الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية
(*)
أثار حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا فتنة شعواء يحارب فيها لغة العرب، ويسعى لتمزيقها، ثم يحاول أن يظهر للناس في ثوب نصيرها المدافع عنها.
ولقد كنا سمعنا عن اقتراحه - كتابة العربية بالحروف اللاتينية - قبل أن ينشر نصه، فوقع في نفسي أنه استمرار لمحاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم، وكان على رأسها مهندس إنجليزي كبير، وكاتب مصري مشهور، نال المناصب الرفيعة من بعد، ثم درست تلك المحاولة، وظننا أنها ماتت وانتهى أمرها، ولم نكن نظن أنها اختبأت في حصن حصين، في رأس رجل عظيم، حتى نبتت منه بشعبها، تظن أن سيكون لها في لغة العرب أثر.
وكنت قد فكرت في الرد على اقتراحه بإرجاعه إلى منبعه الأصلي ومصدره الصحيح، بما وقع في نفسي، ولكني خشيت أن أظلم الرجل باتهامه بتهمة لم يكن لدي عليها برهان.
(*) مجلة الهدي النبوي، السنة الثامنة، العدد الحادي عشر، ذو القعدة سنة 1363 هـ.
حتى نشر المجمع اللغوي نص اقتراحه، فإذا البراهين فيه على ما ظننت واضحة بينة تترى، آخذ بعضها برؤوس بعض، وإذا الناس يتناولونه بأقلامهم من كل جانب، والباشا يصرخ هنا وهنا ويستغيث، ولغة العرب منصورة سائرة قدمًا في طريقها، لا تحس به ولا تشعر، وإذا اقتراحه يموت فلا يرثى له، وإن جامله المجمع اللغوي فلم يرفضه أول ما قدم إليه.
ولو سكت الرجل بعد ذلك لكان خيرًا له وأقوم، ولنسيه الناس ونسوا ما قدم، ولكنه أخذته العزة بالإثم، فأخرج في أواخر رمضان من هذا العام (1363 - أغسطس سنة 1944) كتابًا يرد على ناقديه، ويأخذ أعراضهم بقلمه الثائر العنيف، وأدلته المتهافتة المستنكرة، حتى ولو كان لاقتراحه موضع آخر للسقوط لبلغه.
وما بي أن أدافع من ردهم عليهم في كتابه، فكثير منهم أعرف باللغة العربية، وبأدب العرب، وأقدر على الكتابة من الباشا ومن كل أتابعه وأنصاره ومجامليه، ولكني أردت أن أكشف عن مقصده الحقيقي باقتراحه من كلامه وألفاظه، وأن أنقد بعض ما عرض له من مسائل في العلم، ظهر أنه لا يعرف فيها شيئًا، عرض لها عرضًا عجيبًا، ولو تركه ستر نفسه.
أما اقتراحه الميت السخيف (1)، فما أبالي أن لا أرد عليه، اكتفاء
(1) يعذرني صاحب المعالي في استعمال هذه اللفظة النابية؛ فقد حاولت جهدي أن أجد صفة خيرًا منها في موضعها فأعجزتني المحاولة، ثم لم أر في استعمالها =
بما قيل من قبل، وثقة مني أن لا تقوم له قائمة من بعد.
وأنا أعلم أن معاليه سينطلق في أثري كما انطلق في أثر الذين من قبلي، ثائرًا عنيفًا مستعليًا مستكبرًا، كأن لم يسمع كلمة الحق، وأنه سيرميني كما رمى أخي (السيد محمود محمد شاكر بأنه يشتهي تجريح من هو أكبر منه سنًّا، حاسبًا أن ذاتيته تعلوا بهذا التجريح) ولكنني لا أبالي.
يعلن صاحب المعالي في كتابه ص (78) أنه: (يريد المحافظة على العربية الفصحى) ولكن سائر أقواله إنما تصدر عن عقيدة بفساد هذه اللغة وأنها لا تصلح للحياة، لثباتها على وتيرة واحدة إلا أن تتغير وتدور مع اللهجات فتنقسم إلى لغات، فهو يضع اللغم الأول في هذا الصرح الشامخ، حتى إذا ما اهتز الصرح وفقد تماسكه استطاع من بعده من أنصاره ومن أعداء العربية ومن أعداء الإسلام، ومن أعداء القرآن، أن يدمروه تدميرًا.
انظر إلى قوله الذي افتتح به اقتراحه المقدم للمجمع: (لا شك عندي أن حضرات المستشرقين - آه من عبادة المستشرقين ومن عبادة الإفرنج - من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وألمان وأمريكيين، يعجبون منا نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة، لحمل أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت). ثم يقول عن بحث
= بأسًا بعد أن وصف هو بها الرسم العربي عشرات المرات في كتابه.
المستشرقين عن الآثار: (لكن عملهم هذا الشيء وإمساك أية لغة بخناق أهلها دهرًا طويلًا شيء آخر.
وانظروا إلى قوله في الفقرتين 4 و 5 "لكن حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من الغريبة؛ لأنها مع سريان التطور في مفاصلها، وتحتيتها في عدة بلاد من آسية وأفريقية إلى لهجات لا يعلم عددها إلا الله، لم يدر بخلد أي سلطة في أي بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسيًّا أن يجعل من لهجة أهله لغة قائمة بذاتها، لها نحوها وصرفها وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ وفي الكتابة معًا تيسيرًا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، أو كما فعل اليونان، ولم يعالج أي بلد هذا التيسير، وبقي أهل اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة، إن أهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرًا، وأن يردعوا عقولهم على التأثر بقانون التطور الحتمي الآخذ مجراه بالضرورة، رغم أنوفهم في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرع فروعًا لا حد لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافة الخلف بينها وبين الفصيحة جدة جداتها اتساعًا بعيدًا، هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلم العربية الفصحى، كما تصح قراءتهم وكتابتهم، هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغي؛ لأنه تكليف للناس بما فوق طاقتهم، ولقد كنا نصبر على هذه المحنة لو أن تلك العربية الفصحى كانت سهلة المنال كبعض اللغات
الأجنبية الحية، لكن تناولها من أشق ما يكون، وكلنا مؤمن بهذا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فلنذكر ببعض هذه المشقة".
هذا بعض قوله في اقتراحه، وما أظن عاقلًا يخدع بعد ذلك فيصدق الباشا في ادعائه أنه يريد المحافظة على العربية الفصحى، وهو يسخط عليها كل هذا السخط، ويندد بها كل هذا التنديد، بل يندد بالأمم المنفصلة سياسيًّا، أن لم يدر بخلد أحد من أهلها أن يجعل من لهجته لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها! ! فإن لم تكن هذه دعوة صريحة إلى تمزيق العربية إلى لغات عدة كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، فما ندري كيف تكون الدعوة، بل لا يدري أحد من الناس.
إن هذا الاقتراح تجديد للدعوة القديمة التي أشرنا إليها في أول هذا المقال، واستمرار لها، حتى تتمزق وحدة الأمم العربية ويحال بينها وبين قديمها، فلا يعرفه ولا يصل إليه إلا الأفذاذ من علماء الأثريات، كما هو الشأن الآن في اللغات القديمة الميتة، فيحال بين الأجيال القادمة وبين القرآن والحديث وعلوم العرب، كما يظنون، فيندثر هذا الإسلام من وجه الأرض ويطمئن القوم. ومهما يكابر معالي الباشا وأنصاره، فلن يستطيع التفصي من هذه النتائج، ومن حمل كلامه على القصد إليها، وإن تبرأ منها ألف مرة، وإن قال ألف مرة:(أنا مكتف بما يسر الله لي من ديني، وموقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين)! !
إن لم يكفكم هذا برهانًا على ما يقصد إليه ويرمي، فانظروا إلى قوله في الفقرتين 7 و 8:(تلك الأشواك والعقبات وهذا التعدد، تريك الواقع من أن هذه اللغة العربية ليست لغة واحدة لقوم بعينهم، بل إنها مجموع كل لهجات الأعراب البادين في جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة، جمعها علماء اللغة وأودعوها المعاجم وجعلوها حجة على كل من يريد الانتساب للغة العربية، ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت، أفليس من الظلم البين إلزام المصريين وغير المصريين من متكلمي اللهجات العربية الحديثة بمعالجة التعرف بتلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض فانعجنت، ولو فرض المستحيل وأمكن عزل أية واحدة منها لكانت دراستها بسبب قدمها أشق من تعلم عدة لغات أجنبية حية، كل منها يعين الإنسان في عمره القصير على مسايرة العالم في هذه الحياة الدنيا، في كل سنة نسمع صيحة مدوية يصخ البعض بها معلمي اللغة العربية بالمدارس، متهمًا إياهم بالقصور أو التقصير في تلقين التلاميذ، والحق الذي لا مرية فيه أن هؤلاء المعلمين المساكين براء من هذه التهمة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فإن العيب إنما هو عيب اللغة التي ليس لها في مفرداتها وقواعدها أول يعرف ولا آخر يوصف، والتي لها في أدائها جرس ولوكة يضربان صماخ أذن الطفل لبعد ما بينهما وبين لهجة أمه، فينفر منها ومن المعلم نفور الطير روعته والظبي باغته).
إذن فالأمر واضح، ليس الأمر أمر تيسير الكتابة العربية حتى
تمثل النطق بها تمثيلًا صحيحًا طاعة لأمر تعبدي نصت عليه لائحة المجمع اللغوي، ولقرار خاص من وزير المعارف تجب طاعته وتنفيذه؛ لأن "مورد النص لا مساغ للاجتهاد فيه" كما قال صاحب المعالي في كتابه ص 36! ! ولكن الأمر أخطر من ذلك وأبعد أثرًا، الأمر أن لهذه اللغة جرسًا ولوكة يضربان صماخ أذن الطفل" فيجب أن نغير هذا، وأن نمهد له باصطناع الحروف اللاتينية التي لها جرس "يخالف جرس الحروف العربية في المخارج والحركات وتوقيت الكلمة في أثناء نطقها، وهو شيء في صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء" كما قال الأستاذ العقاد (الرسالة 585 في 18 سبتمبر سنة 1944) حتى إذا ما تبلبلت الألسن العربية، ومرنت على هذه الحروف اللاتينية ولهجاتها وجرسها، وعلى الحروف المستحدثة التي ابتكرها المجمع اللغوي في قراره العجيب بشأن كتابة الأعلام الأعجمية بحروف عربية (1)، أمكن التدرج في الانتقال إلى اصطناع لغة أخرى أعجمية، أو خلق لغة بين بين، لا هي عربية ولا هي أعجمية وتفرقت الأمم العربية شذر مذر، ونسوا هذا القرآن الذي يجمع بينهم ويوحد لسانهم؛ إذ لن يستطيعوا إخضاعه لهذه اللكنة الأعجمية التي تدل عليها الحروف اللاتينية! !
(1) هذه القرارات نشرت في مجلة المجمع (ج 4 سنة 1356 ص 18 - 21) وقد أشرنا إلى عيوبها ورددنا عليها في مقدمة كتاب المعرب للجواليقي بتحقيقنا طبعة دار الكتب.
وإذن فليس الأمر أمر إرادة المحافظة على العربية الفصحى كما يقول دفاعًا عن نفسه، وإنما هو رفع ظلم بَيِّن عن المصريين وغير المصريين ممن ألزموا تعرف تلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض، والتي لا يمكن عزل أية واحدة، والتي لو أمكن المستحيل بعزل واحدة منها لكانت دراستها بسبب قدمها أشق من تعلم عدة لغات أجنبية حية، والتي كل العيب فيها؛ إذ ليس لها في مفرداتها وقواعدها أول يعرف ولا آخر يوصف، ولن يكون رفع هذا الظلم إلا أن يرفع عن كواهل المظلومين ما أثقلها من (أوزار ألف وخمسمائة سنة مضت)! !
لست أدري هل يغالط الباشا الحصيف نفسه ويخدعها، أو هو يظن أن الناس لا يفقهون!
أيها الرجل:
اقرأ كتابك، تجد أنك رضيت عن كل لغة حتى العبرية، وما اصطفيت لسخطك وسخريتك إلا العربية.
وقد أجاب صاحب المعالي عن سؤال من سأل: كيف تريد أن ترسم القرآن؟ بجوابين عجيبين مضحكين!
أما أحدهما فأن يرسم القرآن بحروف معاليه اللاتينية؛ لأن الحروف العربية وثنية منقولة مباشرة عن الوثنين، والحروف اللاتينية ينقلها معاليه الآن عن النصارى وهم أهل كتاب أقرب من الوثنيين إلينا نحن المسلمين (ص 25 - 26) ثم ارتأى أن يَمُنَّ على رجال الدين
المحترمين بإبقاء رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن! (ص 28) ولست أدري أعفى عنهما إرضاء لهم أم شفقة عليهم أم خوفًا منهم؟ إنما هو قد فعل هذا والسلام!
ثم أجاب بعض سائليه (ها أنت ذا ترى فيما أسلفت ما يطمئنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن يندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائما من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من يقرؤونه ويحافظون عليه" (ص 29).
وقد وجد معاليه لرجال الدين بعد ذلك عملًا خطيرًا عظيمًا، هو "أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات"(ص 28).
ولسنا نجادله في أن هذا الفعل حرام أو حلال، فإن معالي الباشا رجل قانون، وهو أبعد الناس عن معرفة الحرام والحلال، وكتابه شاهد عليه.
ولكنا نسأله سؤالًا واحدًا: أيمكن أن يؤدى نطق القرآن أداءً صحيحًا موافقًا للعربية إذا ما كتب بالحروف اللاتينية، وخاصة في حال الوقوف على رؤوس الآي أو في أثنائها؟ أظنه يعلم أن أواخر الكلم إذا كانت متحركة - وهو الأكثر - في الكلام - وجب الوقف عليها بالسكون، وإذا كان الحرف منونًا مفتوحًا وقف عليه بالألف، وهو يقترح أن يدل على الحركة بحرف مد يسميه (حرف حركة) وأن يدل على التنوين بحرف مد بعده حرف النون، فماذا يفعل القارئ،
أيحذف في كل وقف من المكتوب حرفًا أو حرفين، أم يقرأ القرآن إفرنجيًّا؟
ألسنا معذورين إذا ظننا صادقين أنه يبغي قطع الصلة بين هذه الأمة العربية وبين قديمها، وخاصة القرآن والحديث، تنفيذًا لخطة قديمة معروفة لم يخامرنا فيها شك دل عليها قلمه حين خانه، فجعل عمل رجال الدين أن يحلوا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد!
ثم ماذا يريد صاحب المعالي هذا أن يصنع بالقرآن؟ إنه يريد أن يفتح الباب للعبث به وبقراءاته عامدًا متعمدًا، فقد أدخل نفسه مداخل لا يحسن الخروج منها، ولا منجى له من عواقبها.
انظروا إلى قوله يخاطب "معالي السيد كامل الجاردجي" أحد الذين ردوا عليه اقتراحه (ص 78)(الظاهر يا سيدي أننا غير متفقين اتفاقًا واضحًا على الغرض الذي نسعى إليه، فلنتفق عليه ابتداء ثم ليتكلم كلانا بعد بما شاء، أنا أريد المحافظة على العربية الفصحى، وأنت تريدها كذلك، فلنحدد بالنص الصريح ما هي تلك الفصحى التي نريدها جميعًا، أما أنا فلا أرى مثالًا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر؛ فلغته هي وحدها المعنية لي عندما أذكر الفصحى، وأحدد أكثر فأقول: إن لغته المعنية لي هي ما تكون الأقيس والأسهل من وجوه قراءاته فقراءة (إنَّ هذين لساحران) هي المعنية لي (إنْ هذان لساحران مثلًا) هذا نص كلامه بحروفه.
أرأيتموه أيها الناس وعرفتم دخيلته! إنه يأتي بالكلام الحلو
المعسول فلا يرى "مثالًا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر" ثم يدس فيه ما يظن أنه يخفى على عامة المسلمين، بَلْهَ خاصتهم، بَلْهَ علماءهم فيزعم أنه يتخير من قراءات القرآن ما يوافق هواه ويعرض عما عداه، موهمًا أن الثابت، المتواتر هو ما حكى دون ما نفى، لكنه يسقط في ذلك سقطة ما لها من قرار.
وذلك أن الآية التي جاء بها مثالًا لما يريد، وهي قوله تعالى في سورة طه:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} . رسمت في المصحف على هذا الرسم الذي رسمه أصحاب رسول الله واتفقوا عليه، وروي عنهم بالتواتر القطعي الثبوت رواية وكتابة، لم يَرْتَبْ في ذلك مسلم قط (هذن) بدون ألف بعد الذال، ورويت القراءات فيها بالتواتر القطعي سماعًا من عهد رسول الله إلى عصرنا هذا الذي نحيا فيه. والقاعدة الغالبة في رسم المصحف أن تحذف الألف وأن تثبت الياء.
والقراءة التي يقرأ لها أهل بلادنا، قراءة حفص عن عاصم، في هذه الآية (إن هذان) بسكون النون في (إن) وبثبوت الألف وكسر النون مخففة من غير تشديد في (هذان) ووافقه ابن محيصن وأبو حيوة والزهري، وغيرهم من أئمة القراءة، ووافقه أيضًا ابن كثير ولكن شدد النون المكسورة في (هذان) وقراءة حفص ومن وافقه التي نقرأ في بلادنا هي التى يرفضها الباشا العالم العجيب، وينفي أن تكون مما ارتضى من (العربية الفصحى)؛ وذلك أنه عسر عليه أن يدرك وجهها من العربية وإن كان واضحًا ميسورًا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر وحمزة الكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف والحسن والأعمش وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير الطبري وغيرهم (إن) بتشديد النون (وهذان) بالألف وتخفيف النون، وهذه القراءة نفاها معاليه ضمنًا أيضًا باختيار غيرها وإن لم يصرح بنفيها ولكنها، دخلت في غير (العربية الفصحى) عنده.
وهاتان القراءتان هما قراءة أكثر القراء من السبعة بل العشرة، بل الأربعة عشر بل من عداهم، ممن عرف معاليه ومن لم يعرف، وممن سمع به ومن لم يسمع:
ثم اختار لنفسه أستغفر الله - بل لأمم العرب جمعاء، غير مكلف أن يختار لهم، ولكن عاديًا على لغتهم وعلى قرآنهم - اختار قراءة أبى عمرو بن الجلاء وعيسى بن عمر ويونس وغيرهم (إن هذين) بتشديد النون في (إن) وبالياء في (هذين) اختارها من غير دليل إلَّا يسرها في مقدوره وعلمه، وهي قراءة صحيحة ثابتة كاللتين قبلها وإن عبر عنها بعضهم بالشذوذ كالإمام أبي عمرو الداني في كتاب (المقنع في رسم المصاحف) ص 127، وكالزجاج في قوله:"لا أجيز قراءة أبي عمرو؛ لأنها خلاف المصحف"(1).
(1) ومن شاء التوسع في معرفة توجيه هذه القراءات وأدلتها فليراجع كتاب (التيسير في القراءات السبع) لأبي عمرو الداني، طبعة استنبول سنة 1930 ص 151، وكتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري، طبعة دمشق سنة 1345 (ج 2: 308)، وكتاب (اتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر) للبناء الدمياطي طبعة مصر سنة 1359 ص 304، وتفسير الطبري طبعة بولاق (ج 16: 136)، والبحر لأبي حيان (ج 6: 255).
فهذا مبلغ هذا الرجل من العلم! قبِل من القراءة ما اختلف فيه وإن كان صحيحًا لأدلة يجهلها، ورفض ما لا خلاف فيه من القراءة بالهوى والجرأة من غير دليل ولا شبهة إلَّا أنه جهل شيئًا فعاداه.
"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" كما ثبت في الحديث الصحيح المتواتر الذي لا شك في صحته، وإن قراءه تلقوا قراءاته وروايات حروفه ولهجاته سماعًا ومشافهة من شيوخهم طبقة بعد طبقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت قراءاته الصحيحة المعروفة بالتواتر الحقيقي الذي لم يثبت بمثله كتاب قط، رووها بأدق ما يُروى كلام وأوثقه، سواء أرضي عبد العزيز باشا فهمي عن هذا أم سخطه.
وإن هذا القرآن بقراءاته المتواترة قد حفظ على العرب لغتهم بحروفها وأوجهها ولهجاتها حفظًا عجيبًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يستطيع أحد أن ينفي شيئًا منها أو ينكره، كابر أو تعنت أو جهل، إنما هو الحق البين المعلوم من الدين بالضرورة، من أنكره فإنما ينكر على نفسه، وإنما يجني على نفسه، وحكم الإسلام فيه معروف، لا يحتاج إلى ذكر أو بيان.
أفيظن أحد أن المسلمين يكذبون علماءهم وقراءهم وحفاظ كتابهم الذين لا يحصيهم العد، طبقة طبقة إلى صحابة رسول الله، ثم يتبعون رجلًا بأنه نبغ في صناعة القانون الإفرنجي حتى نال أسمى منصب فيه، وبأنه وصل إلى مسند الوزارة، وبأنه وضع في غير موضعه: عضوًا في المجمع اللغوي؟ ، كلا ثم كلا! إن من يتوهم بعض هذا إنما يلغي عقله، وإنما يلغى كل منطق وكل دليل.
ولعل الباشا رجع فيما تعرف من القراءات وتوجيهها، لا إلى علم علماء الإسلام، ونقلهم ومؤلفاتهم، وإنما رجع إلى آراء المستشرقين، ونظرياتهم في القرآن والقراءات؛ فهم يرون أن كل علماء الإسلام وقراء القرآن كاذبون مفترون، اخترعوا هذه الروايات وهذه القراءات توجيهًا لما يحتمله رسم المصحف، تشكيكًا منهم في هذا الكتاب المحفوظ بحفظ الله، وتكذيبًا للوعد بحفظه، وبأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وثأرًا من المسلمين باتهامهم بالتحريف، كما اتهم الذين من قبلهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
ونظرية المستشرقين أوضحها أحدهم، جولدزيهر اليهودي المجري في كتاب (المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن) الذي ترجمه أخونا الأستاذ الشيخ علي حسن عبد القادر ونشره في هذا العام (ص 3 - 4) قال: (وهذه القراءات المختلفة تدور حول المصحف العثماني، وهو المصحف الذي جمع الناس عليه خليفة المسلمين عثمان بن عفان، وأراد بذلك أن يرفع الخطر الذي أوشك أن يقع في كلام الله في أشكاله واستعمالاته، وقد تسامح المسلمون في هذه القراءات، واعترفوا بها جميعًا على قدم المساواة، بالرغم مما قد يفرض من أن الله قد أوحى بكلامه كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، وأن مثله من الكلام المحفوظ في اللوح، والذي نزل به الملك على الرسول المختار، يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد، وقد عالج هذا الموضوع بتوسع نولدكه في كتابه تاريخ القرآن. والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع بسبب في ظهوره إلى خاصية الخط
العربي، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة الواحدة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدان الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب، فهذه التكميلات للرسم الكتابي، ثم هذه الاختلافات في الحركات والشكل، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن).
ألا ترون أيها الناس في هذا الكلام الروح الذي أوحى بالطعن في الرسم العربي، وأوحى باقتراح تيسيره أو تغييره، وأوحى بالتخير في القراءات بالهوى والرغبة؟
لست أزعم أن هؤلاء التابعين المقلدين أخذوا من جولدزيهر في هذا الكتاب، أو أخذوا من نولدكه في ذاك الكتاب، فلعلهم لم يقرؤوا الكتابين ولا سمعوا بهما، ولم يكن جولدزيهر ولا نولدكه أول من افترى هذه الفرية على القرآن وعلى قراء القرآن وعلى علماء الإسلام؛ فإن هذا الرأي معروف عن المستشرقين، نعرفه عنهم منذ عهد بعيد، وعليه تدور آراؤهم وأقاويلهم في القرآن والقراءات، وفي روايات الحديث وأسانيد المحدِّثين.
ذلك بأنهم أصحاب هوى، وذلك بأنهم لا يؤمنون بصدق رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بأنهم يؤمنون بأن أصحاب رسول الله وتابعيهم من بعدهم لا خلاق لهم، يصدرون عن هوى وعصبية؛ فيظنون فيهم ما
تيقنوه في غيرهم من الكذب على الدين والجرأة على الله، وحاش لله.
وذلك بأنهم يتتبعون الشاذ من الروايات، الذي أخطأ فيه بعض رواته، أو الذي كذب فيه بعض الوضاعين، وهما اللذان بينهما علماء الإسلام، وخاصة علماء الحديث أدق بيان وأوثقه وأوضحه، فيجعلون هذا الشاذ المنكر أصلًا يبنون عليه قواعدهم التي افتعلوها ونسبوها للإسلام وعلماء الإسلام، ويدعون الجادة الواضحة، وضوح الشمس، ويغمضون عنها أعينهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم، ثم يستهوون منا من ضعفت مداركهم، وضؤل علمهم بقديمهم، من المعجبين بهم والمعظميهم، الذين نشؤوا في حجورهم ورضعوا من لبانهم، فأخذوا عنهم العلوم حتى علوم الفقه والقرآن، فكانوا قومًا لا يفقهون.
ولكن المسلمين يعرفون أن هذا القرآن قرأه رسول الله على الناس وأقرأهم إياه بقراءات معروفة، ثابتة بالأسانيد الصحيحة المتواترة، كل قارئ سمع من شيوخه قراءات كثيرة أو قراءة واحدة، لا ينكر بعضهم على بعض إلا ما كان مظنة الخطأ من الراوي أو الشك في صدقه، قبل أن تجمع الروايات وتستقر، وأما بعد أن عرفت أسانيدها وطرقها، وعرف المتواتر والصحيح، من الشاذ والمنكر، فلا، وهذا شيء يعرفه كل من شدا شيئًا من العلم بالأسانيد وفنون النقل والرواية، أو من أصول الدين وأصول الفقه.
والمسألة في صورة بينة ميسرة: أن هذا القرآن نقل إلينا نقل تواتر
قطعي الثبوت، مرسومًا في المصاحف هذا الرسم العربي المعروف، رسمه حفاظه والقائمون عليه من أصحاب رسول الله، تحت سمعهم وبصرهم جميعًا، وحُصرت طرق رسمه محدودة مفصلة في كتب القراءات وفي كتب خاصة بالرسم، ونقل إلينا أيضًا قراءاته الصحيحة موافقة لهذا الرسم نفسه، نقل تواتر قطعي الثبوت، أو على الأقل في بعضها القليل النادر نقلًا صحيح الإسناد برواية الثقات عن الثقات، نقل إلينا ذلك سماعًا ومشافهة، مبينًا فيه النطق وطرق الأداء (1).
فكنا وكان الناس في هذا بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يكون الرسم هو الذي ثبت أولًا ثم جاءت هذه القراءات احتمالات فيه، يمثلها كل قارئ بما يرى أو بما يستطيع، وإما أن تكون القراءات هي الأصل ثم رسم الكتاب على الوجه الذي يمثلها كلها ويحتملها حتى لا يخرج عنه شيء منها.
أما المستشرقون ومن قلدهم من الجهلة الأغرار ممن ينتسب إلى المسلمين فذهبوا إلى الوجه الأول واختاروه ونصروه، أعني أنهم فهموا أن القرآن (يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد) وأن هذا الشكل الواحد واللفظ الواحد رسم بهذا الرسم الذي من
(1) وأما ما يروى في بعض كتب التفسير والحديث عن بعض الصحابة وغيرهم من القراءات التى تخالف رسم المصحف، فإن ما صحت روايته منها إنما هو على سبيل التفسير للآية، لم يثبت على سبيل التلاوة؛ لأن أول شروط إثباتها أن توافق رسم المصحف. وهذا بديهي من بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة.
خصائصه أن الكلمة الواحدة (قد تقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدان الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب) وبنوا على ذلك أن هذا الرسم بما يحتمل في النقط والحركات (كان السبب الأول لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطه أو شكل من القرآن) كما قاله جولدزيهر في كتابه.
وليس لهذا الرأي وهذا الاستنباط معنى إلا شيء واحد: أن المسلمين، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن، اخترعوا هذه القراءات تمثيلًا لما يحتمل الرسم من القراءة، ونسبوها إلى كتابهم وإلى رسولهم، وأنهم كذبوا جميعًا في ادعاء نسبتها إلى رسول الله، وفي ادعاء أنهم تلقوها جيلًا بعد جيل وطبقة بعد طبقة.
وقد يعذر المستشرقون إذا ذهبوا هذا المذهب؛ لأنهم قوم جهلوا طرق الرواية عند المسلمين، ومن عرف منهم شيئًا منها فإنما يغلبه هواه، ويغلبه ما يراه بين يديه في كتبهم السابقة، وما لحق بها من عبث، وما أصابها من تحريف وتغيير، ويغلبه ما يعرف من فقدها أي نوع من الإسناد، وأي نوع من الرجال كان يرويها وينقلها، وما يعرف من انقطاع تواترها بل انقطاع أصل روايتها انقطاعًا تامًّا قبل بلوغها مصدرها الأول بقرون، يعرف كل هذا، ويجهل أو يتجاهل سير علماء الإسلام وما كانوا عليه من ثقة وصدق، وما كانوا يتحرون من دقة وأمانة في رواية الحرف الواحد من أحرف القرآن، وفي طرق أداء
كل حرف والنطق به، على اختلاف اللهجات والروايات، حتى إنهم وزنوا نطق الحروف بموازين معروفة في كتب القراءة وكتب التجويد، وحتى إنهم ليقيسون التنفس في أحرف اللين وأحرف المد بما اصطلحوا على تسميته بالحركات، إلى غير ذلك من طرق الاحتياط والتوثق.
فلم يكن عجبًا من المستشرقين وقد جهلوا ذلك كله وغلبهم ما وصفنا، أن يختاروا هذا الوجه، وأن يجزموا بأن هذه القراءات نشأت عن الرسم العربي المهمل من النقط والشكل.
وأما المسلمون فقد أيقنوا بالوجه الآخر الصحيح، أن القراءات هي الأصل، وأن الرسم تابع لها مبني عليها، أعني أنهم عرفوا مما جاءهم من الحق بالتواتر القطعي الثبوت أن رسول الله قرأ القرآن على أصحابه وأقرأهم إياه بقراءات متعددة النطق والأداء، كلها حق منزل عليه من عند الله، وكلها موافق للغة العرب ولهجات القبائل، حفظًا له وتيسيرًا عليهم، وأنهم سمعوا منه وقرؤوا عليه شفاهًا وحفظًا في الصدور، ثم أثبتوا ذلك عن أمره كتابة وتقييدًا، وأنه قال لهم:"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر". فأدوا ما سمعوا كما سمعوا وكما قرؤوا، مفصلًا موجهًا بأوجهه في الأداء والتلاوة، لم يزيدوا ولم ينقصوا، وأنهم كتبوا ما سمعوا وما حفظوا على هذا الرسم الذي رسموا، ليكون مؤديًا كل الأوجه التي عرفوا، والتي أذن لهم في القراءة بها، حتى إنه لو كان للرسم العربي عندهم إذ ذاك وجه
آخر يضبط به النطق على حال واحدة لأبوا أن يرسموا به؛ لئلا يضبط النطق على وجه واحد فتضيع سائر الأوجه، وكلها من عند الله أنزل، وكلها من لغة العرب، وكلها أذن لهم في القراءة به، وكانوا هم الأمناء على الوحي وهم الذين أمروا بتبليغ ما أنزل إليهم ما وسعهم البلاغ، ثم نقل عنهم من بعدهم من الثقات الأثبات الأمناء نقلًا فاشيًا واضحًا متواترًا، لم يجعلوا شيئًا منه سرًّا مصونًا ولا كنزًا مخفيًّا، بل هو الإذاعة بأقصى ما يستطيع الناس من الإذاعة حتى لا يكون شيء منه موضعًا لشبهة ولا معرضًا لشك ولا بابًا لزيغ.
فكان في رأي المستشرقين أن الرسم سبق القراءة، خيالًا منهم وتوهمًا، وكان عند المسلمين أن القراءة سبقت الرسم، حقًّا يقينًا ثابتًا بأوثق ما تثبت به الحقائق التاريخية.
ولم يكن للمسلمين - من أول الإسلام إلى الآن - مندوحة عن اليقين بهذا الوجه؛ إذ هو الذي لا يعقل سواه، وهو الذي تقتضيه طبيعة ما وصل إليهم من النقل والأدلة، وكانوا أعرف بأصحاب رسول الله ثم بالأئمة من العلماء والقراء الذين نقلوا إليهم العلم والدين والقرآن، من أن يظنوا بهم السوء والكذب والافتراء، وكانوا يوقنون بكفر من عمد إلى تحريف حرف واحد من القرآن بافتراء قراءة لم تنقل عن قارئه الأول صلى الله عليه وسلم. وها هي ذي كتب القراءات - ما نشر منها وما لم ينشر - وها هم أولاء قراء القرآن في أقطار الأرض كلهم يسوق أسانيد القراءة عن الأئمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من روايات الثقات
الأثبات الصادقين الذين لا يحصيهم العد، والذين لا موضع للطعن في صدقهم وأمانتهم وتقواهم لله.
فما كان لأحد من الناس بعد ذلك - ولو كان من المستشرقين أو من عبيد المستشرقين - أن يلقي ظلًا من الشك على هذه الحقائق البينة، وعلى هذا النهار الواضح، ولئن فعل لم يكن إلَّا جاهلًا أو متجنيًا {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
ولو عقل هؤلاء القوم الذين يعرضون لما لا يعلمون، ويخوضون فيما لا يفقهون؛ لعرفوا أن التعرض لتغيير الرسم العربي، أو ما يسمونه "تيسيره" إنما هو العمل على تمزيق لغة العرب وتفريق وحدة المسلمين، وهذا القرآن وهذه اللغة التي حفظهما كل ما بقي لنا من آثار الوحدة والتماسك، ولفهموا ما وراء رأي المستشرقين من مقصد أو نتيجة لا يجوز في منطق العقول غيرها: أن القرآن بالوجه الذي أنزل على رسول الله خرج من أيدي المسلمين فيما قرئ بأوجه متعددة؛ لأنه "يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" كما قال جولدزيهر، وقد دخل هذا الوجه الواحد في أوجه متعددة غير معين أو غير معروف، أو لعله لم يكن في هذه الأوجه؛ لأن المسلمين - في رأيهم - إنما قرؤوا على أوجه يحتملها الرسم المكتوب، لا على أوجه أُنزل بها من عند الله، وثبتت صحتها وقراءتها عن الرسول الذي أمر بقراءته وإبلاغه للناس، فهذه القراءات في رأي المستشرقين ومن
تابعهم ليست كلها أُنزل بها القرآن، وإنما أنزل بواحدة منها غير معينة، لا يعرفها المسلمون ولا يعرفها المستشرقون، وحاش لله أن يكون شيء من هذا، و {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
هذه حقائق لا يشك فيها مسلم وما ينبغي له. فوازن - أيها القارئ الكريم - بينها وبين قول الباشا في كتابه (ص 84 - 85) في شأن رسم المصحف والقراءة: "لقد كان القراء قليلين والكتاب أقل من القليل، والرقاع أندر من الندرة، فأيما قبيلة ظفرت بصحيفة مكتوب فيها سورة أو بضع آيات من سورة حرصت عليها وتعبدت بتلاوتها على الوجه الذي استطاعت أن تقرأها عليه، وإذ كان رسم الكتابة إذ ذاك أشد اختزالًا مما هو الآن، لتجرده من النقط والألفات الممدودة، وكان الكتّاب بدائيين لا يستطيعون ضبط الكتابة حتى برسمها القاصر السخيف؛ إذ كان هذا فإن باب الخطأ والتصحيف كان مفتوحًا على مصراعيه؛ ويكفي أن يكون للألفاظ بعد تصحيفها، معان تتلاءم قليلًا أو كثيرًا حتى يمضي القارئ في قراءته ويتعصب لها. أرأيت إذن يا سيدي مبلغ الضرر الذي نشأ في أول الإسلام عن سوء الرسم ووجازته وقابليته للتصحيف؟
…
على أن عثمان إذا كان له عند الله وعند المسلمين يد بجمعه القرآن، فإن عمله لم ينحسم به الشر من أساسه، كل ما كان أنه كفى المسلمين شر جهل الكاتبين الذين لم يحسنوا كتابة ما لديهم من الصحف على قاعدة الرسم العربي السخيف، ثم شر من كانت لديهم صحف كتبوها في أوقات متباعدة
وفرص متفرقة، فأتت بطبيعة الحال غير وافية أو غير مراعى فيها ما للقرآن من ترتيب في السور والآيات، أما منبع الشر الحقيقي، وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف، فبقي على ما كان عليه، ولم يعالج بشيء أكثر من إيكال الأمر في كل مصر إلى الحفاظ المتدينين الصالحين، وهو في ذاته علاج واهن ضئيل".
وما بعد هذا القول قول في نسبة التصحيف إلى القرآن الكريم في قراءاته؛ إذ بقي "منبع الشر الحقيقي وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف" والعلاج الذي وضع له "علاج واهن ضئيل". فما ظنك بداء - في نظر معاليه - لم يجتث من جذوره، وبقي يعمل ويفشو أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، ولم يعالج إلا بعلاج واهن ضئيل؟ حتى يأتي في آخر الزمان، مثل هذا الرجل النابغة، فيتخير من القراءات ما طاب له، ويرفض سائرها؛ لأنها كلها نتيجة الاجتهاد في قراءة "الرسم العربي السخيف""القابل لكل تصحيف" وقد تريد الصدفة في اختياره أن يختار غير "الشكل الواحد واللفظ الواحد الذي نزل به الملك على الرسول المختار" كما زعم المستشرقون.
وليس لنا بعد هذا إلا أن نقول له ولهم: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
أما بعد؛ وقد وفينا البحث حقه فيما نرى: فإني أرجو أن أظهر الناس على مبلغ علم معالي الباشا فيما هو أيسر من ذلك من العلم؛ فقد يبدو لي أنه - وإن كان من رجال القانون- عرف شيئًا من علم
أصول الفقه، ولو بالقدر الذي يعلم في كلية الحقوق لطلاب القانون، ولكن الباشا أتى بالعجب العجاب فإنه أراد أن يجادل أحد الرادين عليه، وأراد أن يذكر الأدلة الشرعية الأربعة المعروفة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع؛ فذكر الثلاثة الأول وقال عن الإجماع (ص 27) ما نصه: "ثم نظروا - يعني المسلمين - فوجدوا أن أحوالًا قائمة أو تقوم في الناس، وعلى الأخص فيما فتحها المسلمون من الأمصار، من عادات في آداب السلوك وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعرف في المعاملات لم يأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتاب ولا سنة، فأوجبوا بقاء تلك الأحوال ما هو قائم منها وما يقوم واعتبارها أصلًا يصار إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع، وسموا علة هذا الاعتبار الإجماع، وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره"! !
ولست أحب أن أجادله في النظرية التي أتى بها: أصحيحة أم باطلة؟ وإنما أحب أن أسائله عن صحة نقله؛ فإنه نقل أن المسلمين عملوا هذا الذي زعم وأنهم سموه إجماعًا. فهو ينسب هذه النظرية لعلماء الإسلام على أنها هي الإجماع الذي يحتجون به ويجعلونه أحد الأدلة الأربعة، أي أنه يجعل هذا هو تعريف الإجماع عندهم، والذين بحثوا في الإجماع واستدلوا به واعتبروه أحد الأدلة هم علماء الفقه وعلماء الأصول.
فأنا أسأل معاليه: أين وجد في كتاب من كتب الفقه أو من كتب
الأصول هذا التعريف للإجماع؟ سواء أكان من كتب المذاهب الأربعة أم من غيرها من مذاهب الشيعة الإمامية أو الظاهرية أو الزيدية أو أي مذهب من مذاهب علماء الإسلام؟ !
وليس له أن يدّعي أن هذا رأيه وأنه حر أن يرى ما يعتقد صحته، فليس المقام مقام رأي له وإنما المقام مقام نقل أطلقه عن علماء الإسلام جميعًا، نسب إليهم فيه تعريفًا للإجماع لم يقله أحد منهم قط على كثرة الأقوال التي قالوا في تعريفه، ولا مناص له من أن يجيب، وعليه أن يذكر الكتاب الذي نقل منه، ويذكر الجزء والصفحة منه، ويُعَيِّن طبعة الكتاب إن كان مطبوعًا، ومكان وجوده إن كان مخطوطًا.!
فإن لم يفعل - ولن يفعل - فقد عرفنا مقدار أمانته في النقل، ومبلغ علمه ببديهيات الإسلام! وسنرى.
* * *