الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
678 - محمد بن عبد الواحد بن أبى هاشم أبو عمر اللغوىّ الزاهد المعروف بغلام ثعلب
«1»
فاضل كامل، حافظ للّغة. روى الكثير عن الأئمة الأثباث وروى عنه الجم الغفير. وكان اشتغاله بالعلوم واكتسابها قد منعه عن اكتساب الرزق والتحيّل له؛ فلم يزل مضيّقا عليه، وكانت صناعته التطريز.
وكان ابن ماسى ينفذ إليه فى الوقت بعد الوقت ما ينفقه عليه، ثم قطع عنه ذلك مدّة لعذر عارضه. ثم أنفذ إليه بعد ذلك جملة ما أخره عنه. وكتب إليه رقعة يعتذر فيها عن تأخيره ذلك، فردّ عليه ما سيّره، وأمر بعض من بين يديه أن يكتب على ظهر رقعته:«أكرمتنا فملكتنا؛ وتركتنا فأرحتنا» .
وابن ماسى هذا هو إبراهيم بن أيوب، والد أبى محمد. والله أعلم.
وكان أبو عمر- رحمه الله يحثّ الطلبة على مكارم الأخلاق، وكان يقول لهم: ترك حقوق الإخوان مذلة، وفى قضاء حقوقهم رفعة، فاحمدوا الله على ذلك، وسارعوا إليه، وبالغوا فى قضاء حوائجهم ومسارّهم تكافئوا على ذلك.
وكان مغاليا فى حبّ معاوية، وعنده جزء من فضائله. وكان إذا ورد إليه من يروم الأخذ عنه ألزمه قراءة ذلك الخبر. وكان جماعة يكذّبونه فى أكثر رواياته اللغة ويقولون: لو طار طائر لقال أبو عمر: «حدّثنا ثعلب عن ابن الأعرابى
…
»،
ويذكر فى معنى ذلك شيئا. فأما رواية الحديث فالمحدّثون يوثّقونه على ذلك.
وكان حافظا مكثرا من اللغة أملى جميع ما ينسب من التصانيف من لسانه من غير صحيفة، وكتبها الرواة عنه ومن غير إملائه.
ويقال: إنه أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة لغة؛ فلذلك الإكثار نسب إلى الكذب. وكان يسأل عن شىء قد تواطأ الجماعة على وضعه فيجيب عنه، ثم يترك سنة ويسأل عنه، فيجيب ذلك الجواب بعينه.
فمما جرى له فى ذلك أنّ جماعة قصدوه للأخذ عنه؛ فتذاكروا فى طريقهم عند قنطرة هناك [1] إكثاره وكذبه، فقال أحدهم: أصحّف له اسم هذه القنطرة وأسأل عنه؛ فانظروا ماذا يجيب؟ فلما دخلوا عليه قال له: أيها الشيخ، ما «الهرطنق [2]» عند العرب؟ فقال: كذا وكذا. فضحك الجماعة سرّا وانصرفوا. وبعد شهر تركوا من سأله عنها فقال: ألست سألت عن هذه المسألة من مدّة كذا وكذا، وأجبت عنها بكذا! فعجب الجماعة من فطنته وذكره للمسألة والوقت، وإن لم يتحققوا صحة ما ذكره.
وكان أبو الحسن معز الدولة بن بويه [3] قد قلّد شرطة بغداذ لغلام له اسمه خواجا، فبلغ أبا عمر الزاهد الخبر- وكان يملى كتاب الياقوته»، فلما جلس للإملاء قال:
[1] فى تاريخ بغداد: «قنطرة الصراة» ، والصراة: نهر ببغداد.
[2]
فى الأصلين: «القنطرة» وهو تصحيف، وما أثبته عن معجم الأدباء.
[3]
هو معز الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه بن فناخسرو، أحد ملوك دولة بنى بويه، ملك بغداد نيفا وعشرين سنة، وتوفى سنة 356. شذرات الذهب (3: 18)، والنجوم الزاهرة (4: 14).
اكتبوا ياقوتة خواجا، الخواج فى أصل لغة العرب الجوع، ثم فرّع على هذا بابا وأملاه؛ فاستعظم الناس ذلك من كذبه، وتتبعوه فى كتب اللغة.
قال أبو على الحاتمىّ الكاتب اللغوىّ: أخرجنا فى أمالى الحامض عن ثعلب عن ابن الاعرابى: الخواج: الجوع.
وكان أبو عمر الزاهد يؤدّب ولد القاضى أبى عمر محمد بن يوسف [1]. فأملى يوما على الغلام نحوا من ثلاثين مسألة فى اللغة، وذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر.
وحضر أبو بكر بن دريد وأبو بكر بن الأنبارى وأبو بكر بن مقسم عند أبى عمر، فعرض عليهم تلك المسائل؛ فما عرفوا منها شيئا، وأنكروا الشعر. فقال لهم القاضى:
ما تقولون فيها؟ فقال له ابن الأنبارى: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، ولست أقول شيئا. وقال ابن مقسم مثل ذلك واحتج باشتغاله بالقراءات. وقال ابن دريد:
هذه المسائل من موضوعات أبى عمر، ولا أصل لشىء منها فى اللغة؛ وانصرفوا.
وبلغ أبا عمر ذلك فاجتمع مع القاضى وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عيّنهم لهم؛ ففتح القاضى خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر يعمد إلى كلّ مسألة ويخرج لها شاهدا من بعض تلك الدواوين ويعرضه على القاضى حتى استوفى جميعها، ثم قال: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضى، وكتبهما القاضى بخطه على ظهر الكتاب الفلانىّ. فأحضر القاضى الكتاب فوجد البيتين على ظهره بخطّه كما ذكر أبو عمر. وانتهت القصة إلى ابن دريد، فلم يذكر أبا عمر بلفظة حتى مات.
[1] هو أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب القاضى الأزدىّ. ولى قضاء بغداذ والأعمال المتصلة بها سنة 284؛ ثم نقل إلى قضاء الشرقية سنة 296، ثم صرف عنها سنة 297، ولازم منزله، ثم عاد إلى القضاء بعد ذلك، ونقل الناس عنه علما من الحديث والفقه والأخبار، وتوفى سنة 320. تاريخ بغداد (3: 401).
قال رئيس الرؤساء [1]: وقد رأيت أشياء كثيرة مما استنكر على أبى عمر ونسب إلى الكذب فيها مدوّنه فى كتب أئمّة أهل العلم، وخاصة فى غريب المصنف لأبى عبيد، أو كما قال.
وقال عبد الواحد بن على بن برهان الأسدىّ أبو القاسم [2]: لم يتكلّم فى علم اللغة أحد من الأوّلين والآخرين أحسن من كلام أبى عمر الزاهد. قال: وله كتاب غريب الحديث، وصنفه على مسند أحمد بن حنبل، وكان يستحسنه جدا.
قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد [3] النحوىّ: أنشدنا أبو العباس بن اليشكرىّ فى مجلس أبى عمر محمد بن عبد الواحد اللغوىّ يمدحه:
أبو عمر أوفى من العلم مرتقى
…
يزل مساميه ويردى مطاوله [4]
فلو أننى أقسمت ما كنت كاذبا
…
بأن لم ير الراءون بحرا يعادله
هو الشّخت [5] جسما والفضائل جمّة
…
فأعجب بمهزول سمين فضائله [6]
تضمّن من دون الحناجر زاخرا
…
تغيب على من لجّ فيه سواحله
إذا قلت شارفنا أواخر علمه
…
تفجّر حتى قلت هذا أوائله
[1] هو أبو القاسم على بن الحسن بن أحمد المعروف بابن مسلمة، استكتبه الخليفة القائم بأمر الله واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، شرف الوزراء، جمال الورى، وكان عالما بفنون كثيرة. قتله أبو الحارث البساسيرى سنة 451، فى قصة مشهورة. (انظر تاريخ بغداد 12: 491)، و (النجوم الزاهرة 5: 64).
[2]
تقدّمت ترجمته للمؤلف فى الجزء الثانى ص 213.
[3]
تقدّمت ترجمته للمؤلف فى الجزء الثانى ص 152.
[4]
المرتقى: المكان العالى. ومساميه: مفاخره. ومطاوله: مغالبه.
[5]
الشخت: الضامر من غير هزال.
[6]
روايته فى معجم الأدباء:
هو الشخت جسما والسمين فضيلة
…
فأعجب بمهزول سمان فضائله
مولد أبى عمر- رحمه الله فى سنة إحدى وستين ومائتين. وتوفى- رحمه الله يوم الأحد، ودفن فى يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، ودفن فى الصّفة التى دفن فيها بعده أبو بكر الأدمىّ القارىء، وهى مقابلة قبر معروف الكرخى؛ بينهما عرض الطريق. كان ينزل فى سكة أبى العنبر ببغداد، وبلغ من السّن ستا وثمانين سنة.
ولمّا صنّف كتاب الياقوت فى اللغة، زاد فيه مرّة بعد مرّة. رئى [1] من خطّ أبى الفتح عبيد الله بن أحمد النحوىّ، [عليه]، وكان صدوقا بحاثا [منقرا [2]]، قال: «وكان أبو عمر محمد بن عبد الواحد صاحب أبى العباس ثعلب ابتدأ بإملاء هذا الكتاب كتاب الياقوت يوم الخميس لليلة بقيت من المحرّم سنة ست وعشرين وثلاثمائة فى جامع المدينة، مدينة أبى جعفر، ارتجالا من غير كتاب ولا دستور [3]، فمضى فى الإملاء مجلسا [مجلسا [2]] إلى أن انتهى إلى آخره، وكتبت ما أملى مجلسا يتلو [4] مجلسا، ثم رأى الزيادة [فيه [2]] فزادنى أضعاف ما أملى. وارتجل يواقيت أخر؛ واختص بهذه الزيادة أبو محمد الصفار، لملازمته وتكرير قراءته لهذا الكتاب على أبى عمر؛ فأخذت الزيادات منه. ثم جمع الناس على قراءة أبى إسحاق [5] الطّبرىّ له، وسمّى هذه القراءة الفذلكة، فقرأه عليه وسمعه الناس. ثم زاد فيه بعد ذلك، فجمعت أنا فى كتابى
[1] فى الأصلين: «فرأى» ، والخبر فى فهرست ابن النديم، والعبارة فيه: «كتاب الياقوت فى اللغة. خبر هذا الكتاب وكيف صح، قرأت بخط أبى الفتح عبيد الله بن أحمد النحوىّ عليه- وكان صدوقا بحاثا منقرا
…
»، وساق بقية الخبر.
[2]
من الفهرست.
[3]
الدستور فى أصل اللغة: النسخة المعمولة للجماعة.
[4]
فى ابن النديم: «مجلسا مجلسا» .
[5]
هو إبراهيم بن أحمد بن محمد أبو إسحاق الطبرى، صاحب أبى عمر الزاهد. تقدّمت ترجمته للمؤلف فى الجزء الأوّل ص 193.
الزيادات كلها، وبدأت بقراءة الكتاب عليه يوم الثلاثاء لثلاث ليال بقين من ذى القعدة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة إلى أن فرغت منه فى شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. وحضرت النسخ كلّها عند قراءتى نسخة أبى إسحاق الطبرىّ ونسخة أبى محمد الصّفار ونسخة أبى محمد بن سعد القطربلىّ ونسخة أبى محمد الخفاجىّ [1] وزادنى [2] فى قراءتى عليه أشياء، وتوافقنا فى الكتاب من أوله إلى آخره. ثم ارتجل بعد ذلك يواقيت أخر وزيادات فى أضعاف الكتاب، واختص بهذه الزيادة أبو محمد وهب لملازمته [3]، ثم جمع الناس ووعدهم بعرض أبى إسحاق الطبرىّ عليه هذا الكتاب، ويكون آخر جزء [4] منه يتقرّر عليه هذا الكتاب، ولا يكون بعدها زيادة، وسمى هذه العرضة المحرابية [5]. واجتمع الناس يوم الثلاثاء من جمادى الأولى من سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة فى منزلى [6] بحضرة [7] سكة أبى جهير، فأملى على الناس ما نسخته»:
قال أبو الفتح: «وبدأ بهذه العرضة يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة» .
[1] فى الفهرست «الحجازىّ» .
[2]
فى الفهرست: «وزاد لى» .
[3]
فى الأصل «لمابان» ، وصوابه من الفهرست.
[4]
فى الفهرست: «وتكون آخر عرضة يتقرر عليها الكتاب» .
[5]
فى الفهرست: «البحرانية» .
[6]
فى الفهرست: «منزله» .
[7]
فى الفهرست: «قطيعة أبى العنبر» .