الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ديوان أبي فراس الحمداني
(*)
تحقيق الدكتور محمَّد سامي الدهان (1)
أما هذا فكتاب عظيم، بلغ الذروة العليا في إتقان التحقيق والإخراج، لا يكاد يدانيه في هذا كتاب، إلا في الندرة بعد الندرة.
فشعر أبي فراس من الشعر الغالي النفيس، وكان ديوانه محجوبًا أو كالمحجوب، فقد طبع ثلاث مرات وكأنه لم يطبع، مما وقع في طبعاته من النقص والمسخ والتحريف والتبديل.
وقد وفق الأخ الأستاذ المحقق إلى العناية بجمع نسخه المخطوطة في أقطار الدنيا والاطلاع عليها، ورحل من أجله رحلات واسعة، حتى يخرجه صحيحًا كاملًا، بما في الوسع الإنساني من قوة ومن ضعف، فبلغ فيما صنع الغاية أو كاد.
وجعل الأستاذ العلامة هذا الديوان رسالته إلى جامعة باريس، فتقبلته أحسن قبول، ونوقش فيه هناك في العام الماضي، وأجازوه عليه (دكتورية الدولة)، وهي أعلى الشهادات عندهم فيما نعلم.
(*) مجلة الكتاب، المجلد الخامس، السنة الثالثة، الجزء الرابع، جمادى الأولى 1367 هـ/ أبريل 1948 م.
(1)
3 مجلدات 200 ص، و 320، 626 صفحة من القطع الكبير. المعهد الفرنسي، دمشق 1944
والدكتور سامي الدهان بلدي أبي فراس، من حلب الشهباء، فرأى أن يخدم شاعر بلده، بإخراج ديوانه إخراجًا صحيحًا، بل إنه شغف بشعره منذ عهد بعيد، واستظهر منه شعرًا كثيرًا:"ثم أردت أن أقول فيه، وأن أظهره مع أقرانه، لعلي أنصفه من ظلمٍ، وأنصره من جور، فلما يممت باريس عام 1936 عملت له وقرأت في شأنه، ولكني انتهيت إلى أن الديوان أبتر، قد ركبه الاضطراب وعمه الفساد، وما علمت بمعدنه من خزائن الغرب حتى شمرت إلى الفهارس، وكتبت إلى الخازنين، وراسلت المستشرقين، ولما كان مؤتمر المستشرقين في بروكسل عام 1938، سافرت إليه، وسألت من يضطلع بالعربية فيه، وتزودت بما ينير سبيلي الجديد، فكان الرأي أن أسير إلى مكامنه بأمهات العواصم". فذكر رحلته إلى برلين، ثم عودته إلى باريس "وفيها نسخ أخرى من الديوان، أقبلت إليّ تحمل الشاعر، من إنكلترة، وإيطالية، ومراكش، وسورية، وتركية، فسألتها عن شعره، وشرح راويه، فجلت ووضحت، ومحت بعض الظن، وأكدت بعض اليقين، وطالت بي الطريق، فأدركني الملال، وأصابني الكلال، وكاد يستحوذ اليأس على قلبي، لولا تشجيع أساتيذي وعونهم، ونصائح المستشرقين ومددهم، ولا ينتهي العمل بإعداد الديوان، فأنا في جامعة غربية أقدم إليها رسالتي وجهدي، فعلي أن أخط بلسانها ما علمت من الشاعر، وما يضيف الديوان الجديد إلى الديوان العتيق، ففعلت وتقدمت بما كتبت إلى جامعة باريس، فرضيت عنه، ومنحتني الموافقة". وهكذا يسير على سننه،
ولا يضن بجهد ولا وقت ولا مال، حتى يتم طبع الكتاب في أوائل سنة 1945 "راجيًا أن يكون قربانًا للأدب وخدمة لحلب، وزكاة للعلم، وأحتسب عند الله ما أنفقت في سبيله من شباب وجهد"(ص 623 - 625).
وأبو فراس شاعر رقيق العاطفة، عذب اللفظ، قوي العارضة، جزل فصيح، وهو عربي النسب والدار، فارس محارب، غاض الغمار، ولقي الأخطار، ووقع في الإسار، في شهر شوال سنة 351، ونقل إلى القسطنطينية، فأكبر فيه الروم البطولة والصراحة والنفس العربية، فأكرموه إكرامًا لم ينله أسير قبله، وأعطاه ملكهم دار البلاط الإمبراطوري (وهو قصر كبير على البحر)، وخصص له خادمًا يقوم بأمره، وأذن له فيما يشاء من الثياب والسلاح، وكان لهذه الفترة من حياته أبلغ الأثر في شعره، حتى يقول الدكتور الدهان (ص 17 من التقدمة):"هذا كله شعر شامي، جميل صادق، جزل فصيح، سهل لين، قد نجد لصوره وتعابيره مثيلًا فيما سبق من أدباء، ومر من شعراء، ولكنه لا يشبه في شيء هذه "الروميات" التي نظمها خلال أسره، ففجرت من نفسه عيونًا، وخلدته على الزمان، فيها شكوى العليل الذي لا يحس حوله بعطف قريب، أو عناية حبيب، تطول عليه الساعات، وتمتد به الأيام، وتتأخر عنه الكتب، فيشتاق منازل الشباب وملاعب الصبا، ويرثي لهذه العجوز العليلة [يريد أمه] التي يقلقها ذكراه".
ولم يعن أبو فراس بجمع ديوان لشعره، شغلًا بما اضطلع به من جلائل الأمور في الحرب والسياسة، وإنما كان يلقيه إلى أستاذه ابن خالويه (الحسين بن أحمد الإِمام النحوي اللغوي المقرئ، المتوفى بحلب سنة 370)، ويحظر عليه نشره، فلما قتل أبو فراس في جمادى الأولى من سنة 357 جمع أستاذه ما ألقاه إليه، وشرحه، وقدم لكثير من قصائده بمقدمات تاريخية تشرح مناسبة القول والغرض فيه، ويقول ابن خالويه في مقدمة الديوان (ص 2):"وما زال رحمه الله إيجابًا لحق الأدب، ورعاية للصحبة، وعلمًا بأهل المحافظة، يلقي إلي دون الناس شعره، ويحظر عليّ نشره، حتى سبقتني وإياه الركبان، فجمعت منه ما ألقاه إليَّ، وشرحته من مزيد أخباره في الأيام المذكورة فيه، بما أرجو أن يقرنه الله عز وجل بالصواب والرشاد، بمنه وطوله، وقوته وحوله".
وقد بلغ عدد المخطوطات من ديوان أبي فراس، التي وقعت للدكتور الدهان واعتمدها في إخراجه وتحقيقه 32 مخطوطة، غير يتيمة الدهر، ومصادر التاريخ والأدب التي فيها شعر أبي فراس، وقد صنف هذه المخطوطات إلى أربع طوائف، بتقارب روايات كل طائفة، وتشابهها في عدد القصائد والأبيات، وفي الشروح، واتحادها في الخطأ والصواب. فالطائفة الأولى 6 نسخ، والطائفة الثانية 8 نسخ، والطائفة الثالثة نسختان، والطائفة الرابعة 16 نسخة، وتختلف هذه النسخ في عدد القصائد وعدد الأبيات اختلافًا واسع المدى.
وقد أحصى الدكتور المحقق القصائد والأبيات في كل نسخة من هذه النسخ، وفي هذه الطبعة التي حققها، ووضع لذلك الجدول الآتي:
............. عدد القصائد
…
عدد الأبيات
الطائفة الأولى
…
329
…
2867
الطائفة الثانية
…
275
…
2643
الطائفة الثالثة
…
204
…
2328
الطائفة الرابعة
…
275
…
2299
هذه الطبعة المحققة
…
364
…
3724
وأما الطبعات الأولى للديوان فلا قيمة لها، ولا تكاد تذكر بجانب هذا العمل الضخم، والجهد النادر في التحقيق والإخراج، وإنما نشير إليها إشارة:
فأول طبعة ظهرت في بيروت سنة 1873 في المطبعة السليمية في 151 صفحة من القطع المتوسط، يقول الدكتور الدهان:"وهي مشوهة مصحفة مشحونة بالأغاليط، محشوة بالأخطاء، وزاد في ضعفها أنها اعتمدت على أضعف النسخ، فأخذت مخطوطة من نسخ دار الكتب المصرية، لعلها (رقم 2150) من الطائفة الرابعة". ثم ذكر مثالاً مما فيها من تحريف (ص 23 من التقدمة).
والطبعة الثانية ظهرت سنة 1900 في بيروت بالمطبعة الأدبية في 159 صفحة، وليست خيرًا من سابقتها، وزادت عليها شرحًا لفظيًّا اعتمد مؤلفه فيه على حل الألفاظ من (القاموس المحيط)، ونسب ناشرها هذا الشرح لنفسه، وقد كشف الدكتور الدهان أنه ليس له كما يدعي:"بل هو لعالم فقيه من علماء القرن الحادي عشر، عرفنا أنه عبد اللطيف البهائي، كان قاضيًا ببلغراد، وحفظ شرحه في إستانبول ومصر"!
والطبعة الثالثة صورة من الطبعة الثانية، ظهرت في سنة 1910.
وقد زادت طبعة الدكتور الدهان على هذه الطبعات الثلاث 152 قصيدة، غير الأبيات التي تزيد في صلب القصائد في تلك الطبعات، ثم تتبع الشعر الذي نسب إلى أبي فراس في كثير من المراجع المخطوطة والمطبوعة "ولم يرد في أمهات المخطوطات، وقد شككنا بصحة نسبتها إلى شاعرنا". وهي 12 قطعة (ص 450 - 455)، ثم ذكر ثلاث قطع نسبت إلى أبي فراس وهي لغيره، اثنتان منها لسيف الدولة، والثالثة لابن المعتز (ص 456 - 457).
ثم أتبع الكتاب بترجمة أبي فراس وأخباره، عن كتب الأدب والتاريخ، ذكرها بنصوصها، توثقًا وتثبتًا، وحرصًا على الأمانة والدقة (ص 459 - 480)، ثم صنع (شجرة) للأسرة الحمدانية، استنبطها من شرح ابن خالويه، ومن شعر الشاعر نفسه ومن تاريخ ابن خلكان وغيره من مصادر التاريخ.
وأعقب ذلك بعشر فهارس دقيقة متقنة، خيرها وأنفسها أولها وآخرها؛ فإنه في الفهرس الأول تتبع مصادر شعر الشاعر في مطاوي كتب الأدب والتاريخ، اختار منها ثلاثين كتابًا، فأحصى كل ما روته له من شعر، ذكر صدر البيت وبحره وقافيته، وعدد الأبيات ومواقعها من كل كتاب بتعيين الجزء والصفحة.
وفي الفهرس العاشر الأخير لخص مضمون القطعة أو القصيدة في جملة قصيرة ترمز إلى هدف الشاعر منها "فإن كان ثمة شرح أو تعليق لابن خالويه اختصرناه، وإن لم يكن اقتبسناه من عبارة الشاعر نفسه، فلم نبتعد عن الأصل"(ص 591).
ولم يخل الكتاب من أغلاط مطبعية وغير مطبعية، تتبع الأستاذ الدكتور كثيرًا منها، ووضع في آخر الكتاب بابًا للتصويب والاستدراك، وأعرض عن كثير مما يدركه القارئ ولا يخفى على فطنة المطالع، خصوصًا ما كان منها في تعليقاته على الديوان.
وعندي أن مرد كثرة الأغلاط إلى الحرص على الشكل الكامل للكلمات في متن الديوان، وهذا الشكل الكامل غلو في الأناقة، يتجاوز حد الضرورة، بل يتجاوز حد الكمال والنظر يند عنه حين التصحيح، بل هو قد يضل المصحح عما تحته من خطأ في الكلمة، أو عما يجاوره من خطأ في غيرها، وأرى أن الواجب أن يقتصر في الشكل على ضبط ما يظهر صحة الكلمة من الحروف، فرب حرف
واحد يضبط من الكلمة يضعها صحيحة على لسان القارئ لا تحتمل تصحيفًا، وبعض الكلم يكفي في تعيينها ضبط حرفين، والنادر من الكلم ما يحتاج إلى ضبط كل حروفه، ولعل نصف الكلمات أو قريبًا من نصفها لا يحتاج إلى ضبط، فيكون ضبطها عبثًا وتزيدًا.
وأنا أظن أني خبرت هذا ومارسته فيما نشرت من كتب، وأظن أني استطعت أن أستغني عن أكثر الشكل فيما أخرجته من الأجزاء من (المسند) للإمام أحمد بن حنبل، وقد أخطئ بعض الشيء فأشكل ما ليس بمشكل ولكني أحرص على أن لا أتجاوز ما رسمت.
وبعد: فلعل أكثر ما آخذه على الصديق الدكتور سامي أنه غلا غلوًّا شديدًا في إثبات اختلاف النسخ التي وقعت له من الديوان، وكثير منها مسخها الناسخون، وأفسدها الرواة الجاهلون، فإذا ما أراد القارئ أن يتتبع اختلاف الروايات في البيت أو الكلمة أضلته هذه الروايات الواضحة الغلط، وكان في بعضها ما يغني، وأنا أرى أن القصد في ذلك أفضل، وأن لا يثبت من اختلاف النسخ إلا ما احتمل التصويب، وما لم نجزم بخطئه قطعًا إلا أن يكون الخطأ في نسخة معتمدة يخشى أن يغتر بها بعض القارئين، أو يكون في طبعة وحيدة للكتاب سارت بين الناس وكثرت في أيديهم، فيخشى أن يعتمدوها حجة إذا غلب عليها الصحة، أما إذا غلب عليها الغلط، فأرى أن التنبيه عليها ووصفها كافٍ عن تتبع أغلاطها، وما أقول هذا إلا عن تجربة وعناء، وأسأل الله التوفيق.
وبعد مرة أخرى: فلو أذن لي الصديق لاقترحت عليه أن يعيد نشر الديوان في طبعة قريبة التناول للقراء والأدباء، وأكثرهم فقراء أو متوسطو الحال؛ فإن ثمانية جنيهات أو عشرة ثمنًا للنسخة الواحدة من هذه الطبعة الفاخرة الغالية، يشق على أكثر الناس، ولا يستطيعه إلا خاصة الخاصة، والمتشوقون إليه والمقدروه قدره ينظرون إليه ثم لا يستطيعون، ولعله مجيب هذا الرجاء، إن شاء الله.
* * *