المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دراسات عن مقدمة ابن خلدون - جمهرة مقالات أحمد شاكر - جـ ١

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌الإِهْدَاءُ

- ‌طلائع الجَمْهَرة

- ‌العلّامة أحمد محمد شاكرحياته الشخصيّة ومسيرته العلميّة

- ‌المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته

- ‌إلماعة عَجْلى عن أسرة أحمد شاكر

- ‌المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته

- ‌رحلاته:

- ‌صلاته وصداقاته:

- ‌1 - مصطفى صادق الرافعي:

- ‌2 - محمد خميس هيبة:

- ‌3 - الدكتور زكي مبارك

- ‌4 - الشيخ محمد نور الحسن، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد:

- ‌5 - لويس سركيس:

- ‌6 - السيد محمد السنوسي الأنصاري:

- ‌7 - الشيخ محمد نصيف:

- ‌8 - الشيخ محمد حامد الفقي:

- ‌9 - عبد العزيز الميمني:

- ‌10 - عبد الوهاب عزام:

- ‌11 - عبد السلام هارون

- ‌12 - السيد أحمد صقر

- ‌13 - الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي:

- ‌14 - الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي

- ‌15 - أبو السمح:

- ‌16 - محمد أفندي محمد عبد اللطيف:

- ‌17 - أحمد علي الطاهر:

- ‌18 - أحمد أمين:

- ‌19 - فوزان السابق:

- ‌20 - عبد الله المراغي:

- ‌21 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي:

- ‌22 - الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة:

- ‌23 - أبو محمد عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي

- ‌24 - محب الدين الخطيب

- ‌25 - عبد الرحمن الكواكبي:

- ‌26 - محمد أحمد الغمراوي:

- ‌27 - محيي الدين رضا:

- ‌28 - محمد عبد الله دراز:

- ‌المبحث الثالث: شيوخه وأساتيذه

- ‌ الشيوخ والأساتذة

- ‌1 - الشيخ عبد السلام الفقي:

- ‌2 - الشيخ محمود أبو دقيقة:

- ‌3 - الشيخ محمد شاكر:

- ‌4 - الشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌5 - الشيخ إبراهيم الجبالي

- ‌6 - الشيخ عبد الستار بن عبد الوهاب الدهلوي

- ‌7 - العلّامة عبد الله بن إدريس السنوسي

- ‌8 - الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي

- ‌9 - الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي

- ‌10 - العلّامة طاهر الجزائري

- ‌11 - الشيخ جمال الدين القاسمي

- ‌12 - أبو الوفاء بن أحمد بن شرقاوي

- ‌13 - الشيخ محمد رشيد رضا:

- ‌14 - الشيخ بسيوني بن بسيوني بن حسن عسل:

- ‌15 - الشيخ عبد الوهاب النجار:

- ‌16 - الأستاذ علي الجارم:

- ‌17 - الشيخ عبد الحيّ الكَتَّاني:

- ‌18 - الدكتور منصور فهمي:

- ‌تلاميذه:

- ‌المبحث الرابع:‌‌ مذهبه الفقهيوعقيدته

- ‌ مذهبه الفقهي

- ‌ عقيدته:

- ‌المبحث الخامس: آثاره العلمية

- ‌أولًا: آثار الشيخ في القرآن وعلومه:

- ‌1 - تفسير الطبري المسمى (جامع البيان عن تأويل آي القرآن):

- ‌2 - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير:

- ‌3 - تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي:

- ‌4 - جامع البيان في تفسير القرآن:

- ‌5 - هداية المستفيد في أحكام التجويد للشيخ أبي ريمة:

- ‌6 - منجد المقرئين ومرشد الطالبين للإمام محمد بن محمد الجزري:

- ‌ثانيًا: آثار الشيخ في الحديث وعلومه

- ‌1 - المسند للإمام أحمد بن حنبل

- ‌2 - جامع الترمذي:

- ‌3 - صحيح ابن حبان:

- ‌4 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري مع معالم السنن لأبي سليمان الخطابي وتهذيب الإمام ابن قيم الجوزية:

- ‌5 - صحيح البخاري بشرح الكرماني:

- ‌6 - الأربعون النووية:

- ‌7 - السمع والطاعة:

- ‌8 - العمدة في الأحكام:

- ‌9 - أربع رسائل حقق فيها ثمانية أحاديث من جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي:

- ‌10 - حكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد:

- ‌11 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني:

- ‌12 - الخراج ليحيى بن آدم القرشي:

- ‌13 - شرح ألفية السيوطي في علم الحديث:

- ‌15 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث:

- ‌16 - ضبط وتصحيح ألفية العراقي:

- ‌17 - خصائص مسند الإمام أحمد للإمام أبي موسى المديني

- ‌18 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد لابن الجزري:

- ‌19 - التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي:

- ‌ثالثًا: ما يتعلق بالفقه وأصوله:

- ‌1 - المحلي لابن حزم:

- ‌2 - الروض المربع للبهوتي بشرح زاد المستنقع لأبي النجا الحجاوي:

- ‌3 - أخصر المختصرات في فقه الإمام أحمد:

- ‌4 - مختصر المقنع في فقه الإمام أحمد للحجاوي:

- ‌5 - الرسالة للإمام الشافعي:

- ‌6 - جماع العلم للشافعي:

- ‌7 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم:

- ‌8 - قواعد الأصول ومعاقد الفصول (مختصر تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل) لصفي الدين عبد المؤمن الحنبلي:

- ‌9 - نظام الطلاق في الإسلام

- ‌10 - كلمة الفصل في قتل مدمن الخمر:

- ‌11 - رسالة في شروط الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌12 - أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي

- ‌13 - الروضة الندية شرح الدرر البهية للعلامة صديق حسن خان:

- ‌14 - المسح على الجوربين للعلامة محمد جمال الدين القاسمي:

- ‌15 - مذكرة في قضية الوارثين الشرعيين المحرومين من حقوقهم في أوقاف أهليهم مؤيدة بفتوى الإمام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌16 - أبحاث في أحكام (فقه وقضاء وقانون):

- ‌رابعًا: ما يتعلق بالعقيدة:

- ‌1 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌2 - الأصول الثلاثة وأدلتها لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌3 - القواعد الأربع لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌4 - العقيدة الواسطية لشيخ الإِسلام ابن تيمية

- ‌5 - المناظرة في العقيدة الواسطية بين شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره

- ‌6 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد للإمام ابن قدامه المقدسي:

- ‌7 - التدمرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية:

- ‌8 - الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإِسلام ابن تيمية

- ‌9 - عقيدة أهل السنة والجماعة للحافظ أبي الفرج بن الجوزي

- ‌10 - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي

- ‌11 - الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

- ‌خامسًا: ما يتعلق بالأدب واللغة:

- ‌1 - الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌2 - إصلاح المنطق لابن السكيت

- ‌3 - كتاب المفضليات للمفضل الضبي:

- ‌4 - الأصمعيات للأصمعي:

- ‌5 - لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ:

- ‌6 - المعرّب للجواليقي:

- ‌7 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد:

- ‌سادسًا: ما يتعلق بالسير والتراجم:

- ‌1 - جوامع السيرة لابن حزم:

- ‌2 - ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الإسلام للذهبي:

- ‌3 - ترجمته لوالده الشيخ محمد شاكر

- ‌سابعًا: ما يتعلق بالأنساب:

- ‌1 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم:

- ‌2 - نسب قريش للمصعب الزبيري:

- ‌ثامنًا: ما يتعلق بالردود العلميّة والمقالات الصحفية:

- ‌1 - الشرع واللغة:

- ‌2 - بيني وبين الشيخ حامد الفقي:

- ‌3 - تعليقات في أبحاث دقيقة على دائرة المعارف الإسلامية:

- ‌4 - مقالات أحمد شاكر في الصحف والمجلات:

- ‌تحقيق التراث

- ‌النسخة اليونينية من صحيح البخاري

- ‌التقي اليونيني الكبير وأولاده:

- ‌الحافظ شرف الدين اليونيني:

- ‌النسخةُ اليُونينيَّةُ:

- ‌الطبعة السلطانية:

- ‌نسختي الخاصة من الطبعة السلطانية:

- ‌تصحيح الكتب

- ‌سير أعلام النبلاء - ترجمة عائشة أم المؤمنين

- ‌مقدمة الرسالة للإمام الشافعي

- ‌التحقيق لابن الجوزي

- ‌(وصف النسخة):

- ‌(وصف الكتاب):

- ‌التعريف بالكتب

- ‌تفسير القرآن الحكيم

- ‌قصص القرآن

- ‌المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن

- ‌ثمار المقاصد في ذكر المساجد (*) ليوسف بن عبد الهادي

- ‌لمحة من سيرة الملك عبد العزيز

- ‌نقد الكتب والمقالات

- ‌أي نعم: في التأني السلامة

- ‌كلمة

- ‌الانتقاد على المنار وتفسيره

- ‌ديوان أبي فراس الحمداني

- ‌الفتح المبين في طبقات الأصوليين

- ‌نِحَل عبر النَّحْل

- ‌مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد

- ‌أسامة بن منقذ

- ‌الخطيب البغدادي

- ‌دراسات عن مقدمة ابن خلدون

- ‌عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة

- ‌فقه القرآن والسنة

- ‌باب المراسلة والمناظرة

- ‌تَحْقِيقُ سِنِّ عَائِشَة

- ‌صَدَى النقد

- ‌تصحيح القاموس

- ‌ابن محيصن

- ‌بين أحمد شاكر وحامد الفقي

- ‌بيني وبين الشيخ حامد الفقي

- ‌حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير مجلة (الهدي النبوي)

- ‌أبرأ إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه

- ‌التعقيب على مقاله

- ‌بيني وبين أخي الشيخ أحمد شاكر

- ‌تعقيب لفضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر

- ‌الدفاع عن الحق

- ‌كلمة الحق

- ‌صُحُف الهِلَال والدّعَاية ضِد الإسلام

- ‌عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية

- ‌الإيمانُ قَيْدُ الفَتْكِ

- ‌على الطريقة الأمريكية

- ‌ خمارة حقيقية

- ‌حضور المسلمين الصلاة في الكنائس

- ‌خطاب مفتوح إلى شيخ الأزهر

- ‌خواطر

- ‌1 - في التعليم

- ‌2 - في المحاضرة الحمقاء

- ‌3 - في الأعراض

- ‌4 - لصوص الثياب

- ‌5 - هل في شعائر الإسلام وثنية

- ‌6 - بحث في تاريخ السيد البدوي

- ‌7 - مقاطعة الملحدين

- ‌8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

- ‌9 - تعليم الدين في المدارس

- ‌10 - الجامعة المصرية

- ‌جرأة عجيبة على تكذيب القرآن

الفصل: ‌دراسات عن مقدمة ابن خلدون

‌دراسات عن مقدمة ابن خلدون

(*)

بقلم أبي خلدون ساطع الحضري (1)

استوعب المؤلف درس مقدمة ابن خلدون، استيعابًا بديعًا دقيقًا، في كل ناحية من نواحيها، وكشف عن أسرارها وعن مزاياها، في هذا السفر الضخم النفيس.

إنهُ يكشف لأبناء العروبة عن كتاب هو مفخرة من مفاخر العرب في القرن الثامن الهجري، لم يلقَ من عنايتهم ما لقيه من عناية غيرهم من الترك والإفرنج، إلَّا قليلًا؛ فلا تزال طبعاته ناقصة محرفةً، ولا تزال نظرياته عندهم بكرًا لم يفترعوها، ولا يزال الكتاب عنهم محجوبًا.

أليس مما يؤسف لهُ أن تطبع "مقدمة ابن خلدون" في مصر والشأم طبعات عدة، ليس فيها طبعة معتمدة، ولا كاملة محققة، وأن تكون الطبعة الوحيدة التي يمكن الثقة بها هي طبعة باريس سنة 1858 م باعتناء المستشرق "كاترمير"، التي اعتمد فيها على أربع نسخ مخطوطات، والتي أثبت فيها زيادات جمة لم تذكر في غيرها؟ يقول المؤلف في ذلك: "فإذا قارنَّا إحدى هذه الطبعات بطبعة باريس

(*) مجلة المقتطف، المجلد 105، يونيو - ديسمبر سنة 1944.

(1)

14،5 × 21،5 سم، جزآن، 324، 216 ص، مطبعة الكشاف، بيروت 1943 و 1944.

ص: 316

نجد أنه ينقص منها أحد عشر فصلًا كاملًا من الفصول المهمة، كما ينقص منها عدد غير قليل من الأبحاث والفقرات من الفصول المختلفة، وإذا أحصينا مجموع صفحات هذه الفصول والفقرات الناقصة نجد أنها تزيد على الستين".

ومن مزايا الكتاب أنه قد استكمل كثيرًا مما نقص في طبعات المقدمة، نقل بعض الفقرات الناقصة، ونقل بعض الفصول المتروكة، استكمالًا للبحث، وتقريبًا على القارئ، وقد صارت طبعة باريس من أندر النوادر.

أو ليس من العجائب أيضًا ما يقول المؤلف: "إن أهم الدراسات التي كتبت بأقلام بعض الشبان العرب ظلَّت خارجة عن نطاق المطبوعات العربية إلى الآن".

لقد درَس أبو خلدون سلفه العظيم "ابن خلدون" دراسة دقيقة جامعة، درس عالم محقق، يصيب كثيرًا ويخطئ قليلًا، إن أصاب فعن معرفة وثبت، وإن أخطأ فبعد بحث وجهد، وله لا عليه في الحالين: اجتهد فأصاب أو اجتهد فأخطأ.

ونظر نظرة عادلة في نقد كتب المتقدمين، ووضع له قاعدة دقيقة: أن لا ينظر إليها بمناظر العلوم في هذا العصر، وإنما تقاس إلى ما كان من قواعد العلم في العصر الذي ألفت فيه، وعلى هذه القاعدة العادلة سار المؤلف في دراسة المقدمة ونقدها والموازنة بينها وبين ما ثبت علميًّا في العصور السالفة والعصر الحاضر، وتتبَّع عمل

ص: 317

الرجل في طريقة درسه للمسائل، وطريقة تفكيره، وشهد له شهادة صحيحة قيمة حين يقول:"إن أبرز صفات تلك العقلية هي شدة التشوف، ودقة الملاحظة، ونزعة البحث، والتعميم وقدرة الاستقراء، فإننا نجد في المقدمة كثيرًا من الاستقراءات المستندة إلى ملاحظة الواقعات، وقلما نعثر على آثار الاندفاع وراء المجردات والاسترسال في سبيل الاستنتاجات" ج 2 ص 173. ونقل شهادة لابن خلدون لها قيمتها، من رجل أوربيّ من رجال الدين، هو روبرت فلينت الذي كان أستاذًا في جامعة أدنبرة، ونشر في سنة 1874 كتاب (فلسفة التاريخ في فرنسة وألمانية) قال فيه:

"من وجهة علم التاريخ أو فلسفة التاريخ، يتحلى الأدب العربي باسم من ألمع الأسماء، فلا العالم الكلاسيكي في القرون القديمة، ولا العالم المسيحي في القرون الوسطى يستطيع أن يقدّم اسمًا يضاهي في لمعانه ذلك الاسم. إذا نظرنا إلى ابن خلدون كمؤرخ فقط نجد من يتفوّق عليه حتى بين كتَّاب العرب أنفسهم، وأما كواضع نظريات في التاريخ فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام، ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطين بأندادٍ له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه، إنهُ يستحق الإعجاب بما أظهره من روح الابتكار والفراسة والتعمق والإحاطة" ص 141.

ومن أجود ما في الكتاب وأنفسه أن المؤلف عقد موازانات

ص: 318

محكمة وافية بين نظريات ابن خلدون ونظريات من جاء بعده من أساطين أوربة؛ فقارن بين ابن خلدون وفيكو الإيطالي (المولود والمتوفى في نابولي 1667 - 1744) في كتابه (العلم الجديد) الذي سمي بسببه "مؤسس فلسفة التاريخ ومؤسس علم الاجتماع" ج 1 ص 143 - 170، ومما أثبت في المقارنة؛ أن فيكو يصدق قصص العمالقة، ويبني عليها قسمًا كبيرًا من آرائه ونظرياته، في حين أنَّ ابن خلدون يفندها بصراحة وشدة. ثم يوازن بين طريقتيهما في البحث والتفكير، ويقول:"فلا مجال للشك إذن في أن نزعة ابن خلدون الفكرية في هذا الصدد كانت أقرب من نزعة فيكو إلى مناحي الأبحاث العلمية بوجه عام، وإلى أصول علمي التاريخ والاجتماع بوجه خاص" ج 1 ص 167. ثم يسجل حكمًا في هذه المحاكمة العادلة بأن حق ابن خلدون في لقب "مؤسس علم التاريخ" أو "فلسفة التاريخ" أقوى وأثبت من حق كل كاتب سبق "فيكو"، كما قال "فلينت"، وأقوى وأثبت من حق "فيكو" نفسه؛ لأنه كان أقدم منه كثيرًا، ولأنه كان أقرب منه إلى الروح العلمي الحديث (ج 1 ص 170).

وعقد فصلًا آخر في المقارنة بين ابن خلدون ومونتسكيو (ولد سنة 1689 ومات سنة 1755) في كتاب (روح القوانين)(1) ج 1 ص 171 -

(1) كتاب مونتسكيو ترجم منه يوسف آصاف النصف الأول، باسم (أصول النواميس والشرائع) وطبع هذا الجزء بالمطبعة العمومية بمصر سنة 1891 وهو عندي، ولا أدري أترجم النصف الثاني وطبع أم لا؟ .

ص: 319

192.

ومما يقول في هذا الفصل: "من الثابت أن مونتسكيو كان قد أبدى طائفة من الآراء الاقتصادية التي ثبت بطلانها بعد مدة وجيزة، كما أنه أغفل كثيرًا من الحقائق الاقتصادية التي تمَّ اكتشافها قبل مرور مدة طويلة، مما يدل دلالة قطعية على أنه لم يتفوّق على معاصريه تفوقًا كبيرًا في أبحاثه الاقتصادية، في حين أن ابن خلدون كان قد سما فوق معاصريه سموًّا هائلًا في هذا المضمار، كما أنه ظل يحلق فوق مستوى الذين جاءوا بعده أيضًا، في الشرق وفي الغرب، مدة قرون عديدة" ج 1 ص 182.

وعقد أيضًا فصلًا جليلًا عن ابن خلدون وعلم الاجتماع ج 1 ص 193 - 205. بيّن فيه أن علم الاجتماع أحدث العلوم الأساسية، ويعزى تأسيسه إلى أوغست كونت (سنة 1798 - 1853)، وأن حق ابن خلدون بلقب "مؤسس علم الاجتماع" أقوى من حق كونت؛ لأنه فعل ذلك قبله بمدة تزيد على 460 سنة. أقول أنا: وقد أدرك ابن خلدون أنه يضع علمًا مستحدثًا في الاجتماع؛ إذ يقول: "وكأنّ هذا علم مستقلّ بنفسه؛ فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشريّ والاجتماع الإنساني

واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة أعْثَر عليه البحثُ وأدَّى إليه الغوص

وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة

إلخ". المقدمة ص 36، 37 من طبعة بولاق سنة 1320 هـ.

ص: 320

وهكذا من مزايا الكتاب، مما لا نستطيع أن نحصيه في هذا المقام، ولا نستطيع أن نفيه حقه من الثناء، إلّا أن نوصي كل قارئ عربيّ أن يستوعب الكتاب قراءة ودرسًا، ليفيد علمًا جمًّا، وعقلًا سديدًا.

* * *

وفي الكتاب مآخذ ليست بالكثيرة، جلها مما يرجع إلى مقدرة المؤلف وعلمه بالعربية، فإن الكتاب كُتب بلغة غريبة، في كثير منها نبوّ عن العربية في اللفظ والأسلوب.

ولسنا نفصل القول في ذلك، ولكنا نضرب فيه الأمثال:"حين كان مفكرو أوروبة لا يزالون يتيهون في فيافي التفكير الكلماني الدرساني" 1: 250. "يلاحظ أن مواضيع كل حد من حدود هذه السلسة أقل عمومية وأشد معضلية من التي قبلها، وأشد عمومية وأقل معضلية من التي بعدها" 1: 194. "وبهذه الصورة أصبح علم الاجتماع يسيطر على جميع العلوم الاجتماعية، أرضي أم أبى أصحابها، وأخذ ينفخ روحًا تقدميًّا فيها" 1: 198. "أن معظم مباحث المقدمة مكتوبة بنزعة علمانية وعقلانية" 1: 73 "أن الأفاعيل الحياتية أشد إعضالًا من الحادثات الكيماوية" 1: 193. وهكذا مما ملئ به الكتاب مما يباعد بينه وبين العربية.

وقد أتى المؤلف مرارًا بفعل "استهدف" متعديًّا، مثل:"فإنها لا تستهدف شيئًا" 1: 9. وهو فعل لازم، لا يؤدي المعنى المراد هنا، وليس هذا الخطأ خاصًّا بالمؤلف، بل رأينا كثيرًا من كبار الكتَّاب بمصر يقعون فيه.

ص: 321

وأنا أوقن أن ضعف لغة الكتاب لم يكن عن عمد من مؤلفه، ولا تقصيرًا منه في استكمال لغته، ولكن يبدو لي - ولم يسبق لي شرف التعرُّف إليه - أنه نشأ على دراسة أجنبية، شأن كثير من نبهاء هذا العصر، ثم شغلته الحياة عن التعمق في العربية وعن التمرس بفصيح الكلام.

* * *

وقد عقد المؤلف فصلًا عن تطور الألفاظ واختلاف دلالاتها باختلاف العصور والموضوعات، وهو شيء معروف في العربية، وإن كان يوهم كلامه أنه شيء مستحدث، ثم ضرب من أمثلة ذلك كلمتي "الأبنية" بمعنى الخيام و"المصانع" بمعنى المباني، جعلهما كأنهما اصطلاح خاص أو استعمال مستحدث لابن خلدون، وليس كذلك؛ فإن "الأبنية" كما تطلق في العربية على المباني تطلق على الخيام، بل لعلها في الخيام أقدم، ففي اللسان:"البناء واحد الأبنية وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء، فمنها الطراف والخباء والبناء والقبة" و"المصانع" معروفة جاءت في القرآن الكريم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} سورة الشعراء آية: 129. والمصانع هي ما يصنعه الناس من الآبار والأبنية وغيرها، قال الأزهري: "ويقال للقصور أيضًا مصانع".

وقد ترجم المؤلف اصطلاحًا إفرنجيًّا ترجمة عجيبة، لا تطابق المعنى، وينبو عنها السمع، فإنه نقل عن علماء الاجتماع المتأخرين تقسيم الحكمة والسلطة إلى "السلطة المنتثرة" التي لا يختص بها

ص: 322

أشخاص معينون ولا تتعهدها هيئات منظمة، والسلطة "المتعضية" التي يختص بها أشخاص معينون وتتعهدها هيئات "متعضية" وفق أنظمة معينة. ج 1 ص 245. فهذه "المتعضية" يريد بها السلطة الموحدة المنظمة، يترجم بها كلمة Organise وأصل الكلمة الفرنسية، كما وجدت في المعاجم وكما أفادني بعض العارفين، معناها: ذو أعضاء، فاشتق منها المؤلف كلمة "متعضية" ولكن علماء الاجتماع لا يريدون هذا فإنهم نقلوها إلى إرادة معنى "السلطة الموحدة المنظمة".

فهذا تكلف من المؤلف، لم يكن به إليه حاجة، ألجأه إلى كلمة ثقيلة، وإلى اشتقاق إن وافق العربية وافقها على معنىً ينقض ما أراد؛ فإن "التعضية" التفريق، وهو مأخوذ من الأعضاء، كما في اللسان، وهيهات هذا من ذاك.

والمؤلف يؤرخ الحوادث العربية الخالصة في الكثير الأغلب بالتاريخ الإفرنجيّ يقتصر عليه، وقد يضم إليه التاريخ الهجري في بعض أحيانه. وليته جعل التاريخ الهجريَّ أساس تأريخه، وهو يؤرخ لمؤلف إسلاميّ يكتب في تاريخ الإسلام وعلوم الإسلام.

ثم خاض المؤلف في موضوع شائك، الجدال فيه بغيض وعقيم: موضوع الدين والعقيدة، والعقل والتفكير والعلم، في مواضع متعددة، انظر منها مثلًا (ج 1 ص 42 - 48، 76، 241 - 343 وج 2 ص 150 - 172) ويبدو لي أنه متأثر في كتابته بنظرية العِداء بين العلم

ص: 323

والدِّين وبين العقل والدِّين، وهي نظرية بالية، خجلت حتى احتجبت، وذلت حتى استكانت. ولو أعرض عن الخوض في هذا الموضوع أنصف نفسه؛ إذ يخيل لمن يقرأ ما كتب أنه قد خفي عليه كثير من دقائق الدين والشريعة وظواهرهما، وأن ذلك كان ذا أثر بيّن فيما فهم من كلام ابن خلدون وأدرك من مراميه.

والكتاب في جملته من أقوى الكتب التي ظهرت في بضع سنين، فيه علم جم وآراء سديدة. ونتمنى أن يعيد المؤلف النظر في لغته عند إعادة طبعه، إن شاء الله.

* * *

ص: 324