الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن صُهَيْب «1» ، قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلَاّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» «2» انتهى.
وَحِينَ الْبَأْسِ، أي: وقْتَ شدَّة القتال، هذا قولُ المفسِّرين في الألفاظ الثلاثة، تقولُ العربُ: بَئِسَ الرَّجُلُ إِذَا افتقر، وبَؤُسَ إِذا شَجُع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البَرَّة بالصدْقِ في أمورهم، أي: هم عند الظنِّ بهم والرجاء فيهم كما تقول: صَدَقَنِي المَالُ، وصَدَقَنِي الرُّمْحُ، ووصفهم تعالى/ بالتقى، والمعنى: هم الذين جعلوا بينهم وبين 43 ب عذاب الله وقاية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ
…
الآيةَ: كُتِبَ:
معناه: فُرِضَ، وأُثْبِتَ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ «3» ، هو أنَّ القاتل فرض عليه، إذا أراد
(1) هو: صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر. أبو يحيى. الرومي. الربعي.
النمري.
وهو صحابي مشهور. روى عنه أولاده حبيب، وحمزة، وسعد، وصالح، وصيفي، وعباد، وعثمان، ومحمد. وحفيده زياد بن صيفي. وروى عنه أيضا جابر الصحابي. وسعيد بن المسيب. وإنما قيل له الرومي قيل: لأن الروم سبوه صغيرا حين كان أبوه وعمه عاملين لكسرى على «الأبلة» ، وكانت لهم منازل على «دجلة» عند الموصل، وقيل غير ذلك. وروى الستة عنه قال: لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، ولم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها، ولا غزا غزاة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، وما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامه، توفي سنة (38) وقيل (39) ، وقيل في شوال سنة 38، وله (70 سنة) .
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 36) ، «الإصابة» (3/ 254) ، «الاستيعاب» (2/ 726) ، «الاستبصار» (78، 134) ، «الرياض المستطابة» (130) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 268) ، «عنوان النجابة» (106) ، «أصحاب بدر» (108) ، «الثقات» (3/ 194) ، «الكاشف» (2/ 32) ، «حلية الأولياء» (1/ 372) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 144) ، «تنقيح المقال» (5811) ، «بقي بن مخلد» (95) .
(2)
أخرجه مسلم (4/ 2295) كتاب «الزهد» ، باب المؤمن أمره كله خير، حديث (64/ 2999) .
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم. وينظر: «تحفة الأشراف» (4/ 200) . [.....]
(3)
القصاص: أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل. كذا في «المغرب» . وفي «الصحاح» : القصاص: القود، وقد أقصّ الأمير فلانا من فلان إذا اقتصّ له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله. -
الوليُّ القتل، الاِستسلامُ لأمر اللَّه، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليِّه، وترك التعدِّي على غيره، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباحٌ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغاية عند التّشاحّ «1» ، والْقِصاصُ: مأخوذ من: قَصِّ الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل، فقص أثره فيها.
ينظر: «الصحاح» (3/ 1052) ، و «القاموس المحيط» (2/ 324) ، و «المصباح المنير» (2/ 778) ، و «المغرب» (2/ 182) .
وقد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص، واختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه، وأخذ كل يدافع عن فكرته، ويحاجج عن رأيه، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة، وقالوا: إنها غير صالحة لهذا الزمن، وقد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن مهما بلغوا في الرقي، وتقدموا في الحضارة.
كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام، ولكن للاعتداء فيها يده المثمرة، وللإسراف فيها ضرره البالغ، فحد الإسلام من غلوائها، وقصر من عدوانها، ومنع الإسراف منها. فقال تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسرا: 33] فلم يبح دم من لم يشترك في القتل قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى.
وقال عز من قائل: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ
…
[المائدة: 45] الآية، ولكنه أفسح المجال للفصل بين الناس، وترك للجماعة الراقية مع ذلك أن ترى خيرا في العفو عن الجاني فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] على أن العقلاء الذين خبروا الحوادث، وعركوا الأمور، ودرسوا طبائع النفوس البشرية، ونزعاتها وغرائزها، فهداهم تفكيرهم الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة، لإنتاج الغاية المقصودة، وهي إقرار الأمن وطمأنة النفوس، ودرء العدوان والبغي، وإنقاذ كثيرين من الهلاك، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكمة البالغة، وقدروها حق قدرها، وها نحن أولاء نرى اليوم أن الأمم التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة.
وأمكننا الآن أن نقول: إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام والقوانين الوضعية في هذا الموضوع.
أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45] فهو في غاية الحكمة والعدالة إذ لو لم يكن الأمر كذلك لاعتدى القوي على الضعيف، وشوه خلقته، وفعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك ضررا يناله، أو شرا يصيبه، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا على الباغي يسيرا على الجاني، ولتنازل الإنسان عن شيء من ماله في سبيل تعجيز عدوه، وتشويهه ما دامت القوة في يده، ولكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك، انكمش وارتدع، وسلموا جميعا من الشر.
(1)
يقال: هما يتشاحّان على أمر: إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته
…
، وتشاحّ الخصمان في الجدل كذلك. ينظر:«لسان العرب» (2205) .
روي عن ابن عَبَّاس أنَّ هذه الآية مُحْكَمة «1» ، وفيها إِجمال فسَّرته آية «المائدة» ، وأن قوله سبحانه: الْحُرُّ بِالْحُرِّ يعمُّ الرجال والنساء، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ، والمرأة بالرجل «2» .
وقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
…
الآيةَ: فيه تأويلاتٌ:
أحدها: أنَّ «مَنْ» يرادُ بها القاتلُ، و «عُفِيَ» : تتضمن عافياً، وهو وليُّ الدم، والأخُ:
هو المقتولُ، و «شَيْءٌ» : هو الدمُ الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابْنِ عَبَّاس، وجماعة من العلماء «3» ، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه.
والتأويلُ الثَّاني: وهو قول مالكٍ أنَّ «مَنْ» يراد بها الوليُّ، وعُفِيَ: بمعنى: يُسِّرَ، لا على بابها في العَفْو، والأخُ: يراد به القاتل، و «شَيْءٌ» : هي الديةُ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام.
والتأويل الثالثُ: أنَّ هذه الألفاظ في معنى: الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ، وهم قومٌ تقاتَلُوا، فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ، وتكون:«عُفِيَ» بمعنى فَضِلَ.
وقوله تعالى: فَاتِّباعٌ: تقديره: فالواجبُ والحُكْمُ: اتباع، وهذا سبيلُ الواجباتِ كقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 229] وأما المندوبُ إِلَيْه، فيأتي منصوباً كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] ، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي.
وقوله سبحانه: ذلِكَ تَخْفِيفٌ إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ، والاعتداء المتوعّد عليه في هذه
(1) المحكم: هو ما لا يحتمل شيئا من ذلك، وحكمه بثبوت ما انتظمه على اليقين، ويرادفه المبين عند علماء الشافعية.
(2)
أخرجه الطبري (2/ 110) برقم (2579) ، والبيهقي في «السنن» (8/ 39- 40) ، وذكره ابن عطية (1/ 245) ، وأورده ابن عباس في «تفسيره» (ص 93/ 52) وابن كثير (1/ 209) ، والسيوطي في «الدر» (1/ 316) ، وعزاه للنحاس في «ناسخه» .
(3)
ذكره ابن عطية في «التفسير» (1/ 245) .