الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ الإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَفَرْضِ الصَّلَوَاتِ
[162]
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ، طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا
أَنَا بِيُوسُفَ عليه السلام، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟
قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ عليه السلام، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى عليه السلام، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ
الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى، وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام، حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ)).
قوله: ((يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ))، يعني: المسافة التي يقطعها في خطوة واحدة كالمسافة التي بينه وبين آخر مكان يقع عليه بصره؛ ولهذا قطع هذه المسافة الطويلة بسرعة، وقد يكون بصره أقوى من إبصار الآدمي، فيكون سريعًا جدًّا، ينتقل من مكان لمكان بسرعة هائلة.
وقوله: ((فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ)) هذا قبل أن تحرم الخمر، ومعلوم أنه كان هناك خمر بالمدينة، وإلا لو كان محرمًا لما أتى جبريل عليه السلام بالخمر.
وقوله: ((فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ)) وفي اللفظ الآخر: ((أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ لَغَوَتْ أُمَّتُكَ))
(1)
قال الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، وفيه: أن اللبن يناسب الفطرة، فقد فُطر الناس على الميل إلى اللبن، وهو فيه غذاء، بخلاف الخمر؛ لذلك حُبِّب إليهم.
وقد فسروا الفطرة هنا بالإسلام، والاستقامة، فمعناه: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، وجُعل اللبن علامة على هذا؛ لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا للشاربين، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، والجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل.
وقوله: ((ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ)) العروج: الصعود من أسفل إلى أعلى، وأنه كهيئة الدَّرَج يصعد فيه، ولم يركب صلى الله عليه وسلم البراق في المعراج، فالبراق أسري به فقط.
هذا الحديث فيه الكثير من الفوائد، منها:
1.
إثبات الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم، والإسراء هو السفر من مكة إلى بيت المقدس، وقد جاء هذا في القرآن الكريم، قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
(1)
أخرجه البخاري (3394)، ومسلم (168).
2.
من أنكر الإسراء كفر؛ لأنه مكذبٌ لله عز وجل، إلا إذا كان لا يعلم، فيُعلَّم ويبيَّن له، فإن أصر كفر؛ لأنه مكذبٌ للقرآن، ومن كذب بحرف من حروف القرآن كفر.
3.
أن البراق يركبه الأنبياء السابقون؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ)) فربطه بحلقة باب من أبواب بيت المقدس.
4.
أنه صلى في بيت المقدس، ودليله قوله:((ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ)) وجاء في الروايات الأخرى أنه صلى بالأنبياء، وأن الأنبياء جُمعوا له، وصلى بهم إمامًا عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث ((فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ)).
ثم أُتي بالمعراج، وهو كهيئة الدَّرَج، يصعد فيه من بيت المقدس إلى السماء.
ثم أتي بالبراق، والبراق: دابة فوق الحمار ودون البغل، يعني: أكبر من الحمار، وأصغر من البغل.
5 -
دلالة على قدرة الله العظيمة، وأن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} ، وهذه المسافة الطويلة بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام، قطعها في وقت وجيز، وبين كل سماء وسماء خمس مائة عام، وهي سبع سماوات، تجاوزها حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وتردد، فنزل من عند ربه عز وجل إلى موسى عليه السلام في السماء السادسة مرات، يتردد بين ربه وبين موسى عليه السلام، ثم نزل إلى الأرض قبيل الفجر، فقطع كل هذه المسافات الطويلة في ليلة واحدة، كل هذا يدل على قدرة الله عز وجل، وأن الله لا يعجزه من في الأرض ولا من في السماء.
6 -
إثبات المعراج، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عُرج بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الصواب، وأنه في اليقظة، وليس في المنام.
وقد أنكر بعض الناس المعراج، فقالوا: لا يمكن أن يقطع هذه المسافة
الطويلة، ولا يمكن أن يعرج الجسد، فالجسد شيء ثقيل، فكيف يصعد الجسد هذه المسافات الطويلة؟ وإنما الذي يصعد الأشياء الخفيفة والذوات الخفيفة، مثل الملائكة؛ لأن أرواحهم بلا أجساد، أما الأجساد فإنها ثقيلة، فلا يمكن أن تصعد هذه المسافات، فهؤلاء حكَّموا عقولهم، والله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وهو قادر على كل شيء، {إنما قوله إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} .
وفي هذا الزمان نحن نرى بأنفسنا كيف تصعد الطائرات في الفضاء وهي ثقيلة، بل محملة بالحديد الثقيل، ومحملة بالبضائع، وبالآدميين، ومع ذلك تصعد.
واختلف الناس في عروجه عليه الصلاة والسلام:
فمنهم من قال: إنه عُرج بروحه دون جسده.
ومنهم من قال: إن العروج كان في المنام لا في اليقظة.
ومنهم من قال: كان المعراج مرارًا، مرة بروحه وجسده، ومرة يقظة، ومرة منامًا، وهذا يفعله بعض الضعفاء في الحديث، إذا أشكل عليهم شيء عدَّدوا.
والصواب: أن العروج كان بروحه وجسده عليه الصلاة والسلام، مرة واحدة في مكة قبل الهجرة، يقظة لا منامًا، ولم يتكرر بعد البعثة، وهذا الذي تدل عليه النصوص، وجماهير الصحابة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربَّهُ ليلة المعراج
(1)
، وهذا هو الصواب الذي عليه المُحقِّقُون كشيخ الإسلام ابن تيمية
(2)
، أما القول بأنه عرج بروحه دون جسده، أو أن المعراج كان منامًا، أو أن المعراج كان مرارًا، فهذه أقوال ضعيفة
(3)
.
(1)
حكى إجماع الصحابة على أنه لم يَرَ ربَّه ليلة المعراج عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية. اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (ص 2/ 48).
(2)
مجموع الفتاوى (6/ 510 - 511).
(3)
زاد المعاد، لابن القيم (3/ 36)، تفسير ابن كثير (5/ 43).
7 -
دليل على أدب الاستئذان، وأنه ينبغي للإنسان أن يستأذن إذا جاء إلى زيارة أحد، فجبريل عليه السلام كان يستأذن، ((فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم).
8 -
أن المستأذن يسمي نفسه، فلا يقول: أنا؛ ولهذا لما جَاءَ جَابِرٌ رضي الله عنه، ودَقَّ البابَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:((مَنْ؟ )) قَالَ: أنا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:((أَنَا، أَنَا- كَأَنَّهُ كَرِهَهَا))
(1)
؛ أي: أظهر كرهه لهذه اللفظة (أنا) لأنها لا تعرف بالمستأذن؛ ولهذا لما استأذن جبريل عليه السلام قيل: ((مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ)).
9 -
دليل على أن السماوات لها حراس، ولها أبواب، ولا يدخل أحد إلا بإذن؛ ولهذا كان جبريل عليه السلام كلما أراد أن يستفتح يقال:((مَنْ هَذَا؟ فيقولُ: جِبْرِيلُ))، فيقال:((مَنْ مَعَكَ؟ ))، فيقول:((مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم)، فهذا استئذان بعد استئذان.
10 -
دليل أنه عليه الصلاة والسلام رأى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كل سماء، كل واحد منهم يقر بنبوته، ويقول:((مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ))، إلا آدم عليه السلام، فإنه قال:((مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ)) - كما سيأتي في الروايات التالية- لأنه من ذريته، وكذلك قال إبراهيم عليه السلام، فدل على أن إبراهيم عليه السلام من الآباء، وهو من سلالته، وأما إدريس عليه السلام، فقال:((مَرْحَبًا بالأَخِ الصَّالِحِ، والنَّبِيِّ الصَّالِحِ))، فدل على أن إدريس عليه السلام ليس من سلسلة الآباء، كما يقوله بعضهم، فبعضهم يرى أن إدريس هو جد نوح عليه السلام، وأنه من سلسلة الآباء عليهم السلام، والأقرب: أنه من بني إسرائيل.
11 -
دليل على أن إبراهيم عليه السلام رآه النبي صلى الله عليه وسلم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، والبيت المعمور كعبة سماوية في السماء السابعة، يحاذي الكعبة، يذكر أنه لو سقط لسقط على الكعبة، فهو كعبة لأهل السماء.
(2)
(1)
أخرجه البخاري (6250)، ومسلم (2155).
(2)
تفسير ابن جرير (14/ 436).
وقوله: ((يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ))، يعني: أنهم لا يصلهم الدور؛ من كثرة الملائكة.
12 -
فضل نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه تجاوز الأنبياء جميعًا، حتى أباه إبراهيم عليه السلام تجاوزه، ووصل إلى مكان- كما سيأتي في اللفظ الآخر- قال:((حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ))، أي: كتابة أقلام القدر.
13 -
أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء كانت بأرواحهم، كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
، فقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم بأرواحهم مصورة بصور أجسامهم، يعني: أخذت الروح شكل أجسادهم، وأجسادهم مدفونة في الأرض، وقال بعض الناس: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أجسادهم المدفونة في الأرض، وهذا ليس بشيء، وأمر الأرواح أمر عظيم، وفي بعض أحاديث الإسراء أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِمُوسَى عليه السلام، ((وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ))
(2)
، ثم كلمه في السماء السادسة، وليست الروح كالأجساد، فالروح تهبط وتنزل بسرعة عظيمة، فهو رآه قائمًا يصلي في قبره، ثم صعدت روحه وكانت في السماء السادسة، وهذا معروف الآن، فالنائم روحه لها تعلق بالجسد، وقد تجول وتلتقي مع الأرواح، وقد تكون في مكان بعيد، فلو ضربتَ رجله انتبه، وجاءت روحه بسرعة.
أما عيسى ابن مريم عليهما السلام، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رآه بروحه وجسده؛ لأن الله رفعه بروحه وجسده، وسينزل في آخر الزمان.
14 -
أنه رأى سدرة المنتهى، وقد غشيها ألوان من الله، قال:((وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا)) والقلال: جمع قُلَّة، وهي جَرَّة عظيمة تسع قربتين أو أكثر.
15 -
إثبات العلو، وأن الله تعالى في العلو فوق المخلوقات كلها، فوق
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 328).
(2)
أخرجه مسلم (2375).
العرش، والعرش هو سقف المخلوقات.
16 -
إثبات كلام الله عز وجل، وأنه سبحانه تكلم بكلام، بحرف، وصوت، وأنه سمعه نبينا عليه الصلاة والسلام بدون واسطة، لكن من وراء حجاب، وسمعه موسى عليه السلام أيضًا- بالواسطة.
والصواب: أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عز وجل، ولا غيرُه رأى الله عز وجل، وهو الذي عليه المحققون
(1)
، وذهب بعض العلماء مثل النووي رحمه الله
(2)
، وجماعة إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى الله عز وجل، وقالوا: إن الخلة لإبراهيم عليه السلام، والتكليم لموسى عليه السلام، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم، والصواب: أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عز وجل؛ ولهذا جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه ((هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قال: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟ ))، وفي رواية:((رَأَيْتُ نُورًا))، يعني: النور حجاب يمنعني من رؤيته، وفي الحديث الآخر في صحيح مسلم- أيضًا-:((حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)) وهذا عام، فلا يستطيع أحد من خلقه أن يتحمل رؤيته تبارك وتعالى في الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم من خلقِهِ، وإنما كلَّم الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم من دون واسطة، ومن وراء حجاب، ويدل عليه- أيضًا- قوله تعالى:{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} .
17 -
عظم شأن الصلاة، وأن الله تعالى فرض على نبينا الكريم الصلاة في المحل الأعلى، وقد فرضت الصلاة من دون واسطة، وفرضت في أول الأمر خمسين صلاة، فهذا كله يدل على عظم شأنها، وأن لها من مزايا عظيمة ليست في غيرها؛ ولذلك صارت فارقة بين المسلم وبين الكافر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:((بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ))
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (6/ 509 - 510)، اجتماع الجيوش، لابن القيم (2/ 48).
(2)
شرح مسلم، للنووي (3/ 5).
(3)
أخرجه أبو داود (4678)، والترمذي (2620)، وابن ماجه (1078).
18 -
أن هذا التكرار في نزول النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى عليه السلام ورجوعه إلى الله عز وجل يدل على عظم الأمر، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده، والله تعالى هو الذي ألهم موسى حتى يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم:((ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ))، ووُفِّق نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ما وفُقِّه، وهذا من فضله تعالى، والأمر كله إليه سبحانه وتعالى أولًا وآخرًا.
19 -
أنه لما قال له لما وصلت إلى خمس أمره موسى عليه السلام أيضًا- بسؤاله التخفيف، فاستحى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الآخر:((فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي))
(1)
، وفي رواية في المسند ((وَأَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا))
(2)
فتكون خمسًا في العدد، وخمسين في الأجر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، كما في قول الله عز وجل في الحديث القدسي:((قَالَ اللهُ عز وجل: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً))
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (3887).
(2)
أخرجه أحمد (17836).
(3)
أخرجه مسلم (128).
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((أُتِيتُ فَانْطَلَقُوا بِي إِلَى زَمْزَمَ، فَشُرِحَ عَنْ صَدْرِي، ثُمَّ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُنْزِلْتُ)).
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ- يَعْنِي: ظِئْرَهُ- فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ.
وقوله: ((ظِئْرَهُ)): أي مرضعته.
قوله: ((وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ))، أي: متغير لونه بسبب التعب.
وقوله: ((كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ))، أي: أثر الإبرة، وكأن جبريل عليه السلام شقه، وخاطه في الحال، وهذا من باب فعل الأسباب، ومن سنن الله الكونية، وإلا فالله تعالى قادر على أن يجعل الجرح يلتئم بدون خياطة.
هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ عن صدره مرتين:
المرة الأولى: وهو يلعب مع الغلمان: ((أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ))، من غير عملية جراحية ولا شيء، هذا أمر الله، {إنما أمره إذا راد شيئًا أن يقول له كن فيكون} ، ومعروف أن هذا لو فُعل بغيره
سيموت في الحال.
المرة الثانية: بعد البعثة، وقبل الإسراء، شُقَّ صدره مرة أخرى، وغُسل- أيضًا- بماء زمزم، ((واسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ، وغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَم، وَمُلِئَ حِكْمَةً وعِلْمًا وإِيمانًا ويَقِينًا))، ثم عُرِج به صلى الله عليه وسلم.
وفيه: جواز نظر الرجل إلى صدر الرجل، ولا خلاف في جوازه، وكذا يجوز أن ينظر إلى ما فوق سرته وما تحت ركبته، إلا أن ينظر بشهوة؛ فإنه يحرم النظر بشهوة إلى كل آدمي، إلا الزوج لزوجته أو مملوكته والعكس، وأما الأمرد الحسن فإنه يحرم النظر إليه، سواء كان النظر إلى وجهه، أوسائر بدنه، وبشهوة كان أو بغيرها، إلا أن يكون لحاجة البيع، والشراء، والتطبُّب، والتعليم ونحوها، بشرط أن يكون بغير شهوة؛ ولهذا يُروَى عن سفيان الثوري أنه قال:((مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان))
(1)
.
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ- وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ.
هذا الحديث فيه: بيان بعض أوهام شريك بن أبي نمر رحمه الله، وهو قوله:((قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) وهذا غلط، والصواب: أنه بعد البعثة، وفي اليقظة، لا في النوم.
(1)
أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (2/ 436).
[163]
وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ، قَالَ: فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، قَالَ: فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ عليه السلام وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ، حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا: مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ
الدُّنْيَا، فَفَتَحَ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ، آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ آدَمَ عليه السلام فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قَالَ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِدْرِيسَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قَالَ: ثُمَّ مَرَّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى عليه السلام، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ
الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إبْرَاهِيمُ)).
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَارِيَّ، كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثُمَّ عَرَجَ بِي، حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ))، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى عليه السلام: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ لِي مُوسَى عليه السلام: فَرَاجِعْ رَبَّكَ؛ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ، حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ)).
قوله: ((جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ))، يعني: قباب اللؤلؤ.
وهذا الحديث فيه: إثبات الجنة، وأنها مخلوقة، وأنها في السماء.
[164]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- لَعَلَّهُ قَالَ-: عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ- رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ- قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ؛ إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَأُتِيتُ فَانْطُلِقَ بِي، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ- فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ- يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحَ لَنَا، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْنَا عَلَى آدَمَ عليه السلام، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَقِيَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عِيسَى، وَيَحْيَى عليهما السلام، وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ، وَفِي الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه
السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلَامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَان، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا
خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَالآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: أَصَبْتَ، أَصَابَ اللَّهُ بِكَ أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلَاةً))، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ:((فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا)).
قوله: ((بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ)) لعله في أول الأمر، ثم بعد ذلك استيقظ، وإلا فإن الإسراء كان في اليقظة، كما أثبتته الأحاديث الأخرى.
وسبق ذكر شرح صدره عليه الصلاة والسلام، وأنه حصل مرتين: مرة وهو صبي يلعب مع الغلمان، ومرة قبيل الإسراء بعد البعثة وبعد الوحي، وهذا من آيات الله العظيمة.
وقوله: ((فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ مِنْ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا)) هذا تهيئة من الله تعالى لعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد هيأه بشق صدره وتنظيفه، وإزالة ما فيه من حظ الشيطان، ثم مُلئ حكمة وإيمانًا ويقينًا؛ لأن الله تعالى أدَّب نبيه صلى الله عليه وسلم، وهيئة للكمال، فهو أكمل الناس عليه الصلاة والسلام خَلْقًا، وخُلُقًا، وإيمانًا، ويقينًا عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلَامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي)) هذا البكاء ليس حسدًا، وإنما تألم على بني إسرائيل، لما فاتهم من الخير، وغبطة لنبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة أتباعه؛ لأنه إذا كثر أتباعه كثر أجره، لأن: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ
مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا))
(1)
، فنبينا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أتباعًا، وأكثرهم أجرًا، فموسى عليه السلام تألم من بني إسرائيل، وإن كان أتباع موسى كثيرين، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ))
(2)
.
وقوله: ((وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ)): هذه أربعة أنهار تخرج من أصل سدرة المنتهى، نهران باطنان في الجنة، وهما: الكوثر، والسلسبيل، ونهران ظاهران، وهما: النيل، والفرات، النيل في مصر، والفرات في العراق.
قال القاضي عياض: ((وقوله: ((وأما النهران الظاهران)): فالنيل والفرات: يُشْعِرُ أن أصْلَ سدرة المنتهى فى الأرض، والله أعلم))
(3)
، لكن رد هذا النووي رحمه الله، وقال:((هذا الذي قاله ليس بلازم، بل معناه: أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، والله أعلم))
(4)
.
وهذا الذي قاله النووي رحمه الله جيد، أما قول القاضي رحمه الله: إن أصل سدرة المنتهى في الأرض، فهو بعيد.
(1)
أخرجه مسلم (2674).
(2)
أخرجه البخاري (5705).
(3)
إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 503).
(4)
شرح مسلم، للنووي (2/ 225).
وسميت سدرة المنتهى بهذا الاسم؛ لأنه تنتهي إليها الأمور التي شاء الله أن تنتهي إليها.
وقوله: ((هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ))، يعني: كل يوم بمقدار أيام الدنيا، وإلا فليس هناك ليل ولا نهار عند الملائكة، كما في الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:((إِنَّ رَبَّكُمْ تَعَالَى لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ، وَلَا نَهَارٌ))
(1)
؛ وذلك لأن الليل والنهار من دوران الشمس، وفوقُ لا شمس ولا قمر، ولا يوجد ليل ولا نهار، كذلك الجنة ليس فيها ليل ولا نهار، أما قوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ، فالمعنى: بمقدار البكرة والعشي، وكذلك اجتماع المؤمنين يوم القيامة في يوم المزيد، يوم الجمعة، بارزين لله عز وجل، معناه: بمقدار يوم الجمعة في الدنيا.
وقوله: ((الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ)): فيه ما يدل على كثرة الملائكة.
* * *
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير (8886).
[165]
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ- قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، فَقَالَ:((مُوسَى آدَمُ طُوَالٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ))، وَقَالَ:((عِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ))، وَذَكَرَ مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ الدَّجَّالَ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام، رَجُلٌ آدَمُ طُوَالٌ جَعْدٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأْسِ، وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ))، قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَقِيَ مُوسَى عليه السلام.
قوله: ((مُوسَى آدَمُ))، يعني: أسمر، من الأدمة، وهي السمرة.
وقوله: ((طُوَالٌ))، يعني: هو طويل.
وقوله: ((كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ)) قبيلة معروفة، وأصولهم من اليمن.
وقوله: ((عِيسَى جَعْدٌ))، الْمُرَادُ بِالْجَعْدِ هُنَا:((جُعُودَةُ الْجِسْمِ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُ وَاكْتِنَازُهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ جُعُودَةُ الشَّعْرِ))
(1)
، وقد يراد به: جعد الشعر؛ لأنه غير مصفف.
وقوله: ((مَرْبُوعٌ))، يعني: هو متوسط بين الرجلين، ليس بالقصير، ولا بالطويل البائن.
وقوله- عن عيسى ابن مريم عليه السلام: ((سَبْطُ الرَّأْسِ))، أي: مسترسل الشعر.
(1)
شرح مسلم، للنووي (2/ 227).
[166]
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِوَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ:((أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ )) فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ:((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ))، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ:((أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ )) قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ:((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام، عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ، وَهُوَ يُلَبِّي))، قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ هُشَيْمٌ، يعني: لِيفًا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ:((أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ )) فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ:((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام)، فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ، وَشَعَرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ، ((وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي))، قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ:((أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ )) قَالُوا: هَرْشَى، أَوْ لِفْتٌ، فَقَالَ:((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا)).
قوله: ((وَادِي الأَزْرَقِ)): وهو خلف أمج بينه وبين مكة ميل واحد، وأَمَجُّ بفتح الهمزة والميم وبالجيم قرية ذات مزارع هناك
(1)
.
وقولهم: ((قَالُوا: هَرْشَى، أَوْ لِفْتٌ)): أما هَرْشَى: بفتح الهاء وسكون الراء: فهو جبل من بلاد تهامة على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة.
ولِفْتٌ أو ثنية لفت- بكسر اللام وإسكان الفاء-: أرض مرتفعة بين مكة
(1)
فتح الباري، لابن حجر (3/ 414).
والمدينة تشرف على خليص من الشمال، وتسمى اليوم (الفيت)، وقد هجرت من زمن، ولم تعد مطروقة، وقد سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مهاجرته.
وقوله: ((خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ)): روي بتنوين ليف وروي بإضافته إلى خلبة، فمن نَوَّنَ جعل خلبة بدلا أو عطف بيان
(1)
، والخلبة هو الليف.
قوله: ((وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ))، يعني: له صوت مرتفع بالتلبية.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ، فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى، فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي.
[167]
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ. ح، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ- يَعْنِي: نَفْسَهُ- وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ))، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ: دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ.
[168]
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حميد- وتقاربا في اللفظ- قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبد: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((حِينَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى عليه السلام)، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَجُلٌ- حَسِبْتُهُ قَالَ-: ((مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنَ رِجَالِ شَنُوءَةَ، قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا رَبْعَةٌ، أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ
(1)
شرح مسلم، للنووي (2/ 230).
دِيمَاسٍ- يَعْنِي: حَمَّامًا- قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ، قَالَ: فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ، وَفِي الآخَرِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقَالَ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَّا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ)).
أشكل على بعض العلماء هذا الحديث: فكيف رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام له جؤار يلبي، ورأى يونس بن متى يلبي عليه السلام، وهما قد ماتا؟ قال بعضهم: إن هذا لا مانع منه، وأن الشهداء إذا كانوا أحياء عند الله يرزقون، فحياة الأنبياء أكمل من حياة الشهداء.
وقال آخرون: إنهم مُثِّلوا له، وأنه نقل له أحوالهم لما كانوا أحياء، ورآهم على هذه الحال.
وقال النووي رحمه الله: قال القاضي عياض رحمه الله: ((فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات، وهم في الدار الآخرة وليست دار عمل؟ فاعلم أن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة:
أحدها: أنهم كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا
(1)
، ويصلوا كما ورد في الحديث الآخر
(2)
، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا؛ لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل))
(3)
.
قلتُ: هذا غير وجيه؛ فإن من مات فقد قامت قيامته، فحياتهم حياة برزخية لا كالحياة الدنيا.
(1)
أخرجه البخاري (1555)، ومسلم (166).
(2)
أخرجه مسلم (2375).
(3)
شرح مسلم، للنووي (2/ 228).
قال رحمه الله: ((الوجه الثاني أن عمل الآخرة ذكر ودعاء، قال الله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام}))
(1)
.
قلتُ: وقد خصه بعضهم بالذكر والتسبيح والدعاء وهذا في الآخرة، والكلام إنما هو في حياة البرزخ.
قال رحمه الله: ((الوجه الثالث: أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء، أو في بعض ليلة الاسراء، كما قال فى رواية ابن عمر رضي الله عنهما: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِى أَطُوفُ بِالكَعْبَةِ))، وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم)
(2)
حتى لو كانت رؤيا منام فرؤيا الأنبياء وحي، وأما ليلة الإسراء فكانت يقظة لا مناما، قوله:{سبحان الذي أسرى بعبده} والعبد اسم لمجموع الروح والجسد كما أن الإنسان اسم لمجموع الروح والجسد، ثم إن التسبيح يكون عند الأمور العجيبة العظيمة الخارجة عن العادة، ومعلوم أن عامَّة الخلق يرى أحدهم في منامه الذهاب من مكة إلى الشام وليس هذا مما يُذكر على هذا الوجه من التعظيم.
قال رحمه الله: ((الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم أُري أحوالهم التي كانت في حياتهم، ومُثلوا له في حال حياتهم، كيف كانوا، وكيف حجهم، وتلبيتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسى))، و ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عِيسَى))، و ((كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ)).
خامسها: أن يكون أخبر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم، وما كان منهم، وإن لم يرهم رؤية عين))
(3)
والراجح أنه صلى الله عليه وسلم رأى أرواحهم، فهم قد مثلوا له، إذ أخذت الروح شكل الجسد، كما كان في الإسراء
(4)
.
(1)
شرح مسلم، للنووي (2/ 228).
(2)
شرح مسلم، للنووي (2/ 229).
(3)
شرح مسلم، للنووي (2/ 228).
(4)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية (4/ 329)، شرح حديث النزول، لابن تيمية (ص 151).