الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما ترتيب التلاوة التعبديّ فباق لأنه في ذات الكلام، يدركه كلّ واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة، بينما الترتيب التاريخيّ لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن
…
وكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجا إلى معرفتها معرفة نقلية تصوّرية، ليتمكّن الآتون من استعمال القرائن والأحوال، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.
وأما السبب الثاني: فهو أنّ دلالات القرآن الأصليّة، التي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتراكيب- تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محلّ إجمال أو محلّ إبهام إذ يكون الترتيب صالحا على الترديد لمعان متباينة، يتصوّر فيها معناه الأصليّ ولا يتبيّن المراد منها، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها، أو يكنى عن حقيقة بإحدى خواصّها، أو أحد لوازمها
…
فينشأ عن ذلك إجمال يتطلّب بيانا، أو إبهام يتطلّب تعيينا
…
ولما كان الذين اتصلوا أوّلا بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد رجعوا إلى المبلّغ صلى الله عليه وسلم في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها فتلقّوا عند ما أفادهم فاطلعوا بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لتتّضح لهم تلك المعاني كما اتضحت لمن قبلهم
…
» «1» .
وبذا تبيّن أن التفسير نشأ منذ بدء الوحي إذ احتاج إليه الصحابة، ثم زادت حاجة التابعين إلى التفسير، ولا سيّما ما رآه الصحابة وسمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتمكّنوا هم من رؤيته ولا سماعه
…
ثم اشتدّت حاجة تابعي التابعين.
وهكذا كلّما بعد الناس عن عصر نزوله، زادت الحاجة إلى التفسير بمقدار ما زاد من غموض «2»
…
فهم الصّحابة للقرآن الكريم
نزل القرآن عربيّا على رسول عربيّ، وقوم عرب هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ
…
[الجمعة: 2] ، فكانوا أخبر بلغتهم، وفهموا القرآن حقّ فهمه، وقد يشكل عليهم فهم آية منه فيرجعون إلى القرآن نفسه، فقد يجدون فيه توضيحا أو تفصيلا، وإلا رجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليفسّر لهم ما أشكل عليهم
…
(1)«التفسير ورجاله» من 10- 13.
(2)
راجع «التفسير والمفسرون» / للذهبي 1/ 101- 102.
وكان الصحابة يجتهدون في فهم القرآن الكريم مستعينين على ذلك ب «1» :
1-
معرفة أوضاع اللّغة وأسرارها.
2-
معرفة عادات العرب.
3-
معرفة أحوال اليهود والنصارى في الجزيرة وقت نزول القرآن.
4-
قوّة الفهم، وسعة الإدراك.
وبدهيّ أن يتفاوت الصحابة في توافر هذه الأدوات عندهم. وبالتّالي في فهم القرآن الكريم فلم يكونوا جميعا في مرتبة واحدة، ومن هنا كان الاختلاف اليسير بينهم في تفسير القرآن الكريم.
ومن ذلك:
- وفيه ما رواه البخاريّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «3» :
«كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر. فكأنّ بعضهم وجد في نفسه، وقال: لم يدخل هذا معنا، وإنّ لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنّه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] ؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذ نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم، ولم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عبّاس؟
فقلت: لا، فقال: ما تقول؟
قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ
(1) راجع «التفسير والمفسرون» 1/ 59 وما بعدها.
(2)
«الموافقات» للشاطبي ج 3/ 384، «التفسير والمفسرون» 1/ 61، 62. [.....]
(3)
«فتح الباري بشرح صحيح البخاري» 8/ 519، / باب التفسير، وكذا «أسد الغابة» .