الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لكثير من المتون، عارفًا بالأسانيد، وكان شيخ بلاده، والرحلة إليه، ودخل دمشق مرارًا، وحدَّث بها، وكان وقورًا مهابًا، كثير الودّ لأصحابه، فصيحًا مقبول القول والصورة، قال الذهبي: حصَّل الكتب النفسية، وما كان في وقته أحدٌ مثله، وكان حسن اللقاء، خيّرًا ديّنًا متواضعًا، منوَّر الوجه، كثير الهيبة، جَمَّ الفضائل، انتفعتُ بصحبته، وقد حدَّث بالصحيح (1) مرات".
قال ابن العماد في الشذرات: "وكان موته شهادة؛ فإنه دخل إليه يوم الجمعة خامس رمضان، وهو في خزانة الكتب بمسجد الحنابلة (2)، شخص (3) فضربه بعصا على رأسه مراتٍ، وجرحه في رأسه بسكين، فاتّقى بيده فجرحه فيها، فأمسِك الضاربُ، وضُرب وحُبس، فأظهر الاختلال، وحُمل الشيخُ إلى داره، فأقبل على أصحابه يحدثّهم وينشدهم على عادته، وأتم صيامَ يومه، ثمَّ حصل له بعد ذلك حمّى واشتد مرضه، حتى توفي". وكانت وفاته ليلة الخميس 11 رمضان 701. وانظر تذكرة الحفاظ (4: 282) والدرر الكامنة (3: 98) وشذرات الذهب (6: 3 - 4).
النسخةُ اليُونينيَّةُ:
كان الحافظُ أبو الحسين شرف الدين اليونيني كثير العناية بصحيح
(1) يعني صحيح البخاري.
(2)
في الدرر الكامنة أنه كان بخزانة كتبه.
(3)
في الدرر الكامنة "فقير يقال له موسى".
البخاري، طويل الممارسة له، مهتمًّا بضبطه وتصحيحه ومقابلته على الأصول الصحيحة التي رواها الحافظ، "حتى إن الحافظ شمس الدين الذهبيّ حَكَى عنه أنه قابله في سنة واحدة إحدى عشرةَ مرة".
وقد عقد الحافظ اليونيني مجالس بدمشقَ؛ لإسماع "صحيح البخاري" بحضرة ابن مالك، وبحضرة "جماعة من الفضلاء"، وجمع منه أصولًا معتمدة، وقرأ اليونينيُّ عليهم صحيح البخاري في واحد وسبعين مجلسًا، مع المقابلة والتصحيح، فكان اليونيني في هذه المجالس شيخًا قارئًا مُسْمِعًا، وكان ابنُ مالك - وهو أكبر منه بأكثر من 20 سنة - تلميذًا سامعًا راويًا، هذا من جهة الرواية والسماع، على عادة العلماء السابقين الصالحين، في التلقي عن الشيوخ الثقات الأثبات، وإن كان السامعُ أكبرَ من الشيخ. وكان اليونيني، في هذه المجالس نفسها، تلميذًا مستفيدًا من ابن مالك، فيما يتعلق بضبط ألفاظ الكتاب، من جهة العربية والتوجيه والتصحيح.
وقد أرَّخ القسطلانيُّ (1) في شرحه السنةَ التي عُقدت فيها مجالس السماع بحضرة اليونيني وابن مالك بأنها سنة 676 وكتبها بالحروف لا بالأرقام "ست وسبعين وستمائة" وهذا خطأ قطعًا؛ لأن ابن مالك مات سنة 672، وكنت ظننت أولًا أن هذا خطأ مطبعي، ثم رجعت إلى النسخ المخطوطة من شرح القسطلاني بدار الكتب المصرية،
(1) نقل ذلك القسطلاني في شرحه (1: 34).
فوجدت هذا التاريخ فيها كما في النسخة المطبوعة، فأيقنت أنه خطأ من المؤلف، اشتبه عليه الأمر حين الكتابة، ولعل صوابه سنة 666 أو سنة 667، فتكون مكتوبة فيما نقل عنه "ست وستين" فقرأها "ست وسبعين" ونقلها كذلك، أو تكون مكتوبة أمامه بالرقم هكذا 667، فحين أراد أن ينقل انتقل نظره فقرأ رقم السبعة متوسطًا بين الرقمين الآخرين المتماثلين. والله أعلم بصحة ذلك؛ فإني قد بذلت جهدي في تعرف التاريخ الصحيح لذلك، فلم أجده منصوصًا عليه في شيء من المراجع التي وصلتُ إليها.
و"جماعة الفضلاء" الذين كانوا حاضري هذه المجالس؛ للسماع والتصحيح والمقابلة، لم أجد أيضًا أسماءهم في شيء مما بين يديّ من المصادر، ولا أدري أكتبت أسماؤهم في ثبت السماع على النسخة اليونينية أم لم تكتب؟
وأما الأصول المعتمدة التي قابل عليها الحافظ اليونيني ومن معه، فقد بينها هو في ثبت السماع، الذي نقله القسطلاني في شرحه، ونقله عنه مصححو الطبعة السلطانية.
وهذا مثال ما كتبه العلامة ابن مالك بخطه بحاشية ظاهر الورقة الأولى من المجلد الأخير، وهو النصف الثاني من النسخة اليونينية، فيما رآه القسطلاني فيها ونقله عنها.
"سمعت ما تضمنه هذا المجلدُ من صحيح البخاري رضي الله عنه بقراءة سيدنا" "الشيخ الإمام العالم الحافظ المتقن شرف الدين
أبي الحسين عليّ بن محمد بن" "أحمد اليونينيّ رضي الله عنه وعن سلفه، وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء" "ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلَّما مر بهم لفظ ذو إشكال بَيَّنتُ فيه الصواب" "وضبطته على ما اقتضاه علمي بالعربية، وما افتقر إلى بسط عبارة وإقامة دلالة" "أخَّرت أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام مما يحتاج إليه من نظير وشاهد؛ ليكون" "الانتفاع به عامًّا، والبيان تامًّا، إن شاء الله تعالى. وكتبه محمد بن عبد الله" "ابن مالك، حامدًا لله تعالى".
وهذا مثال ما كتبه الحافظ اليونيني في آخر الجزء السابق ذكره، مما نقله القسطلاني أيضًا:
"بلغْتُ مقابلة وتصحيحًا وإسماعًا بين يديْ شيخنا شيخ الإسلام، حجة""العرب، مالك أزمة الأدب، الإمام العلامة أبي عبد الله بن مالك الطائي الجيّانيّ""أمدَّ الله تعالى عمرَه، في المجلس الحادي والسبعين، وهو يُراعي قراءتي، ويلاحظُ""نطقي، فما اختاره ورجَّحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصححتُ عليه، وما ذكر أنه""يجوز فيه الإعرابان أو ثلاثة فأعملت ذلك على ما أمر ورَجّح، وأنا أقابل بأصل""الحافظ أبي ذر، والحافظ أبي محمد الأصيلي، والحافظ أبي القاسم الدمشقي""ما خلا الجزء الثالث عشر والثالث والثلاثين فإنهما معدومان، وبأصل مسموع""على الشيخ أبي الوقت بقراءة الحافظ أبي منصور السّمعاني وغيره من الحفاظ""وهو وقف بخانكاه السميساطي، وعلاماتُ ما وافقت أبا ذرّ (هـ) والأصيلي (ص) "
"والدمشقي (ش) وأبا الوقت (ظ) فيعلم ذلك، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب في فرخة لتُعلَم الرموز، كتبه علي بن محمد الهاشمي اليونيني عفا الله عنه".
وقد نقل العلماء بعد ذلك عن نسخة اليونيني نسخًا كثيرة قابلوها بها، وصححوها عليها، وأسْمَوْها فروعًا؛ إذ اعتبروا نسخة اليونيني أصلًا، وقد كانت أصلًا وحجة، قال القسطلاني:"ولقد وقفتُ على فروع مقابلة على هذا الأصل الأصيل، فرأيت من أجلّها الفرع الجليل، الذي لعله فاق أصله، وهو الفرع المنسوب للإمام المحدِّث شمس الدين محمد بن أحمد المِزَّيَّ الغزولي، وقف التنكزية بباب المحروق خارج القاهرة، المقابل على فرعي وقف مدرسة الحاجّ مالك، وأصل اليونينيّ المذكور غير مرة، بحيث إنه لم يغادر منه شيئًا كما قيل، فلهذا اعتمدتُ في كتابة متن البخاري - في شرحي هذا - عليه، ورجعت في شكل جميع الحديث وضبطه - إسنادًا ومتنًا - إليه، ذاكرًا جميع ما فيه من الروايات، وما في حواشيه من الفوائد المهمات. ثم وقفت في يوم الإثنين 13 جمادى الأولى سنة 916 بعد ختمي لهذا الشرح على المجلد الأخير من أصل اليونينى المذكور". ثم قال: "وقد قابلت متن شرحي هذا إسنادًا وحديثًا على هذا الجزء المذكور من أوله إلى آخره، حرفًا حرفًا، وحكيته كما رأيته، حسب طاقتي، وانتهت مقابلتي له في العشر الأخير من المحرم سنة 917 نفع الله تعالى به، ثمَّ قابلته عليه مرة أخرى". ثمَّ قال: "ثمَّ وُجد الجزء الأوّل من أصل اليونيني المذكور يُنادى عليه للبيع بسوق الكتب، فعرف
وأحضر إليّ بعد فقده أزيد من خمسين سنة، فقابلت عليه متن شرحي هذا، فكملت مقابلتي عليه جميعه حسب الطاقة، ولله الحمد".
ولم يذكر لنا القسطلاني ماذا تم على الجزء الأول الذي رآه معروضًا للبيع، وما مصيره ومآله، وأين مستقرُّه؟ ولكنه ذكر ما يُفهم منه أن الجزء الثاني الذي رآه هو قبل الأول كان موقوفًا في عصره "بمدرسة أقبغا آص بسويقة العزّى خارج باب زويلة من القاهرة المعزية"، وأنه رأى مكتوبًا بظاهر بعض نسخ البخاري الموثوق بها، الموقوفة برواق الجبرتَ من الجامع الأزهر بالقاهرة:"أن أقبغا بذل فيه نحو عشرة آلاف دينار". والمفهوم لي من هذا أن أقبغا حصل على الأصل كله كاملًا، ووقفه في مدرسته، ثم فُقد النصف الأول نحو خمسين سنة، إمّا بالسرقة، وإمّا بالعارية في معنى السرقة، ثم وجد في عصر القسطلاني.
والمفهوم من التقرير الذي كتبه شيخ الإسلام الشيخ حسونة النواوي شيخ الجامع الأزهر 20 صفر سنة 1313، وهو المطبوع في مقدمة الطبعة السلطانية، أن أصل اليونيني محفوظ في "الخزانة الملوكية بالآستانة العلية" وأنه أرسل إلى مشيخة الأزهر للتصحيح عليه، على يد "صاحب السعادة عبد السلام باشا المويلحي". والذي أرجحه أن هذا الأصل أعيد بعد التصحيح عليه إلى مقره في "الخزانة الملوكية بالآستانة العلية".
ثمَّ بعد ذلك بسنين، في صفر سنة 1361، وقع لي النصف الثاني