الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصر النبي عليه السلام وبيئته قبل البعثة
(*)
تأليف الأستاذ محمد عزة دروزة (1)
وهذا كتاب فيه فكرة جديدة، وقليلًا ما نرى ذلك في المؤلفات المحدثة، هو أثر من آثار دراسة القرآن دراسة بحث وتأمل وتفكير، لا دراسة مصطنعة في بحثِ الألفاظ، فقد كان أن سجن المؤلف بحكم ظالم من أحكام الفرنسيين الجائرة في سورية، قبل طردهم منها، فقضى شهورًا في سجن المزة العسكري وسجن القلعة بدمشق، فأتاح له الفراغ أن يصرف ذهنه ويقف تفكيره على مدارسة القرآن، حفظًا وتلاوة وتمعنًّا وتدبرًا. والقرآن بعيد الغور واسع المدى، فكلما أعطيته من نفسك ومن عقلك ومن روحك أعطاك من فتوحه ونفحاته، حتى تنكشف لك علوم وآفاق ما كنت لتصل إليها لولا مدارسة القرآن.
وهكذا كان شأن الأستاذ المؤلف، فهو يقول: "فلفت نظري ما فيه من آيات كثيرة جدًّا فيها وصف أو إشارات تساعد على رؤية صور كثيرة لما كانت عليه الحياة الدينية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية والمعاشية في عصر النبي وبيئته قبل البعثة، فقلت في نفسي: لم لا يكون القرآن مصدرًا لتصوير هذا العصر والبيئة، وفيه ما فيه من هذه
(*) مجلة الكتاب، السنة الثالثة - المجلد الخامس.
(1)
508 صفحات من القطع الكبير. دار اليقظة العربية. دمشق 1946.
الآيات؟ وهو يعد أوثق وأصدق وأقدم ما يمكن أن يستند إليه كاتب أو باحث".
ثم يقول: "وهو على كونه مبلغًا بلسان السيد الرسول عن الله، إنما كان يقرر حوادث واقعة، ويصف حالات قائمة، وينزل الوحي به في المناسبات المشهودة، فهو الكلمة الفاصلة والقول الحاسم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في تلك الحوادث والحالات والمناسبات، على أن غير المسلم أيضًا لا يسعه إلا أن يأخذ بهذا الاعتبار إذا نظر فيه على أنه وثيقة معاصرة صادقة".
"ولما تتبعت آيات القرآن وأخذت أبوبها على مواضيع متنوعة، مما يتناول وصف عصر النبي وبيئته من مختلف نواحيها، ازددت يقينًا بإمكان رسم صور كثيرة لهما من القرآن، وإن لم تكن وافية بكل شيء، فإنها قد تكون محتوية الخطوط الرئيسية للصور التي يحسن أن تكون، بل وسيكون فيها صور جديدة كثيرة لم يتنبه إليها، وصور صادقة أخرى تتغاير قليلًا أو كثيرًا مع ما هو مستقر في الأذهان أيضًا، ثم إنها تكون إلى هذا طريفة في بابها، حتى ولو كان كثير منها يعد بدائه معروفة؛ لأني لا أذكر أن أحدًا حاول أن يرسم مثل هذه الصور، وفي نطاق القرآن الكريم وحده، هذا مع التنبه على أن ما يمكن رسمه منها إنما هو بطريق الاستلهام والاستدلال من خلال الأسلوب والتعابير والأوصاف القرآنية التي لم تكن بسبيل تقرير هذه الصور بالذات، وإنما كانت بسبيل الدعوة والموعظة والإنذار
والتبشير والترغيب والترهيب والتنويه والتنديد والحكاية إلخ".
(ص 10 - 12).
وقد قسم المؤلف الفاضل أبحاثه في هذا الكتاب إلى أربعة أبواب جامعة بعد المقدمة: الباب الأول: في الإقليم والسكان ومعايشهم. والثاني: في الحياة الاجتماعية. والثالث: في الحياة العقلية. والرابع: في الأديان والعقائد.
وإذا ما تتبعت تفاصيل الأبواب، ثم استرسلت في قراءة الكتاب، أخذك العجب من دقة المؤلف في الاستنباط، ومما فتح الله عليه فيه من معان لم يكن يظن أنها تستنبط من القرآن العظيم.
وسنريك مثالًا من الكتاب أو بعض مثال، لترى ما فيه من دقائق المعرفة والإلهام، لم نتخيره عن بحث وقصد، وإنما اتفق لي حين أردت أن أقتبس.
عقد المؤلف من فصول الباب الأول "الفصل الثالث: الجاليات الأجنبية في الحجاز"(ص 95 - 126) فتحدث في أوائله عن "النصارى والأجانب في مكة" وساق سبع عشرة آية من سور شتى يستدل بها، ثم قال (ص 99 - 100): "فهذه الآيات يمكن أن تلهمنا ما يلي:
1 -
أنه كان في مكة أناس من أهل الكتب السماوية، وكانوا من جملة من اتصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى التصديق برسالته ومتابعته.
2 -
أنهم لم يكونوا قليلين، وأن منهم من كان ذا سعة وثروة
تمكنه من الإنفاق في سبيل البر والخير، كما أن منهم من كان قوي النفس والشخص، بحيث لا يبالي بلوم زعماء المشركين على عدم متابعتهم للنبي، وهذا وذاك يلهمان أن منهم من كان أرقى طبقة من أرقاء وغلمان في خدمة الزعماء والتجار وملك أيمانهم.
3 -
أن منهم من كان متميزًا في ثقافته ومعارفه الدينية، بحيث كان أهلًا للرجوع إليه واستشهاده في أمر رسالة النبي وصحة وحي الله إليه وصدق القرآن، وأن هذا الفريق لم يكن نكرة في أوساط مكة، بل كان موضع اعتماد وثقة من العرب أو أهل مكة، ومرجع استفتاآتهم في الأمور والمعارف الدينية والدنيوية.
4 -
أنهم على العموم كانوا رقيقي العاطفة، دمثى الأخلاق، ثابتين في ما يعتقدون أنه الحق، ولو لقوا في سبيل ذلك العنت، جريئين في إظهار عقيدتهم، وقد تجلت جراءتهم في متابعة النبي، وسجودهم عند سماع القرآن وإعلانهم أنه الحق، وعدم مبالاتهم بما كان عليه أكثر أهل مكة وزعماؤهم الأقوياء من الموقف الجحودي.
5 -
أن منهم من كان مجادلًا حجاجًا، بل متطرفًا في الجدل والحجاج إلى درجة عده ظالمًا متجنيًّا فيهما.
6 -
أن إيراد قصتي ولادة يحيى وعيسى بسبيل الرد على زعم ألوهية عيسى أو بنوته لله، وإيراد خبر انكسار الروم النصارى مع بشرى انتصارهم بعد قليل، والجدل ثانية في أمر حقيقة عيسى ورسالته، يمكن أن يلهم أن الكتابيين الذين انطوت الآيات على
ملهمات وجودهم في مكة، هم أو أكثرهم من النصارى".
وقد ظننت حين تصفحت الكتاب لأول مرة، أن في المؤلف ميلًا إلى الشك في صحة الأحاديث الصحيحة عامة، وصارحت المؤلف بذلك؛ إذ تعرفت إليه مصادفة في مكتب صديقنا الأستاذ محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى، وتحدثنا في هذا كثيرًا، وأنكر المؤلف ما ظننته إنكارًا واضحًا، ولكني كلما قرأت في الكتاب ازددت ثقة بما ظننت، حتى خيل لي أنه إنما تأثر بما قرأ للمستشرقين وأتباعهم، فكانت الكلمات تجري على لسانه على نحو أقوالهم، وعلى نحو ما نسمع من ناصريهم وذيولهم.
فمما يقول المؤلف (ص 239) ليدل على أن لغة القرآن أصدق صورة للغة ذلك العصر: "فهو من جهة فوق كل مظنة أو شبهة في أنه وصل إلينا كما بلغه النبي، وهو من جهة ثانية الكلام الوحيد الذي وصل إلينا مدونًا وسليمًا من كل شائبة وشك من ذلك العصر، في حين أننا لا نستطيع أن نقول هذا القول بهذه القوة والجزم عن أي كلام مما روي من كلام ذلك العصر والبيئة؛ لأنه لم يدون إلا بعد مدة طويلة، وقد ظل طول هذه المدة تتناقله الألسن، وعرضة للتبديل والتحريف والزيادة والنقص، بل والتلفيق والصنع، والأهواء والأغراض".
ويقول في مقدمة الكتاب حين يتحدث عن كتب السيرة القديمة: "وإن ما ورد فيها من روايات قد اختلط حابله بنابله، وسمينه بغثه،
وصحيحه بباطله أيضًا، بحيث لا يمكن للمدقق المتدبر أن يقرأها إلا بتحفظ، وأن يتردد كثيرًا في أخذها حقائق وروايات تاريخية موثوقة أو مقاربة؛ ذلك لأن القديم منها لم يدون إلا بعد أمد طويل" (ص 7).
ويقول فيها أيضًا (ص 11): "وإذا كان يصح أن يحيك في صدر امرئ شبهات كثيرة في ما روته كتب السيرة وغيرها من روايات بسبب تأخر تدوينها، وما يمكن أن يكون قد اعتور حفظ الصدر وصحة النقل من لبس، وما يمكن أن يكون قد تسرب إلى الروايات من أصابع الأهواء والميول والأغراض والصنعة والتلفيق، فإن القرآن هو من جميع هذه الشوائب فوق كل مظنة"
…
إلخ.
وتجد هذا المعنى مبثوثًا في ثنايا الكتاب في مواضع متفرقة: التعلل بتأخر التدوين لرد الروايات التي رويت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن بيئته وعصره، واتخاذ هذا التعلل تكأة لإنكار كل مروي، صحيح أو غير صحيح، في كتب السير أو في غيرها، حتى يعم "كل كلام مما روي من كلام ذلك العصر والبيئة"! فإن لم يكن هذا إنكارًا لصحة الأحاديث، ونفيًا لكل رواية إسلامية عن آثار رسول الله وعصره فما ندري ماذا يكون الإنكار والتكذيب! !
إني كنت وأنا أقرأ الكتاب إذا مرت بي كلمة من نحو هذه الكلمات أكاد أظن أني أقرأ كلمة من كلمات جلدزيهر ومرجليوث وأمثالهما من المستشرقين.
وما أظن أن المؤلف قصد إلى معنى هذه الكلمات حرفيًّا، بما فسر لي من رأيه، وبما تبرأ مما ظننا به.
ولكن المؤلف - فيما أرى - لم يدرس علوم الحديث دراسة وافية، ولم يطلع على ما بذل علماء الحديث في الصدر الأول من جهد، وما استنبطوا من قواعد لرواية الأخبار والآثار، حتى ينفوا عنها الدخيل، وينقوها من الخطأ والعمد في التغيير؛ حتى تبرز صحيحة واضحة نقية، فوضعوا الشروط الدقيقة في الراوي الذي يأخذون عنه الحديث، وفي المروي الذي يرويه، وجعلوا أساس هذا كله العدالة، عدالة الناقل المحدث، بما في شروط العدالة المعروفة من دقة، تجعل الراوي موضع الثقة، بما عرف عنه من أمانة وصدق، وشرطوا أن لا يخالف الحديث المروي كتاب الله، ولا المعلوم من الدين بالضرورة، ولا ما رواه كافة الرواة الثقات العدول.
وكانت الأمة الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى أمة صدق وأمانة في مجموعها، وكان الجريء على الكذب نادرًا، وكان المسلمون - ولا يزالون - يعرفون أن الكذب على رسول الله من أعظم الجرائم، وهم يوقنون بما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم:"من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار". وكانوا أكثر ما يخافون من النقائص الكذب.
ومع هذا فإن النقاد الفطنين من أئمة الحديث لم يكتفوا بما عرفوا من أمانة الراوي وصدقه، وعدله في دينه، وعدله في خاصة نفسه، بل سبروا حديث كل راو، وعرضوه على كتاب الله، وعلى ما عرفوه من
دينهم، وما تواتر لديهم قولًا وعملًا من سنة رسول الله، ثم نفوا من الرواية ما خالف شيئًا من هذا، واحتاطوا في ذلك أشد حيطة، فلم يدعوا منفذًا لكذاب أو مخادع، حتى كانوا إذا ما كثر في رواية راو من الرواة شذوذ ما يرويه ومخالفته أسقطوا كل روايته، مهما يكن مبلغ صلاحه وتقواه والثقة به، يرفضون كل ما يروي مما وافق ومما خالف، إذا عرفوا عنه كثرة رواية الروايات المنكرة المخالفة.
وهذا فن طويل عويص، يريد المستشرقون وأتباعهم أن ينفوه ويسقطوه بكلمة واحدة ظاهرها الفتنة: أن هذه الأحاديث لم تدون إلّا بعد عصر النبي بأمد طويل! !
وما درى المغرورون بهم، والمخدوعون بقولهم، أن معنى هذا أن الأمة الإسلامية كلها؛ من أئمة الحديث والفقه، ومن أعلام البحث والتحقيق، ومن الصحابة والتابعين وأتباعهم كانوا رجالًا كذابين مخادعين منافقين، لا يتورعون عن الكذب في دينهم، والافتراء على رسولهم، وهدم هذا المجد العظيم الذي خصهم الله به، ببعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، وحاشاهم من ذلك، وهم أعرف بالله ودينه، وأتقى لله من أن يرضوا لأنفسهم نقيصة الكذب والافتراء، وهم الذين جاؤونا بالصلاة والزكاة والحج وشرائع الإسلام عن رسول الله، فإذا ما كذبوا في بعض الأمر ارتفعت الثقة بكل شيء، وسقط كل ما جاؤوا به من الحق. ولا يقول هذا مسلم، بل لا يقوله عاقل.
ثم ما هذه الخدعة، خدعة التدوين؟ أفنظن أن التدوين أمارة الصحة؟ ! من قال هذا؟ ثم يقال هذا في عصرنا الذي انتشرت فيه الأكاذيب المدونة، من أخبار الصحف، ومن القصص الخيالي والتمثيل والسينما، ومن افتعال الأخبار في كل شيء، على الأحياء والأموات، مما جاءنا من أوربة، أو قلدنا فيه أوربة؟ حتى إن بعض من ينتسبون إلى الإسلام ذهب بهم التقليد ودفعتهم الجرأة إلى الكذب على رسول الله وعلى أصحابه، بما يزعمون أنهم يقربون التاريخ الإسلامي إلى البسطاء من القراء، فذهبوا يتخيلون القصص عنهم، ويضعون الكذب على ألسنتهم، ويقوّلون رسول الله ما لم يقل، ويقوّلون أصحابه وأئمة الإسلام ما لم يقولوا! ! هذا هو التدوين الذي يريدون أن يتخذوه تكأة لهدم الصرح الشامخ، والمجد السامق، من الأحاديث الثابتة، ومن التاريخ الإسلامي الصحيح! !
انظروا أيها الناس إلى تاريخ أئمة الهدى من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، في خوفهم من الله، وفي خلقهم وفي معاملتهم، ويكفيكم معاملتهم لأعدائهم في عصر الفتوح، ورأفتهم ورحمتهم بالضعفاء من النساء والولدان والشيوخ والرهبان ونحوهم، ثم وازنوا بينهم وبين تواريخ الأمم التي تعظمونها وتقلدونها في كل ما تقول وتفعل، في قديمهم، وقد كانوا في جهالة عمياء، وكانوا عباد الشهوات، لا يعرفون حرامًا من حلال، ولا يتورعون عن شيء، وفي حديثهم، ويا ويل ما رأيتم من حديثهم.
أفتظنون إذا وازنتم بعقل وحكمة وعدل، أنكم واجدو أئمتكم من السابقين الأولين، كانوا كذابين مخادعين هدامين! أترضون أن يقال هذا في مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وشيوخهم وإخوانهم وأتباعهم ممن حملوا إليكم الشريعة والسنن والتاريخ، ممن هدى الله واجتبى؟ !
* * *