المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد - جمهرة مقالات أحمد شاكر - جـ ١

[أحمد شاكر]

فهرس الكتاب

- ‌الإِهْدَاءُ

- ‌طلائع الجَمْهَرة

- ‌العلّامة أحمد محمد شاكرحياته الشخصيّة ومسيرته العلميّة

- ‌المبحث الأول: اسمه ونسبه وولادته وأسرته

- ‌إلماعة عَجْلى عن أسرة أحمد شاكر

- ‌المبحث الثاني: حياته ورحلاته وصلاته

- ‌رحلاته:

- ‌صلاته وصداقاته:

- ‌1 - مصطفى صادق الرافعي:

- ‌2 - محمد خميس هيبة:

- ‌3 - الدكتور زكي مبارك

- ‌4 - الشيخ محمد نور الحسن، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد:

- ‌5 - لويس سركيس:

- ‌6 - السيد محمد السنوسي الأنصاري:

- ‌7 - الشيخ محمد نصيف:

- ‌8 - الشيخ محمد حامد الفقي:

- ‌9 - عبد العزيز الميمني:

- ‌10 - عبد الوهاب عزام:

- ‌11 - عبد السلام هارون

- ‌12 - السيد أحمد صقر

- ‌13 - الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي:

- ‌14 - الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي

- ‌15 - أبو السمح:

- ‌16 - محمد أفندي محمد عبد اللطيف:

- ‌17 - أحمد علي الطاهر:

- ‌18 - أحمد أمين:

- ‌19 - فوزان السابق:

- ‌20 - عبد الله المراغي:

- ‌21 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي:

- ‌22 - الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة:

- ‌23 - أبو محمد عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي

- ‌24 - محب الدين الخطيب

- ‌25 - عبد الرحمن الكواكبي:

- ‌26 - محمد أحمد الغمراوي:

- ‌27 - محيي الدين رضا:

- ‌28 - محمد عبد الله دراز:

- ‌المبحث الثالث: شيوخه وأساتيذه

- ‌ الشيوخ والأساتذة

- ‌1 - الشيخ عبد السلام الفقي:

- ‌2 - الشيخ محمود أبو دقيقة:

- ‌3 - الشيخ محمد شاكر:

- ‌4 - الشيخ محمد مصطفى المراغي

- ‌5 - الشيخ إبراهيم الجبالي

- ‌6 - الشيخ عبد الستار بن عبد الوهاب الدهلوي

- ‌7 - العلّامة عبد الله بن إدريس السنوسي

- ‌8 - الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي

- ‌9 - الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي

- ‌10 - العلّامة طاهر الجزائري

- ‌11 - الشيخ جمال الدين القاسمي

- ‌12 - أبو الوفاء بن أحمد بن شرقاوي

- ‌13 - الشيخ محمد رشيد رضا:

- ‌14 - الشيخ بسيوني بن بسيوني بن حسن عسل:

- ‌15 - الشيخ عبد الوهاب النجار:

- ‌16 - الأستاذ علي الجارم:

- ‌17 - الشيخ عبد الحيّ الكَتَّاني:

- ‌18 - الدكتور منصور فهمي:

- ‌تلاميذه:

- ‌المبحث الرابع:‌‌ مذهبه الفقهيوعقيدته

- ‌ مذهبه الفقهي

- ‌ عقيدته:

- ‌المبحث الخامس: آثاره العلمية

- ‌أولًا: آثار الشيخ في القرآن وعلومه:

- ‌1 - تفسير الطبري المسمى (جامع البيان عن تأويل آي القرآن):

- ‌2 - عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير:

- ‌3 - تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي:

- ‌4 - جامع البيان في تفسير القرآن:

- ‌5 - هداية المستفيد في أحكام التجويد للشيخ أبي ريمة:

- ‌6 - منجد المقرئين ومرشد الطالبين للإمام محمد بن محمد الجزري:

- ‌ثانيًا: آثار الشيخ في الحديث وعلومه

- ‌1 - المسند للإمام أحمد بن حنبل

- ‌2 - جامع الترمذي:

- ‌3 - صحيح ابن حبان:

- ‌4 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري مع معالم السنن لأبي سليمان الخطابي وتهذيب الإمام ابن قيم الجوزية:

- ‌5 - صحيح البخاري بشرح الكرماني:

- ‌6 - الأربعون النووية:

- ‌7 - السمع والطاعة:

- ‌8 - العمدة في الأحكام:

- ‌9 - أربع رسائل حقق فيها ثمانية أحاديث من جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي:

- ‌10 - حكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد:

- ‌11 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر العسقلاني:

- ‌12 - الخراج ليحيى بن آدم القرشي:

- ‌13 - شرح ألفية السيوطي في علم الحديث:

- ‌15 - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث:

- ‌16 - ضبط وتصحيح ألفية العراقي:

- ‌17 - خصائص مسند الإمام أحمد للإمام أبي موسى المديني

- ‌18 - المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد لابن الجزري:

- ‌19 - التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي:

- ‌ثالثًا: ما يتعلق بالفقه وأصوله:

- ‌1 - المحلي لابن حزم:

- ‌2 - الروض المربع للبهوتي بشرح زاد المستنقع لأبي النجا الحجاوي:

- ‌3 - أخصر المختصرات في فقه الإمام أحمد:

- ‌4 - مختصر المقنع في فقه الإمام أحمد للحجاوي:

- ‌5 - الرسالة للإمام الشافعي:

- ‌6 - جماع العلم للشافعي:

- ‌7 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم:

- ‌8 - قواعد الأصول ومعاقد الفصول (مختصر تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل) لصفي الدين عبد المؤمن الحنبلي:

- ‌9 - نظام الطلاق في الإسلام

- ‌10 - كلمة الفصل في قتل مدمن الخمر:

- ‌11 - رسالة في شروط الصلاة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌12 - أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعًا إثباتها بالحساب الفلكي

- ‌13 - الروضة الندية شرح الدرر البهية للعلامة صديق حسن خان:

- ‌14 - المسح على الجوربين للعلامة محمد جمال الدين القاسمي:

- ‌15 - مذكرة في قضية الوارثين الشرعيين المحرومين من حقوقهم في أوقاف أهليهم مؤيدة بفتوى الإمام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌16 - أبحاث في أحكام (فقه وقضاء وقانون):

- ‌رابعًا: ما يتعلق بالعقيدة:

- ‌1 - كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌2 - الأصول الثلاثة وأدلتها لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌3 - القواعد الأربع لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب:

- ‌4 - العقيدة الواسطية لشيخ الإِسلام ابن تيمية

- ‌5 - المناظرة في العقيدة الواسطية بين شيخ الإسلام ابن تيمية وعلماء عصره

- ‌6 - لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد للإمام ابن قدامه المقدسي:

- ‌7 - التدمرية لشيخ الإِسلام ابن تيمية:

- ‌8 - الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإِسلام ابن تيمية

- ‌9 - عقيدة أهل السنة والجماعة للحافظ أبي الفرج بن الجوزي

- ‌10 - شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي

- ‌11 - الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

- ‌خامسًا: ما يتعلق بالأدب واللغة:

- ‌1 - الشعر والشعراء لابن قتيبة:

- ‌2 - إصلاح المنطق لابن السكيت

- ‌3 - كتاب المفضليات للمفضل الضبي:

- ‌4 - الأصمعيات للأصمعي:

- ‌5 - لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ:

- ‌6 - المعرّب للجواليقي:

- ‌7 - الكامل في اللغة والأدب للمبرد:

- ‌سادسًا: ما يتعلق بالسير والتراجم:

- ‌1 - جوامع السيرة لابن حزم:

- ‌2 - ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الإسلام للذهبي:

- ‌3 - ترجمته لوالده الشيخ محمد شاكر

- ‌سابعًا: ما يتعلق بالأنساب:

- ‌1 - جمهرة أنساب العرب لابن حزم:

- ‌2 - نسب قريش للمصعب الزبيري:

- ‌ثامنًا: ما يتعلق بالردود العلميّة والمقالات الصحفية:

- ‌1 - الشرع واللغة:

- ‌2 - بيني وبين الشيخ حامد الفقي:

- ‌3 - تعليقات في أبحاث دقيقة على دائرة المعارف الإسلامية:

- ‌4 - مقالات أحمد شاكر في الصحف والمجلات:

- ‌تحقيق التراث

- ‌النسخة اليونينية من صحيح البخاري

- ‌التقي اليونيني الكبير وأولاده:

- ‌الحافظ شرف الدين اليونيني:

- ‌النسخةُ اليُونينيَّةُ:

- ‌الطبعة السلطانية:

- ‌نسختي الخاصة من الطبعة السلطانية:

- ‌تصحيح الكتب

- ‌سير أعلام النبلاء - ترجمة عائشة أم المؤمنين

- ‌مقدمة الرسالة للإمام الشافعي

- ‌التحقيق لابن الجوزي

- ‌(وصف النسخة):

- ‌(وصف الكتاب):

- ‌التعريف بالكتب

- ‌تفسير القرآن الحكيم

- ‌قصص القرآن

- ‌المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن

- ‌ثمار المقاصد في ذكر المساجد (*) ليوسف بن عبد الهادي

- ‌لمحة من سيرة الملك عبد العزيز

- ‌نقد الكتب والمقالات

- ‌أي نعم: في التأني السلامة

- ‌كلمة

- ‌الانتقاد على المنار وتفسيره

- ‌ديوان أبي فراس الحمداني

- ‌الفتح المبين في طبقات الأصوليين

- ‌نِحَل عبر النَّحْل

- ‌مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد

- ‌أسامة بن منقذ

- ‌الخطيب البغدادي

- ‌دراسات عن مقدمة ابن خلدون

- ‌عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة

- ‌فقه القرآن والسنة

- ‌باب المراسلة والمناظرة

- ‌تَحْقِيقُ سِنِّ عَائِشَة

- ‌صَدَى النقد

- ‌تصحيح القاموس

- ‌ابن محيصن

- ‌بين أحمد شاكر وحامد الفقي

- ‌بيني وبين الشيخ حامد الفقي

- ‌حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة ورئيس تحرير مجلة (الهدي النبوي)

- ‌أبرأ إلى الله من سوء الظن بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه

- ‌التعقيب على مقاله

- ‌بيني وبين أخي الشيخ أحمد شاكر

- ‌تعقيب لفضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر

- ‌الدفاع عن الحق

- ‌كلمة الحق

- ‌صُحُف الهِلَال والدّعَاية ضِد الإسلام

- ‌عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية

- ‌الإيمانُ قَيْدُ الفَتْكِ

- ‌على الطريقة الأمريكية

- ‌ خمارة حقيقية

- ‌حضور المسلمين الصلاة في الكنائس

- ‌خطاب مفتوح إلى شيخ الأزهر

- ‌خواطر

- ‌1 - في التعليم

- ‌2 - في المحاضرة الحمقاء

- ‌3 - في الأعراض

- ‌4 - لصوص الثياب

- ‌5 - هل في شعائر الإسلام وثنية

- ‌6 - بحث في تاريخ السيد البدوي

- ‌7 - مقاطعة الملحدين

- ‌8 - الكشف الطبي على راغبي الزواج

- ‌9 - تعليم الدين في المدارس

- ‌10 - الجامعة المصرية

- ‌جرأة عجيبة على تكذيب القرآن

الفصل: ‌مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد

‌مقتل مالك بن نويرة وموقف خالد بن الوليد

(*)

أصدر سعادة الدكتور محمَّد باشا هيكل بضعة كتب في التاريخ الإِسلامي في الصدر الأول، وكان عملًا ناجحًا؛ ناجحًا من ناحية النَّفاق تمامًا، فما يكاد الكتاب منها يصدر حتى تتخطفَه الأيدي، وحتى تكادَ نُسخُه تَنْفَد من السوق، وناجحًا من الناحية العلمية بعض النجاح. ولو لم يكن من أثره إلَّا أن يُحبَّبَ إلى شبابنا - الذين كدنا نفقدهم قراءة سيرة رسولهم، وأخبار قومهم وسلفهم، وكانوا من قبلُ يُعرضون عن دينهم وعن عروبتهم، ويتمسحون في أوربة ويقدسونها، ويجهلون كلَّ ميزة لقومهم، بل يكادون ينكرون أنهم أمة من الأمم! لو لم يكن من أثره إلَّا هذا لكفى.

وقد تناول الباحثون المحققون كتابه الأوّل "حياة محمَّد" بالنقد، وطال الجدال حوله حتى لقد ذهب ذاهبون إلى أنه منقول أو مقتبس أو مترجم عن كتاب بهذا الاسم لمستشرق يدعى درمنغهام، ولم يكن لنا سبيل إلى تحقيق ما قالوا؛ إذ لم نطلع على كتاب درمنغهام، عن جهلٍ منا باللغة التي كتب بها. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أخيرًا، وظهر من عهد قريب، وسيكون لنا في ظهوره فرصة نحقق بها ما رُمي به كتابُ الباشا، فنقول فصوله وأبحاثه إلى مثيلاتها من الكتاب

(*) مجلة المقتطف الجزء الثالث من المجلد 107 (1 أغسطس 1945 م)

ص: 238

المترجم، فنعرف ما أخذ أحدهما عن سلفه، بعد أن عرفنا أنه أخذ منه اسم الكتاب "حياة محمَّد"، وإن كان الكتابان - فيما يبدو لنا - متباينين، وسنرى في ذلك رأينا إن شاء الله.

وكان فيما قرأنا من هذه الكتب، "كتاب الصديق أبو بكر" فأعجبنا منه حسنُ سرده للحوادث، والعناية بعرضها عرضًا جيدًا مشوّقًا. وأبين مزاياه قوةُ المؤلف ومقدرته في تلخيص الروايات وجمعها، وفي الاقتباس والتضمين، حتى ليبدوَ الكلام نسقًا متقاربًا، فإذا ما تأمله العارف وضح له الفرق بين الكلام المقتبس والكلام المؤلَّف، وقد استيقنّا من ذلك في مواضع كثيرة، قارنّا فيها قصَّهُ للوقائع إلى نصوص الأقدمين من المؤرخين وخصوصًا ابن جرير الطبري.

ولهذه الطريقة الطريفة فائدة نحرص عليها، أن يمرن القارئون المحدثون على قراءة النصوص العالية القوية البليغة، التي تحدث بها الفصحاء والبلغاء من الرواة والمؤرخين السابقين، مما كاد يهجره أهل هذا العصر.

وكان لنا على كتابه هذا مآخذ، بعضها هيّن، لا يغض من قيمته، وبعضها خطير. وأخطرها - فيما أرى - وأبعدها مدًى في الإبطال، صنيعه فيما كان بين خالد بن الوليد ومالك بن نويرة، وحبه الإتيان بما لم يأت به الأوائل في الدفاع عن خالد، فجاء

ص: 239

حقيقة بما لم يأت به الأوائل! !

فقد لخص المؤلف - أو اقتبس - الروايات التي وردت في واقعة خالد ومالك، وذكر تضارب الأخبار فيها، ولكنهُ أتى في بعض الرواية بشيء لم نجد عليه دليلًا، وما نظنه يصح، فلو أنه صحَّ لم يكن لخالد عذر، ولم يكن أبو بكر ليعذره، ولوجب عليه أن يأخذه بدم مالك بن نويرة؛ فقد قال المؤلف (ص 145):"إلى هنا تتفق الروايات، ومن هنا يبدأ اختلافها، قال أبو قتادة: إن القوم أقروا بالزكاة وإيتائها. وقال غيره: بل أنكروها وأصرُّوا على منعها"! !

ولم يكن شيء من هذا، فيما نعلم، فقد كان من عهد أبي بكر إلى جيوشه في حروب الردة:"إذا نزلتم منزلًا فأذّنوا وأقيموا، فإن أذنَّ القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلَّا الغارة، ثم تقتلوا كل قِتْلَةٍ، الحرقَ فما سواه، وإن أجابوكم إلى داعية الإِسلام فسائلوهم، فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم، وإن أبوْها فلا شيء إلَّا الغارة، ولا كلمة". وهذا هو المعقول البديهيّ المعروف من شرعة الإِسلام، ومن أخبار الخلاف بين أبي بكر وعمر في قتال مانعي الزكاة المرتدين، فقد كان عمر يظن أن منع الزكاة ليس ردةً، وأن إظهار الإِسلام وإقام الصلاة كافيان في حقن الدماء، فأقام أبو بكر عليه الحجة، حتى اطمأنّ إلى أن أداء الزكاة كإقام الصلاة شرط في صحة الإِسلام، فقال عمر:"فوالله ما هو إلَّا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفتُ أنهُ الحق".

ص: 240

فلو أن أبا قتادة ومن معه، الذين خالفوا على خالد، قبل مسيره إلى البُطاح (1) وبعده، وبعد أخذ مالك بن نويرة، شهدوا أن مالكًا وقومه "أقرُّوا بالزكاة وإيتائها" لم يكن خالد ليأمر بقتل رئيسهم مالكٍ إن شاء الله، فإنما كان مسيره ليرجعهم إلى الإِسلام وليأخذ منهم الزكاة، فماذا بعد أن يعطوا ما سار إليهم من أجله؟ لا شيء إلَّا العدوان وسفك الدم الحرام، ونعيذ بالله خالدًا ومن معه من ذلك. فهذه رواية لم نرها في شيء مما بين أيدينا من المصادر، ولا تكون صحيحة أبدًا، فما ندري من أين جاء بها المؤلف! !

وقد ساق المؤلف مسير خالد هذا المساق: "ثم إنه أزمع السير إلى البطاح يلقي فيها مالك بن نويرة ومن كان معه في مثل تردُّده، وعرف الأنصار هذا العزم منه فتردَّدوا وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا. وأجابهم خالد: إن يكن عهد إليكم هذا، فقد عهد إليَّ أن أمضي، وأنا الأمير وإليّ تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني كتابٌ ولا أمرٌ، ثم رأيتُ فرصةً إن أعلنته بها فاتتني، لم أعلمه حتى أنتهزها، وكذلك إذا ابتلينا بأمر لم يعهد لنا فيه، لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصدٌ له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرهكم". (ص 143 - 144) وهذا النص نقله المؤلف من تاريخ الطبري (3:

(1) البطاح: بضم الباء، وقد ضبطت في الكتاب (ص 136) بكسرها، وهو خطأ.

ص: 241

241 طبعة الحسينية) واختصره بعض الاختصار، وحرَّفه بعض التحريف، وإن أتى بجملته ومعناه تقريبًا، ولا بأس، ولكنَّ في هذه الرواية شيئًا من الشذوذ، تحتاج معه إلى نقد وفحص؛ فليس من منطق الحروب ولا منطق الولايات أن يعهد الأمير الأكبر أو القائد الأعلى إلى من دونه من القواد والولاة بعهد ثم يعهد في الوقت نفسه إلى الجند أو إلى من دون القائد والوالي ممن يأتمرون بأمره بعهد آخر خاصٍّ بهم، بل المعروف في الدنيا كلها، وفي تاريخ الولايات في صدر الإِسلام خاصة، أن الأمير أو القائد له الطاعة الكاملة على من هو في ولايته من الجند والقواد، حتى لو كان أرفع درجة منه أو أقدم إسلامًا وهجرة، والمثل على ذلك حاضرة، يعرفها كل من قرأ شيئًا من التاريخ. فهذه الرواية إما أن يكون فيها شيء من الخطأ من رواتها، وإما أن يكون أبو قتادة رضي الله عنه ومن معه من الأنصار سمعوا شيئًا من أبي بكر، ظنوه عهدًا خاصًّا إليهم، فأخطؤوا سمعه أو فهمه، ثم أخطؤوا فيما ذهبوا إليه من الخلاف على خالد، فلما استبانوا خطأهم، بعد أن سار وتركهم، أرسلوا وراءه من استمهله حتى أدركوها ندمًّا على ما كان منهم، ودخلوا معه في أمره.

وفي الطبري رواية أخرى تساير منطق الحوادث، وتساير منطق العهود والولايات (3: 225) فهي تقول: "لما أراح أسامة وجندُه ظهرهم، وجمُّوا، وقد جاءت صدقات كثيرة تفضُل عنهم، قطع أبو بكر بالبعوث وعَقَد الألوية، فعقد أحد عشر لواءً، عقد لخالد بن

ص: 242

الوليد وأمره بطُليحة بن خُويلد، فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبُطاح إن أقام له". فهذا هو العهد الصحيح، وهو المعقول في شأن الولاة والقواد، أن يكون العهد لهم، وأن تصدر الأوامر إليهم، لا إلى من دونهم من القادة أو الجند.

ولسنا نأخذ على المؤلف أن أتى بتلك الرواية، ولكنا كنا ننتظر منه أن ينقدها ويظهر ما فيها من ضعف، ونأخذ عليه أن أعْرض عن الرواية الصحيحة التي تصوّر الأمر تصويرًا منطقيًّا معقولاً، وتفسر تلك الرواية وتظهر ما فيها من ضعف أو وهم.

ومما يدل على ضعف تلك الرواية أو بطلانها، أن أبا قتادة بعد أن عاد هو ومن معه إلى خالد، وبعد مقتل مالك بن نويرة، عاد إلى سخطه على خالد، فجادلهُ في مقتل مالك بن نويرة، يقول الطبري (3: 242) وصاحب الأغاني (14: 65 طبعة الساسي): "فزبره خالد، فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر، حتى كلمهُ عمر فيه، فلم يرضَ إلَّا أن يرجع إليه، فرجع إليه حتى قدم معه المدينة". فهذا الخليفة، وهو القائد الأعلى إذ ذاك، يغضب على أبي قتادة، على فضله وسابقته، أن خالف عن أمر أميره وقائده، وأن ترك الجيش ورجع إلى المدينة يشكو أميره، لم يقبل له عذرًا، ولم يسمع له شكوى، وأبى إلَّا أن يرجع إلى أميره يكون في طاعته، لم يمنعهُ من ذلك شفاعة عمر، فأطاع وكافي مع أميره حتى وردا المدينة معًا، بعد تمام الغزو الذي خرجوا له.

ص: 243

أفرأيتم هذا يلائم تلك الرواية: أن أبا بكر عهد إلى أبي قتادة ومن معه من الأنصار عهدًا خاصًّا لا يعلمه أميرهم خالد؟ ! وأين احتجاج أبي قتادة بأنه إنما صنع هذا طاعة للعهد الخاص به، وماذا يكون جواب أبي بكر إن حجَّهُ أبو قتادة بما عهد إليه به؟ !

ولست أدري لماذا أعرض المؤلف عن هذا النص القاطع أيضًا؟ إلَّا أن يكون يسوقُ الروايات والأخبار كما يحب ويَرى!

ثم قصَّ المؤلف قصة مقتل مالك بن نويرة، وتزوج خالد أو تسرّيه امرأة مالك بعد قتله، وحكى الروايات المتضاربة التي وردت في ذلك، ويطول القول لو أردنا أن نفصل ما فصلهُ أو نجملهُ. ولكن الثابت من مجموع الروايات أن ضرار بن الأزور الأسديّ قتل مالكًا، فبعضها يجعل هذا القتل عن خطأ في فهم اللغة! تزعم الرواية؛ أن خالدًا أمر مناديًا فنادى "دافئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: دافأنا الرجل وأدفئوه. فذلك معنى اقتلوه، وفي لغة غيرهم أدفئوه من الدفء، فظنَّ القوم أنهُ يريد القتل، فقتلوه. فقتل ضرار بن الأزور مالكًا" (عن الأغاني 14: 65، والطبري 3: 242). وهذه رواية باطلة، تشبه أن تكون من خيالات الأدباء وفكاهاتهم، وبطلانها ظاهر من أول سياقها؛ فإنها تبدأ بأن الخيل جاءَت إلى خالد "بمالك بن نويرة وفيهم أبو قتادة، وكان ممن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم" وقد بيّنا فيما مضى من قبل أن الأذان وإقام الصلاة مع منع الزكاة لا يحقن الدم ولا يمنع من الحكم عليهم

ص: 244

بحكم الردة، فاختلاف السرية - في هذه الرواية - أو اتفاقها على أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا لا يقدّم ولا يؤخر، إذا كانوا لا يزالون مصرين على منع الزكاة، وإنما هذه الرواية أشبه بالأحاجي والألاعيب.

وتذهب الروايات غيرها إلى أن خالدًا جادل مالكًا وطاوله، فلما استيقن من أمره أمر بقتله، وإن اختلفت ألفاظها فيما حكت من الحوار بينهما ففي تاريخ الطبري (3: 243) "وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال وهو يراجعهُ: ما إخال صاحبكم إلَّا وقد كان يقول كذا وكذا، قال: أو ما تعده لك صاحبًا؟ ! . ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه". وفي تاريخ ابن كثير (6: 322): "ويقال بل استدعى خالد مالكَ بن نويرة فأَنَّبَهُ على ما صدر منه من متابعة سَجَاحِ - المتنبئة الكاذبة - وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك! فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟ يا ضرار اضرب عنقه". وفي ابن خلكان (2: 227 طبعة بولاق): فكلمه خالد في معناها - يعني الزكاة - فقال مالك: إني آتي بالصلاة دون الزكاة. فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معًا، لا تقبل واحدة دون أخرى؟ فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك! قال خالد: وما تراه لك صاحبًا! والله لقد هممت أن أضرب عنقك ثم تجاولا بالكلام طويلًا فقال له خالد: إني قاتلك. قال: أو بذلك أمرك صاحبك! قال: وهذه بعد تلك والله لأقتلنك".

ص: 245

وفي رواية لصاحب الخزانة (1: 237 طبعة بولاق) من رسالة لأبي رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، أن أبا بكر بعث خالد بن الوليد "وأمره أن لا يأتي الناس إلَّا عند صلاة الغداة، فمن سمع فيهم مؤذنًا كفَّ عنهم، ومن لم يسمع فيهم مؤذنًا استحلهم، وعزم عليه ليقتلن مالكًا إن أخذه" وإن خالدًا لما أخذ مالكًا قال له: "يا بن نويرة هلمَّ إلى الإِسلام. قال مالك: وتعطيني ماذا؟ قال: ذمة الله وذمة رسوله وذمة أبي بكر وذمة خالد بن الوليد. فأقبل مالك وأعطاه بيديه، وعلى خالد تلك العزمة من أبي بكر. قال: يا مالك إني قاتلك. قال: لا تقتلني. قال: لا أستطيع غير ذلك. قال: فأت ما لا تستطيع إلَّا إياه. فقدمهُ إلى الناس فتهيبوا قتله، وقال المهاجرون: أتقتل رجلًا مسلمًا! غير ضرار بن الأزور الأسدي من بني كوز، فإنه قام فقتله".

فهذه الروايات وغيرها تدل على أن خالدًا لم يقتل مالكًا إلَّا بعد حوار وجدال، وأنه لم يقتل لخطأ في فهم الأمر بالدفء كما تزعم الرواية الأولى، وإن كان في الرواية الأخيرة ما يفهم منه أن خالدًا أمّن مالكًا وأعطاه الذمة، فيكون قتله بعد ذلك غدرًا، ولكنها لا تدل هي ولا غيرها على أنه عاد إلى الإِسلام وأقر بالزكاة، وهذه الرواية تساير ما روى ابن خلكان وغيره أن متمم بن نويرة جاء إلى أبي بكر يستعديه على خالد ويعتب على أبي بكر، قال ابن خلكان: "فلما بلغه مقتل أخيه حضر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح خلف أبي بكر الصديق، فلما فرغ من صلاته وانفتل في محرابه، قام متمم فوقف

ص: 246

بحذائه واتكأ على سِيَة قوسه، ثم أنشد:

نِعْمَ القتيلُ إذا الرياح تناوجت

خلفَ البيوت قَتلتَ يا بنَ الأزْوَرِ

أَدَعَوتَهُ بِاللهِ ثُمّ غَدَرْتَهُ

لَوْ هُو دَعاكَ بِذِمَّةٍ لَمْ يَغْدِرِ

وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غدرتُهُ".

وأكثر الروايات وأرجحها تدل على أن خالدًا كان موقنًا من ردة مالك، وإصراره على منع الزكاة، ولم توجد رواية قط تثبت إثباتًا قاطعًا أن مالكًا رجع عن ردته، وأعطى مقاده مخلصًا للدَّين، وإنما أعطى مقاده مغلوبًا على أمره، وكان يرجو أن يضع يده في يد أبي بكر لعله يجد عنده عطفًا أو لينًا، فلم يمكنه خالد من ذلك، وأخذه بالعزم وقتله.

وهذا متمم أخو مالك لم يدَّع قط أن أخاه قتل بعد توبةٍ، إنما ادعى أن خالدًا غدر به، بل هو يدعي في شعره أن الغدر كان من ضرار بن الأزور، وإنما أشار إلى أبي بكر أن كان هو الأمير الأكبر، فهو المسؤول عن أعمال عماله؛ خالدٍ فمن دونه. ولو أيقن متمم أن أخاه تاب عن ردته وأقرَّ بالزكاة كما أقرَّ بالصلاة، لكان له قول غير هذا القول، وشأن غير هذا الشأن. وكذلك كان قوله حين قال له عمر:"لوددت أنك رثيت أخي زيدًا بمثل ما رثيت به مالكًا أخاك. فقال: يا أبا حفص، والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته. فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته" (ابن

ص: 247

خلكان 1: 228 والأغاني 14: 68) فهذه الرواية تدل على أن متممًا لم يكن يجزم بأن أخاه مات مسلمًا، إن لم تدل على معرفته بأنه قتل في ردته؛ لأن زيد بن الخطاب، أخا عمر بن الخطاب، قتل شهيدًا يوم اليمامة، فيشير متمم إلى هذا، أن زيدًا صار إلى الجنة؛ إذ قتل شهيدًا مسلمًا، ويشك - على الأقل - في أن مصير أخيه مالك كمصير زيد.

فلم يك خالد متجنيًا ولا عاديًا، وإنما كان حازمًا سريع الفصل، يعرف ما يأتي وما يدع، ويرى الإِسلام في خطر من دعاة الردة، ويرى الموقف على حقيقته بنظرة رجل الحرب، ويعرف عواقب التردد أو التهاون، ويعرف خصمه مالكًا، ويعرف قوته وأثره في قومه، والشاهدُ يرى مالا يرى الغائب، فلن يؤخذ على خالد - إن كان عليه فيما أتى مأخذ، إلَّا أنه تسرَّع، أو تأول فأخطأ، ولا حرج.

وأما ما يرجف به المرجفون، من أنه إنما صنع هذا بمالك رغبةً في امرأته ليلى بنت سنان، وأنه كان بينهما هوًى في الجاهلية، فما نظنه إلَّا من نسج الخيال، ومن أقوال الأعداء المغرضين، فالثابت أن خالدًا أخذ ليلى سبيًا بعد مقتل زوجها، وأنه بني عليها بعد انقضاء طهرها، وبعض الرواة يعبر عن هذا بالزواج، ففي الطبري (3: 242) "وتزوَّج خالد أم تميم ابنة المنهال - هكذا سميت في هذه الرواية - وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره" وهذا تعبير شاذ يذهب الثقة بهذه الرواية وأمثالها؛ فإن كراهة

ص: 248

العرب النساء في الحرب - إن صحت - لا تكون حجة في الإِسلام، وهو تشريع أُنفٌ، لا يقرّ كثيرًا من تقاليد العرب في الجاهلية، بل ينهاهم عن أكثر ما كانوا عليه وما كان عليه آباؤهم من قبل.

والظاهر من سياق الروايات في الوقعة وما دار حولها، أن خالدًا سبى نساء القوم، أي أخذهنَّ رقيقًا غنيمة، كحكم الإِسلام في حرب الكفار والمشركين، واصطفى لنفسه من السبي امرأة مالك، والإِسلام يجيز ذلك، وأنهُ استبرأها بحيضة واحدة، ثم دخل بها، وهذا عمل مشروع جائز، لا مغمز فيه ولا مطعن، وأن أعداءه والمخالفين عليه رأوا في هذا العمل فرصتهم، فانتهزوا، وذهبوا يزعمون أن مالك بن نويرة مسلم، وأن خالد قتله من أجل امرأته، وذهبوا ينسجون حول هذا الأكاذيب، حتى بلغوا بذلك عمر، وكان سيئ الظن بخالد، ولم تكن بينهما مودة، يقول صاحب الأغاني (14: 66): "فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر، وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته" وأكثر عمر في ذلك على أبي بكر، حتى قال له:"هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد". وحمى أبو بكر قائده العظيم من الأراجيف، وقضى على الفتنة بأن أدى دية مالك، وكتب إلى خالد برد السبي (الطبري 3: 242) فهذا من أبي بكر سياسة واحتياط، فإن كان القوم قد تابوا ورجعوا إلى الإِسلام، كما يزعم خصوم خالد والمخالفون عليه، فالدية للقتل الخطأ، والسبي يرد على أهله، وإن تكن الأخرى لم يكن

ص: 249

بذلك بأس.

وتجري بعض الروايات، بأن أبا بكر أمر خالدًا أن يفارق امرأة مالك (الإصابة 6: 36 - 37)، ولكني لا أظنها رواية ثابتة، فإن أكثر الروايات على أن أبا بكر حين جاءه خالد واعتذر إليه، عذره "وتجاوز عنهُ ما كان في حربه تلك". (الطبري 3: 243، والأغاني 14: 66) ويروي صاحب الخزانة عن رسالة أبي رياش (1: 238): "وأخذ خالد بن الوليد ليلى بنت سنان امرأة مالك، وابنها جراد بن مالك فأقدمهما المدينة، ودخلها وقد غرز سهمين في عمامته فكأن عمر غضب حين رأى السهمين، فقام فأتى عليًّا فقال: إن في حق الله أن يقاد هذا بمالك، قتل رجلًا مسلمًا، ثم نزا على امرأته كما ينزو الحمار! ثم قاما فأتيا طلحة، فتتابعوا على ذلك، فقال أبو بكر: سيف سله الله لا أكون أول من أغمده، أكلُ أمره إلى الله. فلما قام عمر بالأمر، وفد عليه متمم فاستعداهُ على خالد، فقال: لا أرد شيئًا صنعه أبو بكر. فقال متمم: قد كنت تزعم أن لو كنت مكان أبي بكر أقدته به؟ فقال عمر: لو كنت ذلك اليوم بمكاني اليوم لفعلتُ، ولكني لا أرد شيئًا أمضاه أبو بكر. ورد عليه ليلى وابنها جرادًا".

ومجموع هذه الروايات وغيرها مما لم نذكر، يدل على أن امرأة مالك كانت سبيًا، كغيرها من النساء اللائي غنمنَ في الحرب، وأن خالدًا أخذها هي وابنها ملك يمين، لم يتزوّجها بعد مقتل زوجها، كما يوهم ظاهر بعض الروايات. وحكم السبي والرقيق في الشريعة

ص: 250

معروف، يخالف حكم الزوجة؛ فالزوجة إذا توفي عنها زوجها لا يحلّ زواجها إلّا أن تنقضي عدتها؛ إن كانت حاملًا بوضع حملها، وإن كانت غير حامل تربصت أربعة أشهر وعشرة أيام، لا يجوز غير ذلك. فإذا عقد عليها في حملها أو قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشرة الأيام كان العقد باطلًا، وكان قربانها سفاحًا حرامًا. وأما السبي والرقيق فإنه يحل ملكها ملك يمين وإن كانت حاملًا؛ لأنه لا عدة عليها إذا سُبيت، وإنما يحرم حرمة قطعيةً أن يقربها مالكها إن كانت حاملًا قبل أن تضع حملها، وإن كانت غير حامل حتى تحيض حيضة واحدة.

هذه أحكام بديهية في الشريعة، لا يعذر أحد بجهلها، فلا أدري كيف خفيت على المؤلف العلامة الكبير، حتى جزم في غير تردد ولا احتياط بأن خالدًا تزوَّج امرأة مالك، وأنه "نزا عليها قبل انقضاء عدتها"! !

ولست أتجنى عليه أو أحمل كلامه على محمل سيئ، بل حاولت أن أحمله على أحسن محامله؛ لأنزهه عن هذا الذي قال، فلم أستطع. وهاكم نص كلامه في هذا الخلاف بين أبي بكر وعمر، ثم الاعتذار عن خالد، قال في (ص 151) ما نصه بالحرف:

"الرأي عندي في هذا الخلاف أنه كان اختلافًا في السياسة التي يجب أن تُتَّبع في هذا الموقف، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين. أما عمر، وكان مثال العدل الصارم، فكان يرى أن خالدًا عدا على

ص: 251

امرئٍ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها، فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش، حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين، ويسيء إلى مكانتهم بين العرب، ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أثِمَ مع ليلى، ولو صح أن تأول فأخطأ في أمر مالك، وهذا ما لا يجيزه عمر، فحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحدّ. وليس ينهض عذرًا له أنه سيف الله، وأنه القائد الذي يسير النصر في ركابه، فلو أن مثل هذا العذر نهض لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم، ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله؛ لذلك لم يفتأ عمر يُعيد على أبي بكر ويلحَّ حتى استدعى خالدًا وعنّفه على فعلته، أما أبو بكر فكان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن، وما قَتْلُ رجل أو طائفة من الرجال لخطأ في التأويل أو لغير خطأ، والخطر محيق بالدولة كلها، والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وهذا القائد الذي يُتَّهم بأنه أخطأ من أعظم القوى التي يُدفع بها البلاء ويُتقى بها الخطر! وما التزوج من امرأة على اختلاف تقاليد العرب، بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها، إذا وقع من فاتح غزا فحقَّ له بحكم الغزو أن تكون له سَبَايا يصبحن ملك يمينه! ! إن التزمُّت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد، وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر"!

ولقد ترون ما أرى، أن هذا المؤلف لبس رداءَ المحامي النابه وأخذ بقلم المكاتب الحزبي القدير، وهما صناعتاه المفضلتان،

ص: 252

اللتان مارسهما طول حياته حتى بلغتا به ما بلغ، وهما اللتان تحملان صاحبهما - عن غير قصدٍ - على أن ينظر للأمر من ناحية واحدة، فيبالغ فيها حتى يبلغ الغاية في القوة، حتى إذا ما أراد أن ينظر إليه من الناحية الأخرى غلبته ناحيته الأولى حتى يبلغ الغاية في الضعف! ! فلا يكاد يصل إلى تحقيق، ثم يضطرب في يده ميزان العدل.

وهكذا كان شأنه هنا، اتّجه به تحقيقه عن غير قصدٍ إلى أنَّ عملَ خالد جريمة، فصورَّها أقوى تصوير، وخفي عليه الفرقُ بين الزواج والسبي، وخفي عليه الفرق بين العدَّة والاستبراء، وخفي عليه حكم الإسلام فيمن تزوج امرأةً في عدَّتها، أو قارب ثيبًا من الرقيق قبل أن يستبرئها، وخفي عليه بعد ذلك كثير من مقاصد الإسلام وأحكامه، ومن خُلُق المسلمين الأولين وسيرهم، فذهب يجزم بأن خالدًا "عدا على امرئ مسلم، ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها" ينسب ذلك إلى عمر، لا يشك فيه ويجزم بأن الذي كان من خالد زواج ثم دخول قبل انقضاء العدة، ثم يصوّر أثر ذلك في قيادة الجيش وفي مكانة المسلمين بين العرب، ثم يرى رأي عمر أن الحدّ على خالد واجب. فلما أن أراد أن يدافع عن خالد، ويبرّر فعل أبي بكر في التجاوز عنه، تخاذل ثم تخاذل حتى جثا على ركبتيه فلم يصنع شيئًا، إلَّا أن أتى بما لا يقره شرع ولا عدل، لا في دين الإسلام ولا في سائر الأديان، فقد أتى بما لم يأت به الأوائل! !

وسأزيد الأمر بيانًا حتى لا يخفى على من لا يعرف شيئًا من

ص: 253

أحكام الإسلام، فقتل المرء المسلم عمدًا جريمة من أكبر الكبائر، يجب فيها القصاص، لا يملك أحد العفو عنه إلَّا وليّ الدم من عصبة القتيل وحده، لا يملكه خليفة ولا ملك ولا دولة، وتزوج المرأة في عدة زوجها بعد موت أو طلاق، زواج باطل لا أثر له، وقربان المرأة بسببه زنًا ليس فيه شبهة، ويجب فيه الحدّ، الرجم على المحصن والجلد على غيره، لا يملك أحد أبدًا العفو عنه، لا صاحب العرض، ولا المرأة، ولا الدولة، لا أحد قط، وكذلك حكم قربان الأمة المسبية في الحرب إذا كانت ثيبًا قبل استبرائها بحيضة واحدة. ثمَّ هذه المحرمات القطعية البديهية التحريم إذا وقع فيها أحد إنما يجب عليه ما يجب فيها من الحد أو القصاص، إذا كان لا ينكر أنها حرام، أما إذا أنكر أنها حرام واستحلها فإن حكمه في الشريعة أن يكون مرتدًّا خارجًا عن الإسلام، وحكم المرتد معروف، وكذلك يجري حكم الردة على من عرف وقوع ذلك وأقره ورآه أمرًا هينًا لا إثم فيه، أو فيه إثم قليل؛ لأنه ينكر أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة.

ثم هذا الدين في عهد أبي بكر وعمر، كان دينًا فقط، لم تشبه شائبة السياسة، ولا شائبة الدنيا والغرور بها، وكان هؤلاء الناس إنما قاموا يقاتلون في سبيل الله، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، يقاتلون لترسخ قواعد الإسلام وأخلاقه وآدابه في العرب أولًا، ثمَّ في سائر الأمم من بعد. فإذا بدؤوا في أول أمرهم - كما يصوّرهم المؤلف - بالتهاون في أدق شيء عند العربي، وهو العرض وما يمس

ص: 254

النساء، وفي كبيرتين من أكبر الكبائر، القتل والزنا، فأنّى يستقيم لهم الدين، وأنّى يرجون من الله النصر؟ ثم ممن يكون هذا التهاون؟ من أبي بكر؟ حتى يرميه المؤلف بأنه "كان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن" وأنه "ما التزوج من امرأة على خلاف تقاليد العرب بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها"! ! أتظنون أيها الناس أن يستطيع رجل من عامة المسلمين، فضلًا عن أصحاب رسول الله، فضلًا عن أبي بكر، أن يرى هذا الرأي، ثم يزعم أنهُ مسلم، أو يزعمَ له أحد أنهُ مسلم؟ !

أبو بكر يقول لعمر: "هبهُ يا عمر تأوَّل فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد". وهذا هو الحق، وتأول خالد واضح لمن فهم شرائع الإسلام وحقائقه، أيقن من ردة مالك بن نويرة، ولم يوقن من توبته إلَّا بما شهد له ناس أنهم سمعوا الأذان في ناحيته، وإلَاّ قوله لخالد في بعض الروايات أنهُ مسلم، ولم يشهد أحد لمالك أنهُ أقرَّ بالزكاة، ولم يقل هو ذلك أيضًا، بل قال لخالد:"إني آتي الصلاة دون الزكاة". ثم تفلت منهُ بعض كلمات تنبئ عن إصراره، فلا يرى خالد مناصًا من قتله، فتكون نساؤه سبيًا بحكم الشريعة، ثم نجد أخاه متمم بن نويرة لا يكاد يرثيه بكلمة تنبئ عن إسلامه، بل يدّعي غدر خالد وغدر ضرار، ويصرح بالفرق بين استشهاد زيد أخي عمر ومقتل مالك أخيه. أفلا يكون في كل هذا عذر ومتأوَّل لخالد؟ !

ثم بعد هذا كله تبقى ليلى وابنها في يد خالد ملك يمين، مدة

ص: 255

خلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر، حتى يأتي متمم بن نويرة فيستعدي عمر على خالد، وقد صار الخليفة وولي الأمر، فلا يعديه عمر، ويأبى أن يغير حكم أبي بكر، ولكنهُ يرضيه بأن يردّ عليه امرأة أخيه وابنها. ولسنا نفهم هذا الردّ إلَّا بأن عمر طلب إلى خالد أن ينزل عنهما، وهما ملك يمينه، فيرضى ولا يأبى، استجابةً لرغبة عمر، لا طاعة لحكمه، فليس في سلطان أمير المؤمنين أن يأخذ أموال الناس كرهًا، ولم يكن ذلك من عملهم ولا من خلقهم. أفيظن ظانٌّ أن الصدر الأول من أصحاب رسول الله كانوا يقرُّون خالدًا على استبقاء ليلى امرأة مالك وهم يعلمون أنها تعاشره بعقد باطل حرام، كما يصور المؤلف زواجه إياها قبل تمام طهرها! اللهمَّ غفرًا.

لشدّ ما أخشى أن يكون المؤلف تأثر بما قرأ من أخبار نابليون وغيره من ملوك أوربة في مباذلهم وإسفافهم، وبما كتب الكاتبون من الإفرنج في الاعتذار عنهم، لتخفيف آثامهم بما كان لهم من عظمة، وبما أسدوا إلى أممهم من فتوح وأيادٍ، حتى يظن بالمسلمين الأولين أنهم أمثال هؤلاء فيقول:"إن التزمُّت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعلماء من أمثال خالد"! ! ! وهذا قول يهدم كلَّ دِين وكلَّ خلق.

إن هذه النظرية، نظرية تبرير الجرائم والمنكرات، بعظمة العظماء، ونبوغ النوابغ وارتفاع الزعماء، وآثار القادة والكبراء، نظرية خطيرة، لا تقوم معها للأمم قائمة تنحدر بها إلى مهاوي

ص: 256

الشهوات، وتنتهي بها إلى الإباحية ثم إلى الانحلال، كما انحلت فرنسة وغيرها من الأمم، بما استرسل كبراؤهم وزعماؤهم في التبذل والترف، وتبعهم العامة والدهماء {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)} [الإسراء: 16]. ومعاذ الله أن نظن مثل ذلك بالصدر الأول من الصحابة والتابعين، عهد أبي بكر وعمر، وسيرهم معروفة، وآثارهم مشاهدة، وفضلهم على العالم كله لا ينكر.

وليت المؤلف الفاضل يشرح لنا في هذا الأمر وجهة نظره، ويبين لنا لحساب من يقرأ هذه النظرية الخطرة المدمرة؟ !

أما قسوة عمر في اتهام خالد عند أبي بكر، فإنها قسوة الرجل العادل الحازم، لم يشهد الأمر بنفسه، ولم يكُ قاضيًا فيه، إنما بلغهُ أمر، فكان لسان الاتهام يقرّر ما سمع، ويعرضه على الخليفة ولي الأمر، والخليفةُ بما يملك من سلطة القضاء، سأل خالدًا عما نسب إليه، وسمع قول أبي قتادة وغيره، ثم حكم بما استبان له، فعذرَ خالدًا، ولم يجد في عمله موضعًا للقصاص، ولا موجبًا للحدّ. فكان حكمًا قاطعًا، لا يجوز لعمر ولا لغيره أن يستأنف النظر فيه، ولذلك قال لمتمم في خلافته:"لا أرد شيئًا صنعهُ أبو بكر. فقال متمم: قد كنت تزعم أن لو كنت مكان أبي بكر أقدته به. فقال عمر: لو كنت ذلك اليوم بمكاني اليوم لفعلتُ، ولكني لا أرد شيئًا أمضاهُ أبو بكر". وما نظن عمر يفعل ما كان يريد لو كان خليفة ذلك اليوم، إنما هو يبين

ص: 257

عن رأيه في أمر قد نظر إليه من جانب واحد، هو جانب الاتهام، ولعله لو قد سمع الطرف الآخر - طرف الدفاع - ونظر إلى الأمر من الجانبين، كما نظر إليه أبو بكر، لانتهى إلى ما انتهى إليه حكم أبي بكر. وفي مثل هذا تختلف أنظار القضاة، ويختلف اجتهاد المجتهدين، في وزن الأدلة، وتقدير البراهين. فلن تكون كلمة عمر وحدها حجة على خالد، تثبت عليه إجرامًا لم يثبت عند الحاكم، وقد برَّأه الحاكم مما نسب إليه، ولن تكون كلمة عمر وحدها حجة على أبي بكر، حتى يُتهم بالتهاون في شأن جرم يوجب الحدّ أو القصاص، وبأنهُ كان يتزمَّت في تطبيق التشريع على العامة والدهماء، ولا يتزمَّت في تطبيقه على النوابغ والعظماء! ! كفعل ساسة هذا العصر!

ومع هذا كله، فإن عمر رجع عن كل ما كان يظن بخالد وينسبه إليه، فقد روى ابن سعد في الطبقات الكبير (7/ 2/ 121) بإسناد من أصح الأسانيد التي يصححها المحدّثون في رواية السنَّة أنهُ:"لما مات خالد بن الوليد قال عمر: يرحم الله أبا سليمان، لقد كنا نظن به أمورًا ما كانت". وليس بعد هذه الشهادة شهادة، من رجل كان من أشدّ الناس قسوة على خالد، وكان لسان الاتهام في هذه الوقعة بعينها. رضي الله عنهم جميعًا.

وبعد؛ فإن كتاب المؤلف لا يزال مع هذا كتابًا قيمًا، جديرًا بما نال من تقدير، أفدنا منهُ فوائد جمة، وأعجبنا بكثير من أبحاثه، ووقفت عند كثير من روائعه، مغتبطًا متذوقًا ما فيها من بلاغة، مهتزًّا

ص: 258

بما صدقت في الوصف، وبما احتوت من قوة التصوير. ومن أحسن كلماته التي أوفى فيها على الغاية، وأطلتُ الوقوف عندها، كلمة أقتبسها هنا؛ لتكون دستورًا لكثير من الباحثين والكاتبين، علهم ينتفعون بها، ويتعظون بما وعظهم المؤلف فيها. قال (ص 33): فما أكثر الذين لا يؤمنون بالكثير من آراء الناس ويرونها مينًا باطلًا وحديث خرافة، ثم يكتمون ذلك أو يتظاهرون بنقيضه، التماسًا للعافية وجرًّا للمنفعة، وحرصًا على ما بينهم وبين الناس من تجارة، وأنت لا تجد هذا النِّفاق في سواد الناس وعامتهم ما تجده في المثقفين منهم، بل إنك لتجدهُ فيمن نصبوا أنفسهم لزعامة الناس والإبانة لهم عن وجه الحق في الحياة".

* * *

ص: 259

الفاروق عمر (*)

تأليف الدكتور محمَّد حسين هيكل باشا (1)

وهذا أحدث كتاب أخرجه سعادة الدكتور محمَّد باشا هيكل في التاريخ الإسلامي، على النهج الذي سار عليه منذ عشر سنين، فكان عملًا جيدًا، أفادت منه الطبقة المحدثة من المثقفين، وقد ألف كثير منهم سهل الكلام ولينه، واستعصت عليهم كتب المتقدمين ونفروا منها، حتى جهلوا كثيرًا من تاريخ قومهم، فجاءت كتب سعادة المؤلف عملًا جديدًا، نهجًا وسطًا، بين كتب المتقدمين القوية الرائعة، وبين ما ابتليت به العربية، من القصص والروايات، الغالي منها والرخيص، والقوي منها والسخيف. عرض فيه التاريخ الإسلامي عرضًا شائقًا منظمًا، في لغة جيدة رائعة، رصعها بكثير مما اقتبس من عبارات المؤرخين السابقين؛ فقرب إلى المتوسطين ما بعد عنهم، وراض لهم ما استعصى عليهم، حتى إن الكتاب ليأخذ بلب القارئ، فلا يكاد يستطيع أن يضعه من يده إلَّا أن يأتي على آخره.

وهذا الكتاب كتاب جيد حقًّا، فيه تيسير للقارئ حتى يستوعب

(*) مجلة الكتاب، المجلد الأول، السنة الأولى، الجزء الأول ذو القعدة 1364 - نوفمبر 1945.

(1)

الجزء الثاني 368 صفحة من القطع الكبير، مطبعة مصر، القاهرة 1945

ص: 260

سيرة عمر وفتوحاته وأعماله استيعابًا مفيدًا، ويوفر عليه جهدًا عظيمًا في تتبع الأخبار في مظانها من كتب التاريخ والتراجم، إذا لم يكن من أرباب العزائم المجتهدين. ولو شئنا أن نأتي بشواهد من صعاب التاريخ وسياق الحوادث في تلك الحقبة، مما يسره المؤلف على القارئ وحققه بقلمه السلسال السيال؛ لطال الأمر جدًّا، ولكن الكتاب بين يدي القارئ فليفد منه ما شاء.

ولسنا بسبيل التقريظ والمدح، فما كان المؤلف ولا كتابه بحاجة إليهما، ولكنا بصدد نقد الكتاب نقدًا علميًّا صحيحًا، ببيان مزاياه، وقد أشرنا إلى بعضها، وبالاستدراك على ما وقع فيه من أخطاء، بعضها ظاهر، وفي بعضها موضع للنظر والتحقيق وتداول الآراء، أداءً لواجب الأمانة، وإخلاصًا في النصيحة للعلم والقراء. وسأسوق مآخذي مساق الكتاب، كما وردت في مواضعها أولًا فأولًا، وذلك خير من تصنيفها على الأنواع المتجانسة، وأيسر على القارئ المتتبع.

1 -

وأول ما آخذه على سعادة المؤلف وعلى كثير من المتعرضين للتأليف في هذا العصر، أنهم يذكرون مصادر كتبهم، أعني المراجع التي يرجعون إليها أو يقتبسون منها، جملةً واحدةً في آخر الكتاب، ثم لا يشيرون إليها في كل موضع مناسب نقلوا فيه أو اقتبسوا، وفي ذلك إرهاق للقارئ وتعمية عليه وإعنات له، إذا ما أراد أن يتوثق من صحة النقل، أو يحقق موضعًا يرى فيه رأيًا يخالف ما ذهب إليه المؤلف، أو غير ذلك من المقاصد العلمية الدقيقة. وحقًّا لقد أتعبني

ص: 261

هذا الكتاب أيامًا طوالًا في تتبع النصوص والوقائع في مظانها من مراجعها ومن غيرها، ولعله فاتني التوثق من بعضها، بعد تجويد البحث وطول العناء.

وبمناسبة المراجع، هل يأذن لي المؤلف أن أذكّره بمراجع مهمة حافلة في ترجمة عمر؟ لا أدري لم أغفلها، فلم يرجع إليها ولم يذكرها في مصادره؟ وسأكتفي بالمراجع المطبوعة، أما المخطوطات فأمرها فيه عسر وتكلف، وهذه الكتب المطبوعة هي:"سيرة عمر بن الخطاب" للحافظ أبي الفرج بن الجوزي المتوفى سنة 597، وهو كتاب حافل في 256 صفحة. ترجمة عمر في كتاب "حلية الأولياء" للحافظ أبي نعيم الأصفهاني المتوفى سنة 430 (ج 1 ص 38 - 55). ترجمته في "صفة الصفوة" لابن الجوزي (ج 1 ص 101 - 112). ترجمته في تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748 (ج 1 ص 6 - 8). مسند عمر بن الخطاب للحافظ يعقوب بن شيبة المتوفى سنة 262، وهو مطبوع حديثًا، طبعه الدكتور سامي حداد في المطبعة الأمريكانية ببيروت سنة 1940، عن مخطوطة أثرية عتيقة. وترجمة عمر في كتاب "شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد (ج 3 ص 92 - 180) وهي ترجمة واسعة حافلة.

ثم ترجمة عمر في كتب تراجم الصحابة والرجال؛ كالاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وتهذيب التهذيب وغيرها.

2 -

(ص 47) في فتح إصطخر ذكر المؤلف رئيس الفرس وقائدهم

ص: 262

باسم "الهربز" وضبطه بكسر الراء وفتح الباء وبالزاي في آخره، وكرره بعد ذلك كثيرًا بهذا الاسم، وضبط الهاء في بعض المواضع بالكسر. وهذا - فيما نرى - غلط لا نعرف له وجهًا، إلا أن يكون المؤلف يريد مقاربة الاسم الأعجمي، إن كان هو يعرف اللغة الفارسية، وما إخاله. وأما صحة الاسم الذي عربه إليه العرب، وهم كانوا في ذلك العهد عربًا على فطرة اللغة وقوتها، ونقله عنهم المؤرخون الأثبات "الهِرْبِذ" بكسر الهاء وسكون الراء وكسر الباء وآخره ذال معجمة، وبذلك عرفه أئمة اللغة، عرفوه لقبًا يوصف به، ففي المعرب للجواليقي (ص 351 طبعة دار الكتب المصرية بتحقيقنا):"الهربذ بالكسر: واحد الهاربذة، وهم خدم النار، وقيل حكام المجوس الذين يصلون بهم. أعجمي معرب". ثم قال: "ويجمع هرابذة وهرابذ". ونحو ذلك في معاجم اللغة، فما أرى وجهًا لما جاء به المؤلف ولا مصدرًا.

3 -

(ص 84) نقل المؤلف حديثًا يستدل به على إيمان عمرو بن العاص، فنقله محرفًا، ولا نظنه غلطًا في التصحيح المطبعي، نقله هكذا "أسلمُ الناسِ وآمنُ الناسِ عمرو بن العاص" وضبطه في الطبع برفع أفعل التفضيل وبجر كلمتي "الناس" ولعله فهم أن "أسلم" و"آمن" صيغتا مبالغة من "الإسلام" و"الإيمان" وما هما كذلك في اللفظ الذي حكى، وإنما يكونان من "السلامة" و"الأمن". وصحة لفظ الحديث "أسلمَ الناسُ وآمنَ عمرو بن العاص" وهو حديث رواه

ص: 263

الترمذي في الجامع الصحيح (ج 2 ص 316 من طبعة بولاق، وج 4 ص 355 من شرح المباركفوري طبع الهند) وهو عندي حديث حسن جيد الإسناد، وإن وصفه الترمذي بأنه "غريب وليس إسناده بالقويّ".

4 -

(ص 101) قال المؤلف: "منف عاصمة مصر حين كان العالم كله يتطلع إلى مصر على أنها مهبط الوحي ومستقرّ الحضارة فيه" وهذا غلو في العصبية، فما كان العالم إذ ذاك ينظر إلى مصر النظرة التي يراها بها المؤلف، وإنما هو يرى بنظر أهل هذا العصر أو بعضهم. ثم لم يزعم أحد قط أن مصر كانت "مهبط الوحي"! وأين كان هذا الوحي؟ أهو وحي الفراعين والأوثان؟ ! لم يعرف التاريخ نبيًّا أوحي إليه في مصر إلَّا ما أخبرنا القرآن الكريم عن يوسف وعن موسى عليهما السلام وهما يرجعان بأصليهما إلى جزيرة العرب.

5 -

(ص 119 - 120) نقل المؤلف روايةً عن المستشرق بتلر أوردها عن الطبري، ثم نقدها نقدًا جيدًا فقال:"والطبري لا يورد مثل هذا التفصيل، على أن المؤرخين المسلمين جميعًا يذكرون أن عمرًا أجاب المقوقس إلى الصلح على الجزية بعد أن اقتحم المسلمون الحصن". وإلى هنا كان يحسن الوقوف، بتلر نقل شيئًا نسبه إلى الطبري، وتبيَّن المؤلفُ أنه غير صادق في نقله، وأن الطبري لم يقله، وأن المؤرخين المسلمين جميعًا يذكرون غيره، فماذا بعد ذلك؟ ! لا شيء. ولكن المؤلف يحاول أن يصحح كلام بتلر، فيقول عقب ذلك: "فإذا صح أن المقوقس لم يكن بالحصن وكان قد نُفيَ بعد

ص: 264

ذهابه إلى هرقل، فلعل قائد الحامية هو الذي صالح عمرًا على ما جاء في رواية بتلر"! ! ولم تكن لبتلر رواية، حتى نظن أنه لعله نقلها من مصادر لم نصل إليها، إنما هو ينقل شيئًا معينًا عن كتاب معروف في أيدي الناس، ثم يتبين أن نقله غير صحيح، وأن ما نسبه إلى ذلك الكتاب المعين ليس فيه، فماذا يحدونا إلى أن نعتبر كلامه رواية له، ثم نتأولها ونحاول تصحيحها؟ !

6 -

(ص 152) نقل المؤلف كلامًا في وصف مرآة الإسكندرية، وضعه بين أقواس، كما اعتاد الناس أن يصنعوا حين ينقلون كلام غيرهم، ليدلوا القارئ على أن المنقول هو نصُّ ما قال المنقول عنه، فهذا ما قال المؤلف: ويقول السيوطي: "إن عرضها كان سبع أذرع، وإنها كانت تظهر السفن الآتية من بلاد أوربا، وكانت تستعمل لإحراق سفن العدو، فكان الموكلون بها يديرونها نحو الشمس وهي مائلة للغروب فتنعكس عليها الأشعة وتحرق سفن العدو. والإجماع على أنها تظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر". وهذا ما نسبه للسيوطي على أنه نص عنه، وهاك ما قال السيوطي نصًّا في كتاب حسن المحاضرة (ج 1 ص 54 طبعة إدارة الوطن سنة 1299): "وكان عليها مرآة من الحديد الصيني عرضها سبعة أذرع، كانوا يرون فيها جميع من يخرج من البحر من جميع بلاد الروم، فإن كانوا أعداءً تركوهم حتى يقربوا من الإسكندرية، فإذا قربوا منها ومالت الشمس للغروب أداروا المرآة مقابلة الشمس فاستقبلوا بها السفن حتى يقع

ص: 265

شعاع الشمس في ضوء المرآة على السفن، فتحرق السفن في البحر عن آخرها، ويهلك من كان فيها". فالسيوطي لم يقل "سبع أذرع" ولم يقل "من بلاد أوروبا" ولم يقل "والإجماع"

إلخ! !

7 -

(ص 181 - 184) تحدث المؤلف عن خرافة عروس النيل حديثًا طويلًا، نأخذ عليه فيه أنه أولًا: زعم "أن العلم قد أثبت من بعد أنه لم يحدث قط أن ألقيت عذراء في النيل حثًّا على الفيضان" وهذا كلام ضخم لا نظن أن عالمًا يقوله، فإن العلم لا يثبت نفيًا في الحوادث التاريخية، وكيف يثبت النفي وأنى؟ ! لو قال "لم يثبت التاريخ" أو "لم يثبت العلم ذلك" لكان أجدى به، وأقرب إلى الصحة! وثانيًا: أنه استنار بعلم الأستاذ سليم بك حسن ورأيه، وأنه كان من رأي سليم بك أنه إن صح أن عمر بن الخطاب أرسل كتابًا ألقي في النيل ليفيض، فلا يزيد هذا "على أنه كان مجاراة من الخليفة للمصريين في عادة لهم لا ضرر من مجاراتهم فيها؛ فقد كان من عادة الكهنة المصريين، ومن عادة بعض ملوكهم أن يقيموا لإله النيل احتفالًا في بدء الانقلاب الصيفي يقربون فيه للإله ثورًا وأوزة وقرابين أخرى من الخبز وغيره، ثم يلقون في النيل وثيقة مختومة من ورق البردي مخطوطًا عليها أمر للنيل أن يجري"

إلخ. ونُجِلُّ أولئك الناس؛ عمر فمن دونه، عن ظن السوء، أن يجاروا الجهلاء الوثنيين في جهالاتهم وخرافاتهم، وإنما كان عمر وكان المسلمون يجاهدون ويهدمون الوثنية، ويَسْمُون بالعقل الإنساني أن تحيط به الأوهام

ص: 266

والخرافات والأساطير. ولم يكن لقصة عروس النيل وكتاب عمر أصل يثبت في التاريخ الإسلامي، لم يروها أحد - فيما نعلم - بإسناد له اعتبار، مما يثبت أهل العلم مثله، وهذا كاف جدًّا في نفيها.

8 -

(ص 241) ذكر المؤلف فيما حكى من صور النكاح في الجاهلية: "أن يتزوج رجل من امرأة فيذرها في قومها، فإذا مر بهم في تجارته أو رحلته نزل عندها، وكان بعض النسوة يؤثرون البقاء في أهلهن؛ إذ كن ذوات مال وحسب، فكن لا يرضين مفارقة مالهن ومن يقومون على الإتجار فيه وتثميره، وكان الأبناء يبقون مع أولئك الأمهات حتى يشبون، ولذلك كانوا ينسبون إليهن وإلى قبيلتهن، وذلك كان شأن سلمى بنت عمرو أحد بني النجار من الخزرج أهل يثرب، فقد كانت امرأة ذات شرف ومال يتجر لها فيه قومها، ومر هاشم بن عبد مناف يومًا بيثرب عائدًا من الشام، فرآها تطل على قومها، فأعجبته فخطبها إلى نفسها فرضيته زوجًا، على أن تكون عصمتها بيدها، وولدت له شيبة، فأقام معها بين أخواله بني النجار حتى مات أبوه، ثم عاد به عمه المطلب إلى مكة". وهذا بحث تهافت فيه المؤلف تهافتًا شديدًا! فإن هذا النوع من الزواج الذي صوره وهو الزواج المعروف إلى الآن، ومكث المرأة في أهلها لا يؤثر في عقد الزواج، وإنما هو شيء يتراضى عليه الزوجان، واشتراط المرأة أن يكون أمرها بيدها لا يزال جائزًا في الشريعة الإسلامية في بعض المذاهب، ومنها الحنفية، وهو المذهب الرسمي للدولة وللقضاء

ص: 267

الشرعي في مصر. وإنما ننكر على المؤلف أن يجعل نتيجة لهذا الزواج أن ينسب الأولاد فيه إلى النساء وإلى قبيلتهن! ! فهذا شيء لم يعرفه العرب قط فيما أعلم، ولعل حوادث نادرة قد وقعت في الجاهلية نسب فيها الأبناء إلى قبائل أمهاتهم لأسباب اقتضت ذلك، نسيت مراجعها الآن، ولكني أوقن أن ليس من هذه الأسباب هذا النوع ولا غيره من أنواع الزواج. وأذكر أن بعض أرباب الأغراض من المستشرقين وأتباعهم رموا العرب بهذه الفرية السخيفة؛ نسبة الأنباء إلى أمهاتهم، وأنه كتبت ردود قوية لإبطال هذه الفرية، ولست أذكر الآن مواطن هذا البحث وتفصيله، فلعل المؤلف علق بذهنه شيء من هذه الأباطيل فكتبه الآن في كتابه، أو اعتمد على شيء قرأه لأعداء العرب، فأثبته تاريخيًّا يوهم أنه جاء به من مصادره.

وما كان أجدره بغير ذلك لو روّأ في أمره، فتحقق مما يكتب وينقل، أو نسب كل رواية لصاحبها، ليبرأ من عهدتها. وهذا أقرب مثل لما أقول: إنه جعل أم عبد المطلب مثلًا للنكاح الذي حكى ولنسبة الولد إلى أمه وأهلها. فإن الثابت في المصادر الصحيحة والذي لم نجد في الرواية غيره: أن هاشم بن عبد مناف قدم المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشرطوا لها أن أمرها بيدها إذا كرهت رجلًا فارقته، فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة، فتركه هاشم عندها، حتى كبر، ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه. إلى آخر ما جاء

ص: 268

في سيرة ابن هشام (ص 88 من طبعة أوربة). وهذه رواية مجملة، ولكنها واضحة في أن نسب الغلام كان معروفًا لأبيه. وفي رواية لابن سعد (ج 1 ق 1 ص 48) أن ثابت بن المنذر، والد حسان بن ثابت، جاء مكة معتمرًا "فلقي المطلب وكان له خليلًا، فقال له: لو رأيت ابن أخيك شيبة فينا لرأيت جمالًا وهيبة وشرفًا". فهذا ثابت بن المنذر كان يعرف نسبه وأنه ابن هاشم أخي المطلب، فلم يكن يعرفه - وهو من بلد أمه - منسوبًا إليها وإلى أهلها. وفي تاريخ الطبري (ج 2 ص 176 - 177) أن هاشمًا تزوج سلمى وشرط عليه أبوها "ألا تلد ولدًا إلاّ في أهلها". وأنه "ارتحل إلى مكة وحملها معه، فلما أثقلت ردها إلى أهلها". وأنها وضعت عبد المطلب "فمكث بيثرب سبع سنين أو ثمان سنين. ثم إن رجلًا من بني الحرث بن عبد مناف مر بيثرب فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا خسَق - أي أصاب الرمية ونفذ فيها - قال: أنا ابن هاشم أنا ابن سيد البطحاء! فقال له الحارثي: من أنت؟ قال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف". فهذا الغلام يعرف نسبه ويفخر به عند النضال، وليس بعد هذا البيان بيان. فأين هذا كله مما وضع المؤلف في كتابه؟ بل أين ما وضع المؤلف من هذا كله؟ !

وتتمة للبحث نذكر أن المؤلف لم يعرف صور الزواج عند العرب في الجاهلية، وإن زعم أنه جاء بها! وهي ثابتة في الحديث الصحيح، في صحيح البخاري (ج 9 ص 158 - 159 من فتح الباري) وفي سنن

ص: 269

أبي داود (ج 2 ص 249 من عون المعبود).

9 -

(ص 261) تحدث المؤلف عن تعصب العرب لجنسهم حديث غير العارف به، ثم عرض في أثناء ذلك لشأن القصاص في الشريعة فقال:"والقصاص حد من الحدود يقيمه ولي الأمر، ولا يتولاه ولي الدم بنفسه". وهذا غير صحيح، فإن حكم الشريعة أن يُرفع الأمر إلى ولي الأمر أو نوابه، من الولاة أو القضاة، فإذا ما ثبت حقُّ القصاص ووجب، وحكم الحاكم به تولاه وليُّ الدم بنفسه إن كان قادرًا عليه، والأصل في ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33]. وقد فرَّع الفقهاء في ذلك صورًا كثيرة، فيما إذا كان وليّ الدم عددًا أكثر من واحد، أو كان صغيرًا أو محجورًا، إلى غير ذلك من الصور.

وأقرب مَثَلٍ لذلك ما جاء في كتاب الأم للإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي (ج 6 ص 17 - 19) وفي كتاب البدائع لملك العلماء أبي بكر الكاساني الحنفي (ج 7 ص 243 - 244). ولقد أرى أن المؤلف قرأ كثيرًا من كتب المستشرقين وغيرهم من الإفرنج، ودرس القوانين الأجنبية وتوسع في دراستها، فتأثر تأثرًا قويًّا ظاهرًا بما قرأ وبما درس، فحين أراد أن يكتب في التاريخ الإسلامي، وما يتصل به من التشريع الإسلامي غلبه ما يعلم وملأ قلبه ونفسه يقينًا وإعجابًا، فنسب إلى تاريخ الإسلام وإلى الشريعة ما خُيِّل إليه أنه ينبغي أن يكون، ظنًّا منه أنه قد كان! !

ص: 270

10 -

ومما يتصل بهذا أنه قال في تشبث العرب بالثأر (ص 261 - 262): "بل إن من الحضر الذين يمتون إلى البدو بصلة القربى من لا تزال فكرة الثأر متصلة في نفوسهم بكرامتهم وبحياتهم، فهم لا ينزلون عنها، ولا يجدون في القانون وقصاصه ما يرضي عاطفتهم ويعدل بهم عن جاهليتهم". وقد كتبت بهامش نسختي في هذا الموضع حين قرأت الكتاب: "تعبير موهم، وهو غير صحيح؛ فالقانون الذي ضُرب على بلادنا لا يحكم بالقصاص إلَّا نادرًا، ثم هو يجعل القصاص من حق الدولة لا من حق ولي الدم خلافًا للشريعة، فكان علاجه خطأ وضرره كبيرًا". وهذا بحث فصلت القول فيه في كتابي (الشرع واللغة ص 56 - 57، 81 - 83).

11 -

(ص 306) يسوق المؤلف قصة مقتل عمر، فيقول فيها:"فلما بدأ ينوي الصلاة ليكبر، إذا رجل ظهر فجأة قبالته فطعنه بخنجره"! ! وهذا تعبير عاميّ عجيب في العامية! فما "بدأ ينوي الصلاة"؟ وما النية في علم المؤلف أو في ظنه؟ ثم انظر أين هذا من قول عمرو بن ميمون الأوديّ التابعي الكبير، وقد شهد مقتل عمر "فأقبل عمر، فعرض له أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، فناجى عمر غير بعيد، ثم طعنه ثلاث طعنات". (ابن سعد ج 3 ق 1 ص 247) أو غير ذلك من نصوص المتقدمين البليغة! وليت شعري ما منع المؤلف أن يقتبس شيئًا منها يجمل به كلامه، كما كان دأبه أن يفعل؟ !

12 -

(ص 309) استطرد المؤلف في حديثه عن مقتل عمر فترجم

ص: 271

لكعب الأحبار فقال: "وكان كعب هذا من كبار أحبار اليهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتردد عليه مظهرًا الميل إلى الإسلام، مرجئًا إعلان إسلامه حتى يتحقق من كل الأمارات التي يجدها في كتب قومه عن النبي العربي وأصحابه، فلما انتهى أمر الخلافة إلى عثمان أعلن إسلامه". وفي هذا الكلام ما يوهم أن كعبًا من يهود المدينة، وهو من يهود اليمن، وكعب لم يَرَ رسول الله قط، وإن كان من كبار الأحبار في عصره، وإنما جاء المدينة مسلمًا في خلافة عمر على الصحيح، وقيل: في خلافة أبي بكر. واليقين أنه كان مسلمًا في عهد عمر، فلم يتأخر إسلامه إلى عهد عثمان كما ادعى المؤلف، قال ابن سعد (ج 7 ق 2 ص 156):"وهو مِن حِمْيَر، من آل ذي رعين، وكان على دين يهود، فأسلم وقدم المدينة". ثم روى بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: "قال العباس لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ " ثم روى أيضًا عن قتادة "أن كعبًا أسلم في إمرة عمر". ولو قرأ المؤلف ترجمة كعب في مظانها، طبقات ابن سعد والإصابة والتهذيب، ما كتب كلمة مما قال، وما أدري ما يمنعه أن يستوثق ويحقق؟ ! هدانا الله وإياه بهدايته.

* * *

ص: 272

الفاروق عمر (*)

للدكتور محمَّد باشا هيكل (1)

نقدنا في عدد أغسطس الماضي كتاب "الصديق أبو بكر"، وأخذنا على سعادة مؤلفه صنيعه في قصة "مقتل مالك بن نويرة". ثم رأينا أن ننقد كتابه الجديد "الفاروق عمر"، ونتعقب بعض ما فيه من مآخذ، فكتبنا هذا البحث، ونشرنا بعضه في مجلة "الكتاب" الغراء في عددها الأول الذي صدر في أول نوفمبر سنة 1945، ورأينا أن ننشر بقيته في مجلة "المقتطف" الغراء، استيفاء للبحث، وأداء لواجب الأمانة، وإخلاصًا في النصيحة للعلم والقراء.

مآخذ واستدراكات

1 -

زعم المؤلف في مقدمة كتابه (ج 1 ص 8) أن عمر "رأى إعفاء من أسلم من أهل البلاد المفتوحة من الجزية ومساواتهم بالمسلمين الفاتحين، فكان ذلك مغريًا لكثير منهم بالدخول في الإسلام

وقد أعفاهم عمر وساواهم بالفاتحين، وهو يعلم ما سيترتب على ذلك من نقص في موارد المدينة، ومن ردَّ الحكم في هذه البلاد إلى أهلها مع ذلك لم يتردد في الأمر ولم تثنه هذه الاعتبارات عنه" إلى آخر ما قال.

(*) مجلة المقتطف، ديسمبر 1945.

(1)

جزءان 700 صفحة من القطع الكبير، مطبعة مصر، سنة 1945.

ص: 273

وهذا الذي حكاه عن عمر هو حكم الإسلام في القرآن والحديث نصًّا، وهو من المعلوم من الدين بالضرورة، ورسول الله يقول:"ليس على مسلمٍ جزية". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس. انظر تفسير القرطبي (8 ص 114)، ونيل الأوطار للشوكاني (ج 8 ص 219). والذي ننكره على المؤلف أن يجعل هذا من عمل عمر ورأيه وسياسته، كأنه حكم على اجتهادٍ منه، وهو حكم بديهي منصوص، وكان عمر فيه متبعًا لا مجتهدًا.

2 -

وقد أنكر المؤلف على المؤرخين المتقدمين أنه بلغ من إكبارهم لسيرة عمر "أن أضافوا إليه أمورًا أدنى إلى المعجزات التي خصَّ بها الأنبياء، وأن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ الناقد إثباته، وعمر في غير حاجة إلى شيء من ذلك يضاف إلى سيرته، فما قام هو به وما تمَّ في عهده، مما يقره النقد التاريخيّ، يقيم له في صحف التاريخ صرحًا عاليًا باقيًا إلى الأبد، ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى سيرة عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها، ولجنّبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها، ولما طفّف ذلك من قدر عمر، ولا نقص من جلال صنعه، وقد رأيت من الخير أن أغفل من هذه الحوادث ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد، ثمَّ رأيتُني بعد ذلك مضطرًّا إلى أن أثبت حوادثَ يتصوَّر العقل في شيء من العسر وقوعها، ومع هذا تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواترٍ يدعو إلى النزول على حكمهم فيها". (ج 1 ص 9).

ص: 274

هكذا يقول سعادة المؤلف. ونحن نعلم أنه ينكر كل المعجزات الكونية التي رواها المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في إلحاح وإصرار؛ لأنه "يجري في البحث على الطريقة العلمية الحديثة، ويكتبه بأسلوب هذا العصر" كما قال في كتابه "حياة محمد" ص 47، وإن كان لم يستطع إنكار معجزات الأنبياء السابقين؛ لأنها مذكورة في القرآن، كما قال في ذلك الكتاب ص 54، فهو أجدر إذن أن ينكر الكرامات والخوارق التي تنسب إلى عمر وإلى غير عمر؛ لأنها مما "لا يقره العقل ولا يثبت للنقد"! ولسنا نجادله في هذا، فما في الجدال فائدةٌ، وما أيسرَ الإنكارَ وادّعاءَ الكذب والوضع على رواة السنة والأخبار، أيًّا كان مبلغهم من الثقة والأمانة والصدق والضبط والتحري. وما أحكم الكلمة التي قالها له سماحة شيخ الإسلام مصطفى أفندي صبري في كتابه الجليل "القول الفصل بين الذين يؤمنون بالغيب والذين لا يؤمنون" قال في ص 43:"الطريقة العلمية التي يتبجح بها معالي المؤلف، ويباهي باتباعها في تحرير كتابه، والتي يدعي أنه بني عليها إنكار المعجزات، هي الطريقة نفسها التي يدَّعي ملاحدة الغرب أنهم بنوا عليها إنكارهم لوجود الله".

ولكنا نجد المؤلف أثبت حادثة "يا سارية الجبل" وسنذكرها في موضعها من هذا المقال (رقم 18)، وما كانت رواية هذا الحادث بأصحَّ ولا بأوثق من غيره مما أنكر، ولا بأصح ولا أوثق مما تواتر تواترًا علميًّا صحيحًا من معجزات رسول الله، ومن عجيب أن يدعي

ص: 275

المؤلف أن حادثة سارية من الحوادث التي "تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر"! وأظن أن سعادته لم يطلع على شيء مما قاله المحدَّثون والأصوليون في معنى التواتر ودلالته العلمية، والفرق بينه وبين غيره من طرق النقل عند العلماء! ولو اطلع على ذلك لقال شيئًا غير هذا.

3 -

وذكر المؤلف (ج 1 ص 35) أن عمر "لما استخلف كان أول دعائه قوله: اللهمَّ إني غليظ فليّني، اللهم إني ضعيف فقوِّني، اللهم إني بخيل فسخّني". ثم قال: "أما ما ذكر عن بخله فسببه أنه لم يكن غنيًّا، وأن أباه لم يكن غنيًّا". إلى آخر كلامه. وما كانت به حاجة إلى هذا التكلف، فإن هذا الدعاء لا يدل على أن عمر كان بخيلًا، وما زعم ذلك له أحد قط، وما كان الفقر سببًا للبخل أبدًا، وإنما البخل داءٌ نفسي قد يزيده الغنى تمكنًا. والمؤلف يستنبط أن عمر كان "متوسط الحال في الغنى طول حياته"، وأكثر ما يكون الكرم في المتوسطين والفقراء. ويعيذ الله عمر من داء البخل، ورسول الله يقول:"أيُّ داءٍ أدوى من البخل". وإنما كان مثل هذا الدعاء أن يظن الرجل الصالح بنفسه التقصير عن درجة الكمال، حتى ليسمي عمله باسم درجة النقص، رغبةً إلى ربه وتواضعًا، فيسأله أن يتمم من خلقه ما يظنه نقصًا، ولذلك لم يزعم أحد قط، ولم يستطع المؤلف أن يزعم، أن عمر كان ضعيفًا إذ يقول:"اللهم إني ضعيف فقوّني". بل قال: (1: 33) "ولما تدرَّج عمر من الصبا إلى الشباب بدا في مظهر

ص: 276

من القوة بَذَّ به أقرانه". ثم النقلُ الصحيح ثابت بأنه كان جوادًا، فقد روى ابن سعد في الطبقات (ج 3 ق 1 ص 210) عن عبد الله بن عمر قال: "ما رأيت أحدًا قط بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين قبض كان أجدَّ ولا أجودَ حتى انتهى من عمر". فهذا وغيره من أخباره وحوادثه لا يدع شكًّا في أنه كان من أكرم الكرماء.

4 -

(ج 1 ص 36): "ثم إن المبشرين بالمسيحية في ذلك العصر كانوا ذوي نشاط في الدعوة إلى دينهم، والتبشير به مثل نشاطهم اليوم". وهذه دعوى عريضة، لا تكاد تجد دليلًا عليها، فما رأينا - على كثرة ما رأينا - في النصوص التاريخية الصحيحة أن قد كان للمبشرين نشاط في مكة وما حولها حيث نشأ عمر، كمثل نشاطهم اليوم ولا مقاربه. إلَّا أن يكون من أمثال آراء الأب لويس شيخو في كتاب "النصرانية وآدابها" ومقاصدُ هذا الكتاب معروفة، وما من أحد من أهل العلم والتوثق يرضى عن آرائه وتحقيقاته!

5 -

(ج 1 ص 39 س 15)"طلحة بن عبد الله" خطأ مطبعي، صوابه "طلحة بن عُبيد الله".

6 -

(ج 1 ص 80 - 83) تهافت المؤلف في كلامه فيما كان بين عمر وخالد بن الوليد في شأن مقتل مالك بن نويرة في حروب الردَّة بمثل ما صنع في كتابه "الصديق أبو بكر" وقد حققنا القول في ذلك في بحث مستوفي نشر في عدد شهر أغسطس سنة 1945 من مجلة المقتطف، ورجحنا فيه بالأدلة التاريخية الصحيحة، أن خالدًا أمر

ص: 277

بقتل مالك بن نويرة لإصراره على الردّة بمنع الزكاة، وأخذ امرأته وابنها سَبْيًا، وأن ليس في شيء من ذلك ما يُلام عليه خالد، لموافقته أحكام الشريعة، وأن عمر إنما سخط على خالد أن لم يتبين وجه حجته، وأن أبا بكر تبين معذرة خالد فبرأه، وكان إذ ذاك ولي الأمر الذي يملك فصل القضاء فيه، وقد قضى بالبراءة، فلا يملك أحد بعده أن يشكك في قضائه أو بعيد النظر فيه، لا أحد ولا عمر نفسُه، حتى إن متمم بن نويرة جاءه في خلافته يستعديه على خالد، لما كان يعرف من رأيه في هذه المسألة نفسها، فقال له:"لا أرد شيئًا صنعه أبو بكر". فقال متمم: قد كنت تزعم أن لو كنت مكان أبي بكر أقدته به. فأجابه عمر الجواب الحازم الحاسم: "لو كنتُ ذلك اليوم بمكاني لفعلتُ، ولكني لا أردّ شيئًا أمضاه أبو بكر". وقد قلنا في ذاك المقال: "وما نظن عمر يفعل ما كان يريد لو كان خليفة ذلك اليوم، إنما هو يبين عن رأيه في أمر قد نظر إليه من جانب واحد، هو جانب الاتهام، ولعله لو قد سمع الطرف الآخر، طرف الدفاع، ونظر إلى الأمر من الجانبين كما نظر إليه أبو بكر، لانتهى إلى ما انتهى إليه حكم أبي بكر. وفي مثل هذا تختلف أنظار القضاة ويختلف اجتهاد المجتهدين، في وزن الأدلة، وتقدير البراهين، فلن تكون كلمة عمر وحدها حجة على خالد، تثبت عليه إجرامًا لم يثبت عند الحاكم، وقد برّأه الحاكم مما نسب إليه، ولن تكون كلمة عمر وحدها حجة على أبي بكر، حتى يُتهم بالتهاون في شأن جرم يوجب الحدّ أو القصاص،

ص: 278

وبأنه كان يتزمت في تطبيق التشريع على العامة والدهماء، ولا يتزمت في تطبيقه على النوابغ والعظماء! ! كفعل ساسة هذا العصر! ".

فلم يكن فعل خالد أنه تزوجَّ امرأة مالك بن نويرة بعد قتله زوجها، وأنه بني بها في عدَّتها، كما يصورّه المؤلف هنا وهناك، تمسكًا بظواهر ألفاظ في بعض الروايات من غير رجوع إلى باقيها، وما كان خالد ليأتي هذا المنكر الذي لا شك في حرمته والذي استحلاله خروجٌ من الإسلام، وما كان لأحد من عامة المسلمين أن يقره عليه، فضلًا عن أصحاب رسول الله، فضلًا عن أبي بكر.

وقد حكى المؤلف هنا (ص 82) رواية عن بعض المؤرخين "أن عمر كان سيئ الرأي في خالد من قبل إسلامه، وكان سيئ الرأي فيه في حياته". ثم علل ذلك تعليلًا عجيبًا! قال: "ولعلَّ عمر لم ينس لخالد غزوة أحد وموقفه منها، وانتصار المشركين على المسلمين بمهارته فيها، ثم مهاجمته رسول الله لولا أن وقف عمر في وجهه وصدَّه عن غرضه"! ! وما ظننت قط أن أحدًا يقول مثل هذا القول، فإن البديهي من قواعد الإسلام أن الإسلام يَجبُّ ما قبله، وكل أصحاب رسول الله كانوا مشركين قبل أن يسلموا، إلا القليل الذين كانوا صغارًا ونشؤوا على الإسلام، وكثير من الكبار حاربوا رسول الله قبل أن يسلموا، وكثير منهم كانوا أعداءه، ثم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم، لم يحقد من آمن منهم من قبل على من آمن منهم من بعد، وكانوا إخوانًا متناصرين، لا أعداءً متحاقدين، ولو كان لأحد أن يحقد على خالد ما

ص: 279

زعمه المؤلف، لكان أولى الناس أن يحقد عليه ذلك رسول الله ثم أبو بكر، وينزِّه الله رسوله وأبا بكر وعمر من ذلك، وهذه مداخل وددنا لو يحسن المؤلف الخروج منها أو يحجم عن ولوجها.

7 -

(ج 1 ص 87) يروي المؤلف أن عمر "كان يذهب في تجارته إلى العراق وإلى الشام واليمن، فكان أشد حرصًا على مقابلة الأمراء والحكماء من أهل هذه البلاد؛ ليزداد بالتحدث إليهم علمًا منه على أن تزداد تجارته ربحًا فيصبح من الأغنياء". وما أدري أين وجد المؤلف أن عمر "كان أشد حرصًا على مقابلة الأمراء والحكماء منهم؛ ليزداد بالتحدث إليهم علمًا"؟ ! إني لأخشى أن يكون هذا خيالًا يصوِّر به مصدر علم عمر وحكمته، زعمًا بأن العرب لم يكن فيهم حكمة إلا ما أخذوا عن غيرهم! وعمر كان قوي الفطرة العربية، ثم أوتي العلم في الإِسلام من الكتاب والسنة وتأسيه برسول الله ثم بأبي بكر.

8 -

(ج 1 ص 91 - 93) صوّر المؤلف موقف عمر أول وقت من خلافته بعد أن دفن أبو بكر وانطلق إلى داره بعد ما انتصف الليل: "ودخل مضجعه وجعل يفكر فيما يتنفس عنه الغد، فسيبايعه المسلمون من بكرة النهار؛ ليتولى أمورهم، فيواجه منهم من رضي استخلافه كارهًا، ثم يواجه الموقف الحربي الجليل الدقيق في العراق وفي الشام، فماذا عسى أن يفعل ليتغلب على هذين الأمرين، وهما بأعظم مكان من جلال الخطر في حياة الدولة الناشئة". ثم كتب صفحة

ص: 280

ونصف صفحة عما كان يجول في خاطر عمر تلك الليلة! ! وما أظن - وأنا رجل من المتحفظين في الرواية والنقل - أن مثل هذا العمل مما يجوز للمؤرخ، وما يبعد أن يأتي من بعده من ينقله عنه، ظنًّا أن هذا قد كان، رواه الدكتور محمَّد باشا هيكل! ! بل إني أومن أن هذا لا يجوز، ولقد كتبت بهامش نسختي من كتابه في هذا الموضع:"للمؤلف خيال قوي على الطريقة الأوربية، فالمظنون الراجح في مثل هذا الموقف أن يفكر عمر فيما هو مقدم عليه، ولكن سياق الكلام الموهم أن هذا حصل فعلًا يستدعي أن يكون هناك نقل صحيح بذلك، أو يكون تزيدًا وافتعالًا". وسأدع للقارئ بعد أن يحكم فيه بما يرى.

9 -

(ج 1 ص 91 في الحاشية) نقل المؤلف رواية عن ابن سعد أن عمر خطب في الناس خطبة بعد دفن أبي بكر، ثم ردَّ هذه الرواية بأن أبا بكر دفن بعد ما جنَّ الليل، وأنه ليس طبيعيًّا أن يخطب عمر في القوم الذين تولوا الدفن "ثم إن أكثر الناس كانوا قد أوَوْا إلى منازلهم، فلم يكن منهم بالمسجد في هذه الساعة إلا قليلون، هم أهل الصُّفَّة؛ لأن المسجد لم يكن يضاء في ذلك العهد". وهذا لون من التحقيق العلمي! ! لا عهد لنا به، فإن الجزم بأنه لم يكن في المسجد في تلك الساعة إلَّا أهل الصُّفَّة لا يكون إلَّا عن نقل صحيح؛ لأنه شيء مادي لا يدرك بالعقل وحده، ويستحيل عادةً أن يدرك بالتعليل بأن المسجد لم يكن يضاء في ذلك العهد! والثابت في السنة والتاريخ أنهم كانوا يسهرون ويسمرون في المسجد، وكانوا يصلون الفجر

ص: 281

بغلس، يعني في الظلام. والظن في مثل هذه الحال - حال موت أبي بكر ودفنه - أن يحضرها كثير من الصحابة، إن لم يكونوا داخل بيت عائشة، ففي المسجد خارج البيت، والخطبة التي روى ابن سعد (ج 3 ق 1 ص 197) والتي يشير إليها المؤلف، كلمة قصيرة لا تزيد على أربعة أسطر، فليست مما يستبعد قوله في مثل هذا المقام، وما من دليل ينفيها، إلَّا أن في إسنادها جهالة؛ لقول راويها حميد بن هلال:"حدَّثنا من شهد وفاة أبي بكر". وهذا إسناد منقطع يراه المحدثون ضعيفًا، وما عمدنا بنقدنا على الجزم بصحة تلك الخطبة، وإنما أردنا أن نضع بين يدي القارئ مثالًا من أمثلة تحقيق المؤلف ورده من الروايات "ما لا يقره العقل ولا يثبت للنقد"!

10 -

(ج 1 ص 91 في الحاشية أيضًا) عبر المؤلف عن "بيت عائشة" بكلمة "دار عائشة" وهو خطأ، فإن الدار أكبر من ذلك، هو اسم جامع للعرصة والبناء والمحلة، ولم تكن بيوت أزواج رسول الله تُسمى دورًا، وإنما كانوا يسمونها بيوتًا.

11 -

(ج 1 ص 159 - 163) تحدَّث المؤلف عما دار من جدال وحديث بين الوفد الذين أرسلهم سعد بن أبي وقاص وبين يزدجرد، ثم نقل لنا عن بعض المستشرقين أنهم ذهبوا إلى "أن هذه الروايات وضعت من بعد، إن لم يكن في جوهرها، فعلى الأقل في تفاصيلها" وأن المستشرقين يؤيدون نقدهم بأن المؤرخين المسلمين لا يتورَّعون عن رواية أمور هي أدنى إلى الخرافة، وذكروا رواية عن رستم فيها

ص: 282

تطير واعتقاد بالتنجيم، ثم ذهب المؤلف يرد على المستشرقين ردًّا فاترًا ضعيفًا، حتى إذا أتى لحديث النجوم قال ما نصه:"أما القول بأن حديث النجوم أدنى إلى الخرافة، فذلك ما لا أتعرض للخوض فيه، فلست عالمًا بالنجوم، ولست أعرف لذلك مبلغ ما تهدينا إليه من علم بشؤون هذه الأرض التي نعيش عليها، وما يقع من الأحداث فيها، على أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها ويحسبون أن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن غيرهم"! وما من شك في أن التنجيم والطيرة حديث خرافة، وأنه شيء لا يقبله العقل، وأن الإسلام نهى عنه نهيًا شديدًا، وتوعد من صدق بمثل هذه الخرافات وعيدًا كبيرًا. ولكن العجب الذي لا ينقضي، أن المؤلف يأخذه الرعب من حديث النجوم فيخشى أن يتعرض للحديث فيه، زعمًا منه أنه ليس عالمًا بها وبمبلغ ما تهدي إليه من علم بالأرض وأحداثها! ! ثم هو ينكر كل المعجزات الكونية لرسول الله، وكل الخوارق المنسوبة إلى عمر أو أكثرها، لا يجد في صدره من ذلك حرجًا، ولا يتواضع فيظن بنفسه أن قد فاته علم كثير من علوم الأسانيد الإسلامية، التي أتقنها المتقدمون، وأثبتوا بها الصحيح من الأخبار، ونفوا بها عنها ما وضع الوضَّاعون وما روى الضعفاء، حتى جاؤوا بالسنة بيضاء نقية. ثم هو قد وجد لنفسه عذرًا فيما أحجم عنه من الكلام في النجوم أن كثيرين لا يزالون يؤمنون بها، وأظنه يريد بذلك علماء الإفرنج! ! ولم يجد مثل ذلك العذر فيما أثبته علماء الإسلام من الأخبار المتواترة والأخبار

ص: 283

الصحيحة، وهو يعلم أنهم كلهم إلَّا من شذَّ منهم، لا يزالون يؤمنون بها، ويعتقدون أن طرق الإثبات التي وصلت بها إليهم هي أدق طرق علمية لإثبات الأخبار والروايات، وأن علمها يهديهم إلى ما يغيب عن المستشرقين وأتباعهم.

12 -

(ج 1 ص 175) قال المؤلف في أعقاب يوم أغواث: "وكانت نساء المسلمين يعنين بالجرحى ويمرضنهم، ويبذلن من صنوف العناية ما يُرَفِّهُ عنهم وما ينسيهم ألمهم". ولسنا ننكر عليه في هذا إلَّا تعبيره بكلمة "الترفيه" في هذا المقام في هذا الوقت، فإن الحرب الأخيرة بين الدول أرتنا في بلادنا، وأسمعتنا عن غير ما رأينا، معاني منكرةً لما يسمى "الترفيه" عن الجرحى والمرضى والأصحاء من الجيوش، مما يقشعر له بدن كل ذي خلق وكل ذي دين، وأشاعت بذلك فسادًا لا يدري الناس ما عواقبه، وقد جعلت هذه المنكرات لكلمة "الترفيه" معنى يبادر إلى ذهن كل من سمعها، خصوصًا من الشبان. وكنا نظن بالمؤلف، على ما نعرف من دقته في التعبير، أن يتجاوز عن هذه الكلمة الآن، ويترفع عن وصف نساء الصحابة والتابعين بها، وقد آلت في أذهان الناس إلى ما آلت إليه، على ثقتنا بأنه لم يرم إلى هذا المعنى، وهو في ذلك فوق الشبهة عندنا، ولكنا لا نريد إلا الحذر والاحتياط.

13 -

(ج 1 ص 191) وصف المؤلف المدائنَ عاصمة مملكة الفرس في ذلك العهد وصفًا خياليًّا، مما قال فيه: "فقد جمعت من

ص: 284

معاني الترف الشرقي أبهى صوره وأكثرها وحيًا لآلهة الفن وشياطين الشعر". فما "آلهة الفن" هذه؟ ! إني أرى كثيرًا من الكاتبين في هذا العصر يصطنعون كلمات يأخذونها عن الأمم الأخرى، يتزيَّدون بها ويتجملون، يظنون أن لا بأس بها، وفيها كلُّ العباس وكلُّ الشرّ. إن تسمية "آلهة" أخرى من دون الله كلمات وثنية، جاء الإسلام بحربها والقضاء عليها، وما تنفع المعذرة بأن مثل هذه الكلمات إنما هي ألفاظ لا تُعتقد معانيها ودلالاتها، فإنما وضعت الألفاظ للدلالة، ولا يطلع على خفايا القلوب إلا الله. ولا يجوز لأحد أن ينطق بمثل هذه الكلمات، لا هزلًا ولا جدًّا، وما أذن الله لأحد أن يقول شيئًا من ذلك {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. وما أظن أحدًا يُكره هؤلاء الكتّاب على اتخاذ هذه الألفاظ الوثنية، أيًّا كان مقصدهم منها، أو تأولهم لدلالتها {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)} [الصافات: 86]. وليعلمْ هؤلاء وغيرهم أن الله نعى على المشركين تسميتهم آلهة من دونه، وما كانوا يزعمون أنهم الخالقون الرازقون، بل كانوا يؤمنون بالله، ويشركون بآلهتهم، أنهم يَدْعُونها ويعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، كما حكى الله عنهم في القرآن. فمهما يتأوَّل المتأوّلون في تسمية آلهة من دون الله، فلن يبعد بهم تأوُّلهم عن شيء لا يجوز أن يقوله من يدين بدين سماوي شرعه الله.

والمؤلف يؤلف كتابه في سيرة عمر، ويتمدَّح بأعمال عمر، ويرفع من شأن عمر، وأنا أوقن أن لو قد سمع هذه الكلمة عمر،

ص: 285

لكان له معه شأن أي شأن، نسأل الله العصمة والتوفيق.

14 -

(ج 1 ص 205) يقول المؤلف: "وكان الناس يجتمعون بسعد في قصر كسرى: فيتحدَّث سعد إلى ذوي العلم منهم بماضي هذه البلاد، ويذكرون أيامًا سلفت كانت فيها مقر حضارة العالم". وهذا نقل لم أجده فيما بين يديَّ من المراجع، وأخشى، بل أرجح، أن يكون خيالًا لا حقيقة له، لا يكون من عالم يتحرى الحقائق في نقله.

15 -

(ج 1 س 258 - 259) قال المؤلف: "يذهب بعض المستشرقين إلى أن عمر إنما اعتذر عن الصلاة بكنيسة القيامة لما كان بها من صور وتماثيل". وقد ذهب يناقش هذا القول، ويزعم أنه غير صحيح، بل ذهب يجرؤ على الفتيا، ويدعي أن الصلاة على الصور والتماثيل لا بأس بها، بل ذهب يتقوَّل على رسول الله وعلى الذين اتبعوه، ثم على الإسلام، بل أربى على ذلك أن كاد يبيح الوثنية صريحًا، ينتحل قولًا يشبه وحدة الوجود، وما هو إلا مذهب ينتهي بقائليه إلى إنكار وجود الله! ! قال ما نصه: "وما كان لمحمد والذين اتبعوه ألَّا يصلوا بمكان فيه صور أو تماثيل والإسلام إيمان بالله، والأعمال فيه بالنيات، فمن صدَق إيمانه وخلص لله وجهه فأينما ولّى فَثَمَّ وجه الله، وإنما حطم محمد الأوثان والأصنام حول الكعبة وفي جوفها يوم فتح مكة، حتى يكون بيت الله حرامًا على كل دين إلَّا على الدين الذي أوحاه الله إلى نبيه بينات من الهدى والفرقان؛ كي لا

ص: 286

تُذَكِّرُ هذه الأصنامُ والأوثانُ أحدًا بجاهليته، فيثور في نفسه إليها حنين، أما الذين صفت قلوبهم لله وتطهرت نفوسهم من كل عبادة إلَّا عبادته جل شأنه، فأولئك لا خوف عليهم أينما صَلَّوْا، وأولئك يرون وجه الله في كل خلقه، جلَّ ثناؤهُ وتباركت أسماؤه! " هكذا قال، حتى علامة التعجب وضعت في أصل الكتاب، ونعوذ بالله من حكاية هذا القول، لولا الضرورة إلى التحذير منه ما حكيناه، وكل مسلم يعلم أنه لا تجوز الصلاة إلى التماثيل وإلى ما يوهم عبادة غير الله، والذي أراد أن ينفيه عن عمر قد صحَّ عنه وعن غيره، ففي صحيح البخاري (ج 1 ص 443 - 444 من فتح الباري طبعة بولاق) "قال عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور. وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلَّا بيعة فيها تماثيل". فلا موضع لما افتعله المؤلف من رد الرواية عن عمر برأيه وهواه.

ويخيّل إليَّ أن للمؤلف في الوثنية رأيًا خاصًّا، لا يقره عليه أحد، يرجع بها إلى عهد الجاهلية وآراء الجاهلية، وقد جاء القرآن بحربها وهدمها؛ فإن المؤلف عاد إلى مثل هذا المعنى عند الكلام على فتح مصر (ج 2 ص 79) قال: "فالتوجّه الديني أصيل في الشعب المصري بحكم طبيعته، كذلك كان شأنه في عهود الفراعنة، وكذلك ظلَّ شأنه على القرون، ولعلَّ بساطة عقيدته، مع تغير الأديان التي دان بها، كانت ذات أثر في تمسكه بمذهبه، فهو موحَّد من أقدم العصور، وهو على توحيده يشعر بأن الإله الخالق المنعم جلَّ شأنه أعظم من أن

ص: 287

يسموا سواد الناس إلى الاتصال بذاته وإن تطهرت قلوبهم، فلا بد من زلفى تقرّبهم إليه، وتحلّهم منه محل الرضا"! ! فإن لم يكن هذا تمجيدًا للوثنية ودعوةً إليها، فخيرٌ للناس أن يلغوا عقولهم! ! وأين ما جاء به موسى من التوحيد في عصر الفراعنة، والكفر بألوهيتهم وبما كانوا يعبدون من دون الله؟ ! وإن الله يقول:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} الآية 3 من سورة الزمر، ويقول تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} . الآية 106 من سورة يوسف.

وليت المؤلف لم يتقحم مثل هذه المآزق، أو سأل عنها من يرشده إلى وجه الحق فيها، أو اجتهد في البحث عنها في مصادرها، واصطنع الأناة والحكمة في اجتهاده! ! ليته ليته.

16 -

(ج 1 ص 291 س 9)"أمراء الأنصار" خطأ مطبعي صوابه "أمراء الأمصار" كما هو واضح.

17 -

يقول المؤلف (ج 1 ص 300): "فأول ما يقضى به الإيمان الصحيح ألَّا يهاب الجندي الموت، وأن يقدم عليه مغتبطًا به، فإن استشهد ففي سبيل الله وفي سبيل الوطن وفي سبيل القضية التي ينصرها". وقال أيضًا (ج 2 ص 220): "وما ضر أحدهم أن يقتل في سبيل الله وفي سبيل الإمبراطورية الإسلامية". وهذا تعبير موهم، وفي نسبته إلى "الإيمان الصحيح" مغالطة؛ فإن الإسلام لا يعرف

ص: 288

الاستشهاد إلا أن يكون في سبيل الله فقط، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة عن أبي موسى الأشعري قال:(سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله").

18 -

(ج 2 ص 49 - 51) نقل المؤلف عن الطبري قصة فتح فَساودزا بجرد، والطبري ذكر القصة بروايتين (ج 5 ص 5 - 6) فأخذ المؤلف إحدى الروايتين وبقية الأخرى، وأعرض عن صدرها، ليتم له تأويله الذي يبغي، ففي الرواية الأولى أن عمر أري في المنام خطر موقف المسلمين، وأنهم إن استندوا إلى الجبل انتصروا، فنادى في الناس "الصلاة جماعة" فجمعهم في الوقت الذي رآه في نومه وقتًا للوقعة وأخبر الناس بما أريَ، ثم قال:"يا سارية الجبلَ الجبلَ" ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنودًا ولعلَّ بعضها أن يبلغهم. هذا ملخص الرواية الأولى، ساقها المؤلف مفصلة في قليل من التحوير. والرواية الأخرى:"كان عمر قد بعث ساريةَ بن زُنيم الدئِلي إلى فساودزا بجرد فحاصرهم ثم إنهم تداعوا فأصحروا له وكثروه فأتوه من كل جانب، فقال عمر وهو يخطب في يوم جمعة: يا سارية ابن زنيم الجبلَ الجبلَ. ولما كان ذلك اليوم وإلى جانب المسلمين جبل إن لجؤوا إليه لم يؤتوا إلَّا من وجه واحد، فلجؤوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم". ثم ذكرت الرواية ما أصابوا من المغانم

ص: 289

ومسير رسول سارية إلى عمر وعوده إلى البصرة، وأن أهل المدينة قد كانوا سألوه:"عن سارية وعن الفتح، وهل سمعوا شيئًا يوم الوقعة؟ فقال: نعم سمعنا "يا سارية الجبل"، وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه ففتح الله علينا". وقد أعرض المؤلف عن هذه الرواية واقتبس منها حديث الغنيمة وما أرسل منها إلى عمر وغداء رسول سارية معه، فضمه إلى الرواية الأولى بنصه، ثم ذكر سؤال أهل المدينة عن سارية وعن الفتح وجوابه كأنه رواية أخرى. فهذه هي القصة التي رأى المؤلف - فيما نقلناه عنه آنفًا (رقم 2)، أن يثبتها من روايات الخوارق؛ لأنه "تضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر يدعو إلى النزول على حكمهم فيها"! ! وهي من روايات التاريخ، إسنادها لا يكاد يصل إلى الصحة؛ لانقطاع في إسناديها اللذين رواها بهما الطبري، فضلًا عن أن يتضافر المؤرخون على روايتها تضافر تواتر! ! ولا يبعد أن تصح فما ينكر الخوارق إذا صحت إلَّا من ينكر ما وراء المادة، ومن ينكر كل غيب لا يصل إليه حسُّه، أو لا يأتيه خبره إلَّا عمن يثق بهم من الأجانب.

19 -

(ج 2 ص 59) ذكر المؤلف "دائرة المعارف البريطانية باسمها الإفرنجي مرسومًا بحروف عربية "الانسيكلوبيديا بريتانيكا" وما كانت به حاجة إلى هذا التكلف والإغراب، فإن أسماء الكتب تترجم إلى ما يقابل معانيها في اللغات الأخرى غالبًا، وقد ترجم هذا الاسم وعرف بين قراء العربية وهو أقرب إلى إفهامهم أن يذكر اسمها

ص: 290

المترجم الذي عرفت به.

20 -

(ج 2 ص 84) تحدَّث المؤلف عن إسلام عمرو بن العاص، فلم يجد له إمامًا يقلده غير العقَّاد، في كتابه الذي ألفه عن عمرو بن العاص في سلسلة "أعلام الإسلام" فإنه زعم أن عمرًا كانت نظرته إلى الدنيا نظرة عملية، وأن مناط الرجحان في تلك النظرة الأخذ بالأحوط والأنفع "حتى ليكاد الأحوط والأنفع أن يكون عنده مقياسًا للحق أو لصحة الأشياء"، ثم ذهب يضرب على هذه النغمة ويحكي بعض الروايات يتأوَّلها عليها (ص 27 - 28 و 57 - 61) فنقل عنه سعادة المؤلف هنا مناقشة بين عمرو وبين فتى من قريش، ثم قال:"ولئن صحت تلك الرواية لتكوننَّ بالغة في الدلالة على اتجاه عمرو في تفكيره، وعلى أنه كان يؤمن بنظرية المنفعة إيمانًا قويًّا". ومعاذ الله أن نظن ذلك بأصحاب رسول الله، وخاصة بمثل عمرو بن العاص. وقد نقض المؤلف على نفسه ما قلّد فيه العقّاد، فصرَّح بعد بأن عمرًا "بادر إلى الإسلام عن بيّنة وإيمان، لا عن خوف ولا عن إذعان". فما ندري لم قال من قبل ما قال، ولم هذا الاضطراب؟ ! .

21 -

(ج 2 ص 203 - 204) نسب المؤلف لعمر أن تأسّيَه بالرسول لم ينسِه أن يفرق بين الثابت على الزمان من سنته صلى الله عليه وسلم وبين ما قضت به أحداث الوقت، فمن المستطاع مراجعته وإعادة النظر فيه، من غير أن يكون ذلك إنكارًا له، اقتناعًا بأن رسول الله لو امتدّ به الأجل لراجعه وأعاد النظر فيه". وهذه نظرية خطيرة، لم ينسبها أحد قط لعمر،

ص: 291

ويبرئ الله عمر من التهمة بها، فإنها ليست إلَّا مخالفة السنة بالرأي والهوى، وما هي إلَّا نسخُ شيء من السنة بعد وفاة رسول الله، وما قال هذا أحد قط، ولعل للمؤلف رأيًا يحوم حوله، لا يكاد يصرح به، فإني أراه قال في أواخر الكتاب (ص 322):"فحق لعمر أن يُدفن مع صاحبيه، ليَنعم بجوارهما، وتطمئن روحه إلى أنه سار على سنتهما، وأنه أتم على الأرض ما قضى الله أن يَتم حين أوحى إلى نبيه رسالة السماء، وقد أتم عمر هذه الرسالة"! ! ولست أدري، أهو يعتقد حقًّا أن عمر أتمَّ على الأرض هذه الرسالة، أم هو يرى أن شؤون النبوة والرسالة كبعض ما يعرف من شؤون الدولة والسلطان، أم هو يلقي الكلام على عواهنه، لا يلقي له بالًا؟ ! اللهم غفرًا.

واسمعْ - يا سيدي - بعض ما قال إمام الأئمة محمد بن إدريس الشافعي في وجوب اتباع سنة رسول الله على كل أحدٍ، وهو قول كافة أهل العلم:"وكلُّ ما سَنَّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العنود عن اتباعها معصيته التي لم يعذر بها خلقًا، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجًا". (الفقرة 294 من كتاب الرسالة للشافعي بتحقيقنا". وقال أيضًا في الفقرة 326: "فيما وصفتُ من فرض الله على الناس اتباع أمر رسول الله: دليلٌ على أن سنة رسول الله إنما قبلت عن الله، فمن اتبعها فبكتاب الله تبعها، ولا تجد خبرًا ألزمه الله خلقه نصًّا بينًا إلَّا كتابه ثم سنَّة نبيه، فإذا كانت السنةُ كما وصفت، لا شبه لها من قول خلق الله، لم يجز أن

ص: 292

ينسخها إلَّا مثلها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله؛ لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له، بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره؛ فالخلق كلهم له تبع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فرض عليه اتباعه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئًا منها".

أي لا عمر ولا غير عمر، لا أصغر من ذلك ولا أكبر، وقال أيضًا في الفقرة 599 فيما يقع من أقوال بعض العلماء مخالفًا للسنة:"وليس ذلك لأحد، ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قول يخالفها، لا أنه عمد خلافها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل". وقال أيضًا في الفقرة 905: "وإذا ثبت عن رسول الله الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس اتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمرًا يخالف أمره". وكان عمر يقضي في دية أصابع اليد بالتفريق بينها، فجعل للإبهام 15 من الإبل، والتي تليها 10 وللوسطى 10 وللتي تلي الخنصر 9 والخنصر 6 ثم ثبت عند أهل العلم أن رسول الله قال:"وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل". فأخذوا به كلهم وتركوا قول عمر، فقال الشافعي في ذلك في الفقرتين 1167، 1168: "ولم يقل المسلمون: قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار. ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافهُ ولا غيركم، بل ساروا إلى ما وجب عليهم، من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل

ص: 293

خالفه، ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله، بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله، وعلمه، وبأن ليس لأحدٍ مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله في اتباع أمر رسول الله". وسيرة عمر في السنة معروفة، كان يجتهد فيما يعرض له، مما ليس فيه نص كتاب ولا يعلم فيه سنة، فإذا بلغته سنة رسول الله، عدل عن رأيه واتبع السنة، بل هو كان أشدَّ اتباعًا للسنة وتمسكًا بها في كل شأنه، وأقوى حجةً في ذلك موقفه حين مقتله؛ إذ يستدبر الدنيا ويستقبل الآخرة، قال له ابنه عبد الله بن عمر: "إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لكم، زعموا أنك غير مستخلف. فوضع رأسه ساعة ثم رفعه فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني إنْ لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن يَعدلُ برسول الله أحدًا، وأنه غير مستخلف". وهذا حديث صحيح جدًّا، رواه الإمام أحمد في مسنده (ج 1 ص 47) ورواه أيضًا مسلم في صحيحه (ج 2 ص 80 - 81) وأبو داود في السنن (ج 3 ص 93 - 94 من شرح عون المعبود) ورواه أيضًا البخاري مختصرًا (ج 9 ص 81 من الطبعة السلطانية). فهذا عمله كما ترى في شيء سلبي سكوتيّ، لم يستخلف رسول الله، ولكنه لم يَنْهَ عن الاستخلاف، واستخلف أبو بكر، وهو الصاحب الأول، والوزير الأول، والخليفة الأول، وهو كان أعلم برسول الله من عمر ومن غير عمر من الصحابة، وأقرَّه عمر

ص: 294

وأقرَّه المسلمون جميعًا فكان اتفاقًا منهم على أن الاستخلاف جائز غير ممنوع، ومع ذلك فإن عمر أبى إلَّا أن يتبع فعل رسول الله في ترك الاستخلاف، وعَرف ذلك منه ابنه عبد الله، وهو أعرف الناس به "فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن يعدل برسول الله أحدًا" فهذا هو عمر وعلى حقيقته "بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه في اتباع أمر رسول الله، وعلمه" كما وصفه الشافعي حقًّا، لا على الصفة المنكرة التي اخترعها المؤلف، أنه يلعبُ بالسُّنة برأيه، فيفرق بين الثابت على الزمن وبين ما قضت به أحداث الوقت، فيراجعه ويعيد النظر فيه، توهمًا من المؤلف - لا اقتناعًا من عمر - "أن رسول الله لو امتدَّ به الأجل لراجعه وأعاد النظر فيه"! ! وهذا هو عمر التابع المطيع والخادم الأمين، ليس كما يصوّره المؤلف، مخالفًا كلَّ نصًّ وكل معقول، أنه أتمَّ على الأرض هذه الرسالة! ! وعمر يعلم أن الله أنزل على رسوله في يوم عيد، يوم عرفة يوم الجمعة في عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

22 -

(ج 2 ص 222) يتحدَّث المؤلف عن عمر يقول: "ولقد كان يرى نفسه مسؤولًا أمام ضميره وأمام الله". وهذا تعبير إفرنجيّ مستحدث، ومعنى باطل لا يعرفه عمر ولا يعرفه الإسلام، فإنما الذي يدين الناس ويسألهم عن أعمالهم، والذي يجب عليهم أن يتقوه ويخشوه هو الله وحده.

ص: 295

23 -

(ج 2 ص 236) يقول المؤلف في شأن تدوين الدواوين: "فقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يكتبون له الكتب والرسائل، وكانت هذه الكتب تحفظ صورها وتحفظ الردود عليها في داره بالمدينة". وهذا نقل طريف، لا أذكر أني رأيته أو سمعت به قط، فعسى أن نُفيد من علم المؤلف وسعة اطلاعه، فيرشدنا إلى المصدر الذي نقله منه.

24 -

(ج 2 ص 240) في إشارته إلى عبد المطلب بن هاشم قال: "وتذكر كيف أدى نذره". وما نظن هذا التعبير دقيقًا، فإن المعروف في كلام العرب أن يقال:"وفى بنذره" أو "أوفى بنذره" أو نحو ذلك.

25 -

تحدَّث المؤلف عن صور النكاح في الجاهلية، فذكر منها أن يتزوَّج الرجل امرأةً فيذرها في قومها، ينزل عندها في رحلاته، وقد تعقبناه في ذلك المقال الذي نشر في مجلة "الكتاب". ثم عقب المؤلف كلامه السابق بقوله:"ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا الزواج أصل زواج المتعة الذي أبيح في صدر الإسلام إلى أن حرَّمه عمر". ولم يكن شيء من هذا، ولم يقل أحد من المؤرخين ما قال، بل نكاح المتعة كان أحد صور النكاح في الجاهلية، وقد أبيح في صدر الإِسلام ثم نسخ وثبت الأمر على تحريمه، وليس يصح ادّعاء المؤلف أنه بقي مباحًا إلى أن حرَّمه عمر، إلا على نظريته التي أنكرناها عليه: أن عمر كان يعيد النظر في سنة رسول الله، وأنه أتمَّ

ص: 296

الرسالة! ! وأما الثابت عند أهل العلم: "أن عمر لم ينه عنه اجتهادًا، وإنما نهى عنه سندًا إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كما قال الحافظ ابن حجر، وانظر فتح الباري (ج 9 ص 143 - 151). ولم يكن عمر ولا غيره يملك أن يحرّم الحلال، ولم يجعل الله ذلك لأحد من خلقه بعد رسول الله.

26 -

(ج 2 ص 258) استعمل المؤلف فعل "تعمق" متعديًا بنفسه وهو فعل لازم، لا شك في ذلك ولا خلاف، وفي اللسان:(عمَّق النظر في الأمور تعميقًا، وتعمق في كلامه، أي؛ تنطَّع. وتعمق في الأمر: تنوق فيه فهو متعمق). والذي ابتدع هذا الخطأ ولهج به وأشاعه، هو الدكتور طه حسين بك، فقلده المؤلف وغيره من الكتَّاب، عن غير تدبر ولا بحث.

* * *

ص: 297