الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ جَوَازِ غَسْلِ الحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا، وَتَرْجِيلِهِ، وَطَهَارَةِ سُؤْرِهَا، وَالِاتِّكَاءِ فِي حِجْرِهَا، وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ فِيهِ
[297]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ.
[خ: 2031]
وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أن عائشة- زوج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: إِنْ كُنْتُ لَأَدْخُلُ البَيْتَ لِلْحَاجَةِ وَالْمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا. وَقَالَ ابْنُ رُمْحٍ: إِذَا كَانُوا مُعْتَكِفِينَ.
حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ- زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخْرِجُ إِلَيَّ رَأْسَهُ مِنَ المَسْجِدِ وَهُوَ مُجَاوِرٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
[خ: 2031]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ هِشَامٍ، أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، فَأُرَجِّلُ رَأْسَهُ وَأَنَا حَائِضٌ.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ.
قولها: ((فَأُرَجِّلُه)) الترجيل: تسريح الشعر وغسله.
وقولها: ((وهو مجاور))، يعني: وهو معتكف.
يستفاد من هذه الأحاديث:
1 -
أن بدن الحائض طاهر؛ ولهذا كانت رضي الله عنها تُرَجِّلُ شعره صلى الله عليه وسلم وهي حائض.
2 -
أنه لا ينبغي للمعتكف أن ينشغل بأمور الدنيا؛ فينبغي للمعتكف أن يخلو بربه، ولا يجعل مكان الاعتكاف مكانًا للتحدث، إلا ما كان قليلا فيعفى عنه، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزوره بعض نسائه وهو معتكف، فيتحدث إليها، فعنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ صَفِيَّةَ- زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ، فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ
(1)
.
3 -
أن الإنسان إذا أخرج رأسه من المسجد فلا يعتبر خارجًا عنه، ولا يخل هذا باعتكافه، وعليه: فإذا حلف الإنسان أن لا يخرج من المسجد هذه الساعة- مثلًا- ثم أخرج يده، أو رجله، أو رأسه، لا يحنث؛ لأنه لا يعتبر خروجًا.
4 -
أن المعتكف لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة، من بول، أو غائط، أو غسل إذا لزمه غسل، وكذا الأكل والشرب إذا لم يكن عنده في المسجد من يأتي له بالأكل والشرب.
5 -
أن المعتكِف لا يزور مريضًا، ولا يتبع جنازة إلا إذا اشترط.
6 -
أن المعتكِف إذا دخل بيته وسأل عَنِ المريض وهو مارٌّ فلا يضر سؤاله، كما كانت عائشة رضي الله عنها، تفعله-كما تقدم- قَالَتْ: فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ، إِلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ.
7 -
أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكرم شعره، وما كان يحلق شعر رأسه إلا في حج، أو عمرة، وكان يترك شعره حتى يكون وفرة ويكون جمَّة، وسئل الإمام أحمد عن اتخاذ الشعر، فقَالَ:((سنة حسنة، ولو أمكننا لا تخذناه))، وفي
(1)
أخرجه البخاري (3101).
رواية أخرى: ((لو كنا نقوى عليه لاتخذناه، ولكن له كلفة ومؤنة))
(1)
، وفي الحديث:((مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ))
(2)
.
وحلق الشعر جائز: فقد فعله عمر رضي الله عنه، وأمر بحلق شعور بعض الناس إذا كان فيه فتنة، أو كان فيه تشبهًا ببعض الكفرة
(3)
.
8 -
جواز استخدام الزوجة للغسل والطبخ والخبز وغيره برضاها، ولو كانت شريفة، وعلى هذا تظاهرت دلائل السنة وأئمة السلف وإجماع الأمة، وأما بغير رضاها فلا يجوز؛ لأن الواجب عليها تمكين الزوجة من نفسها فقط، وهذا هو المقصود من عقد النكاح، وما زال المسلمون يستخدمون زوجاتهم، وعلى هذا جرت الأعراف، وكانت بنت النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها تخدم زوجها عليًّا رضي الله عنه، وكانت تطحن، فشَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَانْطَلَقَتْ، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ، فَقَالَ:((عَلَى مَكَانِكُمَا))، فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، وَقَالَ:((أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ))
(4)
.
وكذلك زوجةُ الزبيرِ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ، وَلَا شَيْءٍ، غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْتَقِي المَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ
(1)
المغني، لابن قدامة (1/ 66)، الآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 329).
(2)
أخرجه أبو داود (4163)، والبيهقي في الآداب (560).
(3)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 312)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (62/ 21).
(4)
أخرجه البخاري (3113)، ومسلم (2727).
النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِي، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الأَنْصَارِ، فَدَعَانِي، ثُمَّ قَالَ:((إِخْ إِخْ))، لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ، فَقُلْتُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رَأْسِي النَّوَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لِأَرْكَبَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ: حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ يَكْفِينِي سِيَاسَةَ الفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري (5224)، ومسلم (2182).
[298]
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((نَاوِلِينِي الخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ))، قَالَتْ: فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ:((إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)).
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ حَجَّاجٍ، وَابْنِ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُنَاوِلَهُ الخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ:((تَنَاوَلِيهَا؛ فَإِنَّ الحَيْضَةَ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ)).
[299]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كَامِلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ:((يَا عَائِشَةُ، نَاوِلِينِي الثَّوْبَ))، فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ:((إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ، فَنَاوَلَتْهُ)).
قوله: ((نَاوِلِينِي الخُمْرَةَ مِنَ المَسْجِدِ)) الخُمرَةُ: المصلى الصغير من سعف النخل، تكون على قدر الوجه والكفين؛ سميت بذلك لأنها تخمِّر الوجه، أي: تستره، يضعها المصلي لتقيه الحر والبرد، فإذا كانت كبيرة تسمى حصيرًا.
في هذه الأحاديث: دليل على أن بدن الحائض طاهر؛ فلا بأس بمرور الحائض في المسجد، قال تعالى:{ولا جنبًا إلا عابري سبيل} ، لكن المكث في المسجد هو الممنوع.
قوله: ((مِنَ المَسْجِدِ)) قال القاضي عياض: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا وهو في المسجد؛ لتناوله إياها من خارج المسجد، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرجها
له من المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في المسجد معتكفًا، وكانت عائشة في حجرتها وهي حائض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ))، فإنما خافت من إدخال يدها المسجد، ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنًى، والله أعلم))
(1)
.
قال النووي: ((وقد اختلف في متعلق الجار المجرور ((مِنَ المَسْجِدِ))؛ فعلقته طائفة بـ ((نَاوِلِينِي))، واستدلوا به على جواز دخول الحائض المسجد للحاجة تَعْرِض لها، إذا لم يكن على جسدها نجاسة، وأنها لا تُمنع من المسجد إلا مخافة ما يكون منها، وإلى هذا نحى محمد بن مسلمة من أصحابنا وبعض المتأخرين إذا استثفرت، ومتى خرج منها شيء لم تدخله.
وعلقته طائفة أخرى على التقديم والتأخير، وعليه المشهور من مذاهب العلماء أنها لا تدخل المسجد لا مقيمة ولا عابرة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:((فَإِنِّي لَا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍ، وَلَا جُنُبٍ))
(2)
، ولأنَّ حدثها أفحش من حدث الجنابة، وقد اتفق على أن الجنب لا يمكث فيه، وإنما اختلفوا في جواز عبوره فيه، والمشهور من مذاهب العلماء منعه، والحائض أولى بالمنع))
(3)
.
واستُدِلَّ بقوله تعالى: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل} : على أن الصواب جواز عبور الحائض المسجد كالجنب، ولا بأس بذلك إذا أمنت تلويث المسجد، وكانت متحفظة، وظاهر الحديث يدل على أنه لا بأس بمرور الحائض في المسجد.
وأما قول القرطبي: ((الوضوء لا يرفع حدث الجنابة، وكل موضع وضع للعبادة وأكرم عَنِ النجاسة الظاهرة ينبغي ألا يدخله من لا يُرضى لتلك
(1)
شرح مسلم، للنووي (3/ 220).
(2)
أخرجه أبو داود (232)، وابن خزيمة (1327)، والبيهقي في الكبرى (4323).
(3)
شرح مسلم، للنووي (3/ 210 - 211).
العبادة، ولا يصح له أن يتلبس بها))
(1)
، فهو قول مخالف للنص.
وما ذُكر عن عطاء بن يسار أنه قَالَ: ((كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة، فيتوضؤون ويأتون المسجد فيتحدثون فيه))
(2)
؛ فهذا اجتهاد من بعض الصحابة رضوان الله عليهم، والأقرب المنع، كما قال الله تعالى:{ولا جنبًا إلا عابري سبيل} ، فالمكث في المسجد ممنوع للجنب والحائض.
وقوله: ((تَنَاوَلِيهَا)) فيه: دليل على أنها كانت في المسجد، وهي تأخذها من المسجد، فالروايات تفسر بعضها بعضًا، وهذا من فوائد الروايات المتعددة.
[300]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مِسْعَرٍ، وَسُفْيَانَ عَنِ المِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وَأَتَعَرَّقُ العَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ.
وَلَمْ يَذْكُرْ زُهَيْرٌ: فَيَشْرَبُ.
في هذا الحديث: حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، وإيناسه لأهله، فكانت عائشة رضي الله عنها وهي حائض- تشرب من الإناء، فتناوله النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه مكان فمها، وكانت تتعرق العَرْقَ- وهو العظم الذي فيه بقية من لحم- ثم تناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه مكان فمها.
وفيه: أن بدن الحائض ولعابها وعَرَقها طاهر، كما سبق قريبًا.
(1)
تفسير القرطبي (5/ 208).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1557) عن زيد بن أسلم بنحوه.
[301]
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ المَكِّيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ.
[302]
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ اليَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي البُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ
…
} إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ، إِلَّا النِّكَاحَ))، فَبَلَغَ ذَلِكَ اليَهُودَ، فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا، إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ، فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اليَهُودَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا، فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَعَرَفَا أَنْ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا.
قوله: ((يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ، فَيَقْرَأُ القُرْآنَ)) فيه: أنه لا بأس بقراءة القرآن للمتكئ في حجر الحائض؛ لأن بدنها طاهر.
وقوله: ((فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ ))، يعني: أفَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ على حذف حرف الاستفهام.
وقوله: ((لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا))، يعني: لم يغضب عليهما.
وقوله: ((إَنَّ اليَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ فِيهِمْ، لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي البُيُوتِ)) في هذا دليل على تشدد اليهود، فإنهم كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، بل يجعلوها في غرفة خاصة مستقلة، ويعزلوها، فأنزل الله تعالى: {ويسألونك عَنِ المحيض
قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ)).
وقوله: ((اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ)) فيه: أنه يجوز للإنسان أن يباشر زوجته الحائض، ولو بدون إزار، مع اجتناب الفرج.
واختلف العلماء فيمن جامع زوجته الحائض هل عليه كفارة أو لا؟ على قولين:
القول الأول: ليس عليه شيء عند الجمهور، ولكنه ارتكب إثمًا وذنبًا عظيما، عليه التوبة والندم والاستغفار منه، وعدم العودة إليه.
القول الثاني: أن عليه كفارة مقدارها دينار، أو نصف دينار، واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَإِنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطًا فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، وَإِنْ كَانَتْ صُفْرَةً فَلْيَتَصَدَّقْ بِنِصْفِ دِينَارٍ))
(1)
.
ولا تحل المرأة الحائض إذا طهرت لزوجها إلا بشرطين:
الشرط الأول: انقطاع الدم.
الشرط الثاني: الاغتسال.
قال تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، أي: حتى ينقطع الدم، {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} ، أي: فإذا تطهرن بالاغتسال.
(1)
أخرجه أحمد (3473)، وأبو داود (2168)، والترمذي (137)، والنسائي في الكبرى (9058)، وابن ماجه (640)، والدارمي (1151)، والدارقطني (3706).