغ الحملة عليه ذروتها من الحدة، ولنوقش في بقية آرائه مناقشة هادئة مثل مسألة السفور، غاية ما في الأمر أن يكون مخطئا في التأويل أو الفهم أو يكون مقلدا لغيره.
والحداد بآرائه قد أعان على نفسه، فهل هي الشجاعة الأدبية التي تبلغ حد التهور أو الجهل باتجاهات المجتمع وآرائه وعقيدته، لا أظن هذا لأنه معروف بحدة ذكائه ورصانته.
وقد اعتبره أنصاره ومؤيدوه نصيرا للمرأة في تونس، وقيل إنه في الاتجاهات العامة لكتابه كان مقلدا للكاتب التركي الملحد ضياء كوك الب، والحداد لا يعرف اللغة التركية، وإنما اطلع على تفكيره من خلال قراءة الصحف والمجلات فاختزنت ذاكرته ما قرأ وأملته عليه عند تدوين كتابه، وكان الكتّاب الأتراك السائرون في اتجاه مصطفى كمال، والمفلسفون لمبادئه لهم دوي عند الكثيرين في ذلك العصر شرقا وغربا، ويعتبر تأييدهم والهتاف لما يدعون إليه تقدمية، وذلك لأسباب نفسية وفكرية لا داعي لذكرها.
ومما ألقى ظلالا مظلمة على الكتاب، وأثار غيوم الريب في سلامة اتجاهه وقصده عند معاصريه أن جريدة «لاتونيزي فرانساز» ذات النزعة الاستعمارية المتطرفة نشرت في ديسمبر 1930 مقالا في مناصرة الكتاب، وهذه الجريدة كان شعارها «إذا لقيت عربيا وأفعى فابدأ بقتل العربي» كما ناصرت الكتاب جريدة «تونس الاشتراكية» (الفرنسية اللسان) منها أربع مقالات للدكتور كوهين حضرية اليهودي الذي قيل عنه إنه أخطر الاشتراكيين الفرنسيين، كما أن الكنيسة قامت بتوزيع الكتاب خارج تونس، وكان المؤلف على صلة وثيقة بالقس يوسف سلام من الآباء البيض، وأقامت البلدية لمؤلف الكتاب حفلة تكريم بكازينو البلفدير، ومن
المعلوم أن البلدية إذ ذاك بيد الاستعماريين، وماذا يكون الانعكاس ورد الفعل في كافة الأوساط إزاء كتاب يباركه غلاة الاستعمار، ويمدحه يهودي، وترعاه الكنيسة في الخارج؟
ومن ذيول الحملة عليه أن الحزب القديم أغرى بعض الأوباش والصعاليك بشتمه وإهانته إذا مروا به، وهذا ينافي الآداب الإسلامية قال الله تعالى:{وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً} والحملة انحرفت عن الخط الإسلامي بالرغم من حماس القائمين بها في تشدقهم بخدمة الإسلام.
وإزاء هذه المضايقة المتناهية اضطر إلى الانزواء في منزله وتسببت له هذه الصدمة في مرض القلب، ولم يبطئ أن وافاه الأجل في عنفوان الشباب، وأبّنه اصدقاؤه ورثوه بمراثي كثيرة من أحسنها مرثية صديقه وتلميذه الصحفي الأديب السيد الهادي العبيدي وطالعها:
قفوا حيوا المجاهد والعميدا
…
وصلّوا فالنبوغ غدا شهيدا
قفوا حيوا الرجولة والمبادي
…
فذا معناهما أمسى لحيدا
وللمترجم نشاط سياسي ونقابي، فقد عمل في صفوف الحزب القديم، واشترك مع الدكتور محمد علي الحامي في تكوين النقابات التونسية، وكان كاتبا واضح الأسلوب قوي الحجة، نشر في الصحف كثيرا من المقالات السياسية والنقابية، ومنها سلسلة فصول في مناقشة الأستاذ دارويل الاشتراكي حول استقلال النقابات التونسية عن النقابات الفرنسية، والاشتراكيون يرون في هذا الاستقلال تشتيتا لقوى العمال، وهم في الحقيقة يخفون فكرة الابتلاع الاستعمارية، وكان لهذه المقالات صدى طيب ووقع حسن في الوسط، وحاز بها شهرة ككاتب صحفي ممتاز، ومفكر لامع.
وله شعر قيد به خواطره وآراء لا تسري فيه حرارة العاطفة، وإنما تبدو عليه برودة التفكير، ويسف أحيانا إلى حد النظم الخالي من الروح وأصدقاؤه ومحبوه منذ كان حيا هم: أحمد الدرعي صديقه الحميم وزميله في الدراسة، وقد سلم له آثاره المخطوطة قبيل وفاته كديوان شعره