الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ
[182]
حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ )) قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ )) قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ، وَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تبارك وتعالى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتَّبِعُونَهُ، وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمُ السَّعْدَانَ؟ )) قَالُوا:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتَّى يُنَجَّى، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ مِمَّنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ تَأْكُلُ النَّارُ مِنَ ابْنِ آدَمَ، إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ، وَقَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ- وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ- فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَدْعُو اللَّهَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَهُ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ، وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنَّةِ وَرَأَىهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، قَدِّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ، وَمَوَاثِيقَكَ، لَا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، وَيَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسُّرُورِ، فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ، وَمَوَاثِيقَكَ، أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ تبارك وتعالى مِنْهُ، فَإِذَا ضَحِكَ اللَّهُ مِنْهُ، قَالَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ، فَيَسْأَلُ رَبَّهُ وَيَتَمَنَّى، حَتَّى إِنَّ اللَّهَ لَيُذَكِّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذَلِكَ لَكَ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ)).
قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا حَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: وَمِثْلُهُ مَعَهُ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: مَا حَفِظْتُ إِلَّا قَوْلَهُ: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: ذَلِكَ لَكَ، وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.
قوله: ((فَيَأْتِيهِمُ اللهُ تبارك وتعالى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ)): فيه إثبات الصورة لله عز وجل.
وقوله: ((فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا)): فيه بيان أنهم رأَوا الله عز وجل مرتين:
المرة الأولى: في غير صورته التي يعرفون، فأنكروا، وقالوا:((نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ)) فاستعاذوا بالله من الله، كما في حديث:((اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ))
(1)
، أي: لا نستعيذ بغير الله؛ وذلك لأنه سبحانه جعل بينه وبينهم علامة، وهي الكشف عن ساقه تعالى
(2)
، فرأوه عز وجل المرة الثانية على الصورة التي يعرفون.
وعند التفصيل فإن المؤمنين يرون الله يوم القيامة في صورة أربع مرات.
المرة الأولى: رؤية تعريف رأوه فعرفوا، وهذه الرؤية تكون قبل أن ينادي
(1)
أخرجه مسلم (486).
(2)
أخرجه البخاري (4919).
المنادي: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فإن هذا هو محاسبة العباد، فإذا حوسبوا أمروا بأن يتبعوا آلهتهم، ويتجلى الرب لعباده المؤمنين فيتبعونه، وينصب الجسر على ظهر جهنم فيعبر عليه المتقون {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} فالمرة الأولى لقوه وخاطبهم قبل المناداة، وذلك كان عامًّا للعباد، كما يدل عليه سائر الأحاديث ثم حجَب الكفار.
المرة الثانية: التي امتحنهم فيها فأنكروه وهي أدنى من التي رأوه فيها أول مرة، وهذا تفسير ما في حديث أبي هريرة مع أبي سعيد رضي الله عنهما حيث قال:((فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ))
(1)
.
المرة الثالثة: يكشف لهم عن ساقه حتى يسجدوا له، فهذه التي يعرفون هي التي يكشف فيها عن ساق فيسجدون له.
المرة الرابعة: حين يرفعون رءوسهم- أي: من السجود- كما في صحيح مسلم: ((ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتَّبِعُونَهُ))
(2)
.
وقوله: ((فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ)): فيه بيان فضل هذه الأمة؛ إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم أول من يجيز على الصراط، وأمته أول الأمم التي تجتاز الصراط.
وقوله: ((فَمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ)) وفي رواية في البخاري: ((فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ))
(3)
أي: المهلك، وقيل: المحبوس المعاقب، ومنه قوله تعالى:{أو يوبقهن بما كسبوا} ، ويُقال: وبق يبق إذا هلك
(4)
.
وقوله: ((فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ)): فيه الرد على
(1)
أخرجه البخاري (7437) ، ومسلم (182).
(2)
أخرجه البخاري (7437) ، ومسلم (182).
(3)
أخرجه البخاري (806).
(4)
مطالع الأنوار، لابن قرقول (6/ 166).
الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود أهل الكبائر في النار
(1)
.
وفيه: حجة لمن قال بأن الصلاة من شروط لا إله إلا الله؛ ولهذا إذا أراد الله أن يرحم الموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يخرجوهم بعلامة، وهي أثر السجود عند المصلي، فدل على أن الصلاة شرط في صحة التوحيد والشهادة، فمن لا يصلي لا تصح منه لا إله إلا الله.
وفيه: دليل قوي على أن ترك الصلاة كفر، وأن من ترك الصلاة فقد أشرك، وأنه ليس بموحد، والله تعالى يخرج الموحدين العصاة من النار، يعرفونهم الملائكة بأثر السجود؛ ولهذا لا تأكل النار أثر السجود، وهذا من الأدلة على أن الصلاة شرط لصحة الشهادة.
وقوله: ((حَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ)) وفي رواية أخرى: ((فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ)) يعني: وجوههم وأثر السجود، فلا تأكلها النار.
وقوله: ((فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ وَقَدِ امْتَحَشُوا))، أي: احترقوا، وصاروا فحمًا، فالنار أمرها عظيم- نسأل الله العافية.
وقوله: ((فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ)) الحبة- بكسر الحاء- هي البِذرة.
وقوله: ((فِي حَمِيلِ السَّيْلِ))، يعني: محمول السيل، فالسيل إذا جرى في الوادي يحمل معه الغثاء والطين، ثم يكون على جانب الوادي، فإذا كانت هناك حبة تنبت بسرعة؛ لأنها مخدومة، فبمجرد ما يقف السيل تنبت خضراء، فكذلك هؤلاء الذين أُحرقوا بالنار ينبتون سريعًا.
وقوله: ((وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ)) هذا آخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولًا، يخرج منها، ويوجه وجهه إلى النار، فيقول: ((رَبِّ
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (15/ 294)، شرح العقيدة الأصفهانية، لابن تيمية (ص 198).
اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَد قَشبَنِي رِيحُهَا، وأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيُصْرَفُ وَجْهُهُ عَنِ النَّارِ)).
وقوله: ((فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ)) هذه غنيمة عظيمة، كونه يصرف وجهه عن النار، فلقد سلم من لهبها وشدتها.
وقوله: ((فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لَا تَسْأَلُنِي غَيْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ، وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، مَا أَغْدَرَكَ)) وفي الحديث الآخر: ((ورَبُّهُ يَعْذرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى شَيْئًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ))
(1)
يعطي عهوده ومواثيقه، فيسكت ما شاء الله، ثم يسأل ربه، وربه يعذره.
وقوله: ((لَا، وَعِزَّتِكَ)): فيه الحلف بالعزة، وهي صفة من صفات الله عز وجل، ومنه: قول الله تعالى: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} .
وقوله: ((فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللهَ حَتَّى يَضْحَكَ اللهُ تبارك وتعالى مِنْهُ)) ضحك الله عز وجل صفة يثبتها أهل السنة، كما تليق بجلاله وعظمته.
وفيه: الرد على من أنكر الضحك من الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، فكلهم ينكرونها، وهو من صفات الله الفعلية، فنثبتهاكما تليق بجلاله، فهو سبحانه لا يشبه أحدًا من خلقه سبحانه وتعالى.
وقوله: ((ذَلِكَ لَكَ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ)) هذا آخر أهل الجنة دخولًا، ويعطى منها هذا الخير العظيم، فكيف بمن هو من السابقين والمقربين- نسأل الله من فضله.
(1)
أخرجه مسلم (187).
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ أَدْنَى مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى، وَيَتَمَنَّى، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَا تَمَنَّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)).
[183]
وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قَالَ: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ، صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ تبارك وتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ، وَالأَنْصَابِ، إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ، وَفَاجِرٍ، وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ، وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ، كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ:
كَذَبْتُمْ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ، وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ، أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ،
وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ، تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا: يَا رَبَّنَا، فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ! لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ، خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ،
وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّار، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ، فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنَ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا
كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْر فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا))، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَاقْرَءُوا إِنْ
شِئْتُمْ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} ، ((فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ، يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَا تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ، أَوْ إِلَى الشَّجَرِ، مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ، وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ))، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ؟ قَالَ:((فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)).
قَالَ مُسْلِم: قَرَأْتُ عَلَى عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ زُغْبَةَ الْمِصْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشَّفَاعَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَ مِنَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ لِعِيسَى بْنِ حَمَّادٍ: أَخْبَرَكُمُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ إِذَا كَانَ يَوْمٌ صَحْوٌ؟ ))، قُلْنَا: لَا، وَسُقْتُ الْحَدِيثَ، حَتَّى انْقَضَى آخِرُهُ، وَهُوَ نَحْوُ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ((بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا قَدَمٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ
لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ))، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ وَمَا بَعْدَهُ، فَأَقَرَّ بِهِ عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ.
وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، بِإِسْنَادِهِمَا نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ زَادَ، وَنَقَصَ شَيْئًا.
قوله: ((فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْصَابِ إِلَّا يَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ)): فيه دليل صريح بأن هؤلاء سقطوا في النار قبل حساب الموحدين.
وقوله: ((وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ))، يعني: بقايا أهل الكتاب، ومنهم من قال:((الغابرين))، يعني: الباقين. فالغابر يكون بمعنى الباقي وبمعنى الماضي، فهو من الأضداد، والإشارة إلى من لم يبدل.
وقوله: ((كَأَنَّهَا سَرَابٌ))، يعني: كأنها ماء، ثم يتساقطون فيها، نعوذ بالله!
وقوله: ((أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا)) فيه: إثبات هذه الرؤية، وهي هنا حصلت للمؤمنين للمرة الثانية.
وقوله: ((فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) وفيه إثبات الرؤية للمرة الثالثة.
وقوله: ((ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)) هذه المرة الرابعة التي تحصل للمؤمنين فيها الرؤية.
وقوله: ((فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ)) هذا يكون على حسب الأعمال.
وقوله: ((فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ)): فيه إثبات اليد لله تعالى، فقد حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:((والذي نفسي بيده))، وفيه: أن شؤون العباد بيد الله.
وقوله: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ)) المعنى: أن المؤمنين يناشدون الله تعالى بتخليص العصاة من النار.
وقوله: ((يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ)) هذه مناشدة لله عز وجل أن يخرج إخوانهم الذين كانوا يصلون معهم، ويصومون معهم من النار، فَيُحرِّم الله وجوههم على النار.
وقوله: ((فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ)) المراد بالصور: الوجوه؛ لأنها تسجد لله تعالى، يعني: لا تأكل النار وجوه العصاة، وهم في النار.
وقوله: ((فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ))، يعني: لم يعملوا من خير زيادة عن التوحيد والإيمان، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله.
وقوله: ((قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ))، أي: يخيل إليهم أنها ماء، بعد أن يسلط عليهم العطش- والعياذ بالله.
وقوله: ((قَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا، فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ)) هكذا جميع الكفرة يساقون إلى النار سوقًا، لا يحاسبون، وليس لهم حسنات حتى يحاسبوا عليها، فكل أعمالهم سيئة؛ فلهذا يساقون إلى النار سوقًا كما قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} ؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((وأما الكفار: فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنه لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم وتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها))
(1)
.
وقوله: ((حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ))، يعني: أن
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (3/ 146)، العقيدة الواسطية، لابن تيمية (ص 98).
الكفار كلَّهم يتساقطون في النار، ولا يبقى إلا مطيع وعاص من المسلمين، وهؤلاء لهم حسنات وسيئات.
وقوله: ((أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سبحانه وتعالى فِي أَدْنَى صُورَةٍ)): فيه إثبات صفة الإتيان للرب، كما يليق بجلاله وعظمته، كما قال سبحانه وتعالى:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ، وقال سبحانه:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} ، فأهل السنة والجماعة يثبتون صفات الذات، والأفعال، وصفة الإتيان من صفات الأفعال، نؤمن بها كما يليق بجلاله وعظمته، ولا نعلم كيفيتها، وهو سبحانه فوق العرش وفوق الخلق أجمعين.
وقوله: ((فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا)) استعاذوا بالله من الله؛ لأنه تجلى لهم في غير الصورة التي يعرفون، ثم تجلى لهم في الصورة التي يعرفون، وقد جعل بينهم علامة، وهي كشف الساق، فإذا كشف عن ساقه سبحانه وتعالى سجدوا له، وهذه المرة الثالثة، فإذا رفعوا وجوههم من السجود تجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة، وهي المرة الرابعة.
وقوله: ((حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ))، أي: يرجع عن الصواب أو عن الحق، وهذا ابتلاء وامتحان، ولا ينتهي حتى يدخل الإنسان الجنة.
وقوله: ((فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) هذه هي العلامة التي بينهم وبينه عز وجل، وهي كشف الساق.
والساق صفة من صفات الله تعالى كاليد، والرِّجل، وكلها صفات تليق بجلاله وعظمته.
والنووي رحمه الله وجماعته، وكثير من الشراح يؤولون بأن المراد من كشف الساق: شدة الأمر
(1)
، كما تقول العرب: كشفت الحرب عن ساقها، وهذا
(1)
شرح مسلم، للنووي (18/ 77)، فتح الباري، لابن حجر (8/ 664).
وإن كان يرد في لغة العرب، لكن المراد في هذه الآية: ساقه عز وجل، وليس المراد: شدة الأمر.
وفي لفظ البخاري إضافتها إلى الله تعالى: ((يكشف ربنا عَنْ سَاقِهِ))
(1)
.
وقوله: ((وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا})) في هذه الآية دليل استدل به أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على موافقة السنة للكتاب، {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، فالله عز وجل لا يضيع عنده شيء، ولا مثقال ذرة من خير، ولا مثقال ذرة من شر، لا يفوت على الله سبحانه وتعالى شيء.
وظاهر الحديث: أن المنافقين يرون الله مع المؤمنين، ثم يحتجب عنهم.
وقوله: ((فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ))، يعني: مقدم الجنة.
قال النووي رحمه الله: ((وأما الأفواه فجمع فوهة بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة وهو جمع سمع من العرب على غير قياس وأفواه الأزقة والأنهار أوائلها قال صاحب المطالع كأن المراد في الحديث مفتتح من مسالك قصور الجنة ومنازلها))
(2)
.
وقوله: ((فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ))، يعني: زيادة عن التوحيد والإيمان، ولكنهم موحدون، وهذا لا بد منه.
وقوله: ((قَطُّ)) هذه كلمة تأكيد للخير، يعني: ما عملوا أيَّ خير.
وقوله: ((قَدْ عَادُوا حُمَمًا))، يعني: فحمًا من شدة لفح النار.
وقوله: ((فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ))، يعني: ما يحمله
(1)
أخرجه البخاري (4919).
(2)
شرح مسلم، للنووي (3/ 32).
السيل من الغثاء، فيحمل الحبة، وقد تكون في طرف الوادي فتنبت بسرعة.
وقوله: ((فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ))، يعني: حيث عرفت هذا، فلا يعرفه إلا من في البادية، يرعى ويرى السيل والوديان.
وقوله: ((فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللهِ))، يعني: يعرفونهم بالخواتم التي في رقابهم، ثم تمحى عنهم بعد ذلك، والخواتم جمع ختم، كالذي يكون في الكتاب، فتوجد الأختام في رقابهم (هؤلاء عتقاء الله من النار).
وقوله: ((ثُمَّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)) فما دام قد دخلوا الجنة، فقد ذهب عنهم كل سوء، وحصل لهم كل خير، وبدخولهم الجنة حصلوا على رضا الله، ومن حلَّ عليه رضا الله لا يسخط عليه بعده أبدًا.
وقوله: ((قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ)) قول الصحابي: ((بلغني)) معناه: أنه مأخوذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا حريصين على أن ينسب الكلام إليهم أفضل من أن يقولوا:((عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا الحديث فيه: دليل صريح في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وأنهم يرونه رؤية واضحة، وأنه لا يحصل عليهم ضرر، بل هم يرون ربهم سبحانه وتعالى رؤية واضحة من غير تزاحم، وأنهم يرون ربهم من فوق كما تُرى الشمس، وكما يُرى القمر، فإننا نرى الشمس من فوقنا، ونرى القمر من فوقنا، وليس المراد تشبيه الله بالشمس والقمر، فالله تعالى لا يشبه أحدًا من خلقه، بل المراد تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: أن المؤمنين يرون ربهم برؤية واضحة من فوقهم، كما أنهم يرون الشمس رؤية واضحة من فوقهم، وكما يرون القمر رؤية واضحة من فوقهم.
والأدلة في إثبات رؤية المؤمنين لربهم متواترة، رواها نحو ثلاثين
صحابيًّا في السنن والمسانيد الصحاح، وممن ذكرها من العلماء ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
(1)
.
ومع كل هذه الأدلة الصريحة الواضحة فقد أوَّلها أهل البدع، فالمعتزلة أنكروا الرؤية، وقالوا: يقصد بها العلم
(2)
، وقالوا:((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ))
(3)
أي: تعلمون ربكم كما تعلمون أن القمر قمر، لا تشكون فيه، وهذا من عمى البصيرة- نسأل الله السلامة والعافية- والرسول صلى الله عليه وسلم يبين بيانًا واضحًا، فقال:((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ )) قَالُوا: ((لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ))، قَالَ:((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ))، فهل يوجد بيان أوضح من هذا؟ !
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ)) فهذه رؤية بالبصر، ومع ذلك فقد أوَّلوها، والأشاعرة قالوا: الرؤية صريحة بالبصر، لكن لا نحدد له جهة
(4)
، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ )) قَالُوا: ((لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ))، قَالَ:((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ)) والشمس نراها من فوقنا، والقمر كذلك نراه من فوقنا، والله تبارك وتعالى نراه من فوقنا، وقول الأشاعرة: لا نحدد الجهة غير معقول، فالشخص المرئي لا بد أن يكون في جهة من الرائي.
وقد أنكروا الجهة لأنهم يزعمون أن إثبات الجهة يلزم منه التحيز، فأرادوا أن يكونوا مع أسيادهم المعتزلة في إنكار الفوقية، ولكن لم يجرؤوا على إنكار الرؤية، فأثبتوا الرؤية، وأنكروا الجهة
(5)
، وهذا غير معقول أن
(1)
حادي الأرواح، لابن القيم (ص 296 - 312).
(2)
شرح الأصول الخمسة، للقاضي عبد الجبار (ص 232)، شرح الطحاوية، لابن أبي العز (1/ 207).
(3)
أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633).
(4)
نهاية الإقدام في علم الكلام، للشهرستاني (ص 200)، منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (3/ 340 - 352).
(5)
منهاج السنة النبوية، لابن تيمية (3/ 340 - 352).
شخصًا يُرى إلى غير جهة، لا من فوق، ولا من تحت، ولا من أمام، ولا من يمين، ولا من شمال، وهذا لا يمكن بحال؛ ولهذا أنكر عليهم جماهير العقلاء، وسخروا منهم، حيث أثبتوا رؤية من غير جهة، فإثبات موجود بغير جهة من الرائي غير معقول وغير متصور.
وفي رؤية الله تعالى يوم القيامة خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:
فمنهم من قال: يراه أهل الموقف جميعًا، ثم يحتجب عن الكفار.
ومنهم من قال: لا يراه إلا المؤمنون، والمنافقون.
ومنهم من قال: لا يراه إلا المؤمنون فقط
(1)
.
وفيه: كيفية حشر الكافرين، والمؤمنين، قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} .
وفيه: إثبات الساق لله عز وجل، لكن الحديث ليس صريحًا في هذا، وكذلك الآية:{يوم يكشف عن ساق} ، لكن هناك رواية فيها:((يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ))
(2)
.
(1)
شرح مسلم، للنووي (3/ 15 - 16).
(2)
أخرجه البخاري (4919).