الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ بَيَانِ غِلَظِ تَحْرِيمِ إِسْبَالِ الإِزَارِ، وَالْمَنِّ بِالْعَطِيَّةِ، وَتَنْفِيقِ السِّلْعَةِ بِالْحَلِفِ، وَبَيَانِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[106]
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثَلَاثَ مِرَارًا، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا، وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:((الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)).
وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى- وَهُوَ الْقَطَّانُ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ)).
وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ- يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ:((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).
قوله: ((وَلَا يُزَكِّيهِمْ))، أي: لا يطهرهم من الذنوب.
وقوله: ((الْمُسْبِلُ)) هو الذي يترك ثوبه ينزل تحت الكعب، فيقال له: مسبل، سواء ثوبه، أو سرواله، فكل هذا يقال له: مسبل.
والصواب: أن هذا الحكم عام في كل مسلم، سواء أسبل إزاره لكبر، أو
لغير كبر، لكن إن كان لكبره يكون أعظم، ويكون له عقوبة أخرى، كما في الحديث الآخر:((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ، لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ))
(1)
، فإذا كان لخيلاء لم ينظر الله إليه، وإن لم يكن لخيلاء فهو متوعد بحديث آخر:((مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّار))
(2)
.
وقوله: ((وَالْمَنَّانُ)) هو الذي يمن على الفقير، يقول: أعطيتك وأعطيتك، وهذا فيه إبطال للصدقة، قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} ، فالكريم هو الذي يعطي، وينسى عطيته، لكن المنان يقول للفقير: أعطيتك وأعطيتك.
وقوله: ((وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ))، يعني: يروجها بالحلف الكاذب، يحلف ويقول: والله ما اشتريت السلعة إلا بكذا، والله ما دخلت علينا بكذا، والله ما بعت على غيرك إلا بكذا، وهو في كل ذلك كاذب.
هذا الحديث فيه: الوعيد الشديد على هؤلاء الثلاثة المذكورين، وهو أنه:((لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) فهذه أربع عقوبات، وأن كل واحد منهم قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.
وفيه: أن كل واحد من هؤلاء ضعيف الإيمان، ولا يدل على أنهم كفار، ولكنهم عصاة، وهذا من باب الوعيد.
(1)
أخرجه البخاري (3665)، ومسلم (2085).
(2)
أخرجه البخاري (5787).
[107]
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ))، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ:((وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)).
هذا الحديث فيه: بيان لثلاثة آخرين متوعدين بالوعيد الشديد، وفي ذلك دلالة على أنهم ضعفاء الإيمان، وذلك لأن كل واحد منهم اقترف المعصية مع ضعف الداعي إليها.
فالأول: ((شَيْخٌ زَانٍ)): والزنا حرام على الشاب والشيخ، ولكن الشاب قد تحمله قوة الشهوة على الزنا، أما الشيخ فقد ضعفت الشهوة عنده؛ لكبر سنه، فإذا زنى دل على أن ذلك سجية له وطبيعة، ودل على حبه للمعصية؛ فلذلك تُوُعِّد بهذا الوعيد.
والثاني: ((مَلِكٌ كَذَّابٌ)) فالكذب حرام، ولا يجوز الكذب- إلا ما استثني- على المَلِك، والمملوك، لكن الواحد من الناس قد تدعوه الحاجة إلى الكذب، أما الملك فما الداعي إلى كذبه؟ ، فإذا كذب مع أنه ليس هناك أحد يمنعه من تنفيذ ما أراد، دل على حبه للكذب، وأنه سجية له وطبيعة، فلهذا توعد بهذا الوعيد.
والثالث: ((عَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)) العائل هو الفقير، والكِبْر حرام على الفقير، وعلى الغني، لكن الغني قد يحمله غناه على الكبر، وأما الفقير فما الذي يحمله على الكبر؟ ، وهذا يدل على أن الكبر سجية له وطبيعة له؛ فلذلك توعد بهذا الوعيد.
[108]
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلَاثٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا، لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ)).
وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ. ح، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ:((وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ)).
وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- قَالَ: أُرَاهُ مَرْفُوعًا- قَالَ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَاقْتَطَعَهُ))، وَبَاقِي حَدِيثِهِ نَحْوُ حَدِيثِ الأَعْمَشِ.
هذا الحديث فيه: بيان لثلاثة آخرين توعدوا بهذا الوعيد الشديد، وبهذه العقوبات الأربع:((لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) فيكون العدد تسعة، كلهم توعدوا بهذا الوعيد الشديد؛ لأنهم فعلوا هذه الكبائر.
الأول: ((رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ))، يعني: عنده ماء فاضل عن حاجته، يمنعه من ابن السبيل، والسبيل: الطريق، سمي ابن السبيل؛ لأنه غريب، وجاء من بلده مسافرًا؛ ولهذا يعطى ابن السبيل من الزكاة ما يوصله لبلده- ولو كان غنيًّا- إذا انقطعت نفقته.
فهذا الرجل عنده فضل ماء يمنعه من ابن السبيل، كأن يكون له بئر مثلًا في البرية، يمنعه من أن يدلي دلوه، ويأخذ ماءً، والماء كثير زائد عن حاجته، أو عنده ماء على غدير، فهذا عليه الوعيد الشديد.
أما إذا استخرج الإنسان الماء من دلوه، وحازه، فهذا يكون ملكه، لكن كلامنا في البئر المشترك بينك وبين الناس، أنت مثل غيرك، تدلي دلوك، وتأخذ ماءً، والثاني يدلي دلوه ويأخذ ماءً، هذا الماء مشترك، فإذا كان يمنع أحدًا من أن يأخذ من الماء، فعليه الوعيد الشديد، إذا كان فاضلًا عن حاجته، إما إذا كان لا يكفي إلا لحاجته فلا يسمى فضلًا، ولا يتناوله هذا الوعيد.
وقد جاء في الحديث: ((الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ))
(1)
.
فإذا كان عندك نار، ويريد أحد أن يأخذ من النار، فلا تمنعه، فماذا يضرك؟ نار مشتعلة، وجاء إنسان يريد أن يأخذ منها، وكذلك الكلأ وهو الحشيش في البرية، الناس شركاء فيه.
والثاني: ((وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ)) رجل باع سلعة، وحلف كذبًا، فهذا عليه الوعيد الشديد؛ لأنه ختم يومه بالكذب- والعياذ بالله- والعصر آخر النهار، وينبغي للإنسان أن يختمه بالعمل الصالح، والاستغفار.
والثالث: ((وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا، لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَفَى وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ)) هذا بايع الإمام أن يكون أميرًا أو وليًّا لأمر المسلمين، ولكنه لا يفي بالبيعة إلا إن أعطي شيئًا من الدنيا، وإن لم يعط خان، ونقض عهد البيعة، وخرج عليه؛ لأن هذا غاش للمسلمين، فهذا عليه الوعيد الشديد.
والخروج على ولاة الأمور من كبائر الذنوب، والدليل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ،
(1)
أخرجه أحمد (23082).
فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ))
(1)
، فهذا وعيد شديد، وأهل الجاهلية ماتوا على الشرك، فظاهره الكفر، لكن ليس المراد هذا، والمراد: الوعيد الشديد.
والخروج على ولاة الأمور من شعار أهل البدع: الخوارج، والمعتزلة، والروافض.
فالخوارج لا يرون السمع والطاعة لولاة الأمور؛ لأنهم يرون أن ولي الأمر إذا فعل معصية أو كبيرة كفر، ووجب قتله، فيستحلون دمه، وماله، ويخلدونه في النار.
والمعتزلة كذلك يجيزون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي؛ لأن هذا داخل تحت أصل من أصول الدين عندهم، وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو يندرج تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي.
والروافض كذلك يخرجون على ولاة الأمور؛ لأنهم لا يرون الإمامة إلا للإمام المعصوم، والمعصوم- عندهم- نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فتكون ولاية الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولاية باطلة عند الرافضة، وهي ولاية جور وظلم؛ لأنهم مغتصبون، وظلمة، وكفروا وارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتكون ولاية خلفاء الدولة الأموية، وخلفاء الدولة العباسية، إلى يوم القيامة، كلها ولايات باطلة- نسأل الله العافية من المذاهب الردية.
(1)
أخرجه البخاري (7054).