الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
[160]
حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ- زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُولَاتِ الْعَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ:((مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، قَالَ:((فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ))، قَالَ:((قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ))، قَالَ:((فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي))، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ
الرَّوْعُ، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ:((أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ ))، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ:((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي! ))، قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى- وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا- وَكَانَ امْرًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَىهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ ! ))، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. [خ 3].
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَقَالَ: قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ- زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ، أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلِهِ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ.
[161]
وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ-: ((فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تبارك وتعالى: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، وَهِيَ الأَوْثَانُ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ)).
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي))، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:((فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ))، قَالَ: وقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرُّجْزُ: الأَوْثَانُ، قَالَ: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ وَتَتَابَعَ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ، وَقَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تبارك وتعالى: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، إِلَى قَوْلِهِ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، وَهِيَ الأَوْثَانُ، وَقَالَ: فَجُثِثْتُ مِنْهُ، كَمَا قَالَ عُقَيْلٌ.
قولها: ((ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ)) هي الخلوة عن الناس، والتعبد.
وقولها: ((فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ))، يعني: يتعبد فيه.
وقولها: ((وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَدِ)) الأقرب أنه كان يتعبد على ما توارثه الناس عن دين إبراهيم عليه السلام، كما كان العرب في الجاهلية في مناسك الحج يتعبدون على ما توارثه الناس من دين إبراهيم، وقال بعضهم: على ما توارثه الناس من دين نوح، وقيل غير ذلك، لكن الأقرب الأول.
وقولها: ((قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أهله))، أي: فإذا انتهى ذهب إلى زوجه خديجة رضي الله عنها، فيتزود لمثل هذه الليالي.
وهذه الأحاديث فيها: دليل على أن الرؤيا نوع من أنواع الوحي؛ ولهذا أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤية الصادقة، والرؤية الصادقة هي التي يراها الإنسان في الليل، ثم تقع في النهار، فيقال: رؤيا صادقة.
وقولها: ((فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ))، يعني: ظاهرة واضحة، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر من ربيع إلى رمضان، حتى جاءه الوحي بغتةً، فنزل عليه جبريل عليه السلام وهو بغار حراء.
والظاهر: أن عبادته صلى الله عليه وسلم كانت على ما عَلِمَ من دين إبراهيم عليه السلام، فيصلي على ما بلغه، وكانوا في الجاهلية يتوارثون أشياء من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان هذا على رأس الأربعين من عمره عليه الصلاة والسلام.
قوله: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)): ليس هذا امتناعًا منه عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا بيان له أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، والمعنى: لست قارئًا، وما تعلمتُ القراءة؛ فقد كان أميًّا عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((فأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ))، يعني: عصرَه وضمَّه حتى بلغ منه المشقة، فعل هذا ثلاث مرات، والحكمة من ذلك- والله أعلم- حتى يتهيأ ويستعد لتحمل أعباء الرسالة، والقيام بثقلها، كما أن رعيه صلى الله عليه وسلم للغنم قبل ذلك كان فيه- أيضًا- تمرين له، وتدريب على سياسة الأمة، فهو ينتقل من سياسة الغنم ورعايتها إلى سياسة الأمة ورعايتها، فكذلك هنا غطَّه جبريل، وضمه، وعصره؛ كي يتهيأ ويتحمل همَّ هذا العبء الثقيل، والرسالة وتكاليفها، والدعوة وتبليغ الناس، وهذا كله يحتاج إلى جهد وتحمل.
وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} : فيه: دليل على أن هذا أول ما نزل من القرآن،
وبهذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام نُبِّئ بـ {اقرأ} ، ثم بعد ذلك فتر الوحي، ونزل {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فكان بذلك رسولًا عليه الصلاة والسلام، فقد نُبِّئ بـ {اقرأ} ، وأُرسل بـ {المدثر} عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ))، يعني: ترعد وتضطرب ركائزه من شدة وهوْل ما رآه، فلقد رأى جبريل على
صورته التي خُلق عليها، يملأ ما بين السماء والأرض، كما أنه ضمه، وعصره ثلاث مرات، وقد رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة زوجه رضي الله عنها وهي امرأة دينة عاقله نبيلة، كان عندها من الحصافة وأصول العقل والأمانة شيء عظيم فهدّأت من روعه وكانت له سندًا.
قولها: ((فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا))، وفي بعض النسخ:((لَا يُحْزِنُكَ))
(1)
، أي: فلا يمكن أن يصيبك شر، ولا يمكن أن تخزى، وأنت تتَّصِف بهذه الصفات العظيمة:((إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ))، ((وَتَحْمِلُ الْكَلَّ))، وهو: الثقل، والقيام بحقوق الضيف، والضعيف، والفقير، ((وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ))، أي: الفقير، ((وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ))، وهذه صفات عظيمة، من اتصف بها لا يمكن أن يُخزى، وبهذه الصفات استدلت خديجة رضي الله عنها على نبوته، وعلى صدقه صلى الله عليه وسلم.
وقولها: ((فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى- وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا- وَكَانَ امْرًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمِّ)) هو ابن عمها؛ لكن العرب يسمون ابن العم عمًّا، فقالت: أي عمِّ؛ تساهلًا منها.
قولها: ((فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى)) والناموس هو: صاحب سر الخير
(2)
، والجاسوس صاحب سر الشر
(3)
.
ونبوة عيسى عليه السلام بعد نبوة موسى عليه السلام، لكن شريعة موسى عليه السلام هي الأصل، وشريعة عيسى عليه السلام تابعة لها، ولم تكن شريعةً مستقلة، كما أخبر الله تعالى أنه خفف فيها بعض الأحكام التي كانت في التوراة، قال الله
(1)
إرشاد الساري، للقسطلاني (10/ 120).
(2)
القاموس المحيط، للفيروز آبادي (1/ 579)، النهاية، لابن الأثير (5/ 119).
(3)
النهاية، لابن الأثير (1/ 272).
تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، فأحل بعض المحرمات، وأما بقية الأحكام فباقية، وكما أخبر الله تعالى عن الجن أنهم لما سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم:{قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} ، مع أن عيسى عليه السلام نزل عليه الإنجيل بعده، لكن الإنجيل كتاب مواعظ وعبر، والتوراة كتاب أحكام.
وقوله: ((يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا)): فيه دليل أن ورقة رضي الله عنه آمن، فيكون أول من آمن من هذه الأمة ورقة بن نوفل، وجاء في السيرة أبيات لورقة، قال فيها
(1)
:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
…
أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ
وذكر أبياتًا له فيها أنه يعلم أنه كبير السن، وأنه على قرب الوفاة؛ ولهذا ما لبث أن توفي رضي الله عنه، لكنه آمن، وتمنى أن ينصر النبي صلى الله عليه وسلم حين يخرجه قومه.
وقوله: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا)) على صيغة المجهول من الجأث، بالجيم والهمزة والثاء المثلثة، جئث جأثا: فزع، وقد جُئث إذا أُفزع، فهو مجؤوث أي: مذعور، والمعنى: رعبت وفزعت
(2)
.
وقوله: ((زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي))، يعني: غطوني، غطوني، وفيه: دليل على أن {يا أيها المدثر} نزلت بعد فترة الوحي، وأن أول ما نزل:{اقرأ باسم ربك} .
وقوله: (({وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}))، أي: عظم ربك بالتوحيد.
(1)
البداية والنهاية، لابن كثير (7/ 8)، السيرة النبوية، لابن هشام (5/ 107).
(2)
لسان العرب، لابن منظور (2/ 126).
وقوله: (({وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}))، يعني: أعمالك طهرها من الشرك؛ لأن الثياب النجسة تحريمها جاء في المدينة، والثياب تطلق على الأعمال.
وقوله: (({وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}))، يعني: اهجر الأصنام، وهجرها: تركها، والبراءة منها ومن أهلها.
وقوله: ((حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ))، أي: سقطت على الأرض.
وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ؟ قَالَ جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي، وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ- يَعْنِي: جِبْرِيلَ عليه السلام فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً))، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} . [خ 4924].
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:((فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)).
قوله: ((أيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ})) المراد بالأولية هنا أولية مخصوصة، يعني بعد فترة الوحي أي أن أول ما أنزل إليه بعد فترة
الوحي: {يا أيها المدثر} نزلت بعدها، جمعا بين الأدلة، وإلا فإن أول ما أنزل إليه قطعا قوله تعالى:{اقرأ} .
وقوله: ((فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً)): فيه دليل على أن صب الماء يخفف الفزع والرعب.
وقوله: ((جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا)) المجاورة تطلق إذا كان فيها ملازمة، كأنه كان يتعبد في هذا المكان وكأنه معتكف.
* * *