الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن السترة أمام المصلي
قوله في حكمها: "يستحب للمصلي أن يجعل بين يديه سترة
…
".
أقول: القول بالاستحباب ينافي الأمر بالسترة في عدة أحاديث ذكر المؤلف أحدها وفي بعضها النهي عن الصلاة إلى غير سترة وبهذا ترجم له ابن خزيمة في "صحيحه" فروى هو ومسلم عن ابن عمر مرفوعا: "لا تصل إلا إلى سترة
…
". وإن مما يؤكد وجوبها أنها سبب شرعي لعدم بطلان الصلاة بمرور المرأة البالغة والحمار والكلب الأسود كما صح ذلك في الحديث ولمنع المار من المرور بين يديه وغير ذلك من الأحكام المرتبطة بالسترة وقد ذهب إلى القول بوجوبها الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 2 و "السيل الجرار" 1 / 176 وهو الظاهر من كلام ابن حزم في "المحلى" 4 / 8 – 15.
قوله تحت رقم 1 -: "وعن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا فإن لم يكن من عصا فليخط خطا ولا يضره ما مر بين يديه". رواه أحمد وأبو داود وابن حبان وصححه كما صححه أحمد وابن المديني وقال البيهقي: لا بأس بهذا الحديث في هذا الحكم إن شاء الله".
قلت: الحديث ضعيف الإسناد لا يصح وإن صححه من ذكرهم المؤلف فقد ضعفه غيرهم وهم أكثر عددا وأقوى حجة ولا سيما وأحمد قد اختلفت الرواية عنه فيه فقد نقل الحافظ في "التهذيب" عنه أنه قال: "الخط ضعيف". وذكر في "التلخيص" تصحيح أحمد له نقلا عن "الاستذكار" لابن عبد البر ثم عقب على ذلك بقوله: "وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم".
وفي "التهذيب" أيضا:
"وقال الدارقطني: لا يصح ولا يثبت. وقال الشافعي في سنن حرملة: ولا يخط المصلي بين يديه خطا إلا أن يكون ذلك في حديث ثابت فيتبع".
قلت: وقال مالك في "المدونة": "الخط باطل". وضعفه من المتأخرين ابن الصلاح والنووي والعراقي وغيرهم وهو الحق لأن له علتين تمنعان من الحكم بحسنه فضلا عن صحته وهما الاضطراب والجهالة ونفي الاضطراب كما ذهب إليه الحافظ في "بلوغ المرام" لا يلزم منه انتفاء الجهالة كما لا يخفى فكأنه ذهل عنها حين حسن الحديث وإلا فقد اعترف هو في "التقريب" بجهالة راوييه أبي عمرو بن محمد بن حريث وجده حريث
والمعصوم من عصمه الله.
وقد فصلت القول في علتي الحديث وذكرت أقوال العلماء الذين ضعفوه في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 107 وقد مضى تمثيل ابن الصلاح به للحديث الشاذ في المقدمة فراجع القاعدة الأولى.
وفي قول البيهقي الذي نقله المؤلف إشارة لطيفة إلى تضعيف الحديث حيث قيد قوله:
"لا بأس به" بـ "في هذا الحكم".
فكأنه يذهب إلى أن الحديث في فضائل الأعمال فلا بأس بالحديث فيها وكأن هذا هو مستند النووي في قوله في "المجموع":
"المختار استحباب الخط لأنه وإن لم يثبت الحديث ففيه تحصيل حريم للمصلي وقد قدمنا اتفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال دون الحلال والحرام وهذا من نحو فضائل الأعمال".
قلت: ويرد عليه وعلى البيهقي قول الشافعي المنقول عن "التهذيب" فإنه صريح بأنه رضي الله عنه لا يرى مشروعية الخط إلا أن يثبت الحديث وهذا يدل على أحد أمرين:
إما أنه يرى أن الحديث ليس في فضائل الأعمال بل في الأحكام وهذا هو الظاهر من كلامه.
وإما أنه لا يرى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال وهذا هو الحق الذي لا شك فيه وقد بينت ذلك في "المقدمة".
قوله في تحريم المرور بين يدي المصلي وسترته: "وعن زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه". رواه البزار بسند صحيح".
قلت: كلا ليس بصحيح لأن شروط الصحة لم تكتمل فيه فإن منها السلامة من الشذوذ ولم يسلم بل أخطأ أحد رواته وهو ابن عيينة في موضعين منه:
الأول: جعل الحديث من مسند زيد بن خالد والصواب أنه من مسند أبي جهيم كما في رواية الجماعة المذكورة في الكتاب قبل هذا وفيها التصريح بأن زيد بن خالد أرسل إلى أبي جهيم يسأله عن هذا الحديث فزيد سائل فيه وليس براو له.
الثاني: قوله: "أربعين خريفا" فهذه الزيادة: "خريفا" خطأ من ابن عيية فإنه رواه عن أبي النضر عن بسر بن سعيد وخالفه مالك وسفيان الثوري فقالا: قال أبو النضر: "لا أدري أقال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة؟ "
وهو رواية الجماعة وهو رواية أحمد عن ابن عيينة أيضا فهي تقوي خطأ رواية البزار عنه.
قال الحافظ في "الفتح":
"فيبعد أن يكون الجزم يعني قوله: خريفا والشك وقعا معا في راو واحد في حال واحدة".
ولعل مستند المؤلف في التصحيح قول المنذري والهيثمي في الحديث:
"رواه البزار ورجاله رجال الصحيح".
ولا متكأ له في هذا البتة كما نبهناك مرارا وفصلنا ذلك في المقدمة.
ثم قال: "قال ابن حبان وغيره: التحريم المذكور في الحديث إنما هو إذا صلى الرجل إلى سترة فأما إذا لم يصل إلى سترة فلا يحرم المرور بين يديه واحتج أبو حاتم هو ابن حبان على ذلك بما رواه في "صحيحه" عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت النبي حين فرغ من طوافه في حاشية المطاف فصلى ركعتين وليس بينه وبين الطوافين أحد
…
".
قلت: الحديث المذكور ضعيف لأنه من رواية كثير بن كثير بن المطلب وقد اختلف عليه في إسناده فقال ابن عيينة: عنه عن بعض أهله أنه سمع جده المطلب. وقال ابن جريج: أخبرني كثير بن كثير عن أبيه عن جده.
قال سفيان: فذهبت إلى كثير فسألته قلت: حديث تحدثه عن أبيك؟ قال: لم أسمعه من أبي حدثني بعض أهلي عن جدي المطلب.
أخرجه أبو داود والبيهقي وقال:
"وقد قيل عن ابن جريج عن كثير عن أبيه قال: حدثني أعيان بني المطلب عن المطلب. ورواية ابن عيينة أحفظ".
قلت: ومرجع هذه الرواية على بعض أهل كثير ولم يسم فهو مجهول
وسماه ابن جريج: "كثير بن المطلب وهو أيضا مجهول وتوثيق ابن حبان له لا يخرجه عن الجهالة وقد أشار الحافظ في "التقريب" إلى أنه لين الحديث.
ثم إن الحديث لو صح لم يكن نصا فيما استدل له ابن حبان لأنه يحتمل أن يكون جواز المرور بين يدي المصلي الذي ليس أمامه سترة خاصا بالمسجد الحرام وقد استدل بعض العلماء به على ذلك. والله أعلم.
قوله في حكمها: "ويرى الحنفية والمالكية أن اتخاذ السترة إنما يستحب للمصلي عند خوف مرور أحد..لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم. صلى في فضاء وليس بين يديه شيء. رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وقال: وله شاهد أصح من هذا عن الفضل بن عباس".
فأقول: فيه مؤاخذات.
الأولى: أن التعليل المذكور مجرد رأي لا دليل عليه وفيه إهدار للنصوص الموجبة لاتخاذ السترة - وقد سبق ذكر بعضها - بمجرد الرأي وهذا لا يجوز وبخاصة أنه يمكن أن يكون المار من الجنس الذي لا يراه الإنسي وهو الشيطان وقد جاء ذلك صريحا من قوله وفعله عليه الصلاة والسلام فقد صح عنه أنه قال:
"إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته".
وهو مخرج في "الصحيحة" 1373 وتأويل "الشيطان" بالإنسي المار مجاز لا مسوغ له إلا ضعف الإيمان بالغيب!
وقد صح أن الشيطان أراد أن يفسد على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فمكنه الله منه وخنقه حتى وجد برد لعابه بين إصبعيه وقال:
"والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به أهل المدينة".
والقصة في مسلم 2 / 73 وعبد الرزاق 2 / 24 / 2338 وأحمد 1 / 413 و3 / 82 و5 / 104 و105 والطبراني في "الكبير" 2 / 224 و227 و251 عن غير واحد من الصحابة بألفاظ متقاربة.
انظر "صفة الصلاة"74.
الثانية: أن حديث ابن عباس الذي استدل به لا يصح من قبل إسناده فيه الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف مدلس وقد عنعنه.
وهو مخرج عندي في "الأحاديث الضعيفة" 5814 مع أحاديث أخرى بمعناه.
الثالثة: أنه عزاه لأبي داود وهو خطأ فليس هو عنده وإنما رواه نحوه من حديث الفضل بن عباس الذي يأتي الكلام عليه بعده.
الرابعة: قوله: وقال البيهقي: وله شاهد بإسناد أصح من هذا عن الفضل بن عباس.
قلت: هذا من تساهل البيهقي رحمه الله لأنه من رواية عباس بن عبيد الله بن عباس عن الفضل بن عباس.
وقد قال الحافظ في "التهذيب":
"أعله ابن حزم بالانقطاع قال 4 / 13: إن عباسا لم يدرك عمه الفضل. وهو كما قال. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله".
وغفل عن هذه العلة الانقطاع الشوكاني في "نيل الأوطار" 3 / 8 وتبعه المعلق على "شرح السنة" 2 / 461!
قوله:" 7 لا يقطع الصلاة شيء
…
لحديث أبي داود عن أبي الوداك قال: مر شاب من قريش بين يدي أبي سعيد وهو يصلى فدفعه ثم عاد فدفعه ثم عاد فدفعه ثلاث مرات. فلما انصرف قال: إن الصلاة لا يقطعها شيء ولكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا ما استطعتم فإنه شيطان".
قلت: الحديث ضعيف لا يحتج به لأنه من رواية مجالد بن سعيد عن أبي الوداك ومجالد ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره كما قال الحافظ في "التقريب" وقد اضطرب في رواية هذا الحديث فمرة أوقف قوله فيه: "إن الصلاة لا يقطعها شيء" ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية الكتاب ومرة رفعها إليه صلى الله عليه وسلم كما في رواية أخرى لأبي داود ولذلك ضعف الحديث ابن حزم والنووي.
ويؤيد ضعف هذه الجملة منه مرفوعة وموقوفة أن قصة أبي سعيد مع الشاب في "الصحيحين" من طريق أخرى عن أبي سعيد دون هذه الجملة فثبت أنها منكرة في هذا الحديث.
نعم رويت هذه الجملة من طرق أخرى عن بعض الصحابة ولكنها كلها ضعيفة خلافا لبعض المحدثين المعاصرين وقد بينت ذلك في "ضعيف سنن أبي داود" رقم 116 و117 وفي "الضعيفة"5661.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذه الأحاديث الضعيفة وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"يقطع صلاة الرجل - إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل - الحمار والكلب الأسود والمرأة".
أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي ذر وهو في كتابي "صحيح سنن أبي داود" رقم 699. ولو أن تلك الأحاديث صحت لأمكن التوفيق بينها وبين هذا.
الحديث الصحيح بصورة لا يبقى معها وجه للتعارض أو دعوى النسخ وذلك بأن يقيد عموم تلك الأحاديث بمفهوم هذا فنقول: "لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديه سترة وإلا قطعها المذكورات فيه" بل إن هذا الجمع قد جاء منصوصا عليه في رواية عن أبي ذر مرفوعا بلفظ:
"لا يقطع الصلاة شيء إذا كان بين يديه كآخر الرحل وقال: يقطع الصلاة المرأة
…
".
أخرجه الطحاوي بسند صحيح.
وبهذا اتفقت الأحاديث ووجب القول بأن الصلاة يقطعها الأشياء المذكورة عند عدم السترة. وهو مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقد قال في خاتمة بحث له في هذه المسألة:
"والذين خالفوا أحاديث القطع للصلاة لم يعارضوها إلا بتضعيف بعضهم وهو تضعيف من لم يعرف الحديث كما ذكر أصحابه أو بأن عارضوها بروايات ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقطع الصلاة شيء". أو بما روي في ذلك عن الصحابة وقد كان الصحابة مختلفين في هذه المسالة أو برأي ضعيف لو صح لم يقاوم هذه الحجة".
انظر كتابه "القواعد النورانية" 9 - 12 و "زاد المعاد" 1 / 111.